أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أوسم وصفي - ثلاث معضلات في الثورات العربية















المزيد.....


ثلاث معضلات في الثورات العربية


أوسم وصفي

الحوار المتمدن-العدد: 3560 - 2011 / 11 / 28 - 08:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



تحضرني الأن عبارة أطلقها الصحفي والمذيع الذي أصبح من أيقونات المرحلة الثورية الأستاذ يسري فودة وهي أننا منذ انطلاق الثورة في الخامس والعشرين من يناير نمر بحالة من "اتَعّلُّم". هذا حقيقي. وفي واقع الأمر يمر الشعب المصري بمجموعة من الحالات غير المسبوقة عليه بجانب هذه الحالة من التعلم. فهناك حالة غير مسبوقة من الأمل في التغيير، تصاحبها حالة غير مسبوقة أيضا ً من الألم من أجل الشباب الذين يتساقطون وتتساقط عيونهم من أجل "عيون" مصر. أما حالة التَعَلُّم فهي ما أريد التوقف عنده الآن. لكي أراجع، لنفسي وللتاريخ ولأبنائي وأحفادي، ما أتعلمه هذه الأيام.

الحقيقة هي أن وسائل الإعلام الاجتماعية التي أصبحت مفتوحة أمام الجميع تتتيح لنا فرصة التعبير عن مشاعرنا والتواصل معاً مما يساعدنا على تحمل الحالات غير المسبوقة التي نمر بها وفي نفس الوقت تتيح لنا قدر غير مسبوق من التعلم من بعضنا البعض. فإذا كانت نسبة ليست بقليلة تقرأ لي على هذه الوسائل المجانية وغير الخاضعة للتصنيفات والقيود، فأنا للأمانة لا أكتب من أجلهم فقط ولكن أكتب في الأغلب من أجل نفسي لكي أحتفظ بصحتي النفسية وسط كل ما يحدث.

في هذا المقال سوف أتناول ثلاث قضايا خلافية تفرزهم لنا، من بين الكثير الذي تفرزه، هذه الحالة من التَعَلُّم. والعامل المشترك بين هذه القضايا الثلاثة هو أنها تعكس صراعاً بين أمرين بينهما ذلك النوع من التناقض الظاهري الجدلي "الديالكتيكي" الذي ينشء ليس صراعاً وتفككاً وتحللاً وإنما ينشئ بناءاً جديداً أفضل وأكثر ملائمة لاحتياجات عالم يتغير.

إننا نمر بصراع بين أزواجاً من القيم والحالات لا ينبغي أن تتصارع صراع موت أو تشويه لكليهما ولكن ينبغي أن تتجادل وإن جاز التعبير تتصارع صراعاً بناءاً ينشء لنا شيئاً جديداً. هو ذلك الصراع الجدلي بين الطرح Thesis والطرح المقابل Anti-Thesis لنشوء طرح جديد يزاوج بينهما بطريقة عضوية فاعلة وليس مجرد "القص واللصق" بحيث يكون الطرح الجديد بناءً أقوى من كل طرح بمفرده Synthesis . إن الحالة التي نعيشها في مصر (والعالم العربي كله بدرجات متفاوتة) تطرح على الأقل ثلاثة تساؤلات:

• أولاً: عن الثورة وصراع الأجيال نسأل: هل يجب القضاء على القديم حتى نحقق الإبداع؟ وهل ينبغي القضاء على الجديد لنحافظ على الاستقرار؟
• ثانياً: عن السياسة والاخلاق نسأل؟ هل السياسة على إطلاقها مسألة انتهازية لا أخلاقية؟ و هل في إطار السياسة يمكن التضحية بنظرة أخلاقية ضيقة محدودة لصالح نظرة أخلاقية أعمق؟
• عن الدين والدولة، أو قل عن العالم الحالي والعالم الآخر نسأل: هل ينبغي التخلي عن عالم منهما من أجل الآخر؟

الثورة وصراع الأجيال
يكاد يكون واقعاً ذو استثناءات قليلة، أن جيل الشباب يساند الثورة والجيل الأكبر يقف ضدها. بالطبع هناك تفسيرات عديدة منها النفسيّ والاجتماعيّ والتاريخيّ والسياسيّ. وهي عوامل يمكن أن تفرد لها مقالات بل كتب عديدة لكن ما أريد أن ألمسه هنا هو أنه إن كان الصراع بين الأجيال حقيقة كونية وتاريخية تتكرر في كل الأجيال إلا أن مع الألفية الجديدة أو قبلها بقليل وبسبب عولمة المعلومات، صارت الفجوة بين الأجيال أوسع بكثير. وأصبح تعريف "الجيل" يكاد يصل إلى عشرين أو ربما عشرة سنوات. بحيث يعتبر من في سن العشرين في "جيل آخر" تماماً غير من في سن الثلاثين، فكم بالحري الفرق بين من في العشرين والسبعين. هذه قضية تقع الآن في بؤرة أحد أهم الاستقطابات التي يعانيها الشارع العربي الآن. والتي يمكن أن نرمز إليها بالاستقطاب بين ميدان التحرير وميدان مصطفى محمود (سابقاً) وميدان العباسية (حالياً). فحتى إن كان هناك في ميادين مصطفى محمود والعباسة "شباب" فهم بالقطع (إن لم يكونوا مأجورين) ليسوا شباباً سوى بسبب "البطاقة الشخصية" ولكنهم من حيث الروح والفكر "عجائز" على الجانب الآخر يمكن أن تجد في ميدان التحرير أو من المتعاطفين معه أشخاص ينتمون عُمرياً إلى طائفة الكهول أو حتى العجائز بينما هم "شباب" بالتعريف الوجودي الذي أعنيه. بالطبع هؤلاء استثناءات للحالة العامة التي أشير إليها الآن من الاستقطاب المبني على اختلاف الجيل بين الطائفتين المتصارعتين على ساحتنا العربية (أو قل العالمية الآن إذا وضعنا في اعتبارنا أيضاً أحداث لندن في الصيف الماضي وول ستريت منذ عدة أسابيع).

تتميز الروح "الشبابية" التي أتكلم عنها هنا تتميز ببعض الصفات التي من الصعب أن يستوعبها الجيل الأكبر وهي تتخلص في الشعارات التالية: الشعار الأول هو "نعم نستطيع!" (هل تذكرون كيف جاءت هذه الفكرة الشبابية بشاب أسود من أصول افريقية بل وإسلامية أيضاً لسُدّة رئاسة أقوى دولة غربية مفترض أنها "مسيحية" في العالم؟). الشعار الثاني يمكن أن يكون إضافة للشعار الأول وهو كلمة "معأً" أو "إيد واحدة". لا أستطيع أن أنسى مشهد حلقة من الشباب يفترشون الأرض في ميدان التحرير في الموجة الأولى للثورة في يناير/فبراير 2011 وينشدون معاً أغاني الشيخ إمام الثورة وبينهم الشاب السلفي أو الإخواني الملتحِ والشاب الليبرالي والقبطي والفتيات محجبات وغير محجبات. إذا فهمنا ثقافة الشباب البعد حداثية، سوف ندرك أنها ثقافة "المجتمع" أو قل: ثقافة قبول الآخر. في ميدان التحرير رأينا شباب "6 إبريل" و "حملة تأييد البرادعي" ذوي الميول الليبرالية العلمانية مع "شباب من أجل الحرية والعدالة" ذوي الميول اليسارية و"شباب الإخوان" ذوي الميول اليمينية الدينية المحافظة، وبين كل هذه المجموعات وَزّع المسيحيون أنفسهم (باستثناء شباب الإخوان بالطبع).

لقد وجدنا أن الحلم: "نعم نستطيع" الذي قد جمع بينهم على اختلافاتهم الأيدلولجية كان أقوى من الذي كان يجمعهم مع القوى الليبرالية واليسارية والدينية القديمة والمنتمية لأجيال سابقة لهم. طبعاً أُذَكِّر أنني لا أرى أن ما جمعهم هو فقط الشبابية "العمرية" ولكن الشبابية "الوجودية" هي ما أقصد. فبعض منهم كان فوق الستين أو السبعين، مثل محمد البرادعي، وجورج اسحق، وعبد المنعم أبو الفتوح، في هذه القوى على الترتيب.الروح الجديدة التي جاء بها هذا العصر هي روح "الإمكانية" التي صنعتها ثورة الإتصالات وروح "التواصل" والتقارب التي صنعتها نفس هذه الثورة.

في واقع الأمر أن ما يحدث الآن في مصر وبالتحديد في هذه الموجة الثانية للثورة وهو نوع من إعادة "بلورة" الثورة لتبدو على حقيقتها صراع بين هاتين القوتين.
- القوة التي لا تستطيع أن تستوعب حقيقة الثورة والقوة التي هي في أصل وجودها "ثورة"
- القوة التي تفكر في "الخبرة" والأمان والقوة التي تحلم بالجديد المُبدع مهما كانت "خطورة" التجديد
- القوة التي تفكر في المخاطر والقوة التي تفكر في الفرص
- القوة التي تخاف والقوة التي تحلم
- القوة التي تبحث عن نقاط الاتفاق والقوة التي كان الاختلاف هو مبرر وجودها.
والسؤال: هو أي القوتين ستنتصر؟ والحقيقة هي أن هذا السؤال بالرغم من شعورنا المضني بصعوبته، إلا أن التاريخ يجيبه بسهولة شديدة. وأظن أن الإجابة أوضح من أن أذكرها صراحة.


السياسة والأخلاق
عندما أهم بالكتابة في هذه الجدلية أو ذلك الاستقطاب، أتذكر جدلاً دار بيني وبين بعض "القيادات الدينية" المسيحية من نحو أكثر من عشر سنوات حول "الكذب". هذا الجدل فَجّر قضية فلسفية كبيرة عن الأخلاق ومعناها. كانت "المعضلة" هي السؤال الجدلي الذي افترضته: لو أنك طبيبة بشرية في إحدى قرى صعيد مصر مثلاً و جاءك رجل ريفي ومعه ابنته ذات الستة عشر ربيعاً وهي تشكو من بعض الأعراض الغريبة، فكشفت عليها وأدركت أنها حبلى. ثم جاء الأب ليسألك: "ما بها؟ ماذا تفعلين؟ كيف تجيبين خاصة وأنت تعرفين أن هناك احتمالاً بقتل تلك الفتاة إذا عرف أبوها أنها حُبلى. هل تطبقين أخلاق "عدم الكذب" وتقولي الحقيقة، وتعزلين نفسك تماماً عن هذا الموقف الواقعي وتعتبرين نفسك انتصرت للأخلاق "المجردة" التي تقول: "لا تكذب!" أم تكذبين لكي تحمي الفتاة من القتل؟ عندها أجابني أحد الشباب عديمي الخبرة ظاناً أنه وجد الحل وقال: "سوف أقول للأب: هذا سر مريضتي ولن أخبرك به!" بالطبع ضحك كثيرون لهذا الاقتراح.

هذه المعضلة تضعنا أمام سؤال عن حقيقة الأخلاق وما هي الأخلاق؟ وهل هي تلك الأخلاق المجردة التي تقول: لا تكذب! أم أن الأخلاق لها أبعاد أخرى غير هذا البُعد المجرد. هذه معضلة حقيقية لأنها تفتح الباب أمام تمسكاً أخلاقياً مجرداً يريد "تبرئة نفسه من الكذب" ولا يعبأ بمصير الآخرين ويعتبر أن هذه "الفتاة" مسئولة عن مصيرها، و على الجانب الآخر تفتح الباب للقضاء على الأخلاق تماماً بمنطق المصلحة والغاية تبرر الوسيلة. وهذان شرّان ليس أحدهما أكبر أو أقل من الآخر.

أتصور أن هذه القضية تثار الآن في الساحة فيما يتعلق بالسياسة والانتخابات. فالبعض يتخذ موقفاً متطرفاً ويقاطع الانتخابات تضامناً مع الشهداء والمصابين ويرى أن أي كلام عن الانتخابات الآن هو خيانة لدماء الشهداء. البعض الآخر يتخذ موقفاً متطرفاً آخر ويكاد يعتبر أن هؤلاء "الشهداء" ليسوا بشهداء وأنهم ماتوا وهم يحاولون عمل فتنة لتأجيل أو إلغاء الانتخابات بسبب خوفهم من خسارتها. أنا أتصور أن هذين الموقفين متطرفان بقدر تطرف الموقفان السابق ذكرهما في قضية الفتاة الحامل. من ناحية تطرف الأخلاق المجردة التي تصر على "عدم الكذب" فيتم "قتل الفتاة" (والفتاة هنا ربما تكون مصر) والتطرف الآخر هو أن يتحول هذا الطبيب إلى صديق العاهرات الذي يجري لهن عمليات الإجهاض والكحت والتفريغ وإعادة العذرية بدعوى "المصلحة".
أظن الآن أن هذا الاستقطاب قد بدأ يفرز مواقف ثلاثة أترك القارئ العزيز يحكم عليها بنفسه:
• الموقف الأخلاقي المجرّد الذي يقاطع الانتخابات تماماً. هذا الموقف يتبناه الشباب الأكثر حماسة والأقل وعي سياسي وهم بالطبع كُثُر في مجتمع تم "تجريفه" سياسياً على مدار ستين سنة متتالية، ولم تقدم له صورة للسياسي إلا ذلك الشخص النفعي الذي يبحث عن السلطة أو الحصانة ليتاجر في المخدرات. أو الحزبي المعارض الذي لا يقوم حزبه بدور إلا أن يُضفي على الدولة المستبدة "شكلاً" ديمقراطياً تعددياً وتعطي الدولة دعماً مالياً لحزبه، وأحياناً كرسي وحيد ربما لرئيس الحزب في البرلمان المزور، ربما لا ليتاجر في المخدرات وإنما في الشعارات!
الذين يتبنون هذا الموقف من الشباب الموجود الآن في التحرير معذورون لأنهم لم يروا من السياسة والانتخابات إلا وجهها القبيح. هم لم يروا، ولم يقرأوا عن سياسيين أخلاقيين يدخلون الانتخابات ويصارعون فيها ليس لمصالحهم الشخصية وإنما لمصلحة الوطن. مثل هؤلاء الشباب أنا أعتبرهم مثل تلك الطبيبة "الأخلاقية" الذي "لن تكذب أبداً" و ليذهب الجميع إلى الجحيم.

• الموقف المتطرف الثاني، في رأيي، هو موقف تيارات سياسية، أو للدقة "الحرس القديم" في بعض التيارات السياسية. هذه القوى قررت غضب البصر تماماً عما يحدث في التحرير ولأن عينها مركزة على الانتخابات التي سوف تقوم بتوصيلها للحكم، لم تر فيما يحدث إلا مؤامرة على الانتخابات. بالطبع اتخذ "فلول النظام القديم" هذا الموقف إلى أقصاه من خلال تنظيم "مليونية" العَبّاسية بالطبع بالتعاون مع مدمني "الاستقرار" ومقاومي التغيير وأعضاء أحزاب غير سياسية مثل: "حزب اللي ما لوش كبير يشتريله كبير" ، وحزب " اللي يتجوز أمي أقولله يا عَمّي" ، وحزب "خلي البلد تمشي" بدون أن يعرف "تمشي تروح على فين؟" فهذا ليس مهم. المهم أنها "تمشي". وغيرها من هذه الأحزاب. أيضاً يمكن أن يضاف لمُنَظمي مليونية العباسية، منظمي قائمة "المواطنة" من الأقباط الذين بحثوا وبحثوا ولم يجدوا منقذاً لهم من "الخطر الإٍسلامي القادم" إلا "الفلول" لأن لهم شعبية ولهم مال يشترون به الأصوات بالطبع ليس حباً في الدولة المدنية وإنما في الحصانة البرلمانية أو حتى الشهرة والوجاهة. حث القائمون على هذه القائمة الأقباط في كل مكان للتصويت للصوص الحزب الوطني. مثل هؤلاء وقائمتهم التي أعتبرها "ساقطة" وليست "قائمة" أبداً أعتبرهم مثل الطبيبة "صديقة العاهرات" المستعدة دائماً لإجراء عمليات الإجهاض وذلك لتحقيق "المصلحة المتبادلة" بأي ثمن.

• أما الموقف الثالث المستنير، في رأيي، فيتبناه طائفة من الشباب هم الأكثر تعليماً وثقافة وقراءة في التاريخ. والذين يحتفظون بالروح الشبابية ويحاولون أن يجدوا للدولة مخرجاً. هم يعتصمون ويتظاهرون ولديهم وفي نفس الوقت يرون أن في الانتخابات يمكن أن يكون المخرج. صحيح أن كثيرين منهم يرون أن هذه الانتخابات قد فُرضت عليهم قبل الدستور بتسلسل غير منطقيّ ولا يوافقون على ذلك، لكنهم لا يريدون أن يتحول رفضهم هذا إلى خسارة للدستور والانتخابات معاً أو خسارة فادحة للانتخابات تؤدي إلى خسارة أفدح للدستور. هؤلاء يعرفون أن "الحكم" ربما يكون قليل الخبرة وأخطأ كثيراً ، وربما يكون متواطئاً، لكنهم في نفس الوقت واقعيون. لذلك فهم "يلعبون على صفارة الحكم" فلا "يقفون على أن الكرة تسلل" فيصاب مرماهم بهدف.
هؤلاء شعارهم. صوت يصرخ في التحرير وفي نفس الوقت يصرخ هذا الصوت "انتخابياً" أمام صناديق الاقتراع. وعن دخول السياسة في الدين والدين في السياسة. هم يؤمنون بأنه لا ينبغي أن يتدخل الدين في السياسة ولا ينبغي أن تقوم القوى الدينية بحشد الناس في اتجاه معين، لكنهم في نفس الوقت يدركون حقيقة أن الدين قد دخل بالفعل في السياسة وليس فقط في السياسة بل في كل شيء، حتى أن اللجنة العليا للانتخابات تكتب ديانة المرشح أمام اسمه في قائمة الاقتراع بشكل غير مسبوق في أي دولة. هؤلاء يرون أن الحشد الديني (وبالذات للأقباط) لكي يشاركوا في الانتخابات أولاً ولكي يصوتوا للتيارات المدنية ثانياً، أمر يمكن أن نوافق عليه "على مضض" لأن هدفه في النهاية هو إنجاح الكتلة المدنية التي من أهم برامجها فصل الدين عن السياسة. قد يبدو الأمر كانتهازية أو كالغاية التي "تبرر" الوسيلة ولكن يمكن أن تنظر إلى ذلك أيضاً أنه الغاية التي تبرر الوسيلة "مرحلياً" ثم تقوم بالغاءها تماماً في المستقبل عندما يصبح المجتمع أقل طائفية.
مثل هؤلاء يمكن أن يقبلوا مرحلياً بالحشد الديني وراء مرشحي الدولة المدنية، وربما يتجاوزوا ويحشدوا الناس خلف شخصيات من التيار المدني ربما لها شعبية أكبر وخبرة سياسية أقل، وذلك حتى يكون للتيار المدني فرصة في ظل مجتمع قد تم تجريفه سياسياً واستقطابه دينياً بشكل بشع. لكنهم في الوقت نفسه لا يمكنهم أن يقبلوا بانتخاب أشخاص من "الفلول" واللصوص وإن انتموا للتيار المدني (مع أنهم في الواقع لا ينتمون إلا لأنفسهم) مهما كانت شعبيتهم وفرص نجاحهم. مثل هؤلاء أنا أشبههم بالطبيبة التي عندما ترى أن تلك الفتاة أخطأت مع صديقها أو تعرضت لاغتصاب وصارت حبلى، فهي تكذب لكي تحافظ على حياتها، لكن في نفس الوقت تساعدها لكي تحافظ على نفسها في المستقبل.

الدين والدولة
هذه المعضلة الفلسفية متعلق بها معضلات أخرى فرعية مثل العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة وعلاقتهما ببعضهما البعض ومتعلق بها أيضاً الموقف من التيارات الدينية. الحقيقة أن الاستقطاب الحادّ الموجود حالياً بين دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة المدنية ناتج من موقف تبسيطي فيه لا يحاول كل تيار أن يرى الآخر ويستمع إليه جيداً بدون خوف أو عنف فيستطيع أن ينظر للدنيا من منظوره فيفهمه ويقدر تطلعاته ومخاوفه.

أولاً هذا الموقف المتطرف من الجانب العلماني يفترض ان التيار الديني شيئ واحد وأن كل الاختلافات داخله ما هو إلا نوع من الخداع وتوزيع الأدوار (كما نقول دائماً عن أن الصقور والحمائم في السياسة الإسرائيلية ما هي إلا وجهان لعملة واحدة صهيونية بغيضة) ربما يكون مفهوماً أن يكون هذا هو موقفنا من العدو الصهيوني لكن لا ينبغي أن يكون موقفنا من إخواننا في نفس الوقت. هذا الموقف العلماني التبسيطي لا يرى أن التيار الديني هو في واقع الأمر مُتّصَل أو طيف واسع. هذا المتصل طرفه الأقصى "فاشية دينية" تريد أن تقيم إمبراطورية عسكرية ليس فقط لا تعترف بحقوق الأقليات، بل لا تعترف حتى بحقوق الفرد من الأغلبية. لكن يمكن أن يكون له طرف آخر يبحث عن الله بالفعل ويريد أن يبني حياته على الإيمان به والعلاقة معه ويريد أن يبني المجتمع الذي يعيش فيه على نفس الأسس الروحية التي يؤمن بها. مثل هؤلاء ربما لا يريدون إقحام الدين في كل شيء ولا يريدون فرض وصاية كهنوتية على ضمائر الناس ولكنهم بالفعل يخافون خوفاً صادقاً على القيم الروحية للفرد والمجتمع.

نفس هذا الموقف التبسيطي المتطرف من جانب العلمانيين يقابله موقف لا يقل تطرفاً وتبسيطية للمتدينين من التيار العلماني. فالمتدينين غالباً ما لا يرون أن التيار العلماني هو أيضاً متصل وطيف واسع، طرفه الأقصى هو العلمانية الكاملة التي تريد أن تقصي الدين عن حياة الفرد والجماعة وتجعل التفسير المادّي للأشياء هو التفسير الوحيد وهذا في الكثير من الأحيان يروِّج لكل أنواع الفجور والتحلل الأخلاقي. فإذا كان طرف المتصل في التيار العلماني هو تلك العلمانية الشاملة، فللتيار العلماني أيضاً طرف آخر أقرب وهو مجرد الرغبة في فصل الدين عن الدولة وعدم إقحام الدين بشكل سلطوي على كل شيء في الحياة. إذاً ليس "إقصاء" الدين هو جُلّ هدف العلمانيين ولا "إقحامه" هو كل هدف المتدينين.
وإذا فهمنا هذه الحقيقة سوف نستطيع أن نجد تقارباً وتفاهماً وأرضية مشتركة يمكن أن نقف عليها بين الوسطيين من التيار الديني والوسطيين من التيار العلماني. عندئذ يمكننا أن نفهم خوف المتدينين من العلمانية و أيضاً سوف يهدئ روع المتدينين فلا يفترضوا أن كل من ينادي بفصل الدين عن الدولة يريد أن يجعل الناس ملحدين أو لا أدريين.

تكمن المشكلة في الشك الذي يملأ قلوب العلمانيين من أن ذلك النوع غير الفاشي من التيار الديني يمكن مع الوقت أن يؤدي للفاشية، وأيضاً في الشك الذي يملأ قلوب المتدينين أن العلمانية الجزئية هي مجرد مرحلة من مراحل العلمانية الشاملة. هذا الشك في رأيي مبني على فكرة أو معتقد خاطئ شهير وهو أن التساهل و المواقف الوسطى تؤدي إلى التطرف بينما الحقيقة هي العكس تماماً فلا يؤدي إلى التطرف إلا التطرف المقابل والمواقف الوُسطى هي الضمانة الحقيقية والوقاية الناجحة ضد التطرف. هنا يقف التاريخ خير شاهد على ذلك فتطرف العلمانية الشاملة في الغرب لم يأت إلا كرد فعل للدول الكهنوتية وإقحام الدين في كل شيء بشكل سلطوي في القرون الوسطى. والأصولية المتطرفة لم تأت إلى بسبب الفراغ الروحي الشديد الذي خلفته التيارات العلمانية والليبرالية الشديدة التي تجاهلت احتياجات الإنسان الروحية.

في أحيان كثيرة انتصرت المواقف المتشددة وتسببت ولا تزال تتسبب في مآس للعالم. لكن العالم يتعلم من تجاربه وأخطائه فتظهر مع الوقت صيغ أفضل للتفاهم بين المواقف المختلفة و تظهر نتيجة للصراع بين المتناقضات، بناءات جديدة أقرب للفطرة وأفضل من كل موقف متطرف على حدة ولعل حماس الكثيرين للنموذج التركي على سبيل المثال هو أنه يقدم لنا هذا النموذج للتعايش بين العلماني والدين مُطبَّقاً ومُعاشاً. ويبقى السؤال: "من سينتصر في ثورات الربيع العربيّ النموذج الإيراني/ الأفغاني، أم النموذج التركي أم ستظهر نماذج أخرى تقدم حلولاً مختفة وأشكال بناء مغايرة؟

في النهاية أريد أن أقول أنني أكثر ميلاً للتفاؤل برغم نوبات الاكتئاب التي تنتابني عندما أشاهد الانتكاسات على طريق التقدم. إن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن قطار التقدم والتوافق والتواصل لا يمكن لأحد أن يقف في وجهه فهذه هي الحتمية التاريخية. إن مصر والأمة العربية تمخضان وسوف تلدان بإذن الله مولوداً جديدأً قد يحمل شبه الآباء والأجداد إلا أنه في نفس الوق سوف يكون له شكله الخاص وشخصيته المميزة. و حتى إن وُلِدَ ضعيفاً خديجاً، فهو بإذن الله لن يموت في الولادة ولن تموت بلادنا وهي تلده.



#أوسم_وصفي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أوسم وصفي - ثلاث معضلات في الثورات العربية