أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - محمد محمود السيد - حول تفسير ظاهرة الفقر















المزيد.....


حول تفسير ظاهرة الفقر


محمد محمود السيد

الحوار المتمدن-العدد: 3554 - 2011 / 11 / 22 - 17:29
المحور: حقوق الانسان
    


أولا: تعريف الفقر

من خلال الإطلاع على الأدبيات الخاصة لدراسة الفقر نجد أن مفهوم الفقر قد حظي باهتمام بالغ في مختلف الدراسات الاقتصادية والسياسية والسوسيولوجية
والأنثروبولوجية، حيث صيغت تعريفات متعددة لمفهوم الفقر يركز كلا منها على بعد من أبعاد ظاهرة الفقر ذلك البعد الذي يتسق وطبيعة وتخصص كل عالم من العلماء
وليست مسألة تعريف الفقر كما ينظر إليها نوعا من الطرف العلمي لكن ربما ترجع أهميتها إلى ارتباطه بمداخل الدراسات التنموية ذلك لان أي تنميه وطنيه حقيقية أن لم
تضع هؤلاء الفقراء في لب إستراتيجيتها لم يقدر لها النجاح و لا أن يكتب لها الاستمرار ومن هنا كان من الضروري في هذا المقام طرح بعض التعريفات بقصد
بيان وتحديد مفهوم الفقر وماهيته .
كما يعتبر الفقر من المشكلات الاجتماعية التي تلعب دورا من أهم الأدوار في واقع الحياة المعاصرة ، ولكن الفقر كمفهوم من أصعب المفاهيم نظرا لهذا لا يسهل
وضع تعريف متفق عليه ومن خلال استعراض تعريفات الفقر نجد أن هناك مدخلان مختلفان في تعريف الفقر الأول المدخل القائم على المفهوم الاقتصادي والذي يحدد في
ضوء الظروف الخارجية التي تحكم سلوك الشخص خاصة في البيع والشراء وهذا التعريف يرجع الفقر إلى الظروف المحيطة بالشخص أما المدخل الثاني
فهو القائم على ثقافة الفقر ويركز على الاتجاهات والأنماط السلوكية التي ترافق مجموعة من الظروف وهذا التعريف يرجع الفقر إلى شخصية الفرد .
أن بداية الاهتمام بالفقر والفقراء كانت من خلال دراسة (راونترى) عن الفقراء في لندن والتي ذهبت فيها إلى أن الأسر الفقيرة هي تلك الأسر التي لا يكفى
دخلها للحصول على الضروريات الأساسية اللازمة للحفاظ على المستوى اللائق للحياة وهذا هو التعريف المطلق للفقر وقد اهتمت التعريفات الباقية بالفقر النسبي حيث
يتحدد الفقر في ضوء وضع الفرد بالمقارنة بوضع غيره من أعضاء المجتمع من حيث درجة إشباع الحاجات الأساسية وهذا الوضع النسبي يحدد ما إذا كان الشخص
فقيرا أم غير فقير ويؤكد هذا التعريف أن الطبقة الفقيرة تعانى بشدة من عدم المساواة وعلى الرغم من انتقادنا لتعريف جامع مانع للفقر والفقراء فان هناك
محاولات من بعض العلماء ، فقد عرف )روبرت تيسيرتر) الفقر بأنه مشكلة اجتماعية تحول بين الإنسان وتحقيق مستوى اقتصادي واجتماعي مرغوب ومقبول، ويعد الفقر
مشكلة اجتماعية لأنه يؤثر في أعداد كبيرة من الناس فهو محصلة عجز الناس عن تحقيق حاجاتهم نتيجة لتعقد البناء الاجتماعي كما يحول بينهم وبين تحقيق توقعاتهم
أما )جيلين فيرى( فقال إن الفقر حالة معيشية لا يستطيع الفرد في ظلها الحفاظ على مستوى لائق للمعيشة يوفر له القوة والقدرة المادية ويهيئ له ولمن يعولهم التكييف الاجتماعي المطلوب وكذلك يرى)صمويل( أن الفقر يعنى العجز المادي عن تحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية ويساير )دافيد ماتزا( هذا التفسير الاقتصادي لظاهرة الفقر ويضيف أن الفقر مشكلة اقتصادية أساسا وتظهر هذه المشكلة نتيجة تفاوت توزيع الدخل وعدم توزيع الملكية توزيعا عادلا وضآلة الإنتاج الكلى في المجتمع كما يعرف د / عبد الباسط عبد المعطى الفقر بأنه حالة بنائية ملازمة لأسلوب إنتاجي من طابعة وجود التمايزات الخاصة التي تأتى من الملكية الخاصة والتميز بين أنماط العمل إلى يدوى وعقلي وتحديد الأجور .
بناء على هذا ويفسر الفقر بما يستتبع ذلك من تناقض في العلاقات الإنتاجية والتوزيعية المرتبطة باستغلال طبقة لبقية الطبقات التي لا تملك والتي تكون مجبرة على بيع عملها الذي تتحكم فيه الطبقات التي تحوز وسائل الإنتاج في المجتمع وإذا كان هذا المفهوم يبدو مجردا ، فأنه يركز أساسا محددات الفقر والتي تأتى من أسلوب الإنتاج الذي يعتمد على الملكية الخاصة ، سواء كان أقطاعيا أو رأسماليا على أن يترتب على هذه المحددات عدد من المصاحبات التي نعتبرها مؤشرات الفقر أو مظاهر له ومن أهمها : انخفاض مستوى المعيشة لمن يعدون فقراء ، والذي يمكن ترجمته إلى انخفاض مستوى المعيشة لمن يعدون فقراء، والذي يمكن ترجمته إلى انخفاض الدخل وتدنيه نتيجة لاستغلال العمل المأجور والتحكم في سوقه وشروطه ، وانتشار الأمية وانخفاض المستوى الصحي نتيجة لعدم كفاية دخل العمل ، وذهاب فائضة إلى الطبقة المالكة ، وممارسة هذا العمل في ظل ظروف غير صحية بالإضافة إلى عدم وجود فرص لتغذية مواتية لهذا العمل ، وما يبذل فيه من جهد ووعى زائف تعمل الطبقة المالكة على وضع الفقراء فيه حتى يضمنوا قبول الفقراء لأوضاعهم ، واستسلامهم وصبرهم وسيطرة التواكل والقدرية على أفكارهم . وبالتالي الحيلولة دون حتى مجرد التفكير فيما هم فيه والاضطهاد الذي تمارسه الجماعات المالكة – الفنية على الجماعات الفقيرة لتكون خاضعة دوما ولا توجد أمامها أي فرصة للمشاركة الجماعية كما تتجسد ظاهرة الفقر في مظاهر متعددة منها العوز والحرمان المادي والاجتماعي والسيكولوجي وعدم القدرة على الحصول على الغذاء والحرمان من فرص التعليم والعلاج وكل الأدوات و الإمكانيات ا لتي من شأنها أن تساعد على بناء المستقبل
وقد تناول د / نادر فرجاني الفقر من منظور طريقة تعامل الدولة مع الفقر والفقراء بل من زاوية ارتباطه بنمط الفعل الاقتصادي السياسي للدولة من ناحية ونمط التنمية الحاصل نتيجة لهذا العقل من ناحية أخرى ويصبح الفقر وفقا هذا المنطلق نتاج لعمليات هيكلية مركبة تقع في عمق الاقتصاد السياسي للبلد كما يعرض تقرير التنمية البشرية تعريفا جامعا شاملا للفقر يتضمن الآتي :-
الفقراء أناس لا يقدرون على تأمين حاجات مستوى الكفاف الفقر المطلق (المدقع) سواء كانوا ممن يعملون أم لا، ولا يكفى ما يكسبونه من دخل ليوفر لهم مستوى المعيشة اللائق اجتماعيا )فقر نسبى( ، وهم يعانون من الإذلال لسبب أو لآخر من الجماعات المحظوظة أو الموسرين عديمي الرحمة . ويكابدون هموم المديونية الثقيلة )حيث يتمثل معيار ثقل المديونية ( في ارتفاع الأهمية النسبية للدين مقارنا بقدرة الفرد على الكسب وهم العاجزون عن الكسب والمتعطلون عن العمل وغير القادرين على كسب ما يكفى لمعيشتهم على نحو كريم أما بسبب قصور قدراتهم الذاتية أو البطالة الإجبارية ونتيجة لذلك فمستوى الحياة المعيشية والسكنية متدني وحقير ووضيع وقد حدد البنك الدولي مفهوم )الفقر( على أنه عدم القدرة على تحقيق الحد الأدنى من مستوى المعيشة والفقر ليس مشاكله عدم المساواة ولابد من التفرقة بينهما في حين أن الفقر ينصرف إلى المستوى المطلق لمعيشة جزء من السكان وهم الفقراء فان عدم المساواة ينصرف إلى المستوى النسبي للمعيشة عبر المجتمع بأسره كما أكد احد الباحثين بأنه على الرغم من أن الفقر يعبر عن بعض المؤشرات الاقتصادية كانخفاض معدل الدخل والثروة أو تدنى المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتي توصف بخط الفقر – إلا انه عرض لبنية اجتماعية واقتصادية مختلفة وهى وسيلة أساسية لتحليل ومناقشة قضية اللامساواة الاجتماعية وأكد على أن الفقر واقع اجتماعي تعيش في نطاقه جماعات من (away of life) يتطلب التفسير وهو طريقه في الحياة الأفراد ذات المستويات المعيشية الدنيا والتي لها قيم مختلفة تتعارض كليا مع قيم واتجاهات الأغنياء وبهذه المعاني يمكن رصد الملاحظات التالية :

- من سبق نجد أن الفقر يعتبر مفهوم سلبي ونسبى يصعب فهمة في ذاته بصورة مستقلة ومنعزلة عن غيرة من المفاهيم الأخرى المرتبطة به كمفهوم الرفات ومستوى المعيشة ونوعية الحياة ولا يمكن فهمة كذلك بصورة مطلقة أو في غياب البعد المقارن بصفة عامة فلا معنى للفقر بعيدا عن الغنى ولا دلالة لمؤشرات الفقر خارج نطاق صور التمايز الاجتماعي ولا مجال لفهم خصائص الفقراء وقدراتهم دون مقارنتها بتلك التي يتميز بها الأغنياء وذلك على نطاق الدول والمجتمعات حيث لا يمكن فهم التخلف وأوضاع وخصائص المجتمعات المتخلفة أو الفقيرة النامية بمعزل عن مفهوم التقدم وأوضاع وخصائص المجتمعات المتقدمة .

- كما انه يمكن القول أن الفقر لا يعبر فقط عن عجز الإنسان عن إشباع حاجاته البيولوجية كما يقرر رجال الفكر الاقتصادي الكلاسيكي بل يعنى كذلك عجز البناء الاجتماعي عن توفير مستلزمات الإنسان المادية والمعنوية وتأثير ذلك على عمليات الاندماج والعلاقات الاجتماعية وتكوين شخصية الفرد في المجتمع وتشكيل قيمة وثقافته بل وتحديد دوره ووزنه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وكذلك فالفقر يجب أن ينظر إليه على انه مجموعه من الظروف والعوامل الموضوعية والذاتية التي تحيط بالإنسان ويعجز فيها عن تلبية حاجاته المادية والمعنوية في ظل نظام اجتماعي اقتصادي وثقافي محدد .

- من خلال استعراض المعاني المختلفة للفقر نجد أن مؤشرات الفقر تحمل معاني مختلفة باختلاف رؤى الباحثين منها ما هو مادي ومنها ما هو اجتماعي – ثقافي ولذلك فالفقر ظاهرة مركبة تجمع بين أبعادها ما هو موضوعي (كالدخل والملكية والمهنة والوضع الطب قي) ومنها ما هو ذاتي (أسلوب الحياة ونمط الإنفاق والاستهلاك وأشكال الوعي والثقافة. والتركيز على أحد جوانب هذه الظاهرة المركبة متداخلة الأبعاد يشكل عائقا أساسيا أمام الفهم العلمي الواقعي لظاهرة الفقر .

ثانيا: أسباب الفقر

من التفسير الأحادي والتبريري إلى التفسير المتوازن والتحريري

يقصد بالتفسير الأحادي التفسير الذي يرد ظاهرة الفقر إلى عامل واحد فقط، ويُْهْمِل العوامل والأسباب الأخرى، كما يقصد بالتفسير التبريري ذلك التفسير الذي يحاول البحث عن مبررات واهية لهذه الظاهرة، ونسبتها إلى جهات معينة قد لا تكون هي المسئولة - وحدها أو حقيقة - عن الظاهرة، وذلك بقصد تبرئة الذمة، والتفصي من المسؤولية، والتفلت من المتابعة
في حين يراد بالتفسير المتوازن الذي يحاول إبراز جميع الأسباب الفاعلة، وبيان مسؤولية كل الأطراف المعنية كل بحسب حجمه وثقله وقوة تأثيره.
وصفة التحريري يراد بها المعالجة التي تقتدر فعلاً على تحرير الإنسان والمجتمع من أسر الفقر وقهره .
وفي هذا السياق يمكن القول: إن أسباب الفقر عالميًا تتعدد بحسب خصوصية كل مجتمع وبلد، لكن هناك كثير من الأسباب هي بمثابة القواسم المشتركة، وبمثابة القوانين الثابتة، بحيث إذا وجدت أسهمت بشكل كبير في إنتاج الفقر وتكريس مظاهره وتعزيز حالاته، وجوده وانتشاره.
وسعيًا نحو تحقيق هذه الشمولية يمكن تقسيم هذه الأسباب إلى مستويين عمودي وأفقي، ويدخل في كل مستوى جملة من الأسباب:

(أ) المستوى العمودي:

تتدرج أسباب هذا المستوى تصاعديًا من الفرد إلى المجتمع إلى الدولة فالنظام الدولي، وكل يتدخل بقسط معين وذلك كالتالي:

1- على مستوى الفرد:

يظهر في هذا المستوى أن الفرد نفسه كثيرًا ما يكون سببًا في فقره عندما يركن إلى الاستسلام والتواكل، ويقبل بالانهزام النفسي، ويفقد الثقة في قدراته الذاتية، ويضعف لديه الإيمان في التحدي وفي النجاح، ولا يباشر الأسباب التي يلزمه مباشرتها، كما إن كثيرًا من الأفراد بدل أن يعالجوا فقرهم تجدهم يلقون باللائمة على الآخرين من آباء ومسؤولين، كمن يسب الظلام ولا يحاول أن يوقد شمعة!! وكأن يتعاطى الفرد للمخدرات والخمور أو يكون مسرفًا ومبذرًا ولا يتقن فن الاقتصاد والتدبير المنزلي، فينتهي به الحال إلى الاستدانة المستمرة، والعجز عن تحقيق الاكتفاء الذاتي..
لكن هذا الحكم لا ينطبق على الجميع؛ إذ هناك حالات من الفقر لا يتحمل فيها الفرد مسؤولية فقره، كأن يكون من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو أن تكون أسباب فقره تتجاوز حدود إمكاناته، وكأن يكون له دخل ضعيف، فلا يكفيه هو نفسه لسد حاجاته، فكيف لو كان له عيال كُثُر؟! أو غير ذلك من الحالات والأسباب...

2- على مستوى المجتمع:

تأتي مسؤولية المجتمع وتدخله في تسبيب الفقر عندما تنتشر النزعة الفردية، ومظاهر الصراع والتباغض والتحاسد والكراهية، وتضعف الروح الجماعية، وتقل مظاهر التكافل والتضامن والتعاون والتآزر ...كما يكون المجتمع مسؤولاً عندما يسمح بانتشار الرذائل والجرائم وبيع الخمور والمخدرات والقمار، وتفشي الظلم والجور، مما يعقد المهمة على كل من يرغب في تجاوز فقره، ويرفع معدل هدر الطاقات والجهود.

3- على مستوى الدولة:

تظهر مسؤولية الدولة في وجود الفقر واستفحاله في صور وحالات عدة، منها طبيعة النظام السياسي الذي يكون نظامًا استبداديًا، فيكون همه جمع الضرائب والاستحواذ على مصادر الرزق والاستئثار بها، كما يزداد الفقر عندما تتحالف الطبقة الحاكمة مع الطبقة الغنية والمترفة، وتصبح كل واحدة منهما أداة لتحقيق مصالح الأخرى، لا غير، سواء في الامتيازات، أو في الاستثمارات، أو في تشريع قوانين العمل والتجارة والأسعار تخدم الأغنياء دون الفقراء، ناهيك عن تواطئهما على شل الجهاز القضائي والتدخل فيه ليكون غير عادل...
كما تتجلى هذه المسؤولية في غياب مخططات شاملة وجادة وإرادات صادقة لمعالجة ظواهر الفقر بكل أنواعه، مما يجعل المهمة تزداد صعوبة مع المدة؛ هذا إذا أضفنا الأثر الخطير للوبيات الفساد المالي والإداري المتمرسة في كل المصالح الإدارية والمالية والقطاعات الحيوية، وتعض على مناصبها بالنواجذ حتى لا تنفلت منها، هذه اللوبيات هي التي تكون مسئولة عن هدر المال العام، وتوزيعه بينها بطرق عديدة، ليس فيها إلا التحايل على القانون، وعلى الفقراء ... ويزداد خطرها ويتعاظم مع غياب العدالة وآليات المراقبة والمحاسبة.

4- على مستوى النظام العالمي:

لم يعد خفيًا الأثر المباشر للنظام الدولي والعالمي المعاصر في توجيه سياسات البلدان الفقيرة، والتحكم في اقتصادياتها من خلال مجموعة من الوسائل، لعل أبرزها يتجلى في التقسيم الدولي للعمل، وإرغام الدول الفقيرة بالالتزام به، ومراقبة أي مشاريع تنموية تحاول تجاوز المسموح به دوليًا، وتأسيس بنيات صناعية ثقيلة وذاتية، وهذا التقسيم يحافظ على وضعية هيمنة الكبار وسيادتهم، والزيادة في استحكام القبضة على الفقراء والضعفاء، كما يتجلى في حرص هذا النظام في التحكم أيضًا في مصادر المواد الأولية التي تتوفر عليها هذه البلدان الفقيرة (المعادن النفيسة ومصادر الطاقة مثلاً)، والاستحواذ عليها بالقوة العسكرية (حالة العراق وأفغانستان حاليًا أو حالة المستعمرات في السابق)، أو الاستئثار بها من خلال العقود التجارية والاقتصادية ذات الطابع القانوني، أو من خلال الامتيازات المحصل عليها إما بحكم العلاقات الشخصية أو بحكم الضغوط على الحكام والحكومات في دول العالم الثالث.
يضاف إلى هذا دور المؤسسات المالية الدولية (كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما) في فرض شروط قاسية وتعجيزية على الدول الفقيرة المستدينة، يجعلها عاجزة عن تحقيق التنمية إذا وجدت النوايا الصادقة, كما لا ينبغي أن نغفل الأثر السلبي للعولمة السياسية والاقتصادية في إضعاف الاقتصاديات الوطنية المحلية، وإبعادها عن الاستثمارات الداخلية، لتتولى الشركات الدولية العملاقة وعابرة القارات حق الاستثمار وحدها، فيتم القضاء نهائيًا على كل مواطن طموح في تنمية قدراته وتنمية مشاريعه الاقتصادية؛ لأن هدف النظام العولمي الذي تقف وراءه هذه المؤسسات التجارية والشركات الإنتاجية الكبرى هو تحويل مجتمعات دول العالم الثالث إلى سوق استهلاكية واسعة ليس إلا.

(ب) على المستوى الأفقي:

يتم في هذا المستوى رصد مجموعة من الأسباب التي تتفاعل أفقيًا، وتتدخل بنسبة أو أخرى في تصنيع ظاهرة الفقر وتوسيع مداها، ومن ذلك ما يلي:

- النظام السياسي:

يتعلق هنا بطبيعة النظام السياسي في البلدان المتخلفة التي يستفحل فيها الفقر استفحالاً يفوق حدود التصور أحيانا كثيرة، فأغلب هذه الأنظمة استبدادي، يقمع الحريات، ويضيق من المبادرات الحرة، ويتحالف مع الفئات الغنية في المجتمع، وينحاز لها، وتغيب لديه الرغبة في التنمية الاقتصادية والبشرية للرفع من مستوى المعيشة، كما أن طبيعة هذه الأنظمة الاستبدادية تميل إلى الاحتماء بالأجنبي، فتسلم له خيرات البلاد ظاهرها وباطنها، مقابل المحافظة على الكرسي والمنصب السياسي.
وبوجود النظام الاستبدادي تضعف المبادرات، ويحجم المواطنون عن الاستثمار خوفًا من الضرائب ومن السطو على ممتلكاتهم ... وبسبب هذا تقل فرص الشغل، وينزل سلم الأجور، وتهزل الرواتب، وينخفض معدل الدخل الفردي إلى أضعف مستوياته، فتنتشر السلبية والبطالة والتسول الطبيعي والاحترافي والجريمة والرشوة، وجميع مظاهر الفساد والجشع العام ...
ويلاحظ في هذا الصدد أن الأنظمة الاستبدادية في البلدان المتخلفة شكلت دومًا مصانع مهمة لإنتاج الفقر بجميع أنواعه وأحجامه ومقاييسه ومظاهره، ومعامل ضخمة لتفريخ أعداد هائلة من الفقراء والجياع والجُهال والمحرومين والمهمشين والمهانين والمستعبدين، الذين تكفي معهم اللقيمة الصغيرة لاستعبادهم، وشراء ضمائرهم، وانتهاك أعراضهم، واستحياء بناتهم ونسائهم، فتنتشر وتكثر التجارة الجنسية.

- النظام الاقتصادي:

يعبر النظام الاقتصادي عن طبيعة المعاملات الاقتصادية ونظام الملكية وطرق انتقالها وتداولها، كما يضم جميع القطاعات الإنتاجية؛ زراعية وصناعية وتجارية، ويعتبر المال والعملة النقدية عصب الاقتصاد المعاصر. والنظام الاقتصادي خاضع لهيمنة المنتجين أيًا كان نوعهم ومستواهم عمومًا، لكن يخضع بالدرجة الأولى للمنتجين الكبار ولأصحاب رأسمال الضخم والعملاق.
وسواء أكان النظام الاقتصادي رأسماليًا لبراليًا أو اشتراكيًا فإنه يعمل على التحكم في تداول الأموال والمنتجات الضخمة واحتكارها من قبل الطبقة الحاكمة أو الطبقات الغنية والشركات العملاقة والمؤسسات المالية الدولية؛ ومن ثم فإن هذه الجهات هي التي تتحكم في توجيه سياسات الدول والمجتمعات لصالحها، فينتج عن هذا أن طبيعة المعاملات تحددهما هذه الجهات دون مراعاة مصلحة الفقراء والضعفاء مما يؤدي إلى اختلال التوازن الاجتماعي وتزايد هوة الفوارق الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء .
وكما هو الحال مع النظام الاستبدادي فإن النظام الاقتصادي العالمي المعاصر نفسه نجح في تصنيع ظاهرة الفقر والتحكم فيها بتجميع الثروة وتركيزها في أقل عدد، وتوسيع قاعدة الفقراء والتحكم في نظام المعاملات معهم، ونجح في إخضاع جميع الدول والشعوب للدوران في فلكه وجعلها مدينة له في كل الأوقات، وفي مقدار ما يقطره لها من قروض أو "مساعدات" أو"استثمارات".

- النظام الاجتماعي الثقافي:

يحمل النظام الاجتماعي والثقافي في كل مجتمع القيم الأخلاقية والفكرية والفنية التي بها ينظر الفرد إلى الوجود والحياة والآخرين، وعلى وفقها يصوغ تصوراته وتصرفاته، ولهذا يصح القول: إن النظامين الاجتماعي والثقافي هما اللذان يحددان قيمة الإنسان في المجتمع ونمط قيمه وتصوراته وتصرفاته.
وعلى ضوء هذا نجد بعض الأنظمة الثقافية تعلي من قيمة العمل، وتشجع على الكسب العادل والمشروع، وتحث على قيم الأخلاق الجماعية كالتراحم والتكافل والتساكن الودي والأخوي بين أفراد المجتمع وفئاته وطبقاته، وتسن قوانين وأعرافًا من شأنها معاقبة المعتدين على حقوق الضعفاء .. لكن في المقابل نجد بعض الأنظمة الثقافية والاجتماعية تشجع على قيم الأنانية والفردية والتميز الطبقي والاستعلاء الفئوي والاستقواء على الضعفاء، وتحث على التعامل بمنطق المصلحة والمنفعة الذاتية والتنافس عليها والحرص على إقصاء الخصم المنافس فيها بشتى أنواع الإقصاء المادي والمعنوي،
كما تكون هذه النظم حريصة على إشاعة ثقافة الانحلال الخلقي، والدعوة إلى إشباع الرغبات والشهوات البدنية وتوفيرها بشكل زائد، حتى يتم تصنيع جمهور عريض مستلب ومشكل من المستهلكين وعشاق الملذات والمتع والخمول والكسل، وإذا ما عمل فلا يعمل إلا تحت ضغوط الشهوة واللذة الآنية واللحظية.

- النظام التعليمي والعلمي:

يعتبر العلم والتعليم المدخل الرئيس لكل إصلاح اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي وتربوي ..كما يعتبر المنطلق لكل إقلاع حضاري فاعل ومؤثر، لكن التعليم في البلدان المتخلفة أصبح تعليمًا شبه مشلول وغير منتج ومعاكسًا لمسار النمو الحقيقي، وذلك بسبب التحكم فيه بقوة، ومراقبته بشكل دقيق، وإفراغه من عناصر القوة يتجلى ذلك في وجوه عدة منها:
* الاقتصار على تعليم المعلومات السطحية والمعارف الأدبية والفنية والمذاهب الفلسفية الغربية الهدامة، دون تعدي ذلك إلى تدريس القيم الإنسانية النبيلة، ذات الأثر المباشر في تحسين السلوك، ودون الانتقال إلى تدريس العلوم التي من شأنها تزويد المجتمع بالنتائج العلمية القمينة بتمكينه من استغلال موارد الطبيعة ومقدرات الأوطان، والتأسيس للبنى الاقتصادية الصلبة في استقلال عن الأجنبي.
* الاقتصار على بعض تخصصات التكوين المهني والتقني، لإخراج جيش من العمال الماهرين يوفر اليد العاملة لأرباب العمل والشركات العملاقة والصغرى الدائرة في فلكها، دون تعدي ذلك إلى التخصصات العلمية والتقنية الدقيقة، التي تعتبر من التخصصات المحظورة على البلدان المتخلفة.

المراجع

1- محمد ياسر الخواجة )علم الاجتماع الاقتصادي بين النظرية والتطبيق( ج 1 الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع ، سوريا , 1998 .
2- اندروبستر )مدخل علم الاجتماع التنمية( ترجمة عبد الهادي محمد والى ، السيد عبد الحليم الزيات ، دار المعرفة الجامعية , الإسكندرية , . 1995
3- سعاد السيد عبد الرحيم )التكيف مع الفقر وأنماط مواجهة الفقر لفقرهم( رسالة ماجستير غير منشورة، قسم الاجتماع ، كلية البنات ، جامعة عين شمس ، 1990 .
4- محمد سعيد فرح )دراسات في المجتمع المصري ( الهيئة العامة المصرية للكتاب، الإسكندرية، 1976 .
5- عبد الباسط عبد المعطى )توزيع الفقر في القرية المصرية( دار الثقافة الجديدة ، القاهرة ، 1979 .
6- نادر فرجاني ) لمن يكن القضاء على الفقر دون إصلاح مؤسس واسع وعميق( مركز المشاكاه ، القاهرة ، 1999 .
7- تقرير التنمية البشرية )البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ( معهد التخطيط القومي ، 1996 .
8- عزيز على عبد الرازق )استشراق بعض الآثار المتوقعة لسياسة الإصلاح الاقتصادي بمصر) اثر سياسة الإصلاح الاقتصادي على أحوال الفقراء بمصر، سلسلة قضايا التخطيط والتنمية رقم ( 89 ) معهد التخطيط القومي، الجزء الثاني، سبتمبر. 1994
9- محمد سعيد فرح وآخرون )المشكلات الاجتماعية في المجتمع المصري ( دار المعرفة الجامعية ،الإسكندرية ، 1999
10- غادة حامد حسين )عمالة الاطفال وعلاقتها بظاهرة الفقر في الريف المصري( رسالة ماجستير غير منشورة ، قسم الاجتماع ، كلية الاداب ، جامعة المنوفية ، 2003 .



#محمد_محمود_السيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العوامل الجغرافية والموقع الاستراتيجي كمحدد للسياسة الخارجية ...
- الهجرة غير الشرعية


المزيد.....




- اليونيسف تؤكد ارتفاع عدد القتلى في صفوف الأطفال الأوكرانيين ...
- يضم أميركا و17 دولة.. بيان مشترك يدعو للإفراج الفوري عن الأس ...
- إيران: أمريكا لا تملك صلاحية الدخول في مجال حقوق الإنسان
- التوتر سيد الموقف في جامعات أمريكية: فض اعتصامات واعتقالات
- غواتيمالا.. مداهمة مكاتب منظمة خيرية بدعوى انتهاكها حقوق الأ ...
- شاهد.. لحظة اعتقال الشرطة رئيسة قسم الفلسفة بجامعة إيموري ال ...
- الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة الغربية
- الرئيس الايراني: ادعياء حقوق الانسان يقمعون المدافعين عن مظل ...
- -التعاون الإسلامي- تدعو جميع الدول لدعم تقرير بشأن -الأونروا ...
- نادي الأسير الفلسطيني: عمليات الإفراج محدودة مقابل استمرار ح ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - محمد محمود السيد - حول تفسير ظاهرة الفقر