أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أم الزين بنشيخة المسكيني - بحث في التفكيكية















المزيد.....


بحث في التفكيكية


أم الزين بنشيخة المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 3511 - 2011 / 10 / 9 - 00:17
المحور: الادب والفن
    


ثورة الأحذية من خلال جماليات التفكيك (دريدا)
ما علاقة الثورة بالأحذية ؟ و من أصحاب الثورة حُفاة الأقدام أم أصحاب الأحذية اللامعة ؟ و حينما ندخل رحاب الكتابة هل على كل امرئ أن يخلع نعليه ؟ أم بوسعنا أن نفكّر بأحذيتنا، فيها و انطلاقا من الطابق السفلي لأنفسنا حيث تقيم الأحذية باستمرار؟
انّها هذه الأحذية ، أحذيتنا كلّ على قياسه ،و بصرف النظر عن جلدها و لونها و ثمنها و بصرف النظر عن جنسيتها و عن المغازات أو الفريبات التي سوّقتها ، هي عين الأحذية التي حملتنا في شوارع المدن و ثنايا الأرياف الشوكية أو الجبلية أو البحرية ، هي عين الأحذية التي حملت أجسامنا و دفعت بها نحو حلم كبير.. لأول مرّة تصير الأحذية جماعية ..و لأول مرّة تنهزم الأحذية اللمّاعة بحامليها..و لأول مرّة تستوي كلّ الأحذية لأنها تدخل هههنا رحاب الكتابة ..لن تكون الأحذية هذه المرّة أسلوبا شخصيا أو فرديا في اللباس ، و لن تكون موضة أو بهرجا اجتماعياّ ..أحذيتنا التي ندخل بها بهو الكتابة ليست ليبيرالية و لا نسوية و لا دينية ..سوف لن تخلع نعليك و انت تكتب عن الأحذية ، و لا أحد يضطرّك الى تركها خارجا ..لأنك لن تُصلّي هنا لأحد ..
و يحدث للأحذية من تحت مكر القلم الكثير من المعاني و المُعاناة معا .يحدث للأحذية أوّلا أن تبقى مُجرّد أحذية فقط ..قطعة من جلد صُنعت لباسا لأقدامنا ..أحذية من أصل حيواني تلتحم بنا يوميا كي تذكّرنا بأننا و ايّاها من أصل واحد ..ننتمي الى الحظيرة الكبرى للحيوان ..أي للحياة ..يحدث اذن للأحذية أن تشاركنا في لحم العالم لذلك فعلاقتنا بها هي علاقة لحمية حميمة الى حدّ يعجز فيه كلّ منّا عن رسم الحدود بين أحذيته و قدميه ..جلدُ الحذاء يكاد يكون من فرط التصاقه بنا جلدا لنا ..و لا نكاد حينها ندرك شكل الحيوان الذي نسكنه بأقدامنا ..هل يكون ماعزا أم نمرا أم تمساحا..كلّ و حيوانه الذي سيظلّ روحه التوأم ..لكن حذار هههنا يحدث للأحذية أن تدعم رؤوس الأموال أو أن ترسم الهوّة عميقا بين الفقراء و الأغنياء ..كلّ و ثمن جلد حيوانه المُفضّل ..كلّ و ثمن جلده الخاص و لحمه الخاص ان كان له لحما من فرط نقص اللحم في غذائه ..
لأيّ شيء تصلح الأحذية ؟ و هل هي دوما ضرورية كي نواصل السير على الطريق؟ يحدث للأحذية أن تكون من قبيل لزوم ما لا يلزم ..من يحتاج الى الأحذية؟ ضعفاء الأقدام أم المُتحضرون كفاية أم الخائفون من الأشواك ؟وحدهم ثوّار المدن لازموا أحذيتهم في الشارع الرئيسي..أما ثوّار الأرياف فلم يكونوا في حاجة دوما الى الأحذية من أجل اسقاط الدكتاتور..بل لقد ثار الريفيون لأنهم لا يملكون أحذية ..أي لا يملكون عملا و لا خبزا مضمونا و لا حقّا محسوما ..لقد ثاروا بأقدام حافية مُعطّلة عن الأحذية و عن العمل الحكومي لكنّها كانت في حجم العمل الثوري ..لقد طالب ثوّار الأرياف بأحذية تجعلهم قادرين على السير نحو الحياة التي لم تعُد تحيا من فرط الاستبداد ..
تصلح الأحذية اذن لحماية أقدامنا من صلف الأرض و نتوءات الثنايا و أشواك الطريق..و تصلح الأحذية للدخول الى المدينة لأن الريف لا يخجله عراء الأقدام..وحدهم سكّان المدن مُتخلّقون أكثر من اللازم بل هم محافظون أو بالأحرى هم خجولون من عراء اللحم ..و مهما كان العضو المقصود..لا ندخل المدينة بلا أحذية ..لكننا من جهة مُضادة لا ندخل المساجد بأحذيتنا ..هل يعني ذلك أن المدن مُدنّسة و أنّ المساجد مُقدّسة ..و حينما نموت نُدفن بلا أحذية ..و نولد أيضا بلا أحذية ..لكن يوم نلبس أول حذاء يُعتبر ذلك عُرسا عائليا بهيجا ..
لمن تصلح الأحذية اذن؟ للفقراء أم للأغنياء ؟ للحقول أم للنّزُل؟ للمساجد أم للمدن ؟ هل هناك أحذية مُدنّسة و أخرى مُقدّسة ؟ أحذية مذنبة و أخرى بريئة ؟ لماذا نؤثّمُ الأحذية ؟ يحدث للأحذية أيضا أن تكون ذات رمزيات و دلالات و سيميائيات و سياسات أخرى غير الدناسة و القداسة..لا ذنب على الأحذية..فالأحذية رمز لكلّ ما يحدث من الأسفل و لكلّ أسفل و سفلي جدّا قد لا تطاله أعيننا و عقولنا و نصوصنا ..بل قد لا نريد النظر اليه وجها لوجه ..فالحذاء بلا وجه ..بل هو في جوهره مُغاير للوجه و للوجهية و للوجاهة ..لأنه يقبع دوما في الجهة السفلية و التحتية و السافلة من وجودنا ..و يقبع معه كل المُهمّشين عن الواجهة و كل الذين لا يشاركون في اقتسام خيرات البلد..هؤلاء الفقراء و المهمّشين للذين مات أبناؤهم و احترقوا من أجل الحياة الكريمة، هؤلاء لهم اسم آخر..انهم أحذية الوطن ..بنيته التحتية ..حقوله التي تُطعم الجميع ..أنطولوجيا ثورية غاضبة تولد تحت وقع أقدام الحفاة من بين أيادي أحذية سوف تأتي ...
تصلح الأحذية كي تُلمّع من أجل أصحاب الوجوه الأنيقة و الفرحون بما لديهم و الذين لا ينظرون الى الأسفل حيث تقيم أحذيتهم الاّ لماما...لكن يحدث للأحذية أن تكون ثورية و ساخطة فنراها تتحول من لبوس للأقدام الى سلاح لرجم الطغاة و ركلهم .
كما يحدث للأحذية أن تؤجّج الفلسفة و أن تكون موضع خصومة شديدة اللهجة بين أقطاب الفكر الانساني..وهو ما سوف نحاول المرور به حذو النعل بالنعل انطلاقا من تفكيكية يقترحها الفيلسوف الكبير دريدا للوحة أحذية فان غوغ ..
لمن أحذية فان غوغ ؟لأي شيء تصلح أحذية مُهملة على صدر لوحة مُعلّقة على جدران المتاحف و البيوت المُغلقة ؟ هل تصلح للسير؟ و الى أين المسير ؟ أم تصلح للتزيين و الفرجة ؟ أم هي لا تصلح الاّ للكتابة عليها و للتفلسف في شأنها و لاختراع مفاهيم جديدة و دروب مُغايرة للتفكير؟ أم هي تصلح للدفاع عن الأحذية و عن الذين يقبعون حذو الأحذية في أسفل السلّم الاجتماعي ؟
انّ تفكيك لوحة أحذية فان غوغ يقتضي بدءا الانطلاق من مفهوم محدّد للتفكيك . و لنقل على نحو وقتي ، أنّ ما يريده دريدا في كتابه "الحقيقة في فن الرسم" (1978) تحت راية فنّ التفكيك ،هو تحديدا تحرير فنّ الرسم من الكلام عن الرسم .انه يجرّ اللوحة من فضاء اللوغوس الى حقل الكتابة..فهو يغريها بالتفكيك اذ ينتزعها من غطرسة براديغم الاستطيقا القائم على غطرسة ميتافيزيقا الذات . انه يحولنا مع اللوحة من الكتاب بكلّ المكنة الميتافيزيقية التي يفترضها اللوغوس من ذات الكاتب و ذات القارئ و الانسان الذات و كل الثنائيات الظالمة للمحسوس و المعقول والعقل و الجسد و المادة و الصورة ، و الهو هو و الآخر، و الغرب و الشرق .ان التفكيك يتدخل ههنا من أجل انصاف الغريب و المقصي و المسكوت عنه وكل مواقع الصمت حيثما ثمّة صمت أي حيثما ثمّة حيف يمارسه الكلام على الكتابة و الحضور على الغياب و المركز على الهامش ..
ههنا يفصلنا دريدا عن تاريخ الخطاب بما هو تاريخ مركزية اللوغوس منذ الفكرة الأفلاطونية الى حدود العلامة الألسنية .و يدعونا الى اكتشاف حقل الكتابة الذي اكتشفه الشرق و أقصاه الغرب منذ سقراط الى حدود دي سوسير . فاذا كان الكلام يقول دوما ما تسمح به سياسة الحقيقة القائمة على اللوغوس فان الكتابة بما هي ميدان التفكيك ، انما تكتب الصمت أي هي تكتب الحيف و ما هو ممنوع ومسكوت عنه و مهمّش و خارج عن الأطر التي تضبطها سلفا أجهزة اللوغوس و سياساته .
ماذا سنكتب بعد نهاية عصر الكتاب ؟ و من سيكتب عن من و عن ماذا بعد موت الذات و الموضوع و كلّ الترسانة الميتافيزيقية الكلاسيكية ؟ اجابة دريدا : سوف نكتب تاريخ الصمت و سوف نرسم مواقعه و ذلك بالكشف عن مواقع العطالة في المكنة الكبرى للوغوس .. سوف نتوقف عند ثقوبه و هشاشته..سوف نترصّد مواطن رسوب النصوص الغربية و تعثراتها و انهزاماتها و لحظات ضعفها و هشاشتها..التفكيك يعد بتمارين عديدة و معارك نصّية و ثورات فلسفية شديدة البأس و الشراسة و الاقتدار..انها ثورات تعد بأن تُحرر النصوص بوصفها حاملة للمشاعر و التواريخ و الأحلام من كل أشكال الاستبداد بها : مركزية اللوغوس و العصر التأويلي و من كل خطابات الأصالة و الهويّة..
ههنا تستحيل الفلسفة تحت أقلام التفكيك أو بالأحرى تحت أحذيته ، الى تصحيح للحقيقة في فن الرسم .حيث يقصد دريدا الانخراط في مهمّة جديدة للفلسفة مُغايرة لمهمة تأويله و تبريره على طريقة هيجل ، أو تغييره بثورة شيوعية على طريقة ماركس .ان الفلسفة مدعوّة الى تفكيك العالم الحديث عبر خلخلة لنصوصه التي تدعمه و تشرع له و تضمن له كل صلاحيات غطرسة الاطار و الأجهزة من اطار لوحة الرسم الى جهاز الدولة، و من غطرسة العقول الى استبداد الطغاة.
تعود الأحذية الى النصّ فتكفّ عن أن تكون مجرّد أحذية ..و هي تعود من أجل التنبيه على ضرورة أن تنظر الفلسفة الى أسفل ..أن تجد لنفسها موطئ قدم على الأرض ..أن ننظر الى أقدامنا بدلا عن التحديق بالسماء..وهي اذ تعود تعود مُحمّلة بحزمة من الأسئلة الفلسفية المُغايرة لأسئلة الفلسفة التقليدية ..ماذا رسم فان غوغ على وجه التحديد؟ و هل بوسعنا أن نقف عند الرسم كما يبدو أم ليس الرسم الاّ اشارة الى جهة أخرى للحقيقة و للحق و للصدق معا ؟ أيّ أقدام كفيلة بشرف الانتساب الى هذه الأحذية؟ و لأول مرّة سوف نحتاج الى أن ننتسب هذه المرة الى أحذيتنا بدلا عن الانتساب الى هويّات تاريخية جاهزة .هل هي أحذية الرسّام أم أحذية شخص آخر غريب عن الرسّام و عن الرسم؟ هل هي أحذية فلاّحة تقضي يومها في السير بين الحقول (مثلما أوّل هيدجر) أم هي أحذية فان غوغ نفسه (مثلما أوّلها شابيرو)؟ هل هي أحذية الرسّام الذي بدلا عن رسم وجهه البشري المُتغطرس اكتفى برسم أحذية بلا وجه ؟و لماذا أحذية بالذات؟ لماذا لم يرسم فان غوغ أيّ عضو آخر من أعضائه أو أيّ متاع آخر من أمتعته ؟
ربّما قرر الرسّام فان غوغ الاعتراف بما هو أسفل و بمن يقبع في الأسفل و بمن نمط اقامته في العالم أن يسكن حذو الأحذية ..هناك في وجود بعيد عن المركز ..فهو دوما اضافي أو ملحق أو ثانوي ..خارج عن الاطار.و ربّما قرّر فان غوغ أن يشرّف الأحذية برسمها .ان رسم الأحذية و منحها مرتبة الأثر الفني انما هو شكل من منحها ضربا من ألقاب الشرف الاجتماعي و السياسي.
ثمّة ما يدعو الى القول بضرب من منح الأحذية نوعا من القداسة الخاصة ..انّ في رسم الأحذية تبرئة لذمّتها من تأثيم اللاهوتيين لها .ههنا معركة الرسوم ضدّ اللاهوت و ههنا معركة الصور التي تستعيد حقوقها و وجودها ضدّ تحريمها و تجريمها .و قد تصل الحكاية مع الأحذية الى معركة شرسة بين الآلهة و المبدعين على ميدان الخلق نفسه.
سوف يكون التفلسف عن الأحذية و السير بها ثانية على قامة النصوص و اللوحات ، مناسبة سعيدة للشهادة بالحرف و العقل و القلب معا ، على مرافعة فلسفية من أجل انصاف الأحذية و فن الرسم و كل المُهمّشين القابعين في نفس منزلة أحذيتهم و أقدامهم .ههنا تصير المواقع السفلية الى لوحة فنية ترسم بريشة فنان في قامة فان غوغ و في حجم أحذيته و حجم جرأته الفريدة على انتزاع أذنه من رأسه.
ان التفكيك لا يختصم هنا الى الأشخاص و لا الى الذوات و لا الى الفلسفات .فهو يِؤلّبُ النصوص على النصوص محاربا أشكال خللها و أحكامها المسبقة و سياساتها السيّئة و ادّعاءاتها و كل مواطن الحيف فيها و كلّ شطط في التأويل داخلها و نقصها في الأسئلة و طُمأنينتها الكاذبة.
ثلاثة أسئلة فقط، و قد تكون مغلوطة أو شرعية أو ظالمة أو مُخيّبة للآمال أو حتى حمقاء، هي أسئلة بوسعها أن تُوجهنا في متاهة التفكيك و في ظلمة الأحذية و خوائها القاتل : أوّلا : من هذه الأحذية ؟ هل هي زوج من الأحذية احداهما تنتمي الى اليمين و الأخرى الى اليسار؟ أم هي يسارين معا دون يمين ؟ كيف نحرر الأحذية و نجعلها تنطلق بعيدا عن اليمين و اليسار؟
ثانيا :لمن هذه الأحذية ؟ هل هي لفان غوغ نفسه أم لفلاحة عائدة لتوّها من الحقول ؟ أم هي ملك لفن الرسم فحسب؟
ثالثا : ما هي السياسات الثاوية في أحكامنا الجمالية عن الأحذية و عن كل فنّ اختار أن ينتصر للذين يقيمون في أسفل السلّم الاجتماعي و المحرومين من مراتب الشرف و ألقاب النبل و من اقتسامهم معنا بالتساوي الفنّ و الأحذية و الحياة ؟ هل بوسع الفلسفة انصاف الأحذية من قساوة الحقل و من أكاذيب المدن و من سياسات الدول ؟
1)من هي أحذية فان غوغ؟:
لندخل في الحكاية بقليل من فنّ الذاكرة .حيث علينا التنبيه بدءا الى أنّ الحديث عن الأحذية في كتاب الحقيقة في الرسم لدريدا يتنزّل تحديدا ضمن رُباعيّة هي بمثابة الاطار القابل للتفكيك هو بدوره، الذي يجمع بين عناصر أربعة هي على التوالي: كتاب نقد ملكة الحكم لكانط ،لوحة "سفر الرسم" لآدمي، لوحة تيتيس كارمال التي ترسم جملة من النعوش المتماثلة ، و أخيرا لوحة "أحذية فان غوغ".
نحن اذن أمام كتاب كبير من كتب الفلسفة الحديثة و ثلاث لوحات .لكن ما هذا الجمع بين نصّ فلسفي في حجم نقد ملكة الحكم و ثلاث لوحات تنتمي الى مدارس مُختلفة في فنّ الرسم ؟ خلطة عجيبة بين كتاب كلاسيكي لازال ينتمي الى عصر الكتاب و لازال يقيم بكلّ نفوذه ضمن رفوف المكتبات و بكل لغات العالم ،و ثلاث لوحات منسية في المتاحف ..أو مُهملة على بعض الجدران القليلة ، التي تملك ذائقة خاصة لبعض اللوحات العجيبة التي لا تنتمي الى فنّ الجمال انما الى فن المريع و القبيح والكارثة.و من يشتري لوحة أحذية ؟ و من يمتعه مرآها مُعلّقة على جدار أحلامه؟ ربّما لا أحد..و ربّما بعض الأذواق التائهة و الحواسّ الشريدة و القلوب النادرة ..
ما يقصده دريدا من وراء هذه الخلطة العجيبة هو الانطلاق من تفكيك أكثر النصوص نفوذ داخل الجماليات الحديثة قبل التمكن من انصاف فن الرسم من غطرسة ميتافيزيقا الذات .ثمّة علاقة ما أدركها دريدا بين أول كتاب نسقي و رسمي في تاريخ الجماليات الحديثة و بين تاريخ الظلم و الحيف الذي لحق بدائرة الفنّ عامة و بفنّ الرسم بخاصة.
و هو حيف أساسه اختزال اللوحة في حدود غطرسة الذات العبقرية ..ذات مُتغطرسة رتّبت العالم الحديث على اختزال الطبيعة في مجرّد موضوعات للمعرفة العلمية ، و الانسان في ذات عارفة مُحيطة بأسرار الكون و بأوهام العقل و حائزة على كل الحلول لمشاكل النوع البشري.تلك هي ملامح ميتافيزيقا الذات التي يشتغل التتفكيك على خلخلتها بأنساقها و نفوذها و ثنائياّتها العقيمة بين الذات و الموضوع و الشكل و المضمون بين ما هو داخل الاطار ّخاضع للمفهوم و للقانون و ما هو خارج الأطار أي المتمرد و المهمّش و المغضوب عنه .
كان اذن على دريدا أن يبدأ في خلخلة اطار مركزية اللوغوس الحديث منذ أوّل أكبر نصّ مُؤسس لبراديغم الاستطيقا الذي نصّب نفسه منذ كانط الى أدرنو وصيّا على ميدان الجمال و الابداع و الفن بعامة . وهو براديغم لجماليات لم تفعل غير السقوط في ضرب من الاستطيقا السالبة والمتنسكة التي جعلت من الفن منذ كانط محروما من المتعة و من الغاية و من المفهوم و اختزلته في كونية غربية تحولت في آخر المطاف الى كارثة .
و حين ينتصر التفكيك اذن على الاطار الرباعي الذي اختزل داخله كانط ظاهرة الابداع بوصفه لانفعي لا مفهومي لاغائي لكنه كوني باطلاق ، سوف يتّجه رأسا نحو فنّ الرسم و قد حرره من الاستطيقا.
انه يمرّ بنا مباشرة الى اللوحة .و يختار من بين اللوحات التي تُغري التفكيك و يُغريها دريدا و يجلبها الى حقل التفكيك ، هي لوحة "سفر الرسم" لآدمي؟ لكن أيّ اختيار ؟ و أيّ عنوان ؟ فالتفكيك لا يشرّف من النصوص غير ما يعشق ..لا تفكيك بلا محبّة عميقة للنص الذي نفكّكه..تلك هي احدى قواعد لعبة دريدا ..من لا يُحبّ غير قادر على أن يُفكّك أي على أن يتجرّأ على التفلسف بنفسه ..و من لا يُحبّ لن يقدر على تدمير أصنامه..
الى أين سوف يُسافر بنا الرسّام آدمي ؟ الى أيّة وجهة تتّجه بنا لوحة الرسم ؟ و لماذا السفر؟ لأنّ المدينة لم تعد تتّسع لا للرسم و لا للحلم و لا حتى لمجرّد الوجود اللحمي للبشر؟ انه سفر المفكّر و الفنّان بنيامين الى حيث لا يعود .آدمي يرسم بورتري بنيامين منتحرا على الحدود الاسبانية الفرنسية خوفا من شبح النازية . لوحة فنية تنتمي الى فن الرسم لكنها لا تنتمي الى جماليات الجمال ..ههنا لا يصلح الفن للفرجة البلهاء و لا للمُتعة الساذجة..انها لوحة ترسم كارثة المجتمعات الغربية و ما آلت اليه من الكوارث ..لوحة فنية هي على حدّ عبارات دريدا "تلسكوبا هائلا لحدث فظيع" ، أو هي انتحار للرسّام و لفن الرسم و انهزام فظيع لكل أجهزة الدولة الكلّيانية الحديثة.
و حينما ننتهي من "سفر الرسم" نحو العدم ، يزجّ بنا التفكيك في هاوية أعمق فأعمق..
سوف نسقط في رسم للتوابيت المتماثلة بعدد اعتباطي وغريب معا هو العدد 127 تابوتا .حينها لن نستطيع السير في الاطار المربّع الذي رسمه التفكيك خوفا من الخروج عن طوره. و يخرج فعلا عن طوره عمدا حتى يفشل المربع و تنتعش الدائرة ..لن نسير اذن في المربّع ذي الخطوط المستقيمة و الهندسة الجميلة و الفرحة بشكلها و قامتها الهيفاء،انما نسقط و نظل نسقط بلا نهاية لأن الدائرة لا تتوقف و لأنها بلا قرار.لا شيء يضمننا حينئذ ..لأننا لم نعد نسير انما أصبحنا ندور و قد يُصيبنا الغثيان ..وحدهم أصحاب "الأحشاء المرحة" وفق عبارة جميلة لنيتشه ، بوسعهم أن يُحلّقوا في الدائرة . لأنهم لا يفكرون الا بقدر محبتهم للحياة ولا يحبون الا بقدر ما يرقصون و ما يضحكون .انها الدائرة التي رسمها هيدغر بكل مهارة تأويلية و لكنه عجز عن الخروج منها. ربّما قصد هيدغر أن يُقيم فيها بوصفها نمط الاقامة الوحيد الممكن لنا داخل الكرة الكبيرة التي نسبح فيها الى الأبد.أمّا دريدا فيحدّثنا عن دائرة مربّعة ، هندسة مُغايرة من أجل تفكيك النصوص و العقول و الرسوم و مواقع النفوذ..و الأطر بأشكالها.لماذا اختار تيتيس كارمال أن يرسم 127 تابوتا متماثلة ؟ و لماذا اختار دريدا التعليق على هذه التوابيت ثم الكتابة عليها ضمن الحقيقة في فنّ الرسم ؟ ههنا لا تسير الأسئلة في اتجاه الاجابات ..حسبنا السؤال و نعم السؤال ..و حين يستحيل التفكيك الى الىتعليق على توابيت الموتى تُغير الفلسفة من عنوانها و من أحلامها و تتخلى عن حقائقها القديمة .سوف تدفع بنا الكتابة الى نثر و انتثار كثيف و بذر و تبذير لأقصى انفعالات الفلسفة ..و تصير الأوجاع أكثر من الكلمات ..عمل كامل للحداد على موت الذات و الانسان و الرسم معا.أو بالأحرى بُكائيّة و رثائيّة هي مناسبة سعيدة للتفلسف و كتابة النصوص.و من يجرأ على استعمال عقله بوسعه أن يصل الى حدّ توقيع توابيت الضحايا .لكن لماذا تتماثل التوابيت ؟ أم أنّه لكلّ موتته الخاصة و جثمانه و تابوته الفريد من نوعه ؟
و سوف نصل أخيرا الى الأحذية كي نقيم فيها بالحرف على قدراحتمالنا .لكن لماذا تأتي أحذية فان غوغ في خارطة الكتاب في آخر المطاف ؟ ألأن أحذيتنا هي آخر ما يتبقى منّا بعد التابوت؟ فحين تُسافر أقدامنا الحافية و أجسامنا العارية الى العدم ، و حين لا شيء يضطرّنا الى المشي لا يبقى من الطرق التي احتضنتنا غير أحذية فارغة لا أقدام فيها ..
و نصل أخيرا اذن الى الأحذية. أحذية فان غوغ تحديدا و السؤال هو : الى أيّ حدّ ليست أحذية فان غوغ أحذية فان غوغ ، بل هي أحذية قد تملكها الفلاّحة لأنها كبيرة الحجم شعثاء غبراء شبيهة بتعب الحقول. و قد لا يملكها أحد ..و قد تكون رُسمت من أجل أن تبقى على ملك اللوحة و فن الرسم فحسب ..
لقد صارت لوحة أحذية فان غوغ منذ هيدجر ملكا للفلسفة ..و صارت مع دريدا ملكا لفلسفة التفكيك ..كيف نقصّ عليكم الحكاية التي تتابعونها معنا لو أغراكم التفكيك و لو كنتم من عشاق الفلسفة و الكتابة لو اخترتم أن تكونوا كائنات من ورق ..خفّفوا الوطء اذن..
أم الزين بن شيخة المسكيني .



#أم_الزين_بنشيخة_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة جمالية في الشهادة
- مقالة في الجماليات
- أية ذاتية سياسية بعد الثورة ؟
- نص في الثورة
- نص


المزيد.....




- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أم الزين بنشيخة المسكيني - بحث في التفكيكية