أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مونير كوبي - الأغنية: وشاح للتخدير أم عربون للتغيير؟















المزيد.....


الأغنية: وشاح للتخدير أم عربون للتغيير؟


مونير كوبي

الحوار المتمدن-العدد: 3398 - 2011 / 6 / 16 - 08:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مع حلول فصل الصيف ينتعش حقل الأغنية وتروج سوقها، فمن إصدار البومات جديدة إلى تنظيم حفلات غنائية وسهرات موسيقية ،إلى بث يومي لعشرات الأغاني عبر مختلف الإذاعات والقنوات الأرضية والفضائية العمومية والخاصة والمتخصصة في البث الغنائي، وانتهاء بالبرامج والمسابقات التي تختص بالحقل الغنائي. وفي المقابل يقبل المتلقي بنهم شديد على استهلاك المنتوج الغنائي "مخترقا" فواصل العرق واللغة والثقافة المحلية والوطن. وسواء أكان دورها ايجابيا أو سلبيا على البناء النفسي والاجتماعي والفني، وسواء أكانت عاطفية، أو اجتماعية، أو إنسانية، تحيى الأغنية معنا، وفي كل مكان، مثل الهواء الذي نستنشقه، ونحن في ذلك مجبرون على الاستماع للاغينه والمطربين، مثلما نجبر على التنفس حتى نؤمن حياتنا من خطر الموت. إنها ضرورة تطرح علينا أسئلة عديدة على نحو إشكالي من قبيل:
أي دور تؤديه الأغنية في حياة الفرد والمجتمع؟
بأي حال من الأحوال يمكن القول إن الأغنية العاطفية وحدها التي تهيمن على سوق الأغينة؟ أليست للأغنية الإجتماعية وجود؟
كيف نفسر إعتقاد البعض من الناس أن الأغنية التي لا تعكس مشكلات المجتمع هي أغنية عديمة القيمة؟ وهل هناك في مقابل ذلك قيمة وإعتبار للأغنية الملتزمة بقضايا الشعب وهمومه؟
هل ينبغي للأغنية أن تسهم في تغيير الواقع أم يكفيها عكس مشاعر الفرد فقط؟هل للقيم التجارية دور في توجيه الحقل الغنائي نحو هذا الدور أم ذاك؟وهل للدولة هي نفسها دور في هذا التوجيه؟
هل التغني بالحب الذي يغلب على موضوعات الأغينة هو تخليد لهذه العاطفة النبيلة في الذات والعلاقة الإنسانيتين أم هو تمييع لهذا الحس الإنساني؟
لماذا تتوارى عنا الحروب الغنائية، وتستتر وراء إحترام الأذواق، والقبول باقتسام مشروعية الوجود بين الألوان الغنائية؟
تتعلق الأسئلة المطروحة بطبيعة الأغنية ووظيفتها في بنية مجتمعية ثالثية، وبموقع خطابها في واقع هذه البنية، وبالقيم والعلاقات الإجتماعية المنسوجة بين الأفراد في ظلها. وهذا ما سنركز عليه في مقاربتنا لهذا الموضوع.
1- الأغنية بين النبذ المطلق والتبني الدوغمائي
يحدث عادة عندما نتبادل أطراف الحديث مع رفاقنا، أو نناقش معهم موضوع الأغنية، أن يحاججنا أحدهم بأن الموسيقى غذاء الروح. شعار كهذا يدفع حتى غالبية الناس إلى إعتبارها قولة مقدسة. إلا أنهم، ورغم هذا الإعتقاد الممارس، ليسوا مقتنعين بذلك تمام الإقتناع. ذلك أن تأويلهم للدين، والذي يضع الغناء في نظرهم ضمن دائرة المنبوذ يجعل من حقل الأغنية والموسيقى حقلا محظورا.
يتعزز لديهم هذا الموقف حينما يستشهد أحدهم بما قاله كيشك في إحدى خطبه النارية، ردا على أغنية أم كلثوم" أروح لمين"، فكان أن حكم عليها بقوله:"تروحي لجهنم!". فلأم كلثوم في نظر كيشك مقعدان في جهنم، لأن الغناء أولا، والموسيقى عموما، يهيجان المشاعر، ويلهبان نزوات الإنسان ورغباته، ولأن أم كلثوم ثانيا امرأة، والمرأة في الإسلام يمنع عليها رفع صوتها، فكيف والحال كذلك لا يمنعها من أن تستغل صوتها في الغناء؟ وأخيرا، لأن المرأة عورة، وصوتها عورة، يستميل القلوب، ويهيج المشاعر، ويستثير شهوات الإنسان.
على هذا المنوال تحب بعض الجماعات الإسلامية أن تزكي موقف كيشك من الطرب والغناء، وهي تتمسك بالمسوغات التالية:
- إبداع أغنية أو الإستماع إليها مضيعة للوقت الذي جعل للعمل والعبادة. فالإشتغال بالغناء والطرب ليس وسيلة مشروعة للكسب والإرتزاق. وكل مستهلك لأغاني موسيقي أو مطرب يعد مشتركا معه في الإثم، فحق عليهما ما جاء في القران:"ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سيبل الله بغير علم ويتخذها هزوا اؤلئك لهم عذاب أليم" . وما جاء في الحديث النبوي:"ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" .
- تخاطب الأغنية الجانب الحيواني في الكائن الإنساني، إذ تلغي فكره ووعيه، وتوقظ وحش الغريزة النائم فيه، والذي إن اهتاج واستيقظ، بحث عن أول فريسة يفترسها. عندما يغني صباح فخري مثلا:" وشعرت لما مس صدري صدرها.. أني أذوب صبابة وحبورا"، فهو لا يصف عاطفة نبيلة تملكت جميع كيانه بقدر ما يحرض على الميوعة والتفسخ الأخلاقي. أليس هذا بالذات هو ما يفعله الحسين السلاوي عندما يشدو:"الزينْ الْمَسْرَارْ.. يَاكْ مَنْ بَعْدْ إبَانْ.. زَادوهْ الْحَجْبَانْ..أُونْهيدَاتْ الصْغَارْ.."؟
- إن الطاقات الإبداعية التي تؤثث الفضاء الداخلي للإنسان، لاسيما الشباب، والتي يجب أن تستثمر فيما يعود على الذات والمجتمع بالفائدة تضيع في تقليد مشية المطربين، وطريقة أدائهم، وقصات شعورهم، فضلا عن حفظ أغانيهم، وتتبع أخبارهم المهنية والحميمة عبر الصحف والمجلات والفضائيات المختلفة. كما تضيع في التدرب على الرقص للظهور بشكل أفضل أمام الجنس الآخر في حفلات الزفاف مثلا.
- يصاحب الغناء والموسيقى عادة الرقص الموغل في الاهتياج، وارتشاف كؤوس الخمر، والتحشش، وتفشي شتى أنواع الوقاحة، وما يحصل في الأعراس والعلب الليلية والسهرات العمومية لا ينفي ذلك.وعليه، لا يرتبط تحريم الأغنية هنا بطبيعتها فقط ولا بوظيفتها فحسب، وإنما بالفضاءات التي يحضر فيها الغناء كذلك.
وهكذا لا تكف الأغنية أبدا على حد اعتقاد المحرمين عن تدمير المجتمع، وتخريب قيمه الدينية التي تحمي سلوك أفراده من الميوعة والتفسخ الخلقي، فالموسيقى مزمار الشيطان، ولا حاجة إلى زيادة في الإيضاح.
إن موقف النبذ المطلق لكل ماله علاقة بالموسيقى، لا يعدو أن يكون في نظر المشتغلين بهذا الفن ومستهلكيه على السواء، موقف الفاقد للحس السليم، الناقم على كل رغبة في الحياة . و من يقدم على تحريم الغناء لا يكتفي بالوقوف عند هذا الحد، بل يتجاوزه بكثير ليأتي التحريم على الأخضر واليابس، من تشكيل، وسينما، وتلفاز، ورقص، وشعر. ومن يشتَّم باقة الطابوهات هاته، لا يكون إلا كمن ركب نظارة سوداء، يبصر بها العالم والطبيعة الزاهية بالألوان. والحق أن الزاهد عن الحياة ومتع الأرض، والفاقد لمعناها، وحده من يقدر أن يعيش طويلا ينظر إلى الحياة بالأبيض والأسود.
فليس من المعقول إذن أن يكون المطربون الذين يشنفون أسماعنا بأعذب الألحان، وأحلى الأنغام، شياطين آدمية ترمي بكل القيم النبيلة في جحيم الدناءة. والواقع أنه مثلما يتغذى الجسم، وينتفع من الأغذية والأطعمة والرياضة، مما يضمن بقاء النفس، وتجدد الطاقة المحركة لكيانه، كذلك تحتاج النفس إلى غذاء يبقيها على قيد الحياة، وهو أمر التجاحد بشأنه سفسطة وعربدة فكر، لمن يتلهف للجدل العابث والسجال الهابط. وغذاء النفس لا يكون بغير الموسيقى والغناء، وكافة الفنون التي ترتقي بإنسانية الإنسان إلى القمة ليرسي قواعد التذوق الفني لأحاسيس الحب والسلام والحزن والألم.
إن التقاطب السيكولوجي والأكسيولوجي الذي يعتمل في روح الإنسانية بين الخير والشر، والقبح والجمال، لا يفضي إلى الموازنة الصحيحة التي تخلق التوازن السيكولوجي أمام أعتا لحظات القلق والتيه الوجداني والأنطولوجي و التي تبقى ملازمة لحياة الإنسان، مادام الكائن الميتافيزيقي الوحيد الذي لا يفلت من شغب التساؤل ولا يغادره قلق التفكير في الوجود والمصير الفردي والجماعي للإنسان. فميزان الموسيقى، كما يرى ذلك أفلاطون، يضفي نعمة ولطفا وصحة إلى الروح والجسد . فكيف يجبن عن الحياة إنسان بنى وشيد بعقله وحسه كل القيم، بما فيها القيم الجمالية من جمال وقبح؟ وكيف لا يستثمر ملكات الإبداع والخيال لديه، لترجمة أحاسيسه التي تعتمل كأشواك، إن لم تحرر في قوالب فنية تتوشح بذكرى هذه الإحساسات، لاسيما في مرحلة الشباب التي تتفتق فيها ملكاته، ويصير لديه الميل إلى سماع الموسيقى، وترديد الأغاني، معبرا وجوديا، وموازنا سيكولوجيا، في حياته المليئة بشتى أنواع الإحساسات التي تتنازع نفسه، فتغدو الموسيقى بذلك الآخر الذي ينصت، والذي يتكلم ويخاطب.
إذا كنا نعتقد حقيقة أن الله جميل يحب الجمال، وإذا كان هو حقا خالق هذا الكون والعالم والطبيعة، وإن كنا نعتقد أنه من أصبغها بالجمال لنتعبد في محرابها بفضله ومنه، فإنه من الواجب بتر هذه الحبال الواصلة بين الأغنية والطابو. ولعل ما يسوغ ضرورة هذا البتر أن كتاب الله لا يخلو من موسيقى حاضرة عند الترتيل إلى حد تميل إليه النفس ويبصم أثره فيها.
علاوة على أن القران نفسه لا يخلو من إيقاع موسيقي يشبه إلى هذا الحد أو ذاك إيقاع البيت الشعري. فإذا كان الرب نفسه يستثمر هذه الموسيقى لتحبيب القرآن للمسلمين، وإستمالة نفوسهم إلى المعاني المتضمنة فيه. فكيف يجرم الطرب والمطربين، وهم أهل المغنى وخطباؤه؟
إن العالم بدون موسيقى لا يستحق أن يعاش، فالإنسان لا يمارس إنسانيته إلا إذا توازنت روحه مع جسمه، وتفتقت ملكاته الإبداعية التي تشعره بالوجود، وبأحقية الإنوجاد ضمنه، دون أي إحساس بالنقص. وتبعا لذلك، فإنتاج الجمال كقيمة عقلية عليا مؤسسة على الفاعلية البشرية، ترقية للروح الإنسانية أنطولوجيا وأكسيولوجيا، من المستوى الحسي الذي تظل روح الحيوان حبيسة له، إلى المستوى السماوي أو المقام العلوي على حد تعبير المتصوفة، إلى حيث يمكن للجمال أن يرتدي ثوب الألوهية، في طقوسية جسدية تنعش الجسد، وتحرر طاقاته للإنخراط في الحياة، والإقبال عليها، بنفس طفولي عاشق، لأن ميزان الموسيقى، كما أشرنا إلى ذلك، يضفي اللطف والعافية على الجسم والروح. ولعل كلمات محمود درويش التي رص بها مارسيل خليفة أغنيته "إلى أمي" إحتفاء حقيقي بهذا الطقس :
أحن إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبر في الطفولة
يوما بعد يوم
وأعشق عمري لأني
أخجل من دمع أمي؟
أليس هذا إحتفاء بالحب الإنساني، وبالحس الإنساني الراقي، في تجلياته الإستيتيقية بإطلاق؟ فهل العيب في هذه الموسيقى، أم في كيفية وأحيزة توظيفها؟
2- الأغنية وسوق القيم:
1.2- القولبة التجارية للأغنية:
يعد الإنسان نفسه حسب نيتشه حيوانا قيما و مقدرا بامتياز، بما أنه الكائن الوحيد الذي يمتاز عن بقية موجودات العالم بالعقل . والعقل إن شئنا أن نضع حدا له يسير نحو غايتنا من توظيفه، فلابد من إعتباره ملكة لإنتاج القيم المنطقية، كالحق والباطل، والقيم الأخلاقية من خير وشر، والقيم الجمالية من جميل وقبيح . لكنها ملكة تتنمى بفعل التربية والإكتساب، لذلك نلفي الإنسان يطلق أحكاما معيارية على أشياء وموقف وسلوكات تختزل نظرته لذاته وللعالم وللآخر. والعلم الذي يدرس هذه القيم، ويرس عوالمها في علاقتها بكيان الإنسان وواقعه يدعى الأكسيولوجيا. وإذا كانت القيم الاستيتيقية قيما مؤسسة على العقل تتجاوز بالإنسان مستوى الضبابية والعبثية حين تمنحه سلطة التمييز بن ما هو جميل وما هو قبيح فيما يتناوله من موضوعات جمالية، فإن الناس، فيما يتعلق بملكة الذوق كملكة كونية شاملة لجميع بني البشر دون إستثناء، يتذوقون الأعمال الفنية بناء على تربية إستيتيقية طبقية على حد تعبير السوسيولوجي بيير بورديو. فإذا كان عموم الشعب المغربي مهووسا، على ما يبدو، بتذوق الأغاني الشعبية، أغاني رويشة، وأحوزار، والداودي...إلخ، فإن ما يطلق عليها تجاوزا "البرجوازية" يتذوق أبناءها منذ نعومة أظافرهم موسيقى شوبان، وموزارت، وألوان موسيقية أخرى، مما يتماشى ونمط عيشهم المشدود إلى ثقافة الغرب وقيمه .
من هنا، يبدو أن البنية المادية التي يتشكل وفقها وعي الإنسان، لها دور حاسم، حسب ما تذهب إليه النظرية الماركسية، في مسالة التقييم الجمالي للأعمال الفنية، إلى الحد الذي يجعلها مجرد إنعكاس- وإن كان إنعكاسا غير أمين- لواقع الناس الطبقي، ولما ينسجونه من علاقات فيما بينهم .
وبما أن قيم اقتصاد السوق التي يدعمها النظام الرأسمالي، المحتكر لقنوات تصريف الإنسان لمنتوجاته، فقد غدت الأدلجة والربح أهم المحكات التي يتم التحكم بها لضبط كيفية ومكان وميقات تصريفه. فلا يتعلق الأمر قطعا بمجرد التلذذ لقطعة غنائية تذاع على شاشة التلفاز، أو في الإذاعة، أو في شرائط، بل هو يتعدى ذلك إلى تشكيل للعقول، وتلاعب بالمشاعر والأحاسيس، وتوجيه للسلوك نحو غايات معينة، تكون في الغالب الأعم تحت مراقبة سلطة الدولة.
لقد سهلت التكنولوجيا الإعلامية من سرعة إنتشار ما أصبح يطلق عليه الأغنية الشبابية على نطاق واسع أضحى تصور تخومه من قبيل المحال، فسوق الأغنية سوق رائجة ومربحة، لأنها تحولت من مجرد التعاطي الجمالي الملتزم عاطفيا وإجتماعيا إلى صناعة هاجس الربح فيها تضخم إلى مستويات غير معقولة صيرت إنسان هذا الزمان ورقة في غصن تميل إلى حيث تهب ريح المنطق التجاري والبهرجة الإعلامية. فافتقد لذلك الإنسان، إلى هذا الحد أو ذاك، الحس الذوقي السليم أو لنقل فسد ذوقه، ذوق شكلته الصورة أكثر مما شكلته السماع، مع أن الأغنية جعلت في الأصل لتسمع لا لترى. ولكن لأن الأغنية في وقتنا هذا تسوق على شاشة التلفاز من خلال الصورة أو الفيديو كليب، فإن تقييمها لا يتأسس بحال على مدى جودة كلمات ناظمها، وجمالية ألحانها، وصدق إحساس مؤديها، وإنما يتوشح هذا التقييم بأبهة الجسد الذي يراد له أن يستعرض رموز غنجه في أذواق الناس وأعيانهم. يقول مارسيل خليفة بهذا الصدد:"هناك مشكل حقيقي نعيشه في وقتنا الحالي، الجمهور في مناطقنا المشرقية والمغربية أصبح رهينا بهذه الفضائيات التي تقدم مادة عارية من الإحترام" فالذي يعجب هؤلاء، ليس أغاني هيفاء وهبي أو روبي، بل إن ما يعجبهم هو ما يتبدى لهم من تضاريس جسدها، وما إقبالهم على أغانيها إلا نتيجة منطقية للإثارة الجنسية التي تستثمر بأبشع صورها للتأثير على أذواقهم، وقولبتها في اتجاه خدمة غاية الغايات بالنسبة للشركات الحاضنة للمطربين وهو الربح، وبالنسبة لهؤلاء وهو الشهرة والربح في أقصر وقت. ويكفينا أن نتأمل المحاصيل المالية التي أضحى يشترطها المغنون، أو حتى تلك التي كانوا يشترطونها لإحياء الحفلات لندرك مقدار تهافتهم المحموم على جمع المال، والذي يبينه الجدول التالي :

المطربون أسعارهم القديمة(بالجنيه) أسعارهم الجديدة
عمرو دياب 65000 85000
هاني شاكر 60000 85000
سميرة بنسعيد 50000 65000
مصطفى قمر 35000 40000
عامر منيب 10000 12000


لم يعد إذن حقل الأغنية يخضع لمنطق اشتغالها الداخلي، بقدر ما أصبح خاضعا لمعايير خارجة عن الإعتبارات البنيوية الإستيتيقية التي تجعل الأغنية خطابا مقبولا فنيا، لتحل محلها مدى قابلية الصوت للتشكل وفق لغة الإنكشاف والإنحجاب التي تتقمصها لعبة الدال والمدلول، في تعسف مفرط في الإغواء والتحريض، وهي لعبة يقعد لها بقواعد تطويع شاملة للجسد ، تفرض علينا في النهاية أن ننبهر بإحتلال اللبنانية هيفاء وهبي المرتبة 49 من بين 99 إمرأة مثيرة جنسيا في العالم شملهن إحدى إستطلاعات الرأي .
إن لغة الاستسهال والتي يسكن ضفافها خفة الكلمات وسرعة الإيقاع لم تكن لتستساغ لولا أن سحر التقنيات يقلب جميع الموازين والمعادلات المتعلقة بالتذوق والإبداع والإستحقاق فكيف لا يفلح مكر الفكر في تغطية أي عيب يظهر على مستوى الصوت أو الأداء أو اللحن والكلمات. كل هذا يتحول بمفعول كيميائي أو تقني على الأصح إلى قطعة جميلة يتغنى بها العامة ويحفظون تفاصيلها كما بدت لهم في التلفاز بعصا سحرية إسمها التقنية. فحتى لو كان الصوت رديئا فان تجمله وحتى لو بدت الكلمات رديئة مسترخصة فإن الإيقاع يلمعها ويظهرها للملا كأنها خرجت للتو من ثغر حورية راحت تستهدي المصطافين إلى شاطئها. وهذه هي الإستيهامات التي تنسكب في إستساغتنا وببساطة شديدة أغنية هيفاء والتي تردد فيها" أنا هيفاء.." دون أن تستثير فينا مشاعر التقزز من رداءتها الفنية كلمة ولحنا وأداء، لأن التقنية حجبت عنا وبشكل لا يقاس مساوئها، وأبدت لنا في المقابل وجهها الجميل بمنفاخ صورته أجمل تصوير، تماما مثلما تفعل المساحيق والملابس بامرأة إصطفت فيها إمارات السماجة.
ومن هذا المنظور، لن نغالي اليوم إن قلنا إن فضاء الأغنية يتأثث بقيم السوق وهاجس الربح ، وهو ما يخول للجسد الأنثوي أن يصير أداة القنص التي بها تتم المراهنة على ما في جيوب المخدرين من الناس، إذ أضحى الرهان اليوم على إقتناص أكبر كثلة جماهيرية ممكنة، تستهلك المنتوج الغنائي عبر القنوات التلفزية، والشركات المختصة في تسويق هذا المنتوج، ولكسب هذا الرهان يهين علينا أن نوظف جميع الوسائل الممكنة، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، وكأننا نشهد عودة هوجاء لفكر مكيافيللي، صاحب قولة "الغاية تبرر الوسيلة"، وهو الفكر الذي تصب في روافده براغماتية ويليام جيمس لما سبك الحقيقة في كل ما فيه فائدة ويعود على صاحبه بنفع يلمسه في واقعه.
إن عالم الغناء هو عالم مبرمج على القنص بأفحش صوره. فحيثما أمكن الكشف عن نتوءات الجسد الأنثوي عبر إطارات الصور السريعة الإيقاع، والغائرة في الخدع الساحرة للعين، أمكن للخيال الجنسي أن يتغذى لدى المتلقي، كأوتار لا يتقن العزف عليها غير أهل الرأسمال، والراسخون في فنيات إقتناص الربح. أما المغنيات أو الراقصات فإنهن يقعن في الغالب تحت إغراء المال والشهرة حتى أنهن قد يسمحن في سبيل الحصول عليهما فيما لا يباع ولا يشترى ولا يقيم بأي سعر وهي كرامتهن والتي بغيرها لا يكون الإنسان إنسانا لا بالقوة ولا بالفعل. هذا ما يدعونا إلى التنبيه على أن ظاهرة إسترقاق جديدة، قد بدأت بأقنعة إنسانوية تمتح من الحقل الحقوقي الإنساني، مثل الحرية والمساواة والديمقراطية. ومن أعجب المفارقات التي نشهدها، وسنشهد عليها أجيالنا اللاحقة، هي أن يكون العالم الإسلامي مرتعا خصبا لهذه الميوعة، ولهذا التفسخ في أركان الإنسان، والتي تخصصت في بثها قنوات أنشئت لهذا الغرض.
وإذا كانت هذه هي الإستراتيجية لترويج السلع الغنائية، ولعارضيها من المطربين، بهدف جمع المال وفوائد الشهرة، فإن هذا الهدف يتم بلوغه باستثارة المتلقي جنسيا، من خلال عملية الإنكشاف الجسدي للمرأة، وهذا يشهد بفعالية القانون السلوكي الواطسوني الذي لا يرى في السلوك الإنساني، سوى إستجابة فسيولوجية لمثيرات آتية من المحيط الخارجي، إذا لم ما التحكم فيها، فإنها تؤدي إلى الإستجابة المرجوة .
لنا أن ندرك الآن أن الأغنية أضحت صناعة وصناعها قد فطنوا إلى كثرة الطابوهات لاسيما الجنسية منها والتي تحبط كل مغامرة غير محسوبة العواقب يجرمها الدين والمجتمع كما فطن فرويد قبلهم إلى فعالية الجنس في توجيه مختل مناحي الحياة الإنسانية من فن ودين وحضارة وغيرها.هذه القوة الهائلة والعمياء والتي لا تبحث دوما عن اللذة والإشباع حين يطلق لها العنان على شاشات التلفاز دون رقابة كيفما كانت غدت تخدر النفوس وتشكل الذهنيان فتقدهم بذلك القدرة على النقد وعلى الإحتفاظ بمسافة كافية ليميزوا الجميل من القبيح مما يعطاهم عبر الإذاعات والفضائيات فأي حصانة بقيت لهم لتسعفهم على وزن القصص الغريمة التي يحاك لتصوير مضامين الأغاني الصورة وأي مثال بقي لشبابنا ليحاكوه ويحتذوا به وهم ينسجون علاقات على منوال ما تبينه هذه الفضائيات؟




#مونير_كوبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل للقسر الإجتماعي حدود؟
- القوي سينمائيا القوي سيميائيا


المزيد.....




- قصر باكنغهام: الملك تشارلز الثالث يستأنف واجباته العامة الأس ...
- جُرفت وتحولت إلى حطام.. شاهد ما حدث للبيوت في كينيا بسبب فيض ...
- في اليوم العالمي لحقوق الملكية الفكرية: كيف ننتهكها في حياتن ...
- فضّ الاحتجاجات الطلابية المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأمري ...
- حريق يأتي على رصيف أوشنسايد في سان دييغو
- التسلُّح في أوروبا.. ألمانيا وفرنسا توقِّعان لأجل تصنيع دباب ...
- إصابة بن غفير بحادث سير بعد اجتيازه الإشارة الحمراء في الرمل ...
- انقلبت سيارته - إصابة الوزير الإسرائيلي بن غفير في حادث سير ...
- بلجيكا: سنزود أوكرانيا بطائرات -إف-16- وأنظمة الدفاع الجوي ب ...
- بايدن يبدى استعدادا لمناظرة ترامب


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مونير كوبي - الأغنية: وشاح للتخدير أم عربون للتغيير؟