أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلباني - في مشكلة السلطة العربية واللاشعور السياسي الجمعي: خريف البطريرك















المزيد.....


في مشكلة السلطة العربية واللاشعور السياسي الجمعي: خريف البطريرك


أحمد دلباني

الحوار المتمدن-العدد: 3288 - 2011 / 2 / 25 - 22:10
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في مُشكلةِ السّلطة العربية واللاشعُور السّياسي الجمعي:
خريفُ البطريَرك
أحمد دلباني
1

أخذتُ عنوانَ مقالي هذا من روايةٍ شهيرةٍ لغارسيا ماركيز من أجل الحديث عن البطريرك السّياسي العربيّ وشرُوط حُلول خريفهِ. ولكنني أراني مُلزَما أن أبدأ، أوَّلا، من السُّؤال الأساسيّ الآتي: ما خصيصة ُ الأزمنةِ السابقة على الحداثةِ السياسية اجتماعيا وثقافيا؟ الجوابُ: الأبوية وقيمُ الفحولة. ما خصيصة ُ الأزمنة الحديثة الكبرى؟ الجوابُ: الفردانية ُ وقيمُ الحُرية والإبداع. سؤالٌ آخر: أين يتموضعُ العالمُ العربيّ، اليوم، اجتماعيا وثقافيا؟ ما القيمُ القاعديَّة التي تحكمُ نظامَ عملهِ في السلطة والشرعية وعملية إنتاج المعنى؟ هل حقق العالمُ العربيّ – على مُستوى الثقافة والنظر والمُمارسة – انتقالهُ إلى الحداثة التي ظلَّ يَنشدُها منذ نحو قرنين من الزمان وهُو يُفيقُ على فاجعةِ تخلّفِه الحضاريّ المُروّع بعد الالتقاءِ بالآخر المُستعمِر؟ هل تمَّت خلخلة ُ نظام المعنى والرؤية الفكرية في العُمق أم ما زالت تتناسلُ فينا رواسبُ البنيات التقليديَّة فكريا وسياسيا؟ وإذا تأملنا جيدًا وضعنا الرَّاهن – والعالمُ العربيُّ يشهدُ غليانهُ وحركة تحطيم الأصنام السّياسية – يحقُّ لنا أن نتساءلَ مُجدَّدا: هل هذه ثورة ٌ على الثورة؟ ألم تكن الثوراتُ والانقلاباتُ في أساس أنظمةِ الحكم العربية الحالية؟ وبالتالي هل كانت ثوراتنا التي بدأنا بها تأثيث بيتنا الدَّاخلي زائفة ً أم غير كافية؟ وإن كانت كذلك كيفَ أخطأنا دُخولَ العالم الحديث بهذه الكيفية الفجة؟

لماذا لم يَحْكمنا إلا الزعيمُ المُلهم والقائدُ الأوحد؟ لماذا لم نستطعْ بناءَ دولةِ المُؤسَّسات الحديثةِ وبقينا رعايا تحتَ إمرةِ الرَّاعي المُستبدّ وأهوائه؟ لماذا كلّما اعتقدنا أننا بلغنا الرُّشدَ وفتّحت لنا أبوابُ زمن الإنسان الفاعل فاجأنا المُخلّصُون وتكاثرَ حولنا الأنبياءُ الزائفون؟ لماذا لم يغيّر فينا آدمُ جلدهُ وبقيَ مشدودًا إلى سِحر الطاعة الأبدية واستجداءِ المعنى ممَّا يعلو عليهِ ويسحقه؟ هذه الأسئلة ُ وغيرُها نراها ضروريَّة ً من أجل إعادةِ النظر الجذريّة في ما تتأسَّسُ عليه الحياة العربية في مُستواها السياسيّ والكيانيّ بعامّة. فرُبما حان وقتُ المُراجعةِ النقدية الشاملة – في ضوءِ ما يجري – وحان وقتُ إسقاطِ ورقةِ التوت الأخيرةِ عن نظام المعنى والشرعية الذي أبّدتهُ في مُجتمعاتنا ثقافة ٌ انتصبت حاجزا منيعًا أمام دخولنا العصرَ الحديث. ورُبما كان علينا، أيضا، أن نتساءلَ عن سرّ غياب الذات الإنسانية والفردانية لصالح الرغبة في التماهي مع البطل الغائب الذي قد ينتشلُ وجودنا من هاوية التاريخ وقد أصبحَ رقصة ً ملكيّة ً على قبر الآلهة المُنسحبة، طوعا وكرهًا، من فضاءِ توليد المعنى في ليل الأزمنة.

2

تحطمت مرآة نرجس العربيّ واتَّضحَ، جيّدًا، أنها لم تكن تعكسُ جمالا حقيقيا. كانت أداة استيهام تحوّلُ المكبوت السوسيو- سياسيّ إلى ميزةٍ وتجعلُ من كاليغولا مُخلِّصًا. انكسرت شوكة الثقافة التي ظلت معينًا وينبوعا ثرًّا للنبذ والاستبعاد والتعالي على الناسُوت، وتهاوت تحت ضرباتِ معاول النقد الذي تولّى التاريخُ أمرَهُ. وحان زمنُ المُراجعة: آنَ لنا أن نشهدَ خريف البطريرك العربيّ كأيّ مُجتمع مُتحضّر. آن لنا أن نصلُبَ المَسيح الدَّجال. علينا، بالتالي، أن نعيدَ النظر، جذريا، في مسألة السُّلطةِ السياسية العربية من منظور يتجاوز التركيز على الجزءِ الظاهر من الجبل الجليديّ، وهذا بالحفر في الأعماق اللاواعية وأصداء الذاكرة الجماعية التي أبَّدت سلطة الواحد واختزلت الثقافة في الواحدية والمرجعية المُتعالية. إنّ في أساس المُمارسة السّياسية العربية الاستبدادية جذرًا ثقافيا وبنية ً سوسيولوجية ومخزونا رمزيا يجبُ البدء بتفكيكهِ وكشف علاقاتهِ التاريخية العَرضية وإماطةِ اللثام عن مَنزع القوة فيه. يجبُ البدءُ بنقد الثقافة التي لم تنتج إلا صُورة البطل الأوحد والزعيم والقائد المُلهَم. يجبُ البحث في الأرضية التي ظلت تنتعشُ عليها شجرة الكاريزما وهي تنهلُ من الأحلام الخلاصية الجمعية في مُحاولةِ العلوّ وتحقيق الجدارة الكينونية.

مُفارقة التاريخ: لا تقفُ الكاريزما والبطولة ُ إلا على أرض المكبوتِ السياسيّ والوعي الأسطوريّ: حاضر خائبٍ واسترجاع لذكرياتِ الملاحم والولادة المُقدَّسة التي تمنحُ الذات سندًا أنطولوجيًّا يضمنُ تماسُكها. لا كاريزما تُذكرُ في عهُود ازدهار الذاتية واحترام الحقوق الديمقراطية للشخص البشري، ولا بُطولة تذكرُ في أزمنةِ ترسُّخ دولة المُؤسَّسات والقانون مُعتبرًا على أنهُ نتاجٌ للتعاقد الاجتماعي. هذا يعني أن دوام فكرة المُخلص والمهدي المنتظر والقائد المُلهم في تاريخنا يرجعُ إلى دوام البنيات السوسيو- ثقافية السابقة على الحداثةِ والتي ما زالت تمدُّ ظلالها إلى اليوم رغم ما شهدتهُ مجتمعاتنا من تغيُّراتٍ و" ثورات " منذ عقود. إن الأطر الاجتماعية للمعرفة كما يُبيّن جورج غورفيتش في مُحاضراتهِ الشهيرة تكشفُ عن تلازم بين المعرفةِ اللاهوتية والمُجتمع البطريركي التقليدي. من هُنا نفهمُ شكلية ثوراتِنا التحديثية التي أقامت دُولاً وطنية دون أن تقضيَ على بنية العلاقات التقليدية في مجتمعاتنا القبَليّةِ / الزراعية أساسا، ودونَ أن تفتتحَ قارة المعرفة التي تدحرُ اللامعقولَ في الفضاءِ السوسيو- تاريخي. ظلت الدولة عندنا تنزيلا سياسيّا من سلطة النخب العسكرية ولم تكن نتيجة حِراكٍ سوسيو- تاريخيّ أو مطلبا يُعيدُ به المجتمع ترتيبَ علاقاتِ القوة فيه. هذا ما يُفسّرُ عدمَ اندثار الوعي الأسطوريّ عندنا، ويفسّرُ انبثاقهُ الدائم في لحظات الأزماتِ والحروب أين يتمُّ تجييش الذاكرة والأحلام الخلاصية ويتمُّ استجداءُ بركاتِ السّماء.

خيبتنا أننا لم نشهد " خيبة العالم " بتعبير الباحث الفرنسيّ مارسيل غوشيه مُستعيدًا ماكس فيبر وهُو يتحدث عن رجَّة الحداثة بوصفها انسلاخا للعالم من حُضن الوعي السّحريّ. إن للعقلنة – بكل تأكيدٍ - بُعدًا تاريخيا واجتماعيا يكشفُ عن كونها انعكاسًا لعالم بدأ يتأنسنُ ويهجرُ مخدعَ المرجعيات الفكرية التقليدية المُتمحورة حول المطلق والمُتعالي. وما الحداثة ُ السياسية إلا زمن الإنسان وقد استضافَ التاريخ وجعلهُ عقلا يتحققُّ ويحلّقُ عاليا خارج شرنقة الاغتراب. فماذا ظلَّ يُمثلُ وعيُنا الجمعيّ ونحنُ نهتفُ باسم القائد الأوحد أو نتبرَّكُ بالمرجعية الدينية وننتظرُ مجيء المهدي وبعثتهُ؟ ماذا مثلَ وعيُنا الغارقُ في ذكرياتِ التّطلع الذي لا يخمد إلى المعارك المانويَّةِ النهائية بين آلهةِ الظلمة وآلهة النور؟ ألا نلاحظ أن هذا الوعيَ الجمعيَّ مثلَ الاغتراب عن اللحظة التي لم تعرف ترسيخ قيم الفضاءِ السياسي الديمقراطي وانبثاق المُجتمع المدني الحديث؟ ألا نُلاحظ أن هذا الوعيَ الأسطوريَّ مثلَ الانسحابَ من فضاءِ العمل التاريخيّ بالانكماش أمامَ تراجيديا التاريخ واستعطافِ الأقدار؟ لا شك في أن حضورَ فكرة المُخلّص في الوعي الجَمعيّ يرتبط بمكبُوتٍ سياسيّ هائل. الكاريزما عندنا شجرة ٌ فرعُها في سماءِ الوعدِ وأصلُها ثابتٌ في أرض التاريخ الخائب.

3

يبدُو لي أن الاستبدادَ السياسيَّ العربيّ – الذي يُمكنُ اعتبارُه الأطول عمرًا في العالم – لا يقفُ على فراغ ولا يُمكنُ إرجاعهُ إلى أهواءِ الحاكم أو مُصادفاتِ التاريخ فحسب. إذ سيكونُ من السُّخف، مثلا، تصوُّر انبثاق رئيس مثل صدَّام حسين في فرنسا الحالية، أو ظهُور القذافي في المملكةِ المُتحدة. فللطاغية العربيّ جذرٌ سوسيو- ثقافي وقاعدة رمزية / تاريخية تؤهلهُ لأن يكونَ التعبيرَ الأمثل عن تطلّعاتِ فئاتٍ عريضةٍ من الشعوب العربية زمنَ المِحن والمُغامراتِ الكبرى في الحرب باسم الأمة. إنهُ ليسَ رجُل سياسةٍ يلتزمُ بالدستور ويطبقُ برنامجا يخضعُ للمُراقبة، وإنما هُو – في المخيال الاجتماعي الشغال إلى اليوم - التجسيدُ الفعليُّ للفحل الذي يفترعُ أرض التاريخ ويُعوّضُ عن الكرامة المهدورة لمُجتمع يقومُ على بنيةٍ ذكوريةٍ / مركزية عرفت تدهوُرًا أصابها في العمق بفعل التحديث - كما لاحظ هشام شرابي بحق. من هُنا أعتقدُ أن الكاريزما العربية المُعاصرة - في ظل الدولة الوطنية - ظلت تنهلُ من المخيال ومن مخزون الرُّموز الجماعية وظلت تعيدُ تنشيطهُ.

نستطيعُ أن نلاحظ، بالتالي، أن الاستبدادَ العربيّ قامَ على قاعدةٍ ثقافية ألفيةٍ لم تتغيَّر في بُناها العميقة: المُقدَّس والفحُولة. ففي دائرة المُقدّس تتلاقى الواحدية الفكرية والاستبدادُ وتلاشي الذات في الأمة التي تتحوَّلُ – بدورها - إلى طوطم يعلو على التاريخ ويُدينُ احتجاجاتِ الحاضر باسم التابُو الرَّاسخ. وفي دائرة الفحُولة تتجسَّدُ علاقاتُ القوة التي أسّست للمجتمع العربيّ القديم من خلال ترسيخ مركزية الذكورة وقيم الغلبةِ وذهنيّةِ القمع والإخضاع ومعقولية اللامُساواة – وهي القيمُ التي ما زالت تشكلُ عقبة ً كأداء أمامَ دخول العصر الحديث. هذه المُحدّداتُ كما نلاحظ هي ذاتها الأسُس الأنتروبولوجية العامَّة لمجتمعاتِ ما قبل الحداثة التي لم تعرف انبثاقَ الذات ولم تشهد تزَحزُح المقدس المُتعالي عن المركز - الذي احتلهُ لقرون - بفعل الثورات العلمية والفلسفية والسّياسية، وبفعل الحِراك التاريخيّ الشامل للمُجتمعات الأوروبية منذ عهد النهضة ممَّا هُو معروف. هذا ما يُتيحُ لي، هنا، أن أرى في التّعلق برمُوز البطولة والزعامة عند الشعوب العربيَّة تصعيدًا لمكبوتٍ سياسيّ وجنسيّ هائل في ظل تحديثٍ مُتوحش وغير مُسيطر عليه معرفيا وسياسيا. إذ تم اعتمادُ حداثةٍ أمنية / ميكيافيلية في الدولة العربية الناشئة، وتم الزجُ بالمُجتمع في حضارةِ الاستهلاك الواسع دون تغيير في البنية الاجتماعية التقليدية ودُون تفكيكٍ لعلاقاتِ القوة الموروثة القائمة على القمع والإخضاع. إن الاستبدادَ السياسيّ العربيّ يجدُ سِحرهُ، بالتالي، في ردّ الفعل على تراجُع مركزية الذكورة والهيمنة التقليدية على الأنثى باسم قيم الأفضلية والشرف والعِرض القبَليَّة. وفي هذا ما يُفسّر – ولو جزئيا – موقف الحركاتِ الإسلاميّة من قضايا الحريات والمُساواة. أعتقدُ أن اللاشعُور السياسيّ العربيّ ظلت تسكنهُ دائمًا مخاوفُ الإخصاء. إن الحداثة َ لا يُمكنُ فهمها في الثقافة العربية التقليدية إلا بوصفها إخصاءً لنظام عمل المُجتمع البطريركي وإجهازا على رمُوزه وقيمه الرَّاسخة. هذا ما يُفسّرُ أيضا، برأيي، الكثيرَ من أشكال المُمانعةِ الثقافية والاجتماعية لكل تغيير قد يُعيدُ النظر في بنية العلاقات السائدة في المجتمع. ويبدُو لي من هذهِ الزاوية أن الوعي العربيَّ التقليديّ لا يرى في الشخصية الكارزمية شخصية غير ديمقراطية وإنما هِبة ً من السّماء تمكّنُ الفحولة العربية الجريحة من استرجاعِ مواقعها اجتماعيا وتاريخيّا. هذا هُو سحرُ الكاريزما العربيّة: إنها بعثٌ لفينيق المركزية الذكوريّة من رمادِ التاريخ وقد أصبحَ حداثة ً تُغلّبُ قيم الحرية والمُساواة على قيم الغلبة والسيطرة. الكاريزما العربيّة – بهذا المعنى – شِفاءٌ من فاجعة الإخصاء الذي أزاح الفحولة من مركز دائرةِ القِيم.

يبدُو لي أحيانا أنهُ من غير المُجدي أن نستنزلَ اللَّعناتِ على شجرةِ الطغيان الملعُونة باسم الحداثةِ الغائبة دونَ أن نراجعَ الأرضيَّة التي تقفُ عليها هذه الشجرة وتستمدُّ منها نسغ وجُودها ودوامها. لا يقفُ الاستبدادُ العربيّ – كما رأينا – إلا على قاعدةِ عمل المُجتمع التقليديّ ذي البنية الهرميّة التي تعلّمُ الخضوعَ والطاعة وتلجمُ انتفاضاتِ الذات والعقل ومُغامراتِ الإبداع. الإنسانُ هُو صانعُ الآلهة: هذه هي القاعدة الذهبية في فهم منشأ الطاغية والمُستبد والشخصية الكاريزمية. المُجتمعُ العربيّ هُو صانعُ طغاته. بل رُبَّما رأينا أن الدولة الوطنيَّة العربية الحديثة – رغم كلّ ما يُمكنُ أن يُقالَ فيها – كانت في الكثير من الأحايين أكثرَ تقدُّما من المُجتمع، ولكنّ مأساتها تكمنُ في أنها لم تنجح في الارتقاء بالإنسان العربيّ إلى مصافِ المُواطنة الفعليّة، حقوقا وواجباتٍ، بمعزل عن علاقاتِ الطائفةِ والقبيلة والعشيرة؛ وها نحنُ نراها اليومَ تتجرجرُ وراءَ تحالفاتٍ مع المُؤسَّسات التقليدية، دينيا واجتماعيا، أنستها مهامَها الأصلية سعيًا وراءَ شرعيّةٍ نخرتها تاريخيَّة ٌ عاصفة وفشلٌ في تحقيق تنميةٍ بشرية فعليّة.

كيف نفهمُ اليومَ، مثلا، ما تعرفهُ بعض البلدان العربيَّة والإسلامية باسم " جرائم الشرف "؟ ما معنى دوام عقلية العِرض والشرف التقليدية وذهنية التحريم والثأر الدّمويّ في فضاءٍ مدنيّ يُفترضُ أن الدولة تحتكرُ فيه العنف الشرعيّ؟ ما معنى أن تكونَ مُؤسّسة الدولة قائمة ً على قوانين وحقوق مكفولةٍ دستوريًّا للأفراد بينما المجتمعُ ما زالت تحكمُهُ علاقاتُ الخضوع للقبيلةِ والطائفة والعشيرة؟ هذا المُجتمعُ العربيّ التقليديّ هو ذاتهُ الذي ما زال معينًا لا ينضبُ في إنتاج الشخصيّة الكاريزمية التي تجسّدُ الفحولة ورغبة الفئات السوسيو- سياسيّة التقليدية في التحصُّن ضدَّ التفكك الذي بدأ يصيبُ جسمَ المُجتمع التقليديّ مع التحديث.

4

هذا – كما يتبيَّنُ - ليس نقدًا سياسيّا بالمعنى المُباشر. ليس نقدًا للاستبداد والطغيان وكرازةً بالديمقراطية والحرية والمُساواة على سَبيل التبشير. إنهُ نقدٌ ثقافيٌّ بالمفهوم الشامل. أو قل هُو نقدٌ سياسيٌّ يُحاولُ أن يذهبَ عميقا في الكشف عن الآلياتِ السوسيو- ثقافية الخفية التي تُؤبّدُ سلطة المُخلّص والزعيم الأوحد وتُعطيها مشروعية ً ومعقولية عاطفية عند الجماهير العربية. طبعًا أنا لا أذهبُ مذهبَ الأستاذ الغذامي في قولهِ إن إنتاجَ الطاغية في الثقافة العربيَّة يرجعُ إلى دوام ما يُسمّيه " الشعرنة " باعتبارها نسقا ثقافيا مُضمرًا في هذه الثقافة. أنا لستُ مثاليًّا إلى هذا الحدّ ولا أعتقدُ بقدرةِ أيّ نسق ثقافيّ على إنتاج التاريخ بمعزل عن قاعدتهِ الماديَّة. وقد أتبجَّحُ هنا قليلا لأقول إنني أقفُ من أطروحةِ الغذامي في " النقد الثقافيّ " موقفَ ماركس وأنجلز من أستاذهمَا الكبير هيغل عندما أرادا أن يجعلا جدلهُ الفلسفيَّ الشهيرَ أكثر ارتباطا بالتاريخ الماديّ وصيرُورته، وهذا بأن يَجعلاهُ يقفُ " على قدميه بعد أن كان يقفُ على رأسه ". إن الفحُولة التي هي مقولة ٌ مركزيَّة في الثقافة العربية لم تنتقل من الشعر إلى المُجتمع وإنما العكسُ هو الصَّحيح. هذا ما يجعلُ من قضية الديمقراطية في العالم العربيّ قضية ً ثقافية بالمعنى الشامل ترتبط بالتغيير الجذريّ لبنية المُجتمع البطريركية التي ما زالت ترزحُ تحت كوابحَ ثقافيّة عديدةٍ تعيقُ انبثاق الفرد الحرّ وتنهي أزمنة الوصاية التي أبَّدتها الثقافة التقليدية.

لا يولدُ المَسيحُ المُخلّص إلا في مُجتمع ينتظرُه. لا ينبثقُ عبد الناصر وصدَّام والقذافي وبُومدين والخُميني – على اختلافهم - إلا في مجتمعاتٍ تنتظرهم وترى فيهم تجسيدًا لبطولةٍ تمثلُ تصعيدًا لمكبوتٍ سُوسيو- تاريخيّ، وفرصة ً للإنقاذ من هاويةِ الانسحاق والتفاهة والفحُولة الجريحةِ في ليل التاريخ الذي حادَ عن قيم البنية الأبويَّة في ظل عملية التحديث المُتسارعة وغير المُتوازنة. وأعتقدُ أن تسمية " الجبهة الإسلاميَّة للإنقاذ " في الجزائر تُغني عن كلّ إشارةٍ أخرى إلى المهمَّة الخلاصيَّة الكبيرة باسم المُقدَّس، ونعرفُ جميعا موقف الجبهةِ المُعلن من قضايا الديمقراطيَّة وحُقوق المرأة. وفي كلمةٍ: لا يوجدُ الأبُ إلا إذا احتاجَ إليه الأبناء ولا يُوجدُ الوصيُّ إلا لمن كان في حاجةٍ كيانيَّةٍ إلى الوصاية. هذا، في اعتقادي، هُو المدلولُ الأعمقُ الذي دعا فيلسوفَ الحداثةِ الكبير إيمانويل كانط إلى أن يرى في " الأنوار" الأوروبية في القرن الثامن عشر " خروجَ الإنسان من الوصايةِ والقصُور إلى طور النضج " كما يُعبّر. ورُبما لم تكن مُجتمعاتنا التي ظلت تعيشُ على وقع انبثاق الكاريزما وسِحرها إلا مُجتمعاتٍ عرفت التحديث في صُورهِ الشكليّة والاستهلاكيّة وحافظت على مناعة مؤسَّساتها التقليدية ذات الطابع البطريركي. لقد بقينا – بمعنى ما – خارجَ طور النضج التاريخيّ الذي ينبثقُ فيه الإنسانُ بوصفهِ سيّدَ مصيره دونَ معُونةٍ من المُنقذ الأسطوريّ. لكنَّ الحداثة الفعلية ليست إعادة إنتاج للتابو وإنما هي افتتاحٌ لأقاليم الحرية وتحطيمٌ لصنم العقل الاجتماعي المورُوث.

إن الحداثة السّياسية تقومُ على الوعي التّام بأن الخلاصَ هجرَ سماءَ المُطلق والوُعود الأخرويّة وأصبحَ أرضيّا / تاريخيّا يتمثلُ في التقدُّم الذي يُحرّر الإنسانَ من الاغتراب في آلة القوى العمياء لإنتاج المعنى. لقد خرجَ الإنسانُ من ظلماتِ الاستلاب إلى نور الوعي. من هُنا قلّصت العُصورُ الحديثة – شيئا فشيئا – من هامش انبثاق المُخلّص والمهدي مع هزيمةِ اللاّمعقول والوعي الأسطوريّ على يدِ العقل الفلسفي / الوضعي الظافر منذ القرن السَّادس عشر. إن " إنتاج الرّجال العظام " عندنا – إن استعرنا تعبير الباحث الفرنسي موريس غودولييه – ما زال خاضعا للمِخيال الخلاصي التقليديّ المُرتبط بالبنيةِ الاجتماعيّة البطريركية وأزماتِها العميقة في مُواجهة رجَّة الحداثة ومطالب التغيير المُتنامية.

5

هل سنشهدُ، أخيرًا، خريفَ البطريرك العربيّ؟ هل سنشهدُ انسحابَ الأحلام الخلاصيَّة وميلادَ الوعي الديمقراطي التعدُدي؟ هل سنعرفُ انبثاقَ قيم الفردانيّة والإبداع وتطلّلعات الكينونة الظمأى إلى الانعتاق من آلة الاغتراب في المُجتمع التقليديّ مكانَ قيم الأبويّة والفحُولة التي ظلت تُؤبدُ إخضاعَ الفرد العربيّ وتلجمُ صبواتهِ العميقة إلى الحرية والعدالةِ والمُساواة؟ أم سنكتفي كالعادة بقطع الشجرة الملعُونة وسِقاية تربتها؟ إن خريفَ البطريرك العربيّ لن يكونَ مُمكنا إلا بالعمل المُتواصل الذي يخلخلُ بنيات المُجتمع التقليديّ ويفكك ثقافتهُ القائمة على المِخيال الجاهز دوما لمُعاودةِ الظهور لحظة الأزماتِ مع التحديث الشكليّ. إن خريفَ الطاغية لا يحلُّ بخلعهِ أو قطع رأسه فحسب وإنما بتغيير نظام العلاقات في المصنع الذي ينتجهُ: المُجتمع التقليديّ.



أحمد دلباني
24 شباط 2011
----------------



#أحمد_دلباني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن الثورة العربية وأسئلة العقد الاجتماعي الجديد: قد يعود الب ...
- قداس السقوط
- احتفاءً بالكوجيتو العربي الجديد: - أنا أثور، إذن أنا موجود -
- المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد: التفكير بوصفه قطفا للثمرة ال ...


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلباني - في مشكلة السلطة العربية واللاشعور السياسي الجمعي: خريف البطريرك