أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد باسل الطائي - آفاقنا في النهضة والمساهمة الحضارية: عودة الى العقل















المزيد.....


آفاقنا في النهضة والمساهمة الحضارية: عودة الى العقل


محمد باسل الطائي

الحوار المتمدن-العدد: 3154 - 2010 / 10 / 14 - 22:29
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لا يمكن لأمة أن تتواصل مع تراثها وتحقق التجديد والوثبة إلى أمام ما لم تفهم ثوابت وجودها بشكل عميق وتعي روحها. وهذا الفهم وذلك الوعي ينبغي أن يتحقق في مستوى الثقافة العامة للجماعة، لأن التجديد برغم كونه مرغوباً فيه لكنه أمر خطير وقد يصير تخريباً ما لم يقم على أسس متينة وخطة مرسومة. ولكي تتألف هذه الخطة وتتأسس تلك الأُسس فلا بد من معرفة الحقل الذي نحرث فيه، ونميز حجارته عن جواهره. وإلا كان عملنا خبط عشواء فنَضِل ونُضِل.
ثابت الثوابت في كياننا كأمة هو القرآن، أنزله الله بلسان عربي مبين، وجعله مفهوماً في مجمله، لأن روح الأمة الحقة التي نزل اليها هذا القرآن تتفق مع قيم السماء. وقد تكفّل الله بحفظه من التحريف والتبديل، ليكون الحجة البالغة. ومبعث الإعتبار في عروبة القرآن ارتباطه باللغة العربية، واللغة جزء أساسي من كيان الأمة وروحها. وارتباط العربية بروح الأمة مصدره أن اللغة هي وسيلة للتفكير، وليست وسيلة للإتصال وحسب، فيها تتجذر أُصول الرؤية وأُسس المنهج في فهم العالم وممارسة الحياة وأداء الدور التاريخي. وبقدر ما تكون لغة الأمة غنية ثرية فإن دورها في تشكيل ثقافة الأمة وتعميق روحها يكون أصدق وأعمق. وإذا كانت اللغة لتتطوّر فهذا ليس ممنوعا،ً بل هو جزء من سنّة الحياة، فدوام التغيير هو سمة الوجود. وليس لنا أن نخاف هذا التغيير والتطور لأن اللغة تتكفل بحفظ ذاتها إذا ما كانت قائمة في عروق أُناسها, رجال الأمة ونسائها. لكن الخوف كل الخوف يكون حين تنقطع الأمة عن لغتها وتتغيب عن تراثها وتتداخل مع تراكيب جديدة تأتي لتملأ أوعية فارغة. هنا يكون الخطر وهنا يكون على البقية الصالحة أن تتداعى لوضع الأمور في نصابها. وحمداً لله أنه حفظ القرآن بنصوصه، فهو المرجع الأساس لهذا الغرض أيضاً، حفظت معانيه اللغة العربية وحفظها، فهو المرجع والمآل. لذلك فمن الظروري معرفة الارتباط بين القرآن والعربية ووعي قيمته وعياً جيداً لكي نتعرف على أصول روح الأمة وثوابتها.
ومن الثابت أن محمد هو النبي المُرسل للعالمين كافة، بلّغ الرسالة بما جاءه من الوحي الرباني، ونصح الأمة بسنن استسنها بقوله وفعله. وهو المسدّد بالوحي، وهذا هو مصدر عصمته، فهي ليست ذاتية بل مكتسبة بحكم مناط التكليف الرسالي. وقد أكد القرآن هذه الحقيقة في أكثر من موضع فقال أن محمد بشر يوحى إليه (السورة18: الآية 110). وهذا التّسديد بالوحي هو الذي يجعل اتّباع ما تثبت صحته من سنة رسول الله واجباً. فقد أكد القرآن في مواضع عديدة على ضرورة اتباع الرسول (31:3). وبهذا المعنى فإن سنّة رسول الله ليست وحياً بل هي اجتهاد رسالي مسدد بالوحي. وهذا ما يجعلها تختلف في القيمة عن اجتهاد الناس الأُخر أياً كانوا. أما صحابة رسول الله المقربين الذين حملوا الراية من بعده وحفظوا الرسالة وأدوا الأمانة فإنهم اجتهدوا رأيهم فيما ليس فيه نص، مهتدين بما وعوه من القرآن وتعلّموه من رسول الله. واجتهادهم في كل الأحوال إجتهاد بشر، يُستأنس به للدراية والهدى فإن كان نافعاً لعصرنا موافقاً لصلاح الأمة أخذنا به وانتفعنا بهداهم، وإن كان غير ذلك اجتهدنا الرأي بما يناسبنا مهتدين بالقرآن وما يثبت من السنة الشريفة، وما يقرره العقل المستند إلى المعرفة الصحيحة. وما عدا ذلك من تراث الأمة فإنه يخضع للدرس والتحليل والتغيير بما تقرره معطيات المعارف والعلوم، وما تقرره حدود تلك المعارف.
إذن علينا أن نضع أمامنا كل تراث الأمة وندرسه ونعي أسباب المذاهب التي ذهبها الأولون في كل مسألة نطرق بابها، حتى إذا تمكنا منها غربلناها وعلمنا ما كان فيها من الثوابت وما كان فيها من المتغيرات. فما كان من الثوابت الصحيحة ثبتنا عليه، وما كان من المتغيرات تجرأنا على تغييره بوعي وعلم، آخذين بما أضافته القرون من علوم ومعارف، معتمدين ما زودتنا به الوسائل المعرفية المضافة لتحقيق غاية الدرس والوصول إلى الاجتهاد الأصح دون خوف أو وجل.
ولتحقيق هذه الغايات تجب العناية بالتربية والعناية بالتعليم ومناهجه. والتأكيد دوماً على الأسس والمباديء الأصلية وتدريب الناششئة على أصول التفكير الصحيح والتمييز بين الثوابت والمتغيرات. والى جانب القرآن والسنة الشريفة، ففي تراثنا العربي الاسلامي ثروة هائلة من معارف ومناهج، قابلة للتوظيف والاستخدام في عصرنا هذا. لكن المهمة الكبرى هي في بعث تلك الثروة على الوجوه الصحيحة التي تتجاوب مع الثوابت، مع روح الأمة. فهاهنا نقطة البدء وهاهنا نقطة التحول المرتقبة في تاريخنا المعاصر.
أُمتنا اليوم هي في وضع حضاري متردٍ. فالسواد الأعظم من الناس يستهلك الماضي ويعيش ذهنياً في الماضي وسبب هذه الماضوية خُلوّهُ من الإبداع والاختراع وعجزهُ عن تقديم الجديد، فيبدو وكأنه لم يتعلم شيئاً مما أضافه الزمن. لذلك ليس غريباً أن نرى العربي يعيش الآن زمناً راكداً ولحظة لا تاريخية، ليس لأن لغته العربية هي لغة لا تاريخية كما يظن بعض الجهال أو المتجاهلين، ولكن لأنه لم يتمكن بعد من عبور نقطة الانقلاب المتدنية على مساره الحضاري التاريخي. لذلك تحول الانسان العربي منذ قرون خلت إلى كائن مستهلك للثقافة. ولأن ثقافته السالفة إحتوت قدراً هائلاً من الزخم المعنوي والقيمي فإنه بقي متمسكاً بها، لا يفتأ يلوكها ويجترها على مر القرون، رغم ما دخل عليه من ثقافات وأفكار وفلسفات جديدة أنتجتها حضارات الأمم التي تلت بعد انتقال مشعل الحضارة إلى الغرب.
من المساهمات الفكرية الأساسية الكبرى في تراثنا ما يعرف بـ"علم الكلام" Kalām وعلى وجه التحديد "مسائل دقيق الكلام" Daqīq al-Kalām . ولكي نعرف ما هو علم الكلام ومن هم المتكلمين أقول إنهم جماعة من المفكرين ظهروا أولاً في القرن الثاني الهجري في أعقاب ما جرى من حوارات في العقيدة في مسائل فقهية تتعلق بتكفير مرتكب الكبيرة ومسائل البعث والمعاد يوم القيامة وقضية حشر الأجساد ومسائل القضاء والقدر ونوع علم الله وصفاته. وكان أول من تكلم في هذه المسائل واصل بن عطاء (ت748م) وعمرو بن عبيد (ت762م) ومن بعدهم أبو الهذيل العلاف (ت849م) وغيرهم.
وكان أول المتكلمين قد سُمّوا معتزلة، وفي القرن الثالث الهجري تطور الكلام في هذه المسائل إلى محاولات لصياغات نظرية أكثر عمقاً وتأسيساً على يد إبراهيم بن سيار النظام (ت845م) الذي كان تلميذاً لواصل بن عطاء وهشام الفوطى (ت837م) والشحام (ت847م) وعبّاد بن سليمان (ت864م) والجاحظ (ت847م) الذي كان تلميذاً لإبراهيم النظام، وهؤلاء كلهم من معتزلة البصرة، ومعهم معتزلة بغداد الذين عاصروهم ومنهم بشر بن المعتمر (ت825م) وأبو موسى المردار (841م) والإسكافي (915م). ثم جاء من بعدهم من البصريين أبو علي الجبائي (ت915م) وابنه أبو هاشم الجبائي (ت933م) ومن معتزلة بغداد أبو الحسين الخياط (ت902م) وأبو القاسم الكعبي (ت931م) ومن بعدهم القاضي عبدالجبار المعتزلي (ت1024م)وتلامذته أبو رشيد النيسابوري (ت1059م) وأحمد بن متويه (ت1063م).
ومن المعروف أن فرقة أُخرى من المتكلمين تأسست على يد أبي الحسن الأشعري (935م) الذي كان من المعتزلة فانشق عنهم وأسس المذهب الأشعري الذي اشتق له مفاهيماً تختلف عن مفاهيم المعتزلة وخصوصاً في مسائل جليل الكلام. وظهر من بعده القاضي أبو الطيب الباقلاني (ت1013م) ومن بعده أبو المعالي الجويني (ت1123م) اللذين أسسا وعمقا كثيراً من مفاهيم دقيق الكلام.
لقد خاض المتكلمون في أمرين أساسيين هما: الإلهيات والطبيعيات. ففي الطبيعيات بحثوا في مفاهيم ومسائل مثل الزمان والمكان والحركة والسكون والقوة والممانعة والسببية وخواص الأجسام ومكوناتها فقسموها إلى جواهر وأعراض. وهذا ما أسموه "دقيق الكلام". وفي مسائل ومواضيع الإلهيات بحثوا في صفات الباري وأفعاله وقدرته وعلمه وإرادته، إلى جانب البحث في رؤية الباري ومسائل القضاء والقدر والبعث والمعاد والنشور ومسائل الحرية الإنسانية ومسؤلية الإنسان عن أفعاله. وهذه المباحث كلها سميت "جليل الكلام" Jaleel al-Kalām .
مما يلفت النظر أن مباحث الكلام نشأة أولاً ضمن دائرة العقيدة الإسلامية الداخلية، وعلى هذا يتفق جمهور الباحثين القدماء والمعاصرين سواء كانت هذه النشأة قد تسببت عن الفتنة أيام عثمان بن عفان أو عن الاختلاف في حكم مرتكب الكبيرة أو في الاختلاف حول شرعية النزاع بين علي بن أبي طالب ومعاوية وظهور المرجئة وانشقاق الخوارج. لذلك فقد جرى البحث، وقام الخلاف، أولاً في مسائل جليل الكلام. وكانت المشاكل كلها في هذا السجال الكلامي تنحصر في دائرة التأويل، تأويل النص القرآني بوجه خاص باعتباره (أي النص القرآني) المصدر الأساس الذي يتفق عليه المسلمون جميعاً. ولكن عندما توجه المسلمون بفكرهم وعقيدتهم إلى حجاج الملل والأديان الأخرى كالمانوية والسمنية والنصارى صار عليهم أن يقارعوا الحجة العقلية بحجة عقلية مواجهة، فالغير لا يقبل الاستناد إلى آي القرآن ولا إلى نصوص الحديث. لذلك كان لابد من البحث في أصول وفصول العقيدة. وتذكر المصادر أن واصل بن عطاء كان أول المنافحين عن العقيدة الإسلامية في مواجهة العقائد المانوية وعقائد السمنية التي ظهرت بعد فتح المسلمين للهند. فقد بعث هذا الرجل البعوث العديدة إلى خراسان وبلاد الهند كما بعث بعوثاً أخرى إلى بلاد المغرب. ولما كانت محاججة هؤلاء الناس تقتضي المعالجة العقلية لأصول العقيدة وتقديمها بأسلوب منفصل عن نصوص الوحي ولو ظاهرياً فقد ظهرت الضرورة العملية لتأسيس نظرية عقائدية تقوم على الحجج العقلية والاستنباط العقلي الصرف وهذا ما أنتج "علم الكلام". فصار هؤلاء المسلمون يبحثون في أشياء العالم كلها: المادة وصفاتها وتحولاتها وتفاعلاتها، والحركة والسكون، والمكان والزمان، والثقل والممانعة، والوجود والعدم، وغير ذلك من الصفات الطبيعية والظاهرية، فخرجوا برؤية شاملة قامت على جملة مبادئ وأُسس عقلية.
ورغم أن المتكلمين الأوائل أسسوا لدقيق الكلام على أسس عقلية صرف، إلا أن هذه المنطلقات لم تكن لتتأسس دون هدي عقيدي يميز منهجهم ويؤطر رؤيتهم، فقد كان الهدي القرآني دليلاً لها. فالقرآن فضلاً عن كونه كتاب شرع فهو كتاب عقيدة والعقيدة تشتمل على معرفة الخالق ومعرفة المخلوق والعلاقة بينهما، فهما طرفا المعادلة التي تؤلف العقيدة الإسلامية. ولما كان الله هو الخالق وهو العليم المطلق، ولما كان الوحي (القرآن) هو رسالته التي بلّغها للناس رسوله الكريم بلسان عربي مبين، فإن منطلق الفهم الإسلامي للعالم هو الرؤية القرآنية في إطارها العام، وللعقل بعد ذلك أن يجتهد ضن هذا الإطار. أما الاجتهاد من خارج الإطار الإسلامي فهو ما ليس منه وهو رد، وهذا هو الابتداع. لذلك اعتمد المتكلمون بعد أبي الهذيل في البحث في مسائل دقيق الكلام منهجاً ينطلق من الله ليفهم العالم ويفسره. خلافاً لمنهج الفلاسفة اليونانيين كأرسطو وأفلاطون ومن شايعهم من فلاسفة المسلمين كالشيخ ابن سينا والفارابي وأبو الوليد محمد بن رشد، الذين انطلقوا من العالم ليفهموا الله ويعرفوه. هذا هو الأساس في الاختلاف المنهجي بين المتكلمين والفلاسفة. والحق أن السبيل الثاني (أي الانطلاق من العالم إلى الله) ممكن ولربما يكون هو المرجح في بادئ الرأي. لكن النظر مرتين في المسألة يكشف لنا أن العقل وحده لن يستطيع أن التوصل إلى المعرفة الحق بالله لكونه يعمل بالقياس. وقد كان هذا (أي اعتماد القياس العقلي في مباحث جليل الكلام فيما يختص بالصفات الالهية) هو الخطأ القاتل الذي ارتكبه المتكلمون في جليل الكلام، مثلما هو خطأ الفلاسفة أيضاً عند بحثهم في الإلهيات فيما يسمونه "القياس البرهاني". ففي كلا الحالين قياس للغائب على الشاهد. الأول مستند إلى النص تأوّله بالعقل قياساً، والثاني يستند إلى العالم يرفعه بالقياس إلى الله جُزافاً. وهذا غلط واضح. لذلك لم يكن غريباً أن يتأول أرسطو ومن شايعه أن السماء حيوان وأن لها نَفْساً ويتأوّل أجرامها على أنها كائنات من جنس آخر ويعتبر الجسم السماوي من طبيعة خامسة هي الأثير. ونحن نعلم اليوم أن هذا كله غير صحيح.
ويجد الباحث أن المتكلمين معتزلة وأشاعرة يتفقون على الأغلب في معظم مسائل دقيق الكلام فيما يختلفون في جليله. وأبرز اختلافهم هو في مسألة خلق الأفعال ومسؤولية الإنسان عنها، فعلى حين قالت المعتزلة بأن الإنسان خالق لأفعاله، قال الأشاعرة بأن الله هو الذي يخلق الأفعال اعتماداً على ما جاء في الآية 96 من سورة الصافات: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ). ولقد اعتبر الباحثون المعاصرون المعتزلة الأوائل روداً للقول بحرية الإنسان وسابقين للعمل بالمنهج العقلي على غيرهم من طوائف المسلمين.
ومن المعروف تاريخياً أن مباحث "جليل الكلام" هي التي أنشأت الاختلاف والشقاق بين المسلمين حتى صار بعضهم يُكفّر البعض الآخر، وهذه المباحث في صفات الله وعلمه وقدرته وإرادته هي التي جاءت بكل الترّهات التي شهدها تاريخ الخلاف بين المعتزلة ومن خالفهم من الفرق وهي التي تبلورت في محنة القول بـ(خلق القرآن) التي ألقت بضلالها السقيمة على العقيدة والفكر الإسلاميين. فلم يكن هنالك خلاف كبير بين المعتزلة والأشاعرة في جملة المبادئ الأساسية لدقيق الكلام. والاختلاف في مباحثه إنما كان في التفاصيل، تفاصيل القول بشيئية العدم وأحوال المعدوم مثلاً، أو القول في تجدد الأعراض أو تجدد الجواهر والأعراض معاً. أو غير ذلك من تفاصيل الرؤية في الدقيق. ودعماً لهذا الرأي نقول أن نشوء الأشعرية أنفسهم قد جاء من رحم المعتزلة فأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً درس على أبي علي الجبائي (ت 330هـ) وانشق عنهم.
لم تقدم دراسات المستشرقين للفكر الاسلامي مساهمات المتكلمين في علم الكلام بالصورة التي تتناسب مع جلال هذه المساهمات، فقد كانت تلك الدراسات مبتسرة وموجزة لم تحط بمحتوى نظرية المتكلمين ومبادئهم ومنهجهم. ولعل صعوبة فهم النصوص الأصيلة للمتكلمين بالعربية كانت عائقا أمام إجراء دراسات واسعة مستفيضة. وحتى الدراسات الحديثة التي قام بها بعض الباحثين الجادين من أمثال الأستاذ هاري ولفسون Wolfson، والمستشرق والتر فالزر Walzer والباحث الإسباني شلومو بنس Pines فإنها أغفلت حقائق كثيرة ودخلت إلى الموضوع كله من باب البحث عن التأثير اليوناني في الفكر الاسلامي. ومن المؤلم أن معظم الدارسين العرب والمسلمين الذين بحثوا في علم الكلام قد نظروا اليه بعين المستشرقين في الغالب الأعم؛ مما جعلهم يحذون حذو المستشرقين النعل بالنعل والقذة بالقذة. كما أن الكثير من الأصوليين الإسلاميين المتأخرين من أمثال أحمد بن تيمية نظروا إلى الجانب المظلم من علم الكلام وبالأخص إلى مباحث جليل الكلام فلم يجدوا فيها إلا سفسطة لغوية ومحاججات فارغة تُخرج المسلم من الملة وتلقي به إلى مهاوي الضلالة والكفر. وتبع هذا التيار التكفيري خلق كثيرون ممن لم يعرفوا حقيقة علم الكلام ولم يتمكنوا من التمييز بين غثه وسمينه. وحتى اليوم لا تكاد تذكر علم الكلام أما أحد من السلفيين المتزمتين إلا تجده يشن هجوماً عليه دون دراية ولا معرفة ولا حجة بالغة، بل منطلقا من تعصب أعمى لقنه إياه عميان آخرون.
لكن الدراسة الدقيقة والمعمقة لعلم الكلام، وبالأخص لدقيق الكلام المتعلقة فصوله بالمسائل الطبيعية بالأخص، تكشف أن في مباحثه ومسائله جملة من المبادئ والأسس يمكن أن تشكل أصولاً لفلسفة علوم عربية اسلامية أصيلة. لكن هذه المباحث والمسائل بحاجة إلى إعادة الدرس والتحليل، لأن فيها ماهو من معارف الماضي القديم عفى عليه الزمن وتجاوزته المعرفة بأشواط كثيرة فلم يبق منه إلا القيمة المتحفية. ما يهمنا في الأصل أن جملة المباديء التي استند اليها المتكلمون في دقيق الكلام ما زالت تتمتع بالحضور الفكري الفاعل والقابل للتوظيف في معرفتنا المعاصرة. وقد قُمت باجراء دراسات أصيلة وجادة في مباديء دقيق الكلام جمعتها في كتاب عنوانه (دقيق الكلام: الرؤية الإسلامية لفلسفة الطبيعة). وقد ظهرت لي كشوفات نفيسة في دراسة بعض مسائل دقيق الكلام منها مثلاً قضية مصير الشمس وذبولها إذ وجد أبو حامد الغزالي أن الشمس جرم قابل للتغير والفساد وأجاز ذبولها واضمحلالها خلافا لما كان معتقداً من أنها جرم أثيري خالد. كما كشفت دراستي عن الأفق النظري الواسع لأبو حامد الغزالي في نظرته العامة إلى العالم (الكون) حيث جوّز أن يكون العالم أكبر مما هو عليه أو أصغر، مما يؤسس لمنظور توسع الكون، دونما حرج منطقي ودونما تعجيز للخالق، على حين منع ابن رشد إمكان ذلك اعتماداً على أرسطو. كما قمت بالبحث في رؤية أحد الأشاعرة (الباقلاني) لمسألة السببية في بحث شامل وحاولت من خلاله إزالة بعض اللبس الذي يتردد من أن المتكلمين والأشاعرة منهم بوجه خاص قد رفضوا السببية، فأثبت بالنصوص الدامغة أن هذا الادعاء غير صحيح وأن رفض الاشاعرة (والمعتزلة أيضاً) إنما كان للحتمية السببية التي تلغي بالضرورة دور الخالق، وليس لمحض وجود السبب.
وللمتكلمين في دقيق الكلام رؤية متقدمة من الزمان والمكان قدمتها في مؤتمر عالمي عقد في جامعة أكسفورد في سبتمبر 2005 تحت عنوان (الله وآينشتين والزمان). فالمتكلمون يعتبرون الزمان والمكان متداخلين لا ينفك أحدهما عن الآخر، وأنهما نسبيان يعتمدان على الموضع أو الوقت الذي يكون فيه المشاهد. كما اعتبر المتكلمون الزمان ذرياً مؤلفا من آنات متتالية متقطعة صغيرة يتلو بعضها بعضاً. وهذه كلها أفكار متقدمة كثيراً حتى على عصرها هذا، بل هي أفكار معاصرة تجد صداها في الفيزياء الحديثة. كما عالجت مسائل أخرى وقضايا في الرؤية الكلامية لمسائل طبيعية عرضتها في مؤتمرات عالمية عقدت في الغرب خلال السنوات الماضية كان آخرها مؤتمر جامعة ليفربول عام 2008. ويمكن الرجوع إلى الموقع http://www.cosmokalam.com لمعرفة تفاصيل أخرى بصدد هذه الدراسات والأبحاث.
ومن الدليل على حيوية الطرح الكلامي وحضوره المعاصر أيضاً أننا نرى الآن معالجات جادة، وإن كانت محدودة ومبتسرة في بعض الجوانب، تستعير من علم الكلام الإسلامي منهجية معاصرة لمعالجة قضايا عقدية فيما يتعلق بحدوث الكون ومسألة وجود خالق له. فهذا هو الفيلسوف المعاصر وليم كريج Craig William في كتابه المعنون: Kalam Cosmological Argument يعتمد منهجية المتكلمين في الاحتجاج بدليلهم في الحدوث ووجود مسبب لهذا الحدوث. وذلك هو الباحث نور ضناني من جامعة هارفرد يكتب كتاباً في يبحث في بعض المسائل الفيزيائية لدقيق الكلام بعنوان Problems in Eleventh Century Kalam Physics كما نشر هذا الباحث مؤخراً بحثاًعرض فيه لآراء المتكلمين في مسائل الثقل والممانعة والسقوط الحر للأجسام بحسب ما قدمها إبن متويه في كتاب (التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض)، ليقارن ذلك بمفاهيم فيزياء غاليليو ودراساته على السقوط الحر. إذن فإن هذا النهج الذي نتحدث عنه هو ليس نهجاً أو موقفا شخصياً محدوداً برؤية خاصة ولا هو موقف تمجيدي من التراث بل هو منهج جاد ومادة خاضعة للتحليل والدرس والبحث الجدي الذي يكشف عن مادة إبداعية جديدة تقوم عليها فلسفة العلم الإسلامية.
ليس المطلوب أن نعود الى علم الكلام لنفتش في دفاترنا القديمة بعد أن أفلسنا حضارياً أو نكاد. بل المطلوب أن نجدد ثورة العقل ونبعث هذه الأمة روح التفكير والنهضة من جديد لتستفيق من سباتها الطويل، تستفيق من الاتباع الأعمى للسلف وعقلية السلف وأذواق السلف الذي مضى عهده وانقضى من أجل أن تجد الأمة نفسها مع كلمة الله التي بلغها النبي الأكرم إليها بالقرآن العظيم. وبهدي النبي القويم. ولنعمل عقولنا فليس من مقدس إلا القرآن وما صح من عموم السنة النبوية مما لا يتصل بظرف خاص. فليس من الصحيح الجمود على الماضي والوقوف عند القرن الهجري الثالث بدعو الاتباع ونبذ الابتداع، لأننا بذلك نصبح من المتحجرات التي لا تصلح إلا للدراسة التاريخية. كما أن ليس من الصحيح أيضاً التنكر لتاريح الأمة ولدينها وعطاء علمائها ومفكريها جملة وتفصيلاً والانسلاخ عن روح الأمة بدعوى العلمانية والتقدمية والحضارية وتحرير المرأة. لأن اجتثاث الأمة من جذورها الحضارية وتهديم كياناتها الحضارية هو الآخر عمل لا يفضي الا إلى الفوضى ولن يمكننا من أن نكون بأي حال من الأحوال في حال أفضل من شعوب أمريكا اللاتينية المستضعفة المستغلة.
إن الأمة الإسلامية بحاجة إلى نهضة فكرية وعملية شاملة تبدأ بإعادة النظر جديا بالموروث الثقافي مرتكزة إلى رؤية صحيحة تأخذ بأسباب العلم المعاصر ووسائله وتعتمد منهجية واثقة وشجاعة تتصل بالماضي لتنقيه وتصفيه من الشوائب والأدران والسقطات والانحرافات المذهبية والرؤى السلبية فتثبت الثوابت، وتعطي للمتغيرات دورها الفاعل في الحياة. تقدس المقدسات الأساسية، وتترك ما عداها للعقل والحوار والابداع وتنظر بعين واعية إلى المستقبل. رؤية ومنهجا يستلهم كل ما هو ايجابي من الانجازات الماضي ويستفيد من التجارب ويستشرف آفاق المستقبل.



#محمد_باسل_الطائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المأزق الإبستمولوجي للمعرفة العلمية المعاصرة
- الحتمية الكلاسيكية واللاحتم الكوانتي
- ستيفن هوكنج وخلق العالم؟
- من الضروري مراجعة كتب الحديث التي لا تتوافق مع صريح القرآن و ...


المزيد.....




- العراق.. المقاومة الإسلامية تستهدف هدفاً حيوياً في حيفا
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد باسل الطائي - آفاقنا في النهضة والمساهمة الحضارية: عودة الى العقل