أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - معلم في القرية /5















المزيد.....


معلم في القرية /5


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3097 - 2010 / 8 / 17 - 18:20
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

ألامتحان
باشرنا الامتحان، وقد فرغت منه في اليوم الثاني. وذلك لأن دروسي منحصرة في صفين فقط. الديانة في الصف الأول والعربية في الصف الرابع. وتمكنت من التجول بين المعلمين أثناء ساعات الفراغ. فإذا بهم جميعا يتشبثون بأوهى الأسباب لمساعدة الضعفاء من التلاميذ. ولكي لا أظن بهم سوءاً أخذ أحدهم يوضح لي خطته في وضع الدرجة، فقال:
- هذا التلميذ ذو خط ممتاز. وإملاؤه ممتاز أيضاً. وهو في الحساب متوسط. ألا ترى من الأنصاف مساعدته في درس "الأشياء" وهو درس يتكرر عليه في الصفوف القابلة؟ وهذا تلميذ ذكي إلا أنه مهمل، وهو يحسن القراءة، وإملاؤه رديئ ولكن خطه جميل جداً، وهو في "الحساب" جيد أيضاً، فلا داعي لعرقلته بسبب درس "التأريخ" إذ يبدو فيه بمنتهى الجهل! وهذا ثالث حصل في أهم الدروس "أربعا" لكل درس! أليس من الظلم أن أضيع سنة من حياته؟! وهذا رابع ظهر لي أنه مكمل في المجموع، وهو بحاجة إلى "عشر" درجات، أترى من الصواب أن أعود إلى المدرسة في وقت مبكر من أجل مكمل؟ وربما كنت منقولاً إلى مكان آخر!
ولفت نظري أن معظم تلاميذه بين مستحق للمساعدة –كما أوضح- وبين من شفعت له الصداقة مع ذويه خلال السنة الدراسية. وبين خوفه من وليه الذي عرضّ –قبيل الامتحانات- بتلك الاتهامات الزائفة وهم أهل شراسة وصلف.
وما أسرع ما أنهينا الامتحانات. وبررنا ذلك، بأننا خلال عام نكاد نعرف كل خفايا التلاميذ، فكيف بقابليتهم؟! وبعد أن أدخلنا الدرجات بالسجلات الخاصة. ووزعنا الشهادات على الطلبة، ونظمنا جداول بالدرجات لترسل إلى المديرية، كان المدير قد أتم وضع التقارير عن سير الدراسة والمدرسة والمعلمين. كان يحبني ويحترمني لذا أطلعني على تلك التقارير. ولئن كانت المديرية تأخذ بها يكن من الغبن أن نلوم المعلم حين يبالغ بمجاراة المدير وطلب مرضاه، والعمل برأيه. لقد كتب عن أحدهم (إنه ضعيف الشخصية أمام الطلبة. لا يحضر الدرس، ولا يهتم بالواجبات البيتية، يتعرض إلى العقائد أمام التلاميذ فيثير النعرات الطائفية. لا يتحرج عن التلفظ بكلمات نابية يمجها المحيط، ويُسخَر منه بسببها. وخلاصة القول، لا أرى من الصالح بقاءه هنا في السنة القادمة).
وكتب عن آخر (قوي المعلومات، متمكن من الدرس، مسيطر في صفه ولكن بالعصا!؟ التي يستعملها بإفراط وقسوة! يكثر من الواجبات البيتية. مستوى صفه عال. ولكن سيرته خارج المدرسة شائنة إذ أنه لا يتحرج أن يصرح بحبه للجنس، ويحاول أن يتحرش بالنسوة حين يقبلن غروباً للاستقاء من النهر!).
أما عني ، أنا المستخدم الجاهل بأصول التربية والتعليم الحديث –لعدم دراستي لها من قبل- فقد كتب عني ما جعلني خجلاً، لا منه ومن هذا الجميل الذي يطوقني به، بل من تلك المبالغة فيّ. وصف شخصيتي بكل صفة سامية، وسمعتي بكل تجلة، وقابليتي العلمية بكل تمكن. إنها مبالغة على أية حال. وأعتقد أنه ما كتب ذلك عن اعتقاد وثقة، إنما هي المجاملة التي تستند على الصداقة، وتتكئ على المصافاة.
كنت أتوقع أن يردني أمر بالفصل من الوظيفة –كما هي العادة مع كل مستخدم- وحدث العكس. فقد ورد تعميم على جميع المستخدمين يخيرون بين أحد أمرين. البقاء في مدارسهم لتقوية المكملين، أو الدخول في الدورة الصيفية التي تقرر فتحها في بغداد اعتبارا من اليوم الأول لشهر تموز حتى نهاية العطلة.
كنت أفكر، ما العمل لو أني فصلت؟ لم أدخر من رواتبي فلساً واحداً خلال العام الدراسي. وقد أكدت العزم أن لا أعود إلى حياة العمامة، لقد هجرتها، وحلقت لحيتي وبترت شاربي، وقصصت شعري على نمط يذمه المعممون!
لقد اخترت الدورة. وسأعمل –بالطبع- هناك لأصبح موظفاً ، أو ألتحق ببعثة كما ألتحق أمثالي من المعممين [بتقديم الشفعاء حسبما كان سائداً وما يزال الأمر كذلك. فالمرء لا يشفع له علمه وقابليته بقدر ما يشفع له ذوو الوجاهة في الدولة. وقد ذهبت محاولتي للبعثة إلى الفشل، فحين راجعت الأستاذ مفتش اللغة العربية آنذاك "الشيخ محمد باقر الشبيبي" ليساعدني في أمر القبول في بعثة إلى مصر –كما فعل للشيخ عبد الرزاق محي الدين- رفض ذلك الشيخ محمد رضا الشبيبي، وكان وزيراً للمعارف. بقيت أراجع الشيخ محمد باقر، الذي وعدني بانجاز الأمر، لكنه تراجع أخيراً. وذكر لي السبب، أنه يكره أن يتهم بالمحسوبية والمنسوبية، ورشح لها آخر. كان ذاك الآخر هو اليوم –المدرس تقي الشيخ راضي- ولن أعلق عما يكون بالنسبة في سنه ومعلوماته]. فورقة الشهادة اليوم، آية التزكية، وجواز العبور!



في بغداد
كل شيء الآن على ما يرام. بغداد جميلة في هوائها ومائها، وناسها وسائر ألوان حياتها، أو إنني أراها كذلك. فلم أمكث فيها قبل اليوم كثيراً، وعلى هذه الصورة من الانطلاق!
كنت قد زرتها مرتين، وعلى رأسي "العمامة" تلك التي يحرم على صاحبها أن يرتاد المقاهي، ودور السينما، ويطوف الشوارع والحدائق والمخازن، والمتنزهات. فذلك لا يناسب كرامة العمامة –كما يقولون- أو يخالف الشرع. لقد مستني الحاجة كثيراً فلم أجد من يتفقدني غير هذا الوالد الذي بدأ يتثاقل من عطلاتي، لو لم أزج بنفسي في ميدان الوظيفة.
ها أنا الآن لا أهدأ عن الحركة. طفت في نهاري في كثير من أسواقها، ومخازنها، وتجولت عصراً بشوارعها ومتنزهاتها. وذهبت إلى السينما التي كنت أتشوق إليها، وكنت إذا حُدثت عنها أصغي مستغرباً. وكم قلت: لماذا لم يدع مخترعها "النبوة"؟
وقصدت بعض دور اللهو، فأبصرت الراقصات شبه عاريات. وسمعت الغناء المحترف. إنه لا يطربني. وهذا الجمال لا يهزني، على الرغم من أني طربت واهتززت! لم أطرب من ذلك الرقص ولم تجذبني الراقصات ذوات الأجسام المحمومة التي تتلظى الشهوات من جميع مفاتن أجسادهن.
فيما أعتقد أن مبعث طربي الحقيقي، هو ما أنا فيه من الانطلاق والتخلص من تلك القيود. كلما شعرت أن وجهي قد استراح من عبئ تلك اللحية. ورأسي تخلص من ثقل العمامة، وأني طليق من ذلك الزي الذي يجب أن يكون في رفوف المتاحف الأثرية. ولا أكتم الناس أني رميت الوقار قليلاً، وأن يكن كثيراً بالنسبة إلى ما كنت عليه سابقاً من هدوء ورزانة.
شربت وطربت ولم أعربد. وغازلت أحدى حسان المرقص، وأطلقت لصوتي العنان مع رفقة يطيب لهم غنائي، ويطربهم صوتي فساد الملهى هدوء وإعجاب، وعلا المسرح هرج. وبدا الغيظ على وجوه الراقصات، فغادرن المسرح، إلا تلك الراقصة ذات الثوب الأسود والجسم الأسطواني، والتي كانت تتظاهر بالعظمة والفخفخة التي لم يفسرها المتفرجون بغير كبر السن الذي لا يتلائم مع الغنج والدلال. أو سوء الطبع والشراسة الذين هما صفة هذا السن من العمر، وذلك الجسم المكدود والمثقل باللحم والشحم. والمكور تكويراً، لا تكاد تميز معه بين العنق والأكتاف، ولا بين البطن والأرداف. لقد وقفت في وسط المسرح بعد أن كففت عن الغناء. أخذوا يصيحون ويلحون مطالبين أن أعود. لكني أدركت أني جاوزت الحدود.
ورفعت كأسي وارتشفت ما فيه حتى الثمالة. وأعترف إن تلك الراقصة ذات الجسم الأسطواني –كيفما تكون- قد ملكت عليّ مشاعري، بسبب ذلك الجبروت المصطنع. وحبذا لو أني أستطيع أن أقاوم كل جبروت. وليفهم أمثالي إن كل جبروت يتعلق به الإنسان زائف زائل لا محالة.
وفاجأ هذا الهرج، وأنهى تلك الفوضى –غزال- أهيف القد ساحر العينين، بديع الحركات، حلو أللفتات. أنفلت على المسرح بأغنية تركية لا أفهمها. فتحول ذلك الهرج إلى ما يشبه هتاف المصلين بعد الدعاء، بالابتهالات والرجاء. وكنت من جملة الهاتفين.
في الحق إن هؤلاء الذين اتخذوا إدارة الملاهي عملاً وتجارة من أبرع العلماء في فهم أصول علم النفس. أترى كيف أستطاع مدير المسرح أن يقضي على تلك الفوضى ويحولها إلى ضجيج من أجل الاستحسان.
ولم نبرح الملهى إلا عند آخر لحظة من منهاج الحفل.

ليلة مجـون
غدا في الصباح سنجلس على مقاعد الدرس، ونتلقى الدروس كما كنا نلقيها. ومهما جلس المرء على هذه المقاعد، فانه لن يتلقى دروساً كالتي يتلقاها من الحياة، وتعلمه إياها الأيام.
لقد صمم الرفقة، فقضينا الأيام الثلاثة المنصرمة، بكل جذل واستهتار. طاوعتهم في تنفيذ برنامجهم جميعه، إلا ارتياد المبغى. فلا أبغض عندي من التصاق شفتي على الشفاه الباردة، التي انطفأت فيها جذوة الحب، وخمدت في قرارة قلوبها جمراته، واستحال كل ما فيها إلى حقد واستخفاف بتلك الأجساد التي تهوى عليها متمرغة بوحل الجريمة، حتى إذا نالت ما تريد كأنها تقضي حاجة، عادت تحس بالفراغ ثانية.
في الليلة الأخيرة تجولنا بالشوارع، حيث وصلنا إلى حضرة أحد الأولياء الصالحين. كنا في حال سكر عظيم. عند الباب لاح لنا بعض الرجال الكهول. لا يرتدون غير ثوب من الخام الأسمر، وعلى رؤوسهم عمائم وسخة قد لفت على غير انتظام. وفي رقابهم –سُبَح- طويلة من خرز سوداء، بينها بضع خرز حمراء من المرجان.
كان أحدهم شاب رغم تجاعيد وجهه. إنه يهذي بكلام غير مفهوم، ولعابه يسيل على صدره ولحيته، أما إحدى يديه فقد كانت جذاء. انعطفت إلى أحد أصحابه وسألته:
- ما به يهذي؟ [لم أفهم من كلامه غير كلمة "الله" يرددها في ختام كل جملة من هذيانه، كان هذا في حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني]
فزجرني هذا بغضب:- أخرس يا كافر! هذا ولي من أولياء الله!!
وبانبساط وبرود، قلت:- أهو أخرس؟
فرجع عن غضبه قليلاً إلى شيء من الانبساط، وقال:
- على لسانه سرّ "أسم الله الأعظم" فلو أنطلق لسانه باح به وهذا ما لا يجب.
ضحك أحد أصحابي ضحكة ماجن مستهتر، واتكأ على جدار مدخل الصحن من شدة الضحك وهو يشير بيده:- أصحاب الله كلهم من هذا النوع، وسكان الجنة على هذا النمط، والمسكينات من الحور العين، يفتك بها هؤلاء المتوحشون!؟. وغرق بالضحك وهو يضرب على ركبتيه!
ومما يزيد الموضوع طرافة، إنّا برغم اجتماعنا على هذا النوع من اللهو، كان فينا المتدين والملحد، ومن هو بين ذلك. وقد أنفعل أحدنا وكان متديناً ويردد كثيراً "من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" وقال:
- إنهم كأهل الكهف. أولئك فروا بعقيدتهم إلى الكهف. وأولاء إلى هذا الخرس.
وقال الملحد، ولم يكن إلحاده عن علم ودراسة واسعة. وقد قطب حاجبيه، وزوى بعينيه، وهو منكمش ساخط وبحذر:
- الدروشة من بدع المستغلين، يخدعون بها الناقمين، ويحولون سخطهم من ثورة إلى استسلام، ومن تشخيص المستبد إلى تعبد وتزهد، بحجة ترويض النفس، التي هي "أمارة بالسوء" [سورة يوسف آية 53] فيتركون دنياهم لأولئك. ويقنعون من العيش بالجشب (الغليظ الخشن من الطعام/الناشر)، ومن الملبس بالخشن، لينالوا نعيم الله ويكسبوا غفرانه!
وسحبت يد أحدهم كيلا يتسع الخرق على الراقع. واتجهنا إلى ناحية أخرى.
وفي ميدان ليس بالفسيح، رأينا جمعاً من الناس جالسين على الأرض، وفي طرف المجلس من الوسط وقف شخص كان يرتدي نفس الزي –قميصاً أبيض طويلاً ويشماغ أحمر [لعله من الصابئة وكنت إذ ذاك لا أعرف عنهم شيئا] لم أفهم من كلامه غير كلمة "شمعون" وأسماء من هذا النوع. أما المستمعون فقد كان يبدو عليهم الخشوع. وكانت دموع بعضهم تسح على خديه.
إن عواطف البشر من منبع واحد، هو ما يسيطر عليهم من بؤس وأحزان أو يسر وأفراح. وإذا ما جهلوا مصدر بؤسهم، وعجزوا عن رده والخلاص منه، لجأوا إلى القوة الخفية يستدعونها على الظالم، ويستعطفونها لحل مشاكلهم، وتحقيق رجائهم. وهذه الدموع وسيلة التعبير عن تلك العواطف عند الناس مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم. فأي فرق بين عواطف الأثيني القديم إذ هو قدم قربانه إلى "جوبيتر" أو المصري الفرعوني إلى "ايزيس" أو المسيحي إلى "اقانيمه" أو المسلم إلى النبي والأولياء.
بعد هذه الجولة الكبيرة، عدنا إلى مأوانا في القسم الداخلي لطلبة دار المعلمين الابتدائية.
وفي الطريق لفت نظر أحدنا رجل ذو عمامة سوداء كان يعتمد عكازة ويسرع المشي فيبدو عرجه متعباً [وتعرفت عليه أخيراً انه خطيب منبر الحسين في الهندية. وعرفت من بعض أهل القضاء، مثلما قال صاحبنا ولكني لا أصدق أنه يرتاد الأمكنة العامة للشرب واللهو، فله صلاته الخاصة لهذه المقاصد وأسمه "عليوي"!]. وصاح صاحبنا:
- ألم تروا، لقد كان هذا هنا –وأشار إلى محل الشرب-
وأسرع آخر استبدت الخمر برأسه، فسابق الرجل مقلداً مشيته. بينما أخذ الأول يقسم أنه يعرفه من أهل –الذوق- في الكأس وأن كان من –الوعاظ- ورجال المنبر الحسيني!
هكذا مرت آخر ليلة. وغدا في الصباح سنرى وجهاً جديداً ولون آخر من ألوان الحياة.


الدرس الأول
صباح هذا اليوم جلسنا مبكرين. وإن لم نكن على ما يرام من النشاط. وبعد تناول الفطور، والاستراحة في مقهى القسم، دوى الجرس برنين يفهمه الذين سبق لهم أن جلسوا على مقاعد الدراسة. أما الآخرون فقد بدا على وجوههم له تهيب.
وصعدنا جميعاً إلى قاعة المحاضرات، وكان ذلك صيف عام 1935. استمعنا إلى تلاوة ما تيسر من آي ذكر الحكيم. ثم ألقى مدير الدورة "الدكتور متي عقراوي" كلمة أوضح فيها الغرض من فتح هذه الدورة. وإنها لتدريب المربين على أساليب التربية الحديثة، وإطلاعهم على النظريات التربوية الجديدة. وهنا أبتسم وقال:
- أستميح معلمي اللغة العربية العذر في صيغة بعض الألفاظ، مثل "تربيوية"!
فأجاب أحدهم: الصحيح، تربوية!
ثم أشار المدير إلى أن تلاوة القرآن ودرس التربية والاجتماع يحضرها الجميع في هذه القاعة على التوالي كل يوم، ثم بعد ذلك يرجع كل فريق إلى الفرع الذي التحق به ليقضي درسين فيكون مجموع الدروس أربعة لكل يوم.
انتهى الدرس الأول في التربية. ودق جرس الاستراحة، فهب المعلمون –والأصح الطلبة- مرة واحدة. يتدافعون، كل يريد أن يلج باب السلم قبل غيره، ولهم دويّ يفسر فرحهم بهذا الجرس لا يختلف أبداً عن فرح الصغار. فتذكرت الشاعر أحمد شوقي وقصيدته "أطفال المكتب" ومنها البيت التالي:
لهم جرس مطرب في السراح وليس إذا جدّ بالمطرب
وحل درس الاجتماع فارتقى المسرح أستاذ بدرجة دكتوراه [هو الدكتور فريد زين العابدين]. قيل أنه يحمل شهادة دكتوراه لثلاثة علوم، الاجتماع، الأدب والفلسفة.
وبدأ محاضرته بتعريف علم الاجتماع، مع نظرة إلى الوراء فيما يخص تأريخ هذا العلم، بدايته وتطوره. كان خطيباً لبقاً، لا يتلكأ ولا يتعكز [ولم يستمح معلمي اللغة العربية عذراً] وبدا صريحا إنه من رجال فكرة –الوحدة العربية- فقد تعرض بسرعة إلى تأريخ الدول الأوربية وكيف توحدت وتكتلت أخيراً، وأصبحت دولاً ذات كيان وسطوة. وبصورة خاصة عوامل –الحركة الايطالية-. وكان وهو يلقي محاضرته يكاد ينفجر باكياً. وانتهى الدرس. فنهضنا ونحن كمن كان بمأتم بتأثير محاضرته، نمشي بأقدام واهية، وخطوات حزينة، وعلى وجوهنا سورة من الكآبة، وعلى عيوننا غشاوة من الحزن العميق.
أما الدرس الثالث فقد كان في الدين. وأستاذنا فيه [السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني] أحد أقطاب رجال الدين، الذين تأثروا بالسيد جمال الدين الأفغاني. ويرى أن حركة الإصلاح يجب أن تتخلل كل شيء حتى الدين، وقد أنشأ مجلة العلم [قرأ علينا أيام محاضراته في الدورة قصيدة عن "واجب الوجود" وقال: جائزة لمن يحفظها! ورغم إنها شعر غير رائق فقد حفظتها حال انتهائه من إلقائها، فتعجب وسأل: من أنت؟ فلما عرفني، قال: لعلك حصلت عليها من شيخ "هادي" –كاتبه-؟ قلت: أبداً. فأعطاني مجموعته منها. ومع الأسف الشديد أنها فقدت]. ومزج بين الأدب والسياسة والدين لخدمة الإنسانية والوطن. وولج الوظائف الحكومية، فصار وزيراً للمعارف، وعيناً ونائباً على خلاف ما عليه رجال الدين الآخرون من تزمت، وإهمال لشؤون الناس والذين يعتبرون الوظائف الحكومية إثماً وخروجاً على الدين [أما اليوم ونحن في أعوام ألـ "70" (المقصود سبعينات القرن الماضي/ الناشر) فقد أقبل المعممون على الوظائف، واعتاضوا عن "المداس" بالحذاء بل قاد بعضهم السيارة الفارهة!].
ويبدو لي أن الرجل قد تغير الآن عما هو عليه سابقاً، ولعل مرد ذلك عدم اعتماده على سبب للعيش غير الوظيفة، وبالرغم من كونه أهلاً وبجدارة للمنصب الديني والمرجعية، فأنه لن يجد طريقاً إلى هذا بسبب ولوجه باب الوظيفة. كما أني لاحظت أنه حذر حين إبداء رأيه في أمور تدنو من السياسة.
كانت محاضرته الأولى عن –واجب الوجود- والأدلة العلمية والعقلية على ذلك. وهي أدلة، لم تعد أكثر من شرح لما درسناه في الصفوف الأولى من المدارس الابتدائية مثل "لكل مصنوع صانع" و "لكل عمل مدبر" وقال من جملة ما قال (إن الكون معمل عظيم، عماله هذه المخلوقات -كل قد علم تسبيحه- ومديره هو الخلاق العظيم الذي جل عن النجوى وبعد فلا يرى"
وأستغل أحد الشياطين –وهو معلم من النجف ومعمم سابق- كفاف بصر الأستاذ. وطلب الأذن بالكلام فأجيب إلى ذلك. فقال: إن قساً أراد أن يهدي الكاتب الفرنسي المعروف "فولتير" إلى الدين، وكانت أدلته لم تخرج عما ذكرتم. فأجابه فولتير (لو أنك دخلت إلى معمل صغير فوجدت الأعمال فيه في غاية الفوضى، وعماله بمنتهى الإهمال والتقصير. ألا تلوم المدير، وتنعته بالإهمال والتقصير. فما بالك تمجد مدير "المعمل العظيم" وأنت ترى الظلم والاستبداد بين عمال ذلك المعمل، وأنهاراً من الدموع والدماء، يفترس القوي الضعيف ببشاعة دونها ذوات الظفر وسباع الوحوش، وسجون يقبع في ظلماتها وقذارتها نوابغ ومساكين، دونها مغاور الحيوانات)!؟
تأثر أستاذنا وحولق وأستغفر، ثم قال:
- لا عليك. أنا أدليت إليك بأدلة عقلية وعلمية فتدبرها!؟
أما الدرس الرابع فقد كان أستاذنا فيه خريج كلية دار العلوم المصرية ، ثم قد حصل على شهادة الدكتوراه. ومحاضراته ليست أكثر من تكرار واجترار [هو "الدكتور بديع شريف العاني" ومن الغريب إني عدت إلى النجف في إحدى ليالي الجمع، وزارني صديقي -إذ ذاك- عبد الرزاق محي الدين، وكان قد عاد بمناسبة العطلة من مصر التي كان فيها طالباً بكلية العلوم المصرية. وأخذت أقرأ عليه من محاضرات الدكتور، فكان عبد الرزاق يسبقني كأنه يقفي أبياتا شعرية، وعجبت فقال: "لا تعجب. إنها بلا زيادة ولا نقصان محاضرات أستاذنا إبراهيم عطية الإبراشي!].
هذا أول يوم، والحكم للمستقبل الكشاف.


الوحدة العربية والصهيونية، والقومية والدين الإسلامي
وفقاً لقاعدة –الشيء بالشيء يذكر- تطرق أستاذ علم الاجتماع في كل محاضراته إلى مسألة فكرة –الوحدة العربية- وعوامل تهاون الدول العربية في أمر تحقيقها.
نهض شاب –يهودي- فوجه إلى الأستاذ هذا السؤال:
- متى، وأين، ولماذا وجدت فكرة الوحدة العربية؟
وفار دم شاب –عربي مسلم- من الموصل، فأهوى بكتاب كان يمسكه بكلتا يديه على رأس اليهودي، وصاح:
- وُجدتْ، يوم وجدت الصهيونية يا ابن الكلب!
ووجد الطلبة منفذاً يفرون بسببه من الدرس. فثاروا وهجموا على اليهودي، الذي أسرع بقفزة خفيفة إلى منصة الخطابة. حيث يقف الأستاذ المحاضر، وبهياج شديد تبعه كثير من الطلبة ليفتكوا به. فاستنجد الأستاذ بمدير الدورة، وبقية الأساتذة. ولم ينج اليهودي إلا بشق الأنفس، ونعب الأساتذة، وتهدئةٍ من وعظ أستاذ درس الدين!
حقاً إن أهم باعث لهذه الفورة، كان تحمس الأستاذ المحاضر، وأستاذ درس الدين، الذي ألقى علينا أمس محاضرة عن عالمية الدين الإسلامي. والذي بعد أن ذكر إنسانية الدين الإسلامي في مساواته بين المسلمين في الحقوق، إلا أنه استدرك فذكر: أن الدين الإسلامي لم ينس قوميته. فأحاطها بشيء من المنعة، وخصها بالكرامة. فأوجب الصلاة باللسان العربي الفصيح، ومنع أن يأتم الناس وراء إمام في لسانه لكنة أعجمية، أو يتلى القرآن بلغة غير عربية.
وخص الرسول العربي العرب بأحاديث يفضلهم على غيرهم. مثل قوله (ص) "إذا ذل العرب ذل الإسلام".، وقوله "الإنسان أشرف المخلوقات، والعرب أشرف الناس، وقريش أشرف العرب، وبنو هاشم أشرف قريش، وأنا أشرف بني هاشم"
وتقدم أحد الطلبة، فوجه سؤالاً إلى أستاذ الدين، على سبيل الفكاهة ظاهراً، وشجب النعرات الدينية في واقع الأمر، وكان خبيثاً ولبقاً، فقد صاغ سؤاله بأسلوب البسيط المستفهم:
- ألا تفيدنا يا أستاذ. ما سبب تعدد الديانات؟ ثم إذا كانت الديانات جميعا سماوية، ومن الله، فما سر التناقض فيما بينها؟ وإذا كان للإنسان حق التأمل، واختيار ما يرجحه عقله، فلم إذن تطاحن رجال الأديان، والتبشير والوعيد والتهديد؟
تنحنح الأستاذ، وقال:
- أسمع بني. أن حياة الإنسانية في مراحل تطورها، تشبه كثيراً مراحل حياة الفرد، وليد، رضيع، فطيم، صبي، ...الخ. يوكل أمره أولاً إلى مرضعته، تغذيه باللبن، وتعني بملبسه، ونومه ونظافته، لا يعي من أمره شيئا ولا يدرك ما حوله. وتناغيه الأم ولا يفهم ما تقول. ولا يقوى على ترديد ما تقول. ولا تحاسبه هي على ما يبدر منه، ويقع من أذى وأقذار. حتى إذا اشتد عظمه، ونمى لحمه، دُفع إلى المؤدب يلقنه مبادئ القراءة والكتابة، ويطبعه على الأخلاق، ويرشده إلى السلوك الحسن. وهكذا فهو يتنقل من مدرسة أولية إلى ابتدائية إلى متوسطة، إلى إعدادية، إلى جامعة. إن اجتازها جاز له الاجتهاد، وحق له على نفسه الاعتماد بما وصل إليه من علم. لهذا ولمثله تعددت الديانات. فكل ديانة هي وليدة مرحلة مر بها الإنسان، ينتهي أمرها حين أنتقل الإنسان إلى مرحلة جديدة، حصل فيها على تجارب وأفكار تختلف عن تجارب وأفكار أسلافه. كل ديانة مدرسة، لها منهاجها الذي درسته البشرية. وآخر هذه المدارس، هي الجامعة التي وضع منهاجها خاتم الأنبياء –النبي العربي- محمد. والتي سمح لمن وعاها حق الاجتهاد. ولا مدرسة بعد الجامعة. ولذا قال (ع) "لا نبي بعدي" [هذه كانت كلمة الأستاذ حرفيا كما ذكرت].
ضحك الطالب الخبيث، وقال:
- إني مؤمن بما تقول يا أستاذ. ولذا قررت أدخل مختبر الحياة فلن آخذ إلا بما يصمد لدى التحليل، ويثبت أمام البرهان، ورحم الله الإنسانية قبلنا، وقد اجتازت مراحل تلك الدراسة، فآمنت بآلهة متعددة، ثم انتهت فاختزلت، حسب ما أوحت إليها مداركها وأثبتت لها تجاربها، تلك الآلهة. فإذا به واحد، لا شريك له، يحي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. ولعل البشرية، كما أنها كانت لا تعلم عن خالقها شيئا، ستغزو يوماً بالعلم ملكوت السماء باحثة عن إلهها الواحد القدير القهار الذي يعلم خافية الأنفس.
بدا على الأستاذ وهو ضرير، سورة من الألم والانفعال، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة غيظ، وأراد أن يقول شيئا، فدق الجرس، وأنقذنا من شر ذلك الجدل العقيم.

يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معلم في القرية /4
- معلم في القرية /3
- الحل ليس بإعادة الانتخابات في العراق!؟
- معلم في القرية /2
- معلم في القرية/1
- نداء لتشكيل برلمان ظل عراقي
- وعي المواطن!؟
- تصحيح بعض المعلومات في مقالة الأستاذ فائز الحيدر (اتحاد الطل ...
- استغلال المناصب الحكومية للدعاية!
- تكتل جديد (تجمع الشعب لمحاربة المفسدين والامتيازات)!
- أشتات /2
- هل حقاً من رفع شعار (بناء دولة القانون) يقف ضد مسائلة وزيره! ...
- مبروك جوازاتكم الدبلوماسية! إنجاز كله شهامة وغيرة وشعور بالم ...
- أشتات/1
- من تراث الراحل علي محمد الشبيبي/ في زحمة الخطوب 8
- كيف تلقى والدي خبر حكم الإعدام بشقيقه حسين الشبيبي (صارم)
- من تراث الراحل علي محمد الشبيبي/ في زحمة الخطوب 7
- من تراث الراحل علي محمد الشبيبي/ في زحمة الخطوب 6
- من تراث الراحل علي محمد الشبيبي/ في زحمة الخطوب 5
- من تراث الراحل علي محمد الشبيبي/ في زحمة الخطوب 4


المزيد.....




- ماذا قال الحوثيون عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجام ...
- شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول ...
- الجيش الأميركي بدأ المهمة.. حقائق عن الرصيف البحري بنظام -جل ...
- فترة غريبة في السياسة الأميركية
- مسؤول أميركي: واشنطن ستعلن عن شراء أسلحة بقيمة 6 مليارات دول ...
- حرب غزة.. احتجاجات في عدد من الجامعات الأميركية
- واشنطن تنتقد تراجع الحريات في العراق
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- جامعة جنوب كاليفورنيا تلغي حفل التخرج بعد احتجاجات مناهضة لح ...
- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - معلم في القرية /5