أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - معن ذياب الطائي - نقد ثقافي















المزيد.....


نقد ثقافي


معن ذياب الطائي

الحوار المتمدن-العدد: 3007 - 2010 / 5 / 17 - 19:04
المحور: الادب والفن
    



عندما يصدر عن ناقد او باحث ما خطاء فادح في عرضه لنظرية نقدية ذات مرجعية معرفية غربية، وعندما يقع هذا الخطاء في أحد اشهر كتبه و أكثرها تداولا في الساحة النقدية و الثقافية العربية، و يمضي على نشر الكتاب خمسة و عشرون عاما دون أن يعود هذا الناقد أو الباحث الى تصحيح الخطاء الفادح أو أن يشير اليه أي من النقاد المختصين الفاعلين على الساحة النقدية و الثقافية العربية، لابد أن يثير ذلك الدهشة ويثير كذلك تساؤلات حول مدى جدية هؤلاء النقاد و طبيعة مايدور خلف كواليس المسرح الثقافي العربي. خصوصا و أن معظمهم لا يتأخرون في الإنقضاض على مثل ذلك الخطاء التحريفي لو كان قد صدر عن باحث عربي شاب لايحمل من اللألقاب ما يشفع له.
يعد عبد الله الغذامي من أشهر النقاد والمثقفين العرب في الوقت الحاضر. و منذ نشر كتابه "الخطيئة و التكفير: من البنوية الى التشريحية" عام 1985 نجح الغذامي في فرض نفسه على الساحة الثقافية العربية كناقد يعمد الى الإختلاف و المغايرة فيما يطرحه من أفكار و مدافع عنيد عن قيم الحداثة في الأدب و النقد و الثقافة و الحياة العامة. وقد حصل الغذامي على درجة الدكتوراه في النظرية النقدية من جامعة إكستر في بريطانيا عام 1978 و عمل أستاذا لمادة النقد الأدبي في جامعة الملك عبد العزيز حتى عام 1988، ثم أنتقل الى جامعة الملك سعود في الرياض ليشغل منصب أستاذ في النقد و النظرية النقدية. كما ساهم مساهمة بارزة في نشاطات النادي الأدبي الثقافي في جدة حيث عمل نائبا لرئيسه منذ عام 1980 ولمدة إثنتي عشرة سنة متتالية. والغذامي هو أحد رواد حركة الحداثة في المملكة العربية السعودية و الخليج العربي وقد أصبح صاحب مشروع نقدي و ثقافي روج له من خلال ما يقارب العشرين كتابا و العديد من المحاضرات و الندوات و المؤتمرات العربية و الدولية، وحاز على عدد من الجوائز العربية المرموقة في مجال النقد و النقد الثقافي. كتب الغذامي في مواضيع متنوعة مثل النقد و النقد الثقافي و المرأة و الجسد و اللغة و الهوية. وكتبت حوله العديد من الدراسات، وقد جمع بعضها في كتابين هما " قراءة في مشروع الغذامي النقدي" لمجموعة من الباحثين 2002 ، و " عبد الله الغذامي و الممارسة النقدية و الثقافية" 2003 لمجموعة من الباحثين أيضا، و " جدل الجمالي و الفكري- قراءة في نظرية الانساق المضمرة عند الغذامي" لمحمد بن لافي اللويش 2010 .
الغرض من هذا الإستعراض المطول قليلا لسيرة الغذامي النقدية و الثقافية هو البحث في مشروعية السؤال المتعلق بمكانة الناقد العربي، على وجه الخصوص، و الحصانة المكتبسة أو الممنوحة له من قبل المؤسسات الأكاديمية و الثقافية و الإعلامية والتي تجعل من شخصه رمزا لايجوز المساس به ولو بالتلميح و من فكره حصنا نقديا و ثقافيا يستطيع المتلقي النظر إليه عن بعد دون أن يجروء على الإقتراب منه أو التشكيك في أساسه النظري و النقدي. لايستطيع أحد أن ينكر أهمية ما أنجزه الغذامي من نقد و فكر و ثقافة على مدى أعوام طويلة، رغم أن مكانته جاءت في الأساس من كونه قام بنقل النظريات النقدية و الثقافية الحديثة نسبيا من موطنها الثقافي الأصلي في بريطانيا و أمريكا الى الثقافة العربية في وقت مبكر و بطريقة إستعراضية شيقة. وهو الدور الذي قام ويقوم به معظم النقاد العرب البارزين منذ العشرينيات من القرن الماضي.
يتميز عبد الله الغذامي عن غيره من النقاد العرب، الذين أشتغلوا على نقل النظرية النقدية الحديثة الى الثقافة العربية و عمدوا الى ترجمة أهم مدارسها و تياراتها و إستعراضها للمتلقي العربي، في حساسيته العالية لمتطلبات السوق الثقافي العربي و متغيراته وقدرته الفائقة على تسويق الأفكار التي يطرحها و الترويج لها. فنادرا ما مر نشر كتاب للغذامي دون أن يثير من الجدل و النقاش و السجال الكثير. فهو يقدم و يستعرض نفس النظريات و المدارس النقدية التي تناولها نقاد عرب آخرون مثل كمال أبو ديب و عبد السلام المسدي وصلاح فضل، ولكنه يعمد الى تناول أسماء إبداعية بارزة و راسخة في المخيلة الأدبية العربية في الجانب التطبيقي من دراسته ليشكك في القيمة الجمالية و الأبداعية لمنجزهم و من ثم في موضوعية الذائقة الأدبية و الجمالية للثقافة العربية. و بعد مقدمة إعتذارية و تبريرية للباحث محمد أحمد البنكي يؤكد فيها بشكل لايقبل الشك بأنه لايقصد الإساءة للدكتور الغذامي بأي طريقة او وسيلة قد تفهم ضمنا من ثنايا بحثه عنه و الموسوم " قراءة في نموذج للتسويق الثقافي... الغذامي بوصفه مسوقا" و المنشور في كتاب " عبد الله الغذامي و الممارسة النقدية و الثقافية"، يشير البنكي الى مجموعة من المواصفات التي تميز الغذامي عن غيره من النقاد و الباحثين وتتلخص تلك المواصفات في " القدرة على التبشير الحماسي بأفكاره، و الموهبة في إصطناع الإثارة، و النجاح في إغراء الآخرين بالسجال حول كتاباته، و إستثمار لغة و نغمة المرحلة في طرح مايريد"1 . ويضع البنكي تلك المواصفات كقيمة مضافة الى مواهب الغذامي وقدراته النقدية المتميزة. فالغذامي، و حسب تعليق البنكي، يعمد الى التبشير الحماسي و إصطناع الإثارة و الإغراء بالسجال و إستثمار نغمة المرحلة في طرح مايريد. وتلك المواصفات لاتعد حقا إنتقاصا من شمولية و عمق و قوة الفكر النقدي عند الناقد، ولكن إذا ما أضيفت إليها سرعة التنقل بين المدارس النقدية والإنزلاق المستمر من موقف الى آخر حسب متطلبات السوق الثقافي العربي مع التضحية بالدقة و الرصانة العلمية التي تتطلبها العملية النقدية و البحثية، قد تصبح لتلك المواصفات قيمة سلبية. لقد قضى بعض النقاد سنوات طويلة في التقديم و التأسيس لمدرسة نقدية محددة، عمدوا خلالها الى محاولة إستيفاء جوانها النظرية و تطبيقها على نماذج من الأدب العربي القديم و المعاصر. ولعل أسماء مثل طه حسين و محمد مندور و محمود امين العالم و كمال أبو ديب و عبد الله إبراهيم ويمنى العيد خير مثالا على ذلك. يرى علي الدميني إننا مع الغذامي " ما نلبث بعد إستمتاعنا بدفعه الى الموقع الذي نمطناه له أن نراه و قد إنزلق من بين الأصابع وبرز لنا في مكان آخر"2 . ويظهر واضحا من الإقتباس نبرة التقدير و الإعجاب بقدرة الغذامي على " الإنزلاق من بين الأصابع" و الظهور "في مكان آخر"، وكأن عدم القدرة على التنميط هي قيمة أخرى مضافة الى قدرات الغذامي المتميزة. وفي نفس البحث يشير البنكي الى قدرة الغذامي على الإستجابة الى " قوانين اللعبة التسويقية" و مهارته " في إدارة طلبات هذه الفئات ( المثقفين) إنما تتوجه بإتجاه التأثير على مستوى و توقيت و مكونات الطلب سعيا وراء إعادة تصميم المنتج المعرفي الجاد و تقديمه ضمن إطر و قوالب و مغلفات تتناسب مع وتائر الإعلام الجماهيري المهيمين"3 . أصبح المثقف مطالبا الان، حسب كلمات البنكي، بإرضاء متطلبات الإعلام الجماهيري المهيمين أكثر مما هو معني بالإرتقاء بالمستوى المعرفي و النظري عند جمهور المتلقين و بالذائقة الجمالية و الإبداعية و كسر النمط المهيمن من أدب التسويق و الإعلام الجماهيري بطريقة تجعل الناقد و الباحث يفرض أنماط الثقافة الجادة بدلا من أن يرضخ هو لمتطلبات " الإعلام الجماهيري المهيمين".
ولعل هذا السعي وراء إرضاء متطلبات الإعلام الجماهيري و الرضوخ لقوانين اللعبة التسويقية هو ماجعل الغذامي يتغاضى عن مراجعة نتاجه النقدي و طريقة تقديمه لبعض النظريات النقدية البارزة و التي تسيدت المشهد النقدي و الثقافي العالمي منذ السبعينيات من القرن الماضي. و من هذه النظريات البارزة التي قام الغذامي بتقديمها الى المتلقي العربي في كتابه الأول " الخطيئة و التكفير: من البينوية الى التشريحية" مايعرف (بالتفكيكية)، والتي ترجمها الغذامي الى العربية (بالتشريحية). و لايعد الأمر مجرد إختلاف على تسمية المصطلح فقط، فقد قام الغذامي بإنزياح معرفي غير جمالي أخرج من خلاله ( التفكيكية) من إطارها النظري و الفكري العام و الخاص ليعرضها و كأنها مدرسة نقدية مختلفة تماما و مغايرة لاتمت الى مقولات كبار ممثليها و نقادها بأية صلة. ومن اللافت للنظر إن معظم النقاد و الباحثين العرب المختصين و غير المختصين لم ينتبهوا الى ذلك الخلط الواضح ولم يشيروا إليه، ولعل من أبرزهم الدكتورعبد الله إبراهيم في كتابه " الثقافة العربية و المرجعيات المستعارة" 2004، و مجموعة الباحثين الذين ساهموا في تحرير الكتابين الذين سبقت الإشارة إليهما، عن الممارسة النقدية و الثقافية للغذامي. ومن الجدير بالذكر إن معظم الذين يتعرضون للمنجز النقدي للغذامي يفعلون ذلك بالكثير من الحذر و الكثير من عبارات الإعتذار عن أي أثر للإنتقاص من هذا المنجز قد يفهم من كتاباتهم. نقراء في كتاب د. إبراهيم " يقول المعجم العربي: طارحه الحديث: حاوره وبادله الرأي. و لاتحمل مطارحتنا لآراء الغذامي بعدا غير ذلك، و لا ننظر بغير عين التقدير الى هذا الجهد الطيب الذي نشاركه في مجمله.... لا يماري أحد ممن يعمل بجد في حقل النقد في النظر الى جهده المثمر (الغذامي) بنوع من الإعجاب"4 . و الغريب في الأمر إن عبد الله إبراهيم يهاجم الجهد النقدي و المعرفي لطه حسين و يأخذ عليه مايمتدح الغذامي من أجله في نفس الكتاب. فطه حسين مثله مثل الغذامي من منظور محدد، فهما قد أخذا عن الثقافة الغربية المعاصرة لهما، كل في وقته و زمانه، تيارا من التيارات النقدية المعروفه و قاما بقراءة الأدب العربي القديم و الحديث وفق الأنساق النظرية و المعيارية لذلك التيار، وخلصا الى النتيجة ذاتها، من أن الشعر العربي الجاهلي (عند طه حسين) و العباسي و الحديث ( عند الغذامي) محكوم بدونية جمالية و ثقافية و مشكوك في أصالته ( طه حسين) و دوره الثقافي في الذاكرة الجمعية (الغذامي). وبينما يرى د. إبراهيم أن ذلك الرأي النقدي و الرؤية الثقافية عند طه حسين هي إنعكاس لإزدواجية خطيرة و شعور بالضآلة أمام الآخر الغربي المتفوق في معارفه النقدية و ثقافته الواسعة5 ، يمتدح الغذامي بحماسة و يشيد بقدرته على مواكبة التطورات الفكرية و الأدبية. ويعد الناقد محمد عزام في كتابه " تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية" 2003، من الإستثناءات القليلة و التي تكاد تؤكد القاعدة و لا تنفيها.
في " الخطيئة و التكفير" يترجم الغذامي مصطلح Deconstructive Criticism)) "بالتشريحية". فهو يقول في هامش ص 48 من الكتاب " تحيرت في تعريب هذا المصطلح ولم أر احدا من العرب تعرض له من قبل ( على حد إطلاعي) و فكرت له بكلمات مثل ( النقض- الفك) ولكن وجدتهما يحملان دلالات سلبية تسيء الى الفكرة. ثم فكرت بإستخدام كلمة ( التحليلية) مصدر ( حل) أي نقض ولكنني خشيت أن تلتبس مع ( حلل) أي درس بتفصيل، و إستقر رأيي أخيرا على كلمة ( التشريحية أو تشريح النص). و المقصود بهذا الإتجاه هو تفكيك النص من اجل إعادة بنائه وهذه وسيلة تفتح المجال للإبداع القرآئي كي يتفاعل مع النص"6 . من هذا الإقتباس الطويل نسبيا يتضح لنا الخلط الذي وقع فيه الغذامي في فهمه (للتفكيكية) و ترجمته لها (بالتشريحية) و وضعها على غلاف كتابه كجزء من العنوان الدال على الكتاب. لا يستطيع أحد أن يأخذ على الغذامي إجتهاده في اجتراح مصطلحا مقابلا بالعربية لمصطلح Deconstruction Criticism)). و بالأخذ بعين الإعتبار المرحلة التأريخية المبكرة لإشتغال الغذامي على هذا التيار النقدي المعاصر، إذ يشير هو في الهامش أعلاه " ولم أر أحدا من العرب تعرض له من قبل"، يمكننا أن نقدر الجهد العلمي المبذول حينها. ولكن ما يؤحذ على الغذامي هو سوء الفهم الكبير الذي وقع فيه وعدم إلمامه بالدلالات و الأبعاد المعرفية و النظرية والنقدية للتيار النقدي الذي عكف على دراسته و ضمه الى كتابه كجزء من منجزه النقدي الذي اظهره "للإعلام الجماهيري المهيمين" حينها. ويؤخذ عليه كذلك عدم مراجعته لذلك الخطاء و تصحيحة بعد كل تلك الفترة الطويلة و بعد أن شاع التداول بذلك المصطلح في مجالات النقد و الثقافة و الأدب العربي منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي. ومن الجدير بالملاحظة أن الغذامي وفي نفس الكتاب عمد الى إستخدام مفردة ( النقض) و ليس التشريح في معرض حديثه عن رائد هذا التيار جاك دريدا. يقول الغذامي " حيث حاول (دريدا) نقض الفكر الغربي منذ أيام إفلاطون و أرسطو حتى هيدجر و ليفي شتراوس و كذلك سوسير و أتهم ذلك الفكر الفلسفي بما سماه ( التمركز المنطقي- Logocentrec)"7 . غير أنه، مرة ثانية، يظهر سوء فهمه و خطاء تصوره النقدي و المعرفي لمفهوم ( التفكيكية) في مكان آخر من الكتاب ، " و التشريحية تعتمد على بلاغيات النص لتنفذ منها الى منطقياته فتنقضها، وبذا يقضي القاريء على (التمركز المنطقي) في النص كما هو هدف دريدا. و لكن الغرض الأخير ليس هو الهدم، ولكنه إعادة البناء"8 .
و من الواضح الآن بالنسبة الى القاريء المعاصر الإنحراف الكبير الذي تعرضت له ( التفكيكية) على يد الغذامي. حيث يؤكد الغذامي في اكثر من مكان في كتابه " الخطيئة و التكفير" على أن ( التشريحية) هي ممارسة نقدية تشتغل على بلاغيات النص للكشف عن الدلالة الكامنة خلف سطح المعنى الظاهري عبر نقض منطقيات النص، ثم تقوم بإعادة البناء تأسيسا على الفهم الجديد للمعنى المضمر و الغائب في النص. فهو يظن بأن التفكيك هنا هو من أجل إعادة البناء. لقد تجاهل الغذامي كل تأكيدات رواد التفكيكية مثل جاك دريدا و بول دي مان و ميللر و رورتي و جونثان كلر على أن القراءة التقويضية أو التفكيكية لا تبحث عن معنى قار و مخبوء في النص ولا تسعى الى إعادة البناء بإي حال من الأحوال. إذ أن أهم ما جاءت به هذه المدرسة النقدية هو فكرة المعنى المرجاء الى مالانهاية في النص و الذي لايمكن القبض عليه و تحديده، وفكرة اللاتمركز المطلق و التي تقوض أي مسعى لأعادة البناء. ولم يعد خافيا على المتلقي العربي المعني بالنقد و الثقافة أن (التفكيكية) ظهرت كإتجاه متطرف للفلسفات الفينومينولوجية الهرمينوطيقية الغربية، و كقراءة قصوى من داخل العقل الفلسفي الفرنسي للمنجز الفلسفي الضخم للفلسفة الفنومينولوجية الألمانية. وقد جاء جهد دريدا على طرف نقيض من الجهد الفلسفي الكبير للفيلسوف غدامير، تلميذ هيدجر. ثم انتقلت ( التفكيكية) الى عوالم الأبداع الأدبي من خلال إشتغالها على النصوص الأدبية من خلال جهود جماعة مجلة (تل كل).
الفكر (التفكيكي) " ينطلق من مقولتي " تفكيك المعنى" و " المعنى المرجاء" لكي يخلص الى أن المعنى الحقيقي للنص هو " لامعناه" أو هو "فراغه" من المعنى"9 . فلا يوجد ما نقوم نتشريح النص من اجله، و لايوجد دلالات مكتشفة نقوم بالبناء على أساسها و حسب نسقها المضمر في النص في القراءة ( التفكيكية). إن عملية البناء تستدعي الإلتزام بمنهج محدد يساعد الباحث على تشريح النص وفق آلية نقدية معينة للكشف عن البنى المخفية فيه. ويذهب الباحث البارز جان غرندان في كتابه " المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا" إلى إننا " يمكننا القول بأن التفكيك ليس منهجا او عملية ما تسمح بإخراج " البنى" المخفية إلى العلن، بما يسمح بإعادة نشر منطق الأنوار"10. ولعل دريدا نفسه كان قد حذر في العديد من المناسبات من سوء الفهم و الخلط المعرفي في تصور النقاد و الفلاسفة و الباحثين لماهي عليه ( التفكيكية). إذ أنه يرفض أن يضع تعريفا واضحا لها ويرفض كذلك وصفها على إنها منهجا أو نمطا من أنماط التحليل النقدي. ففي رساله له أرسلها الى صديق ياباني يشرح له ماهي ( التفكيكية) يؤكد دريدا على أن " التفكيك، بأية حال، ورغم المظاهر، ليس تحليلا analyse و لانقدا criticism وعلى الترجمة أن تأخذ هذا بنظر الإعتبار أيضا. ليس تحليلا، و ذلك، بخاصة، لأن تفكيك عناصر بنية لايعني الرجوع إلى العنصر البسيط، إلى أصل غير قابل لأي حل. فهذه القيمة، و معها قيمة التحليل نفسها بالذات، هي عناصر فلسفات خاضعة للتفكيك"11.
إن وصف ( التفكيكية) بالتشريحية و الزعم بأن هدفها النهائي هو إعادة البناء لايمكن وصفه إلا بكونه خطاء فادح وقع فيه ناقد بارز مثل الغذامي، ولم يكلف نفسه عناء العودة الى كتابه المذكور ليصحح ذلك الخطاء و يعتذر للقراء المعنيين عن سوء الفهم الكبير والذي قد يستمر باحثون شباب في الأخذ به على إعتبار أن مايقوله أكاديمي كبير و ناقد متميز مثل الغذامي يعتبر حجة و مرجعا لا يرقى إليه الشك. ولكنه فضل على ذلك التنقل السريع و الإنزلاق من مدرسة نقدية الى أخرى ثقافية و ثقافية شعبية وذلك حسب إشتراطات اللعبة التسويقية. لقد حول الغذامي ( التفكيكية) الى النقيض تماما مما هي عليه، فأصبحت في كتابه منهجا تشريحيا يسعى إلى البناء و التمركز، بدلا من ممارسة حرة تتمرد على جميع القواعد القسرية و الاحكام القهرية وعلى كل تعريف يقدمها على أنها مجرد " قالب فكري أو نسق لغوي أو قاموس معرفي"12 .
ولعل الناقد العربي الوحيد الذي أشار الى ذلك الخطاء الكبير الذي وقع فيه الغذامي هو الناقد محمد عزام. حيث ذكر بعد إستعراضه النقدي لكتاب " الخطيئة و التكفير" إلى" أنه عندما استقى (الغذامي) من بارت، وليتش، وياكوبسون، وديريدا، وتودوروف، فإنه جمع بين ثلاثة مناهج نقدية كانت الحدود بينها غائمة في ذهنه، لأنها ما تزال في بداياتها، ولكنها ـ بعد ذلك ـ انفصلت، واستقل كل منهج منها بمصطلحاته ومفهوماته وروّاده، مما يجعل "تلفيقيته" مشروعة آنذاك، ولكنها مرفوضة من بعد"13 . غير إن عزام لم يوضح او يشرح لماذا أعتبر دراسة الغذامي "تلفيقية" و لا أكد على توضيح المسافة الكبيرة بين تصور الغذامي( للتشريحية) و ما هي عليه المقولات الرئيسة " للتفكيكية" كما فعلنا هنا.
إن القضية التي تم التعرض لها هنا لا تكتسب أهميتها من مجرد شهرة و مركز الناقد الذي تتناوله فقط، بل من كونها مؤشرا على حالة غير صحية و غير علمية تسود الوسط النقدي و الثقافي العربي، وهي تغليب العلاقات الشخصية على الموضوعية العلمية و تحويل الناقد و الباحث من إنسان مفكر قد يخطيء و قد يصيب فيما يذهب إليه من أرآء و أفكار، إلى رمز ثقافي يصبح فوق كل مساءلة و لايجوز المساس به و بكتاباته أبدا. لقد تعرض المفكر و الباحث جورج طرابيشي للجهد الفكري و الفلسفي للمفكر البارز محمد عابد الجابري، فإغتنت المكتبة العربية و الساحة الثقافية، بالإضافة الى كتب الجابري، بكتب طرابيشي السجالية المتميزة. غير أن نتاج الغذامي النقدي و النقدي الثقافي بقي بعيدا عن النقد و المساءلة بطريقة ملفتة تجعلنا نتساءل لماذا يخشى النقاد من الغذامي؟



#معن_ذياب_الطائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذات والممارسة السدية


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - معن ذياب الطائي - نقد ثقافي