أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - بَرَاقشُ .. الأَفريقيَّة!















المزيد.....



بَرَاقشُ .. الأَفريقيَّة!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 2925 - 2010 / 2 / 23 - 10:31
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 15-21 فبراير 2010
الاثنين
حين أطلق سراح نلسون مانديلا، في الحادي عشر من فبراير عام 1990م، بعد سبع وعشرين سنة من الصمود الأسطوري بين جدران الزنزانة رقم (46664)، بسجن روبن آيلاند بجنوب أفريقيا، كنا مجموعة معتقلين سياسيين نقضي فترة اعتقال متطاولة بسجن بورسودان العمومي، فتلقفنا الخبر، من جهاز تلفاز عتيق كان وسيلتنا الوحيدة للتواصل مع العالم (الحارجي!)، كأننا نتلقف خبر إطلاق سراحنا نحن أنفسنا، و .. حقاً "لا يعرف (السّجن) إلا من يكابده"!
وُلد مانديلا بترانسكاي بجنوب أفريقيا، في 18/7/1918م. وفي 1930م التحق بمدرسة داخليَّة لتلقي تعليمه العام، قبل أن يبدأ في التحضير للبكالوريوس من جامعة (فورت هار). لكنه ما لبث أن فصل، مع رفيقه أوليفر تامبو، عام 1940م، لاشتراكهما في إضراب طلابي، فاضطرَّ لمواصلة دراسته بالمراسلة، حتى تأهَّل للالتحاق بكليَّة القانون بجامعة (ويتواتر ساند).
في الرَّابعة والعشرين التحق مانديلا بـ (المؤتمر الوطني الأفريقي ANC)، الذي كان يناضل، وقتها، ضد سياسات (الفصل العنصري)، خصوصاً بعد صعود الحزب القومي إلى سدة الحكم، مع خواتيم أربعينات القرن المنصرم، والذي تشدَّد في منع السُّود من المشاركة في الحياة السّياسيَّة، وحرمانهم من إدارة شئون بلادهم، وتجريدهم من ممتلكاتهم، وتهجيرهم من مقاطعاتهم، وانتهاك قيمهم ومقدَّساتهم القبليَّة!
كان المؤتمر يدعو، أوَّل أمره، للمقاومة السّلميَّة. لكنه، بعد حظر الحركات المناهضة للعنصريَّة، في عقابيل حادثة إطلاق النار المشهورة على المتظاهرين عام 1960م، اعتمد المقاومة المسلحة، فأصبح مانديلا، في 1961م، قائداً لجناحه العسكري. وفي أغسطس 1962م حوكم بالسّجن خمس سنوات بتهمة السَّفر غير القانوني، والتدبير لإضراب. ثمَّ حوكم، في 1964م، بالسّجن مدى الحياة بتهمة التخطيط لعمل مسلح. ومن ذلك الحين أضحت المطالبة بإطلاق سراحه بنداً ثابتاً في جدول أعمال الحركة العالميَّة المناضلة من أجل السَّلام والتحرُّر والديموقراطيَّة، وأصبح هو رمزاً ملهماً للصُّمود والبسالة والتضحية، لا بالنسبة لشعبه، فحسب، وإنما بالنسبة لكلّ الشُّعوب المكافحة ضد الاستعمار والقهر، ولمحبي الحريَّة والعدل كافة!
ويوم إطلاق سراحه ذاك حيَّيته بقصيدة أسميتها (بهاء)، أقول فيها:
[سبعٌ وعشرونَ سنةْ
قطرةً
قطرةً
تحلَّبَتْ،
من ضِرعِ أفريقيا،
على
ملايينِ الشّفاهِ
السَّاكِنةْ!

سبعٌ وعشرونَ سنةْ!

تفتحُ الكواكِبُ
أكمامَها،
في المجرَّاتِ،
كلَّ يومٍ،
ثمَّ تختفي،
ساحِبةً ظلالها الخريفيَّةَ،
كالمجاريفِ،
فوقَ
جبينِك
المديدْ،
والخناجِرُ ،
تحتَ المعاطفِ
والقُبُّعاتِ،
تسطعُ،
لحظةً
منْ
بعدِ
لحظةٍ،
لتنطفي،
وأنتَ،
وحدُكَ أنتَ،
نشعُ القرنفلِ في ..
رئةِ
المدارِ
البعيدْ!

سبعٌ وعشرونَ سنةْ !

فلا الغيومُ
عَتَّمَتْ بهاءَكَ،
يا سيِّدَ
البهاءِ،
في احتقاناتِها الآسِنةْ،
ولا الخناجرُ،
مَرَّةً،
حَزَّتْ ..
معابرَ الشُّهداءِ فيكَ،
من
الوريدِ
إلى
الوريدْ!

سبعٌ وعشرونَ سنةْ!

منذُ الملوك في ..
أقمِطةِ
الطفولةْ،
والجَّنَرالات العُتاةُ،
بعدُ،
في الأسِرَّةِ
المُبَلَّلََةْ،
يوعدونَ بالإماءِ
ـ قبلَ عُتوِّهِم ـ
وبالعبيدِ،
وبالممالكِ المُزَلَّلَةْ،
حينذاكَ كانت البطولةْ،
تقرعُ ،
وحدها،
دونَ
مارشٍ
عسكريّ
ولا هُتافاتٍ مُجَلْجِلَةْ،
بَوَّابةَ الرُّعبِ،
في صمتِهِ
المُوحِشِ،
والزَّلْزَلةْ،
راسمةً،
بالقبضةِ
اليُمنى،
على الفضاءِ:
لا،
وناثرةً،
بالقبضةِ
اليُسرى،
رذاذَ الصحوِ ..
في
كُلِّ
العيونِ
الذَّاهِلةْ!

سبعٌ وعشرونَ سنةْ!

من قبلِ أن يصيرَ كلُّ صنمٍ
ملِكاً متوَّجاً،
وكلُّ جَنَرالٍ تميمةً من النُّحاسِ ..
والأحزمةِ
المُلوَّنةْ!

سبعٌ وعشرونَ سنةْ!

آهِ، أيَّتُها الجّباهْ،
ترفَّعي
ترفَّعي
كفى خُنوعاً راكِعاً ..
وذلَّةً
ومَسْكَنَةْ،
فكم مليكٍ،
من الشَّمعِ،
زيَّنَ الذلُّ مجدَهُ الشَّمعيَّ،
وكم إلهْ ..
شيَّدَ الركوعُ الطويلُ
عَرشَهُ
ـ من العَجْوَة ِـ
فوقَ تماوُجِ الغاباتِ
وفى مصبَّاتِ المياهْ،
وكم جيفةٍ ..
ضمَّخها الخنوعُ المُرُّ
بالعُطورِ،
حتى
تبخَّرت العُطورُ
رُوحاً
وبدنَا،
فأنْتَنَتْ،
كما في أصلِها
كانتْ
تفوحُ
نتنَا!

سبعٌ وعشرونَ سنةْ!
قطرةً
قطرةً
تحلَّبَتْ ،
على
ملايينِ الشِّفاهِ
السَّاكِنةْ]!

الثلاثاء
الأستاذ محمود السَّيّد محجوب، استشاري التخطيط بوزارة الاقتصاد الوطني بسلطنة عُمان، أخ عزيز، وصديق قديم، عرَّفني به، قبل ثلاثين سنة، أصدقاؤنا المشتركون: المرحوم الشَّاعر والمخرج المسرحي والسّينمائي علي عبد القيوم، والأستاذ سيّد عيسى المحامي، والاقتصادي د. حسن البكري، وغيرهم. لكن، مثل الكثيرين من قدامى أحبَّائنا الذين أخذتهم عنا المهاجر والمغتربات (وكله عند العرب دياسبورا)، لم أعد أسمع منه أو عنه، دهوراً، حتى فاجأني، مؤخَّراً، بمحادثة هاتفيَّة من مقرّ إقامته بمسقط. ويبدو أنه خشي أن أكون نسيته، فعَمَدَ إلى الاستعانة على ذاكرتي بصديقنا سيّد عيسى، المقيم، هو الآخر، في تلك النواحي. ورغم أن سماع صوت (أبو السّيد)، في حدّ ذاته، ممَّا يسُرُّ الأذن، ويبهج الرُّوح، في أيّ وقت، وقد كان بيننا يزوّج كريمته قبل أسابيع قلائل، إلا أن محموداً لم يكن ليحتاج إلى شئ من ذلك، فهو إنسان يصعب نسيانه، وكفى؛ وقد بعث إليَّ، منذ حين، برسالة إليكترونيَّة مطوَّلة، ظاهرها (النجوى الشخصيَّة)، لكن باطنها فيه من التناول المثقف، والطرح الفكري الجرئ للهمّ (العام)، ما يجعلها جديرة بأن تنشر، وتناقش، علناً، إذ "لا خير في كثير من نجواهم"، وفق محكم التنزيل، وهاأنذا أطرحها، بعد تحريرها، للتداول والتفاكر. يقول محمود:
[شاهدت لقاءك مع قناة النيل الأزرق في ذكرى الاستقلال، وسعدت به كثيراً، غير أني تمنيت لو كان المُحاور في اقتدار الأستاذة زينب البدوي. ولقد تعجَّبت، بل وشعرت بشئ من الغيرة، كونك لا تزال محافظا على تفاؤل السّتينات! وبالمناسبة هل السّتينات كانت على هذا القدر من الرَّوعة والعظمة، كما نعتقد ونجزم، أم هي (نوستالجيا) جيلها الذي أصبح اليوم، وعلى مستوى العالم كله، المتحكم الأوَّل في المجالات كافة، السّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة؟!
تناولت، في هذا الحوار، وبعمق معرفي تحسد عليه، جملة من قضايانا المحوريَّة، وقد كانت مرئيَّاتك حولها جليَّة وصائبة. وأكثر ما أثار انتباهي ثلاث مسائل هي:
(1) تنويهك الرائع بأن البريطانيين عَمَدوا، أثناء حكمهم للسودان، إلى تفادي خلق فئة مثقفة، مستنيرة، متشبّعة بمفاهيم الحضارة الغربيَّة في شأن قيَم الحرّيَّة والديموقراطيَّة وما إليها، تفاديا لتكرار ما أفرزته تجربتهم، على هذا الصعيد، في الهند، مثلاً، من تداعيات سلبية عليهم. وأتفق تماما مع ما ذهبت إليه، لكن معظمنا لا يزال يرى أن حكم بريطانيا للسودان كان متميّزاً، حيث ألحق بلادنا بوزارة الخارجيَّة، لا وزارة المستعمرات، فاستقدمت صفوة مخرجات القمم الأكاديميَّة البريطانيَّة، كامبردج وأكسفورد، لحكم السودان؛ وأن عدم توجُّه البريطانيين إلى خلق تلك الفئة المستنيرة لم يكن عملاً مقصوداً، بل لأن أيديهم كانت مغلولة، فالحكم كان ثنائياً، إضافة إلى أن شحَّ موارد البلاد لم يحفزهم على الاستثمار فيه، أو النهوض به.
لقد تناول المفكر حازم صاغية، في مقال بجريدة (الحياة اللندنيَّة)، بتاريخ 15/12/2009م، ظاهرة (طالبان)، والحرب في أفغانستان، فخلص إلى أن ما أسماه "نقص الاستعمار"، لا "الاستعمار"، هو العامل الأوَّل لتأزُّم أفغانستان المزمن! واستصحاباً لهذا الاستنتاج يمكننا أن نقول، أيضاً، إن تعثر نهضتنا يعود، في ما يعود، إلى أن (جرعتنا) من (الاستعمار) كانت (مخففة) جداً! وحتى لا نلقي بكلّ اللوم في ما نحن فيه من غشاوة وبداوة على المستعمر، كعادتنا، ألا ترى، أخي الكريم، بأنه كان حريَّاً باليسار أن يضطلع بدور أكبر ممَّا اضطلع به، على صعيد (تنوير) المجتمع السوداني، وحفزه على الأخذ بمفاهيم (الحداثة) وأساليبها؟! أعتقد أن ما أقعد اليسار عن القيام بهذا الدور هو (تركيزه) المبالغ فيه على (السّياسة)، و(إهماله) الجوانب الفلسفيَّة والثقافيَّة، وبالتالي (عدم تمكنه) من (التمييز) بين (الحضارة الغربيَّة) التي أتى من رحمها، و(سياسات) و(ممارسات) الدُّول (الرأسماليَّة) الكبرى، إلى جانب تبنيه لشعارات غير مدروسة وممجوجة!
(2) تمييزك، عند تناولك لـ (المهديَّة)، بين مرحلتي (الدَّعوة) و(الدَّولة)، كان إضافة حقيقيَّة تستحق عليها الثناء، كما كنت دقيقاً وموضوعيَّاً عند تحديدك للعوامل التي دفعت بالخليفة عبد الله للاستعانة بأهله لتثبيت حكمه. لكن ألا ترى، أيضاً، أننا في حاجة إلى مراجعة موضوعيَّة شاملة لـ (المهديَّة) كي نغذي عقول أبنائنا بالحقائق، لا بالأساطير؟! فمثلاً هل كان لنتاج (المهديَّة) النهائي قيمة إضافيَّة إيجابيَّة على مسار نهضتنا، أم انعكاسات سلبيَّة عليه؟!
(3) أشرت إلى أن (المبادرة) الأولى بالتصدّي للاستعمار، عقب كرري، أتت من شيوخ الخلاوي، لا من مؤتمر الخرّيجين. هذا بالطبع صحيح ومثبت. وفي اعتقادنا أن مناهضة المستعمر مهمَّة وواجبة. غير أن الأهمَّ هو (المشروع البديل) للمستعمر؛ فهل كان مشروع هؤلاء الشّيوخ هو (دولة الفونج) أم (دولة التعايشي)؟! إن (الطائفيَّة) من الأسباب الرئيسة لتعثر نهضتنا. و(الصوفيَّة)، في أبهى صورها الفكريَّة، ما هي إلا فلسفة زهد وتواكل. وبالتالي، فإنها ضدَّ الحياة والتقدم؛ وهذا ليس بقول (مستشرق) ولا قول (متغرّب)، وإنما قول العديد من علماء الإسلام المستنيرين، كأستاذنا الجليل أحمد أمين في إسلاميَّاته. وتتسم (صوفيَّتنا)، إلى جانب ذلك، بأنها (تقليديَّة مسطحة) فكريَّاً، وتؤمن بـ (الدجل والشعوذة). ومناهضة فئاتنا المثقفة لـ (الطائفيَّة) جاءت فاترة ومتقطعة. فالاتحاديون ناكفوا الطائفيَّة لفترة قصيرة، ولعوامل سياسية مؤقتة، ثمَّ عادوا إليها تائبين ومتحالفين! أما الحركة الإسلاميَّة فقد ناهضت الطائفيَّة بقوة، في مرحلة (الدعوة)، لكنها، في مرحلة (التكوين)، خضعت لها، تماماً، واندمجت فيها، بالمصاهرة، واستمالة رجال الطائفيَّة بالمال والجَّاه والسلطان، فغدت الحركة الإسلاميَّة (الطائفة القابضة)، على وزن (الشركة القابضة)، لكلّ (الطوائف الصوفيَّة)؛ فاستفحل الجَّهل، واستشرى الدَّجل والشعوذة، وغدا كتاب ود ضيف الله مرجعنا الأول والأخير!
ما العمل إذن؟! إن صمتنا الطويل والمذل قد أضاع البلد. وتكاسُلنا القبيح عن البحث الجَّاد عن السبل الكفيلة بتحقيق (نهضة) البلاد، و(تنوير) أهلنا، قد أفقدنا الأمل في النجاة من الحالة الظلاميَّة التي نعايشها اليوم. إن العمل السّياسي، وحده، غير كاف لتحقيق من نصبو إليه من (نهضة) و(تنوير)، بل إن كفاءة العمل السياسي، على هذا الصعيد، تعتمد على مدى ارتكازه على قاعدة صلبة ومتماسكة من الفكر المتقدم المستنير. وفي اعتقادي أننا، في هذه المرحلة، في أمَسّ الحاجة إلى تجميع كل فئاتنا المؤمنة بضرورة العمل على إحداث (النهضة)، ونبذ اختلافاتنا الهامشيَّة التي أضعنا فيها الكثير من الوقت والجَّهد، والتركيز على مناهضة الطائفيَّة، والأفكار الظلاميَّة، ونشر العقلانيَّة والعلمانيَّة بكل السبل. فيا مثقفي السودان اتحدوا من أجل (نهضته)! ولك كلُّ الودّ والاحترام]!
إنتهت رسالة محمود، فهل من مناقش؟

الأربعاء
درجتُ، كلما تكاثفت عليَّ، أحياناً، هموم الاشتباك مع القضايا الثقافيَّة الشائكة، أو بلغ بي الضَّجر مبلغاً يسدُّ النفس، بالمرَّةً، عن مواصلة غمس الأصابع العشرة في عصيد السّياسة اللبيك، على اللواذ بتراث الآداب الإنسانيَّة، ألتمس في حكاياته شيئاً من متعة التفكه الذكي، وسلاسة الحكمة القديمة، وبراعة التراكيب اللغويَّة الشَّائقة.
ظهر اليوم انتابتني حالة كهذي، فوجدتني أستجير، تلقائيَّاً، (ببخلاء الجَّاحظ)، حيث يحدّث أبو عثمان عن رجل بلغ في البُخل غايته، فكان إذا صار في يده الدَّرهم ناجاه قائلاً: كم من أرض قطعت! وكم من كيس فارقت! وكم من خامل رفعت! ومن رفيع أخملت! ثم يلقيه في كيسه قائلاً: أسكن على اسم الله في مكان لا تهان ولا تذلُّ فيه، ولا تزعج منه، ولم يدخل فيه درهم وخرج منه قط! وحدَث أن ألحَّ عليه أهله، مرَّة، في شهوة، وأكثروا عليه في إنفاق درهم، فدافعهم ما أمكنه ذلك. ثمَّ، إذ غلبوه، حمل درهماً واحداً فقط، وتوجَّه إلى السُّوق. لكنه رأى، في طريقه، حوَّاء (حاوياً) أرسل على نفسه أفعى لدرهم يكسبه. فقال في نفسه: أأتلف شيئاً تبذل فيه النفس بأكلة أو شربة؟! والله ما هذا إلا موعظة لي من الله! ورجع إلى أهله، وردَّ الدَّرهم إلى كيسه! وهكذا كان أهله منه في بلاء، ويتمنون موته. فلمَّا مات، وظنُّوا أنهم قد استراحوا منه، قدم ابنه، واستولى على ماله وداره. ثم سأل: ما كان طعام أبى، فإن أكثر الفساد إنما يكون في الطعام؟! قالوا: كان يأتدم بجُبنة عنده. قال: أرونيها. فإذا فيها حزٌّ كالجَّدول! فسأل: ما هذه الحفرة؟! قالوا: كان لا يقطع الجُّبنة، وإنما يمسح على ظهرها بالخبز، فيحفر كما ترى! قال: فبهذا أهلكني، وبهذا أقعدني هذا المقعد، لو علمت ما صليت عليه! قالوا: فأنت كيف تريد أن تصنع؟! قال: أضعها بعيداً، وأشير إليها بالخبز!

الخميس
جلست إلى (قناة الشروق)، مساء 13/2/2010م، أتابع خطاب المشير البشير في تدشين حملته الانتخابيَّة باستاد الهلال، حيث قال، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "نحن لا نعمل ليوم إعلان نتائج الانتخابات، وإنما ليوم الحساب"، وشدَّد على أن مسئوليَّة الحكم "في الدنيا أمانة، وفي الآخرة خزي وندامة".
أحسست بالرَّعدة تسري في أوصالي، حين خطر لي، لحظتها، أن جثة الطالب محمد عبد الله موسى بحر الدين، كانت، في نفس تلك الساعة، قابعة، ما تزال، بالمشرحة، بعد أن اختطفه (مجهولون!) من كليَّة التربية بجامعة الخرطوم، وقتلوه، بدم بارد، ثمَّ ألقوا بجثته، وعليها آثار التعذيب، في العراء، وأن الجّهات الأمنيَّة تحول دون حصول أهله على تقرير المشرحة، وأن قوَّات كبيرة من الأمن أعدَّت لتطويق موكب جنازته، بل ولفرض دفنه في مكان مخالف لرغبة أسرته!
بعدها بأيام قلائل طالعت أطرف ما يمكن للمرء أن يطالع من تعبيرات د. نافع علي نافع، نائب رئيس المؤتمر الوطني، ضمن الخطاب الذي ألقاه باستاد الدامر، في 17/2/2010م، تدشيناً للحملة الانتخابيَّة لحزبه الحاكم منذ ما يربو على العشرين سنة، إذ قال، بملء فيه: "البجرّب المجرَّب .. ندمان!" (الأحداث، 18/2/10).
هذه المنابر الانتخابيَّة المنفصلة، والتي تلقى الخطابات من فوقها كيفما اتفق، تشبه عندي، تماماً، مسابقة لإطلاق الرصاص على الهواء، فحيثما سدَّدت أصبت! فلماذا لا يُنظم منبر (مناظرة) واحد بين مرشَّحي رئاسة الجمهوريَّة، على الأقل، فيتصدُّون لمناقشة المواقف الانتخابيَّة لبعضهم البعض، بالاستناد إلى الحقائق الموثقة، والأرقام الثابتة، ومن منطلق الاحترام التامّ لعقول الناخبين، وفق الاقتراح المشترك لمدير جامعة الخرطوم وموقع صحيفة سودانايل الإليكترونيَّة، والذي أيَّده السيّد الصادق المهدي (سودانايل، 16/2/10)، بدلاً من هذه الكلمات المجَّانيَّة التي يريد أصحابها أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، ويُتهم فيها الخصوم بـ "المياعة!"، و"الخيانة الوطنيَّة!"، وترمى خطاباتهم بكونها مجرّد "كلام معسول!"، ومحض "مصبوغة!" لا تصدر إلا عن "متفسّخين!" يقودون السودان "نحو الهلاك!"، أو كما قال د. نافع في عصمائه تلك بدامر المجذوب!

الجمعة
استوقفني، خلال اليومين الماضيين تباعاً، ما اتفق لآراء الأساتذة عبد الله علي إبراهيم وهالة عبد الحليم ومحمد لطيف من أن تنعقد، بالمصادفة، ودون سابق ائتمار، قطعاً، مع الاختلاف في زوايا التسبيب، على نقد الأستاذ ياسر عرمان، المرشح لرئاسة الجمهوريَّة عن الحركة الشعبيَّة، في تركيزه الواضح، ضمن خطاب تدشينه لحملته الانتخابيَّة، على إحياء رمزيَّة القائد الوطني علي عبد اللطيف.
من جانبه عدَّ عبد الله، في عموده بـ (الأحداث) أوَّل البارحة، اختيار ياسر لمنزل البطل منصَّة انطلاق لحملته، أثراً ممَّا قال إن شماليي حركات الهامش تواضعوا عليه، تمييزاً لشاغلهم المعاصر، رغم أن رحلة الشهيد الوطنيَّة اتخذت مسارها، في رأيه، من الهامش إلى سدة المركز، بينما رحلة هؤلاء اتجهت، في خط معاكس، من سدة المركز إلى أشواق الهامش. وفي السّياق أبرز الكاتب من سيرة البطل ".. تتفيه أعيان الشمال لحركته"، بمظنة (الوضاعة) في أصله، ممَّا جعل شعور الاستفزاز لديهم، جرَّاء ما يكتنف أصله ذاك من دلالات، يغلب على إحسان التقدير لموقفه من الاستعمار، كونه، هو بالذات، وبذلك (الأصل)، قد اختار أن يختط طريقاً مضاداً لتعاونهم هم مع الإنجليز، أو مصانعتهم لهم، لا فرق. ومن هذه الزاوية أخذ عبد الله على ياسر احتفاءه بعلي عبد اللطيف النوباوي الدينكاوي، مهدراً، بالمرَّة، أو هكذا بدا للكاتب، أيَّة قيمة لمذكرته الشهيرة الموسومة بـ (مطالب الأمَّة السودانيَّة)، والتي ساقته إلى السجن، ما يعني، ضمناً، إعادة إنتاج ذات التصوُّر (الشمالي)، وإن بأسلوب مغاير (الأحداث، 17/2/10).
أما هالة فقد اتخذت، في كلمتها أمام محفل (المبادرة الشعبيَّة) الذي نظمه، مساء نفس اليوم، شباب من الجنسين، بـ (بيت الفنون) ببحري، لدعم ترشيح ياسر، نفس الموقف الناقد لتركيز مرشح الحركة على استثارة رمزيَّة القائد الوطني في الوجدان الشَّعبي، وإن اختلفت زاوية تسبيبها عن زاوية عبد الله، حيث اعتبرت الأمر، برمته، غير ذي بال في مثل هذه الحملة الانتخابيَّة، جازمة بأن هذه (الرَّمزية) غائبة، أصلاً، عن هذا الوجدان، بل وغائبة (رمزيات) أقرب منها، تاريخيَّاً، كالشفيع وعبد الخالق وجوزيف قرنق!
وأما لطيف فقد تطابق نقده مع نقد هالة، شكلاً ومضموناً، حيث قطع بالأمس، في تحليله السّياسي بهذه الصحيفة، أن ".. للانتخابات حسابات أخرى، ومنطقاً آخر، (وقد) فات على الحركة .. كمُّ السودانيين الذين يمكن أن تحرّكهم شجون التاريخ اليوم" (الأخبار، 18/2/10).
مع أكيد احترامي لثلاثتهم، إلا أن حُججهم تفتقر، في رأيي، إلى القدر الكافي من طاقة الإقناع! فعبد الله لم ينظر لعبد اللطيف إلا كـ (ممثل) أدَّى (دوراً) على خشبة مسرح (رجل واحد)، ولم يحظ من (النظارة) إلا بـ (أعيان الشماليين) الذين اصطفوا في الظلام يشاهدونه وهم يقلبون شفاههم قرفاً من (وضاعة) أصله النوباويّ ـ الدينكاويّ! وتلك، يقيناً، صورة (مخالفة)، تماماً، لـ (الحقيقة التاريخيَّة)، أو هي، في أفضل الأحوال، (مجتزأة) من هذه (الحقيقة)، فلا تعبّر إلا، بشكل شائه، عن ملمح بسيط منها. أما الجزء الأكبر منها فقائم، دون أدنى شكّ، في نضالات قادة وأعضاء جمعيَّة (اللواء الأبيض)، وفي مشهد طلاب الكليَّة، والمدرسة الحربيَّة، وصغار التجار والأفنديَّة، وسائر المواطنين في الخرطوم الكبرى، الذين ألهمتهم تلك الحركة، فانفجروا، يوم تشييع المأمور المصري عبد الخالق حسن، يردّدون الشعار الباذخ مع المناضل الحاج الشيخ عمر دفع الله: "يسقط الاستعمار"، كما وفي مشهد التمرُّد المسلح الذي انتهي بالصّدام الدَّموي غير المتكافئ بمنطقة مستشفى النهر (العيون حاليَّاً)! إن التاريخ سيظلُّ يحفظ لكلّ أولئك أنهم لم يناضلوا ضد الاستعمار، فحسب، وإنما أدَّت غالبيَّتهم العظمى تلك (الأدوار) الوطنيَّة المجيدة خلف قيادة نفس ذلك الفتى النوباويّ ـ الدينكاويّ، وهم، بعدُ، من ذات أصول (الأعيان) الذين استعظموا التسليم له بالريادة!
الشَّاهد، من ناحية، أنه، لئن كان في السودانيين (أعيان) مالئوا الاستعمار، فقد كان فيهم، أيضاً، (أهالي)، بل و(أعيان) آخرون لم يمالئوه، وإنما، على العكس من ذلك، اتخذوا موقفهم المضاد له، بإلهام (اللواء) وقيادته الماجدة، وفي موضع الرأس منها علي عبد اللطيف، وذلك، على خلاف ما ترى هالة وما يرى لطيف، هو ما حفظته الذاكرة الجمعيَّة، جيّداً، وما قرَّ، عميقاً، في الوجدان الوطني، "جيلاً بعد جيل"، وما ينبغي ألا يكفَّ السّياسيون والمثقفون الوطنيون الديموقراطيون عن روايته، والتذكير به، للأجيال الجديدة، وإشعاله في وجدانها، فلا تثريب على ياسر إن فعل، مستثمراً سانحة (حملته الانتخابيَّة) التي ليس ثمَّة ما هو أكثر ملائمة منها لذلك.
أما من ناحية أخرى، فلا بُدَّ أن عبد الله، وهو أحد أئمَّة الدّفاع عن (التنوُّع)، يتفق معنا في أنه، لئن ظلَّ (التهميش) و(الاستعلاء)، تاريخيَّاً، سواءً بالعرق، أو الجهة، أو الدين، أو الثقافة، أو اللغة، أو غير ذلك، يمثلان أخطر العقبات الكئود أمام تحقق حلمنا بتشكل شعوبنا وتكويناتنا القوميَّة المختلفة في أمَّة موحَّدة، بقوامات هويويَّة متعدّدة، متنوّعة، ومتحاورة سلميَّاً، فإن تجاوز هذين (التهميش) و(الاستعلاء)، وإحداث اختراق حقيقي بشأنهما، لا يكون بمجرَّد التلويح، "من فوق أسطح البيوت"، بشعارات هذا (التجاوز) و(الاختراق)، وإنما باتخاذ المواقف العمليَّة في المحكات العمليَّة، كلما دقت لها ساعة، أو قام لها سوق؛ فكيف بـ (مرشَّح) يعلن، صباح مساء، أنه جعل من قضيَّة (الوحدة العادلة) محوراً لحياته كلها، ثمَّ ها هو (موسم الانتخابات) أتاح له أن يدشّن (حملته)، ويرسل (خطابه)، فاختار منصَّته لإطلاق هذه (الحملة)، ومنبره لتوجيه هذا (الخطاب)، بيت علي عبد اللطيف، ليس باعتباره، فقط، (رمزاً) تاريخيَّاً ضخماً من رموز هزيمة (الاستعمار)، بصلابة (مواقفه) النضاليَّة الوطنيَّة، بل وباعتباره، أيضاً، (رمزاً) من رموز هزيمة (التهميش) و(الاستعلاء)، لا يقلُّ تاريخيَّة وضخامة، بفرادة (خصائصه) الإنسانيَّة الشخصيَّة؟! وأيَّة أهمّيَّة، بعد ذلك، لأن ينساب هذا المعني النبيل من (أشواق الهامش) إلى (سدة المركز)، أو من (سدة المركز) إلى (أشواق الهامش)؟!

السبت
بعد ظهر الخميس 20/2/2010م شهدت نيامي، عاصمة النيجر، ثالث انقلاب عسكري، بعد انقلابي 1990م و1996م، وقد قاده بعض كولونيلات الجيش من عشيرة الرئيس المخلوع محمدو تانقا، فأطاحوا بالنظام التعدُّدي، واستولوا على السلطة، إثر معارك في محيط القصر الرئاسي خلفت ثلاثة قتلى على الاقل، وعطلوا العمل بالدُّستور، وحلوا المؤسَّسات كافة، واعتقلوا رئيس الجمهوريَّة ووزراءه، وأطلقوا على عمليَّتهم، كالعادة، اسماً برَّاقاً هو (استعادة الديموقراطيَّة!)، بينما هم، في الواقع، قد أضافوا بنداً جديداً إلى أجندة (متاعب الديموقراطيَّة) في القارَّة!
النيجر التي تعتبر ثالث منتج لليورانيوم في العالم، ومع ذلك يعيش 65% من مواطنيها تحت خط الفقر (دولار واحد للفرد في اليوم)، لم تشهد، أصلاً، هدوءاً في أوضاعها المضطربة طوال الأشهر الماضية، بسبب إقدام تانقا على حلّ البرلمان، والمحكمة الدستورية، وتمديد ولايته ذات الخمس سنوات، في الأصل، والتي كان من المفترض أن تنتهي في ديسمبر 2009م، إلى أجل غير مسمَّى، وذلك في إثر إلغاء دستور 1999م، وإصدار دستور جديد، في أغسطس 2009م، منح الرئيس صلاحيَّة البقاء في منصبه دون تحديد مدَّة، ما أدى إلى تنازع عنيف بين الحكومة والمعارضة.
عبرة في غاية البساطة ما انفكَّت تتكرَّر، في بلدان أفريقيا، دون أن تلقى أدنى اعتبار؛ فليست عوامل الفقر، أو الفساد، أو آثار التاريخ الاستعماري، أو الحرب الباردة، هي وحدها المسئولة عن تفسير (ظاهرة الانقلابات) في القارَّة، بل إن إساءة استخدام الديموقراطيَّة التعدُّديَّة، من جانب نفس القوى التي يُفترض أن تكون المستفيد الأوَّل منها، لا بُدَّ أن ترتدَّ إلى عنقها هي، في المقام الأوَّل، فيُصار إلى إعادة إنتاج حكاية (براقش الأفريقيَّة) .. المرَّة تلو المرَّة!
تحالف المعارضة المسمَّى (منسقيَّة القوى الديمقراطيَّة من أجل الجمهوريَّة)، والذي يضم أحزاباً سياسيَّة، ونقابات، ومنظمات لحقوق الإنسان، سيَّر، بالجمعة 19/2/2010م، مظاهرة أمام مبنى البرلمان في نيامي، قوامها عشرة آلاف شخص، لـ "دعم الانقلاب!"، و"الترحيب!" بالإطاحة بـ "ديكتاتوريَّة محمدو تانقا!"، وسلم النقيب هارونا جبريلا أحمدو، عضو المجلس العسكري الجديد، مذكرة أعرب فيها عن "استعداده!" للمساهمة في "إنجاح تحوُّل ديموقراطي!" بالتركيز على تبني دستور "توافقي!" وتنظيم انتخابات "حرة وشفافة!" (إي إف بي، 19/2/10).
الاتحاد الأوربي أوقف مساعداته التنمويَّة للنيجر. والمجتمع الدولي أدان الانقلاب، وطالب بالعودة سريعاً إلى الديموقراطيَّة، كما أدانته، بوجه مخصوص، فرنسا التي تملك مصالح في مجال استثمار اليورانيوم في النيجر، رغم أن ألان جويانديه، وزير الدولة الفرنسي لشؤون (التعاون!)، عبَّر عن عدم وجود سبب للتخوُّف من إعادة النظر في (الشراكة!) بين النيجر ومجموعة اريفا الفرنسيَّة النوويَّة (المصدر). وفي السياق، أيضاً، دعا بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، إلى احترام دولة القانون وحقوق الإنسان.
من جانبه، أيضاً، ندّد الاتحاد الأفريقي، بالانقلاب، وعلق عضويَّة النيجر فيه. والواقع أن هذا الاتحاد، الذي يضم 53 دولة، قد استنفد، في مسعاه للقضاء على (ثقافة الانقلابات)، جهود قمم كثيرة، ولكن بلا طائل، في ما يبدو! فقد انعقدت آخر هذه القمم بأديس أبابا، صباح 31/1/2010م، أي قبل نحو أسبوعين، فقط، من انقلاب كولونيلات النيجر، حيث اعتمدت خطة جماعيَّة لمجابهة أيّ تغيير للسلطة بالقوَّة في أيّ بلد أفريقي، وأبرز ملامحها دعوة المنظمات الدوليَّة لتطبيق عقوبات على مدبّري أيّ انقلاب فور وقوعه! وكانت موجة من الانقلابات الناجحة، كما في موريتانيا وغينيا ومدغشقر، والفاشلة كما في توغو وغينيا بيساو، قد اجتاحت القارَّة خلال الأشهر التي سبقت قمَّة أخرى انعقدت، قبل ذلك، بمدينة سرت الساحليَّة الليبيَّة، خلال الفترة من الأوَّل إلى الثالث من يوليو 2009م، وحاولت، أيضاً، مجابهة هذه الظاهرة بحلول جماعيَّة لم تخرج عن تعليق الاتحاد، فضلاً عن المجموعة الاقتصاديَّة لدول غرب أفريقيا (ايكواس)، ومجموعة تنمية الجنوب الأفريقي (سادك)، عضويَّة الدول التي وصلت فيها جماعات عسكريَّة إلى السُّلطة بطريق الانقلابات.
الطريف أن العقيد معمَّر القذافي، الرئيس السابق للاتحاد الأفريقي، والذي جاء، هو نفسه، إلى السُّلطة في ليبيا، بانقلاب عسكري عام 1969م، وبقي متشبّثاً بها حتى الآن، صرَّح لـ (وكالة أنباء عموم أفريقيا)، قبيل انطلاق قمَّة أديس الأخيرة، محذراً من "عودة ظاهرة الانقلابات إلى القارَّة"، بقوله: "إن (العسكريين!) يبحثون عن (مبرّرات!)، مثل فشل الحكومات، دون أن يحسبوا حساباً للاحتجاجات الدَّوليَّة، أو لرفض التغيير (بالقوَّة!)، فتلك أمور لا تبعث الخوف في نفوسهم!" (الشرق الأوسط، 31/1/10).

الأحد
ربَّما سأعود، في رزنامة الأسبوع القادم، لتثمين (الاتفاق الإطاري) الذي تم توقيعه، بـ (الأحرف الأولى)، بين الحكومة وحركة العدل والمساواة، مساء السبت 20/2/2009م، في العاصمة التشاديَّة، وذلك بعد أن يكتمل توقيعه، وفق المقرَّر، يوم الثلاثاء القادم، في العاصمة القطريَّة. فالوقت، في ما أرى الآن، وأنا أكتب مساء الأحد 21/2/2010م، ما يزال مبكراً لإطلاق كلّ ما يعتمل في النفس من رغبة صميمة في إبداء الابتهاج بأوَّل (طيف) بادرة (يلوح)، دون أن (يستبين) تماماً، ما بين (الدَّوحة) و(إنجمّينا)، على صعيد كفكفة ملف المأساة الوطنيَّة والإنسانيَّة المروّعة في دارفور، بعد مضي أربع سنوات على فشل (أبوجا) في إنجاز هذه المهمَّة.
مع ذلك فثمَّة أمر مهم يستوجب تعليقاً أوَّليَّاً، في الوقت الرَّاهن، ولو بأربع ملاحظات مقتضبة، وهو إعلان المشير البشير، عصر السبت 20/2/2010م، أمام جمهور من النساء بمعرض الخرطوم الدولي، عن إلغاء أحكام الإعدام التي صدرت ضد من شاركوا في هجوم أم درمان، العام قبل الماضي، وإطلاق سراح 30% منهم، كدفعة أولى، في بادرة لحسن النوايا من الحكومة، مؤكداً على أنه لن تكون هنالك، بعد اليوم، أحكام إعدام للسّياسيين، وأن هذا العفو يأتي إكراماً للأمهات والأخوات والبنات (الرأي العام، 21/2/2010م).
أوَّلاً: إسقاط عقوبة الإعدام عن المذكورين هو جزء من مطالب العدل والمساواة، وقد أدرج ضمن اتفاق (إنجمّينا) الإطاري، فلا يصحُّ القول بأنه صادر من باب "الإكرام للأمهات والأخوات والبنات" اللائي خاطبهنَّ المشير بمعرض الخرطوم الدّولي في تلك الأمسية!
ثانياً: صدر هذا الإعلان عن سيادته بصفته الحزبيَّة، وفي مناسبة نظمت في سياق حملته الانتخابيَّة كمرشَّح للرئاسة عن المؤتمر الوطني؛ ومن ثمَّ فهي ليست مناسبة صالحة لإعلان ينبغي أن يصدره سيادته من موقعه الرَّسمي، كرئيس للجمهوريَّة، تنفيذاً لالتزام حكومته بموجب ذلك (الاتفاق الإطاري). ولعمري إن هذا لممَّا يؤكد أن مطلب المعارضة الدائم بفصل (الحزب) عن (الدَّولة) ليس بلا أساس! وللمرَّة الألف نضطر لتذكير (مفوَّضيَّة الانتخابات) بأن نصَّ المادَّة/69 من قانون الانتخابات لسنة 2008م يحظر استخدام إمكانات الدَّولة ومواردها العامَّة، مادّيَّة كانت أم بشريَّة، في أيَّة حملة انتخابيَّة!
ثالثاً: وحتى لو اعتبرنا، جدلاً، أن ما أعلنه سيادة المشير كان في سياق صلاحيَّاته كرئيس للجمهوريَّة، فإن العقوبة الوحيدة التي وُقعت على المذكورين هي عقوبة الإعدام؛ وبإسقاطها ينتفي أيُّ سبب لبقائهم قيد الاحتجاز، حيث يتوجَّب إخلاء سبيلهم فوراً؛ فما معنى اختيار 30% منهم، فقط، لتطبيق هذا الإجراء عليهم، علماً بأن ذلك نفسه لم يتم حتى لحظة كتابة هذه الملاحظات؟!
رابعاً: إلغاء عقوبة الإعدام في القضايا السّياسيَّة مطلب ديموقراطي قديم نرحّب بالاستجابة له. لكن ذلك لا يكون بإعلان حزبي، في ليلة سياسيَّة، وفي سياق حملة انتخابيَّة، وإنما بتشريع مخصوص نأمل أن يجد المؤتمر الوطني في نفسه ما يكفي من الإرادة السّياسيَّة لإيداعه طاولة المجلس الوطني، حتى لا يدع لنا فرصة لاتهامه بـ (الاستهلاك الانتخابي)!

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السَّيْطَرَةُ الهجْريَّة!
- رَدُّ التَحيَّة بأَحْسَن منْهَا!
- لَيْلَةُ البَلاَلاَيْكَا!
- الهُبُوطُوميتَر!
- عَودَةُ العَامل والفَلاَّحَة!
- آخرُ مَولُود لشُرطيّ سَابق!
- طَبْعَةُ وَاشنْطُنْ!
- إشكَاليَّةُ القَاوُرْمَة!
- مَنْ يُغطّي النَّارَ بالعَويش؟!
- أيَّامٌ تُديرُ الرَّأس!
- مَحْمُودٌ .. الكَذَّاب!
- يَا وَاحدَاً في كُلّ حَالْ! (2)
- يَا وَاحدَاً في كُلّ حَالْ!
- عَتُودُ الدَّوْلَة (الأخيرة)
- عَتُودُ الدَّوْلَة (13) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ ...
- عَتُودُ الدَّوْلَة (12) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ ...
- عتود الدولة (11) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَ ...
- عَتُودُ الدَّوْلَة (10) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ ...
- عَتُودُ الدَّوْلَة (9) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ ا ...
- عَتُودُ الدَّوْلَة (8) ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ ا ...


المزيد.....




- القضاء المغربي يصدر أحكاما في قضية الخليجيين المتورطين في وف ...
- خبير بريطاني: زيلينسكي استدعى هيئة الأركان الأوكرانية بشكل ع ...
- نائب مصري يوضح تصريحاته بخصوص علاقة -اتحاد قبائل سيناء- بالق ...
- فضيحة مدوية تحرج برلين.. خرق أمني أتاح الوصول إلى معلومات سر ...
- تظاهر آلاف الإسرائيليين في تل أبيب مطالبين نتنياهو بقبول اتف ...
- -فايننشال تايمز-: ولاية ترامب الثانية ستنهي الهيمنة الغربية ...
- مصر.. مستشار السيسي يعلق على موضوع تأجير المستشفيات الحكومية ...
- طالب جزائري يخطف الأضواء في برنامج للمواهب بروسيا (فيديو)
- مقتل شخص وإصابة ثلاثة آخرين في إطلاق نار بحفل في مدينة نيويو ...
- احتجاج مناهض للحرب في غزة وسط أجواء حفل التخرج بجامعة ميشيغا ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - بَرَاقشُ .. الأَفريقيَّة!