أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتيحة الشرع - التيه الأندلسي















المزيد.....

التيه الأندلسي


فتيحة الشرع

الحوار المتمدن-العدد: 2863 - 2009 / 12 / 20 - 02:20
المحور: الادب والفن
    


قرطبة الحالمة تنام تحت سمائها المزينة بالأنجم، وهي تعبق بشذا عطر بساتين الرصافة، في جو معتدل ثابت زئبقه...
بين شوارع هذه الجوهرة، وداخل منتزهاتها البديعة، ومكتباتها العامرة وحتى بين أفنية جامعها الكبير ، في كل مكان بين الزليج تارة وبين الترع والطمي تارة أخرى، مشى الصبي عبد الرحمان،
جاءها رفقة عمه الذي اصطحبه معه ليتعلم أصول التجارة، كان مدفوعا بحب الاكتشاف وهو ابن الصحراء الذي لا يعرف غير القفار والخيم والإبل.
لم تمض فترة حتى صار عقله الصغير عالما كبيرا وتعرف الناس عليه وشهدوا له بالنبوغ المبكر وحضور الذهن، وكسب ثقتهم فلقبوه بالحكيم الصغير، وكان يلازم عمه في حطه وترحاله حتى تضاعفت ثروته، في أثناء ذلك أوكل إليه رغم نعومة عوده تجارة الحرير وفيما بعد تجارة الحبوب، وتحولت إدارة المصالح إلى ألفة وصحبة وثقة، فنصحه عمه بالمكوث في قرطبة وتسخيرها مستقرا له وأحله مكانة مرموقة فرضي عبد الرحمان وأصبح اليد العليا أو كما يناديه عمه الذراع الوافي.
مرت السنين وأينع عبد الرحمان شبابا فاق به أترابه، زادته قرطبة زهوا وقوة، وكبر قلبه كالعش الجميل ينتظر من يملؤه بهجة وسكينة.
كان زينة شباب قرطبة ورغم هذا كان الخجول المتواضع المبادر بالمساعدة، وأكثر من هذا كان يؤمن بقوة أن نصفه الثاني سيلتصق به في ليلة اكتمال وأن القدر سيقوده إليه حتما، لتزدان دنياه أكثر...
بَلَغَه ذات مرة أن تاجرا أصله من المغرب كان كلما جاء إلى قرطبة وقضى حاجته من البيع تفرغ لشراء المخطوطات وكان في أحيان عديدة يقايض من يمتلكها ببعض السلع، استغرب لهذا التصرف النابع من تاجر، فالتجار عبدة الدينار أغلبهم،
استرعى هذا الخبر فضول عبد الرحمان واستحوذ على تفكيره فقرر البحث عنه والتعرف عليه.
البحث عن تاجر مغربي، لا يتبع سير القوافل، يظهر ويغيب دون أن تُْعْرف مواسمه، ليس بالأمر اليسير ويستدعي تفرغا، وهو من تأسره مشاغله،
وجد الحل في أن يستأجر غلاما لهذا الشأن معتمدا على بعض الأوصاف التي استقاها من الأفواه التي تلتقط كل حديث.
يومها خرج من السوق بعدما دفع للغلام مبلغا مغريا، وما كاد يصل إلى باب السور المحيط بساحة السوق ذات الأقواس الكثيرة والباحة الحجرية وبرج المراقبة العالي ، ما كادت قدمه تطأ باب السور حتى لمح بصره شيئا غريبا، رجلا يخرج من تحت ثيابه مخطوطين ثم يلفهما بقماش ليسلمهما لآخر فيخفيهما بسرعة تحت كومة من لفائف الكتان، استنتج عبد الرحمان أن الأمر قد يكون له علاقة بالتاجر المغربي، فدنى من الرجلين وألقى التحية وبدأ يتجول داخل المحل وهو ينقل بصره بين أنواع الكتان والقماش، وقد كان لمظهره توصية صامتة وهيبة ثابتة لا يمكن تجاهلهما،
رحب به التاجر بحرارة وهو يبدي كل عبارات الإعجاب بهذا الزبون مليح الأوصاف الذي خاطبه قائلا:"أريد من كل نوع نفيس، وسأدفع لك الثمن الذي ترضاه"
بُهت التاجر ونادى غلمانه حتى يساعدوه على خدمة هذا الشاري.
دفع عبد الرحمان المبلغ كاملا وكافأ الغلمان أيما مكافأة، وقبل الخروج ،وبعد أن أحس بحرارة الاهتمام، أخبر التاجر أنه يبحث عن مخطوطات حول التداوي بالأعشاب، وكان يبغي من وراء ذلك الوصول إلى حقيقة التاجر المغربي.
تردد التاجر قليلا، ثم قال:" المخطوطات صارت ناذرة، لأن هناك من يشتريها بمبالغ خيالية"، ردّ عبد الرحمان" أنا أيضا مستعد لدفع الكثير وإذا استلزم الأمر بحثت عمن يشتريها"،
هنا أطبق الصمت على شفتي التاجر، وهز رأسه معبرا عن عجزه حيال الموقف، وحتى يبدد عبد الرحمان شكوك الرجل ومخاوفه أضاف" لي قريب يتعامل مع أحد تجار المغرب وأظنه أخبرني ذات مرة بأمر له صلة بالموضوع،
انطلت الحيلة على التاجر، فتقدم أكثر من عبد الرحمان وهمس له قائلا:" صاحبك هذا(كناية عن المغربي) سيكون هنا بعد يومين، لقد أخبرني بذاته آخر مرة زارني فيها وطلب مني أن لا أخبر أحدا ووعدني كعادته بإغداقي بالسلعة المغربية وبالسعر الذي يعجبني"، ثم واصل" أنا رجل فقير لم أرث عن آبائي غير الشقاء ولا أرتضي لأبنائي المصير نفسه، لهذا أجاري الربح وأنا لا أضر أحدا، وأنت سيدي يبدو عليك الوقار وحسن الخصال لذلك أفرغت لك ما بداخلي."
حط عبد الرحمان يده على كتف الرجل وأحكم شده، كعهد معنوي بكتمان السر، رجلا لرجل، وأن لا خوف عليه بل سيجازى على حسن الصنيع.
نظرات وعبارات زرعت الاطمئنان في لب التاجر، ففي نهاية الأمر العملية الحسابية إن كان ناتجها ربحا، يطرح التردد جانبا، ليفترق الرجلان على وعد.
لو استحوذت التجارة على المعاملة ونسيت ثوب الحرفة، لإستعبدت صاحبها، وعبد الرحمان شاعر شغوف بالكتب يغترف منها حتى الثمالة، يسامرها في خلواته، وتكبر هي بين يديه حتى إذا جاءت آخر ليلة في عمر اللقاء صيرها روحا تسكن فكره إلى الأبد...
قامة طويلة وجسد نحيف، ثياب زرقاء وأنف بارز ونظرات حادة، لم يصدق عبد الرحمان عيناه لما وقعت لأول مرة على ضالته، هذا الرجل المغربي.
أوهمه عبد الرحمان بما يتوافق مع مبتغاه في حيازة المخطوطات ليعرض عليه قبول دعوة إلى مأدبة قرطبية تحت ظلال كرمة كلما ذبلت استفاقت على زخات قطرات ماء تقفز من نافورة كجواري في ثوب شفاف تحررن من قبضة النهار ليركبن ليل السمر,
ترك المغربي وراءه بيته وشظف العيش وحكم المرابطين الذي لا مخدع فيه للنعيم والقطوف الدانية والرياش والبسط ومجالس الطرب، فقبل هذا الأخير الدعوة وتهيأ لها.
لم يخطر مطلقا ببال المغربي أن خلف أسوار قرطبة وتحت أسقف ديارها هناك حياة مليئة بالترف والرونق جمعت ملذات الحياة وعادات المآنسة ليلتف الناس حولها غير آبهين بتقلبات سماء الغد.
كان المغربي تغمره الراحة وهو في ضيافة هذا الصديق القرطبي الجديد، كان في ذروة الانبهار الذي يسلب الأبصار من أسباب النعيم التي أحاطه بها هذا القرطبي، صحون فضية وسلطانيات، أباريق نحاسية وشماعد، مباخر خزفية وزهريات...
انبلج صوت الفجر لتخمد الأنفس وتسكت عن المساجلة، بيد أن المغربي تمكن من إقناع القرطبي بالقدوم إلى المغرب، تلك المنارة التي تستمد شعاعهامن ضياء الأندلس.
حانت لحظة الفراق، ولم يكن يتوقع أن يهديه القرطبي أجمل آنيات النحاس المموه وقطع المرمر المفصص وبعض تحف العاج الأندلسي.
وليست المغرب بالأمصار البعيدة عن الأندلس، بحر فبر...
وصل القرطبي وأستقبل بحفاوة، كان نفر من الرجال الملثمين تكسوهم بدل بيضاء ويغشاهم التواضع.
وأخيرا، عاد عبد الرحمان إلى بيئته الأولى ، مهد طفولته الأولى ومنبع أجداده وأعراقه، أحس بالخشوع وهو يدوس التربة الصهباء والجرداء، إنه الأصل يجتذب النواة التي ران عليها بهرج الحياة القرطبية المادية.
كان المغربي كريم العطاء والمعاملة وحتى الوفاء والمجاملة، لقد دعى القرطبي لزيارة البلد كي يقتاده إلى منتهى المخطوطات.
لقد تميز المغاربة عن الأندلسيين في كل شيء خصوصا العمران الذي يستمد أسسه من خصوصيات البيئة الصحراوية هناك في المغرب العميق.
دفع المغربي بابا خشبيا دون قفل أو حتى مقبض، انكشفت له سقيفة صغيرة تطل على غرفة، يستقبل داخلها السقف القصير والجدران الطينية، غرفة خالية من كل أثاث عدا حصيرة بالية فوقها صندوق خشبي طويل منقوش بإتقان زائد منها البارز ومنها الغائر، عليه مسحة الزمن الماضي...
المكان هو لامرأة، قال المغربي لعبد الرحمان، ستصل بعد حين...
بينما هم جلوس، أدبرت سيدة وقد غطت كل جسدها إلا العينين تحمل سعفة ملئت بالخضر وعلى ثوبها آثار التراب،
قام المغربي وتناول عنها الحمل، وهو يشير إلى الرجل الواقف قائلا:"إنه القرطبي، سيدي عبد الرحمان، مثلك سيدتي يعشق جمع المخطوطات".
ساعة تملء ساعة، وناعورة الزمن تدور حتى ساحت نخاريب الليل بمعسول اللذة، كانت عروبا فوق العادة...
باتت يداها تتحسس تقاسيمه الطينية، تنفث فيها من حين لآخر أنفاسها الندية...تنهد ثم تنهد حتى ارتفع صوت التنهد...لم يكن بالجوار أحد، رب الصحراء سيد الوقت، هو وهي فقط.
كان البيت منفردا في خلاء تحرجه نخلات علقن أقراط التمر، ونجمات يتغامزن، وكان الحر أشدَ من الحر.
إلتم عليها، تكوّم حتى تناهى إليه صدى تدفق الدم في خلايا جسدها.
بات لسانه يتهجاها، كانت أجمل مخطوط داعبته أصابعه، أدرك تضاريس الكون، وأمسك قيمة الحياة...وفك أسرار الذنيا.
حين ابتلعته أعماقُها التي تَرْشَح بالدفء الشديد، فَهِم لماذا يظل الإنسان يتشبت بالحياة، وهو يعلم من البداية أنه يولد ليموت...
طال المقام بعبد الرحمان الذي أسره ذكاء وجمال عاشقة المخطوطات حتى أرسل عمه في طلبه، عاد ولكن ليس لوحده هذه المرة، لقد تزوج المرأة دون أن يستشير أحدا أو حتى يسأل عن جذورها،
يكفيه سحر بيانها ورقتها وتواضعها الذي هجر نساء قرطبة وصيرهن دمى مرمرية.
الدنيا صروف، و دوام الحال من المحال، مرت سنوات الشباب، والزمن جزء من الحقيقة، اختفت المخطوطات من كل قرطبة ولم ينتبه أحد، حتى عبد الرحمان الذي تحول شغفه بها إلى صاحبة الجلالة. التي جمعت شغاف القلب كالخواتم بين أصابعها.
اختفت المخطوطات وظهرت الوجوه الغريبة في كل مكان، تغيرت الأحوال لتصير المدن نساء والنساء هن المدن...هن الخير أو الشر إن أردن...



#فتيحة_الشرع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عطر شبعاد المرأة العراقية.


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتيحة الشرع - التيه الأندلسي