أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد صبحى منصور - مصر فى القرآن الكريم : الفصل الثانى : أولا :المجتمع المصري القديم في القرآن الكريم















المزيد.....

مصر فى القرآن الكريم : الفصل الثانى : أولا :المجتمع المصري القديم في القرآن الكريم


أحمد صبحى منصور

الحوار المتمدن-العدد: 2816 - 2009 / 10 / 31 - 00:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أولا
لمحــة عامـــة:
التاريخ الاجتماعي لعصر ما من أشق أنواع التاريخ ، ويزيد في صعوبته كلما تباعد ذلك العصر في الزمن وكلما ندرت مصادره ، وينطبق ذلك علي المجتمع المصري القديم خصوصا وقد دارت مصادره وآثاره حول الفراعنة والطبقة الحاكمة وتوارت طبقات المجتمع الدنيا في زوايا النسيان والإهمال.

من ملامح الحياة الاجتماعية فى مصر القديمة

1 ـ وقد أتحفنا القرآن الكريم ببعض الإشارات التي توضح غموض الحياة الاجتماعية في مصر القديمة.
• منها إشارة للأعياد المصرية التي تكون أياما للزينة ، وفي أحد هذه الأيام كانت المباراة الكبرى بين موسي والسحرة." قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى " (طه 59 )
* ومنها إشارة لطبقات المجتمع نحسها من أنفة النسوة من الطبقة الراقية في قصة يوسف حين علمن بأن امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه فقلن " إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ "( يوسف 30 )
لم يكن موقفهن في الاحتجاج مبنيا علي أسس أخلاقية وإنما قام علي أسس طبقية اجتماعية كيف تتدني امرأة العزيز إلي مغازلة خادمها يوسف، والدليل أنهن عندما رأين يوسف وانبهرن بجماله تناسين الفوارق الطبقية ووافقن امرأة العزيز علي موقفها وتشجعت امرأة العزيز فهددت يوسف بالسجن باسمها واسمهن ، وردّ يوسف : " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ "( يوسف 33 )..
ولو كان التهديد من امرأة العزيز فحسب لقال يوسف( مما تدعوني إليه)
* ونحس إشارات أخري لطبقات المجتمع من قصة موسي وكيف استضعف الفرعون طائفة من أهل مصر واضطهدهم ، وكيف كان أهل مصر شيعا وأحزابا بمعني الكلمة بحيث أن موسي يقول لربه " قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ "( القصص 33 ) ..
و يتضح في التعبير أن موسي اعتبرهم شعبا آخر
* والرجل الذي جاء من ( أقصي المدينة يسعى) (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) ( القصص 20 ) أغلب الظن فيه أنه مصري من الطبقات الدنيا من المجتمع ، حيث كان يعيش فى أقصى المدينة أى فى العشوائيات بتعبير عصرنا ، ولابد أنه عاني من الظلم لذا اتخذ موقفا أيد فيه موسي وخاطر بنفسه لكي يحذره من تآمر الملأ علي حياته.
وإذا كان قصر الفرعون مطلا علي النيل ـ بحيث وصل إليه التابوت الذي حمل موسي ـ حيث يعيش السادة فى مصر ، فإن ذلك المصري الفقير كان يعيش علي أطراف المدينة وفي ضواحيها القاصية ومن هناك جاء إلي موسي يسعى .

2 ـ ولقد كانت البيئة المصرية في عصر الرعامسة تؤمن بالتفاؤل والتشاؤم ، يقول مؤرخ عصر الرعامسة إنهم قسموا الأيام إلي ثلاثة أقسام أيام سعيدة وأيام منذرة وأيام معاكسة عدوانية.
وأن سلوك الإفراد كان ينظم وفقا لطبيعة الأيام ففي أيام النحس لا ينبغي مغادرة البيت أو القيام بعمل .. وكان لديهم تقويم بأيام السعد وأيام النحس اعتمادا علي تقاليدهم الموروثة.
وعلي ذلك نفهم لماذا كانوا يتطيرون ـ أو يتشاءمون ـ بموسي ومن معه إذا حدث لهم مكروه يقول تعالي عنهم:" وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ " .( الأعراف 130 : 131 )

3 ـ وفي قصة يوسف إشارات عن الرقي الحضاري الذي كان عليه البيت المصري في الطبقات الحاكمة .. فقد كان يتكون من حجرات شتي وأبواب متعددة وأجنحة مختلفة ، بدليل أن امرأة العزيز حين أرادت الخلوة بيوسف غلقت الأبواب . "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ " ( يوسف 23 )
والمتوقع أن تكون قد عملت علي إتمام الخلوة بأن تغلق باب الجناح الذي تقيم فيه مع باب حجرتها الخاصة وأبوابا أخري بينهما .. ومما يدل علي كثرة الأبواب التي ينبغي غلقها في تلك المساحة أن القرآن يستعمل لفظ الجمع " وغلقت الأبواب " وكثرة الأبواب دليل علي تقدم الرقي الحضاري والمعماري،وحاول يوسف الهرب من حجرتها فقفز للباب كي يخرج وسبقته هي لتحول بينه وبين الخروج وجذبته من خلف فمزقت قميصه وانفتح الباب فظهر الزوج المحترم لدي الباب " وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ " ( يوسف 25 )
إذن كان سيادته يحتفظ بمفاتيح للأبواب ،أي كانت الأقفال تفتح من الداخل والخارج، وذلك تطور معماري هائل في ذلك العصر البعيد.
وأرادت امرأة العزيز أن ترد علي نساء المدينة فأقامت لهن حفلا.
" فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ واعتدت لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ"( يوسف 31 ) .
ومن خلال الآية نتجول في داخل بيت العزيز ، ففيه مساحة واسعة تكفي لأن تعد السيدة فيه متكئا لمجموعة كبيرة من النساء ، والمتكأ المناسب لبيت مثل هذا لا يمكن أن يكون حصيرة بل آرائك ناعمة تتكيء عليها النسوة المترفات ، بينما تطوف عليهن الخادمات بأطباق الفاكهة وسكاكين يأكلن بها .. أي أن المصريين منذ حوالي (4000 عام) كانوا يستعملون السكين في تناول الطعام .. هذا في الوقت الذي كان فيه الأوربيون لم يهبطوا بعد من فوق الأشجار .. !!

4 ـ والرقيق الذي يخدم في البيوت كان من مظاهر الجاد في ذلك الوقت ، وقد جاءت قافلة من الشرق تحمل يوسف . وفي مصر بيع يوسف واشتراه الرجل الذي صار عزيزا لمصر وحرص علي أن يرعاه رعايته لابنه ، وذلك تقدم حضاري في التفكير تجاوز عقلية لنكولن محرر العبيد في أمريكا .
"وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا "( يوسف 21 )
والملفت للنظر أن القرآن يعتبر نشأة يوسف رقيقا في هذا البيت تمكينا له في الأرض.
"وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ". ( يوسف 21 )
ولقد كانت مصر جنة الرقيق والمماليك وأصبحوا بها ملوكا وسلاطين. لقد كان عزيز مصر حين اشتري يوسف يطمع في أن يتخذه ولدا ولكن كان لزوجته رأي آخر .
والمهم أنها ردت على إحتجاج النسوة بتلك التجربة وفاجأتهن برؤية يوسف ، ومن ذلك نفهم أنهن لم يرين يوسف من قبل . ولعل ذلك يرجع إلي حواجز كانت تمنع النساء من الطبقة الراقية من الاختلاط برقيق البيوت الأخرى , وربما لم يكن مباحا ليوسف أن يغادر البيت إلي الشارع أو إلي البيوت الأخرى ، وإلا فإن حسنه سيصير مشهورا في المدينة ولا حاجة حينئذ للتجربة التي أقامتها زوجة العزيز.
* * *
5 ـ وامرأة العزيز تجرنا إلي الحديث عن المرأة المصرية القديمة :
إن المرأة تلعب دورا هاما في قصة يوسف ونلمح فيها أدوارا لامرأة العزيز والنسوة في العاصمة المصرية القديمة وأم يوسف .
أما في قصة موسي فللمرآة دور أوضح.
فهناك أم موسي وأخته وامرأة الفرعون والمراضع والفتاتان من مدين واحداهما أصبحت زوجة موسي التي عادت معه إلي مصر.
ومع كثرة الأدوار النسائية في قصة موسي إلا أن صوتهن خفت ليفسح المجال لصوت فرعون الطاغية ، وحتى زوجة فرعون نفسها كانت تخلو بنفسها بعيدا عنه تدعو الله عليه ..!!
أما في قصة يوسف فكان صوت المرأة أعلي علي حساب الرجل ويكفي أن الإشاعات النسائية كانت تجد الرواج . فقد ذاعت قصة امرأة العزيز مع فتاها الوسيم وانشغلت العاصمة المصرية بتلك النميمة. " وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " "( يوسف 30 )
وذلك الصوت العالي للمرأة يعني أنه كان لها نفوذها في داخل البيت المصري في ذلك الوقت.
صحيح أنه من الناحية الرسمية كان الرجل سيد المرأة ، والقرآن يقول عن الوضع الرسمي للزوج في ذلك الوقت . "وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ "( يوسف 25 ) ..
إذن كان العزيز زوج المرأة سيدا لها .. وفي نصائح الحكيم المصري بتاج حتب في معاملة الزوجة. " أسعد قلبها مادامت حية لأنها حقل طيب لمولاها" أي كان الزوج هو ولي أمر الزوجة وسيدها ، ورد ذلك في القرآن والتراث الفرعوني.. هذا صحيح من الناحية الرسمية ولكن الواقع أن الزوج في هذه لفترة كان يملك ولا يحكم ، له السلطة الاسمية في البيت وكفي ، أما السلطة الفعلية فللمرآة الحديدية .
وتعبيرات القرآن في قصة يوسف تعكس ذلك ..
فعزيز مصر ـ الذي يحتل مكانة سياسية هامة ـ حين اشتري يوسف قال لامرأته. "أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا " فحين طلب منها ذلك قدم لها تبريرا يقنعها فقال: " عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا "..
وقال القرآن : "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ " وهو تعبير بليغ عن تحكم تلك المرأة في البيت وسلطانها علي مافيه ومن فيه . وحين ضبطها الزوج المحترم وهي تراود يوسف في مخدعها أو مخدع الزوج فإنها لم تفقد رباطة جأشها وهي في ذلك الوضع الشائن أمام زوجها ولكنها قالت: "مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ".( يوسف 25 )
أي أنها بادرت بالاتهام ثم عجلت بالحكم والعقاب وليس علي الزوج إلا أن يسمع ويطيع .. وحدث فعلا أنه سمع وأطاع ، بورك فيه ..
ولأنها تحب يوسف ولا يزال لديها أمل في إغوائه فإنها لم تقل :" إلا أن يقتل أو عذاب أليم" .
أرادت له السجن أو العذاب لتنتقم لكرامتها المجروحة أما الزوج المحترم فليس له اعتبار في الموضوع إلا مجرد التنفيذ لأوامر السيدة الحديدية.
وملابسات الموضوع تطرح براءة يوسف منذ البداية ورجل في ذكاء عزيز مصر وقتها لابد أن يفهم ذلك ، ولابد أنه فهم ذلك .
ولكن ما باليد حيلة . ولكن يوسف البريء تمسك بعفته وصارت قضية تولى الحكم فيها رجل من المرأة ، وتبين له براءة يوسف ومع ذلك فلم يزد علي أن قال لها باختصار واستسلام. " قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (يوسف28) ".
ثم قال ليوسف كأنه يعتذر له : "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ".
ولا نسمع تحركا إيجابيا من الزوج المحترم . بل إنه حتى لم يوبخ امرأته ، أو لم يفصل بينها وبين يوسف ، فترك يوسف لها فريسة مما شجعها علي خطوتها التالية .
فقد انتهزت المرأة تلك الإشاعة النسائية عن غرامها بيوسف فأعدت تلك الوليمة وفاجأت النسوة المحتجات بيوسف يظهر أمامهن ففقدن وعيهن أمام جماله وضمنت امرأة العزيز تأييدهن لها .
وتبدو تمام سيطرتها علي يوسف ـ برضي زوجها أو سكوته ـ في أمرها ليوسف أن يدخل علي النسوة يخدمهن ـ في الأغلب ـ " وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ". ( يوسف 31 )
أي رتبت المرأة كل شيء. اعتدت لهن الأرائك المريحة الناعمة فاسترسلن في ( الرغي) ثم جاءت أطباق الفاكهة بالسكاكين ، ثم أمرت يوسف بأن يدخل القاعة فجأة ـ وأطاع فليس له أن يعصيها ـ فأتت المفاجأة ثمرتها. وتحول الموقف إلي صالح المرأة وساندتها النسوة وأصبح الرأي العام النسائي يطالب بافتراس يوسف ، ولم يجد يوسف عليه السلام نصيرا من بين الأزواج المحترمين ، امرأة العزيز تهدده باسم النساء . "وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ "
لذا لجأ يوسف إلي ربه الأعلى ليحميه من كيد النسوة : "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ " واستجاب له ربه فحماه من كيد النسوة المفترسات " فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُن".( يوسف 32 : 34 )
لقد هددت امرأة العزيز يوسف أمام زوجها بأن تسجنه ، وكانت تهمته أنه راودها عن نفسها ، وظهر افتراؤها وأنها هي التي راودته . ثم كانت النهاية بعد أن انكشفت حقيقتها أمام زوجها وأمام المجتمع أنها أعادت تهديد يوسف بالسجن إن لم يفعل بها الفاحشة، وانضم إليها في هذا التهديد باقي النسوة ( المحتجات سابقا والطامعات في يوسف بعدها) وأصبحت الفضيحة جماعية، وبدلا من وجود حياء لدي النساء وكرامة لدي الأزواج فإن رأي النساء هو الذي أنتصر في النهاية، وقرر الرجال المحترمون عقوبة يوسف بالسجن لأنه لم يرض زوجاتهم.. !! يقول تعالي عنهم: " ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ".( يوسف 35 )

6 ـ ولقد كشفت تلك القصة عن نفوذ هائل للمرأة في عصر الهكسوس.. وبسبب مافيها من عناصر إنسانية اجتماعية درامية فإن تلك القصة ترسبت في الوجدان الشعبي المصري القديم . وحيكت علي منوالها قصص كثيرة منها الأسطورة الشهيرة التي راجت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد أي بعد يوسف بنحو خمسة قرون .
وأبطالها ثلاثة : ( أنبو) وهو صاحب دار ومزرعة ، وزوجته الفاتنة اللعوب ثم ( باتا) شقيقه الأصغر الذي وصفته الأسطورة بالقوة والإخلاص والوفاء وأنه مؤيد بقوة ربانية مع مهارته في الزراعة والرعي.. وواضح أن الأخ الأكبر يمثل شخصية عزيز مصر، والأخ الأصغر يمثل شخصية يوسف . وقد اعتاد الأخ الأصغر أن يرعى زراعة أخيه ويعود في المساء محملا بالخيرات فيداوم علي خدمة أخيه في المنزل ، وهنا ملمح آخر من قصة يوسف الذي عمل في منزل العزيز خادما وعمل مشرفا علي الزراعة والمحاصيل المصرية فيما بعد . وتقول الأسطورة أنه عندما حل موسم الزرع اعد ( باتا) مع أخيه الثيران للحرث وانشغلا في العمل فأرسله أخوه من الحقل إلي البيت ليحضر البذور ، ولما بلغ الدار وجد زوجة أخيه تمشط شعرها فطلب منها
إحضار البذور . فقالت له : اذهب أنت إلي مخزن الغلال واحمل منه ما تشاء ولا تضطرني لترك ضفائري.
ودخل (باتا) المخزن وبينما يحمل البذور في المخزن دخلت زوجة أخيه وراودته علي نفسها وقالت له هيت لك ودعنا نخرج ساعة ونضطجع ، ولكن الفتي نهرها قائلا: أنت بالنسبة لي بمنزلة الأم وزوجك في منزلة الأب وقد تعهدني ورباني فلم هذا العار الذي تدعينني إليه ؟
وهذا القول يشبه قول يوسف لامرأة العزيز" إنه ربي أحسن مثواي أنه لا يفلح الظالمون" ( يوسف 23 )
وعاد( باتا) للمزرعة فلم يخبر أخاه ، ولكن في المساء اتهمت الزوجة (باتا) بأنه راودها علي نفسها فعزم الأخ علي قتل أخيه . وتربص به ، ولكن الأبقار أخبرت الأخ الأصغر وحذرته من أخيه وخنجره. و ذلك ملمح من التأثر بمنام الملك الذي يحوي البقرات ـ وهرب الأخ من خنجر أخيه الأكبر وتطلع للسماء فقال: مولاي الكريم أنت تفصل بين الآثم والبريء" ، وهى استغاثة تذكرنا باستغاثة يوسف عليه السلام " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ " ( يوسف 33 ) .
فظهر نهر عظيم مليء بالتماسيح فصل بين الأخوين . وأظهر الأخ الأصغر براءته لأخيه فصدقه ، وقال له أنه سيهاجر إلي وادي الأرز ـ أي لبنان ـ وعلي أخيه الأكبر أن يبحث عنه إذا حدث له مكروه . " ولو أنفق في البحث سبع سنين "
ومن بلاد الأرز جاء يوسف وأخوته ، والسبع سنوات وردت في تفسير يوسف للمنام ..

7 ـ ولكن علو نفوذ المرأة في ذلك العصر لا ينبغي أن يحجب بعض العناصر الإيجابية في الناحية الأخلاقية .
فهناك الرجل الذي شهد بالحق ضد امرأة العزيز مع مكانتها الاجتماعية وكونه من أهلها ، وكان ممكنا أن يجور عن الحق تعصبا لقريبته المخطئة أو لمكانتها الاجتماعية وعوامل الطبقية خصوصا وأن الخصم في القضية خادم مملوك .. ولكن ذلك الشاهد وقف موقفا رجوليا سجله القرآن وجعله رمزا . "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ " ( يوسف 26 ـ )
لقد جاء حكم الشاهد عادلا ساوي بين الخصمين مع ذكاء وفهم لملابسات القضية وظروف الواقعة ، وحين ظهرت النتيجة واضحة في براءة يوسف واتهام سيدة البيت طيب الرجل خاطر يوسف ووبخ امرأة العزيز ودعاها لأن تستغفر لذنبها لأنها كانت من المخطئين وهو بذلك يتفق مع ما جاء في متون الأهرام." إن الملاح السماوي لا يسمح بالعبور لغير الصالحين العادلين"
ثم حدث تطور أخلاقي في موقف امرأة العزيز ونسوة المدينة بعد أن لبث يوسف في السجن بضع سنين ، مرجعه في الحقيقة إلي صحوة في الضمير ، وليس من إشارة في القرآن تنبئ عن وقوع ضغط سياسي من الملك عليهن كي يعترفن ببراءة يوسف، لقد أراد الملك أن يصل للحقيقة وجاءه الاعتراف واضحا صريحا بعكس الندم وتأنيب الضمير.
" قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ".. ( يوسف 51 ـ )







#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام والمسلمين : ( المقال العاشر ):رفض ...
- ( مصر فى القرآن الكريم ) :الفصل الأول : خامسا :سياسة فرعون ا ...
- (مصر فى القرآن الكريم ) الفصل الأول : رابعا : قوم فرعون
- الصوفية والولائم في مصر فى القرن العاشر الهجري
- ثالثا: لمحات قرآنية عن الدولة المصرية في عصر موسى عليه السلا ...
- مسجد الضرار .. ومسجد الضراط ..!!
- • الفصل الأول * الحياة السياسية في مصر القديمة من خلال آيات ...
- كتاب ( مصر فى القرآن الكريم ) الفصل الأول : أولا : معنى كلمة ...
- تأملات فى قصة يوسف فى القرآن العظيم ( 8 ) ماذا يبقى لنا من ق ...
- مفوضية الولايات المتحدة الامريكية للحرية الدينية فى العالم ت ...
- منهج الطبري فى تاريخه ( تاريخ الرسل و الملوك )
- ( مصر فى القرآن الكريم ) : قبل أن تقرأ هذا الكتاب : مقدمة
- وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام والمسلمين ( المقال التاسع )انهيار ...
- وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام و المسلمين ( المقال الثامن )، جار ...
- وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام و المسلمين ( المقال السابع )منصب ...
- وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام و المسلمين (6 ) منصب القضاء ونزوا ...
- وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام و المسلمين ( المقال الخامس )القضا ...
- وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام و المسلمين ( المقال الرابع ) ضمير ...
- وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام و المسلمين ( المقال الثالث ) التش ...
- وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام و المسلمين ( المقال الثانى )القضا ...


المزيد.....




- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد صبحى منصور - مصر فى القرآن الكريم : الفصل الثانى : أولا :المجتمع المصري القديم في القرآن الكريم