أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي المشاط - بغداد العارية















المزيد.....

بغداد العارية


علي المشاط

الحوار المتمدن-العدد: 2713 - 2009 / 7 / 20 - 04:00
المحور: الادب والفن
    


كان يلعب مع أقرانه في الزقاق حينما جائت أمه وسحبته بأتجاه الشارع المتصل بساحة الشهداء في الكرخ/ بغداد حيث احتشدت الحشود المستثارة جدا وهي تروج وتموج وقد أشرأبت الأقناع الى الأعلى... الكل يصرخ في أعلى حالات الأنفعال.. كاد أن يدهس تحت الأقدام لولا أن رفعته فوق رأسها... واذا بجسد طويل وعاري يتدلى من شرفة.. وشخص ينحني عليه وهو يغرز سكينه فيه بصعوبة..
فقد يد أمه.. وضاع في الزحام ..وفجأة تهاوى الجسد وسط الحشود الهائجة التي كانت تهزج بالهوسات والحماس المتأجج... ثم سحلت الجثة خلف سيارة والصبية يركضون خلفها. وقف مشدوها لما يحدث أمامه دون أن يفقه عقله الصغير ما يجري..أتكون هذه دمية وسط أحتفال كما يحدث في الأفلام أو هو فلم من أفلام الهنود الحمر. بعدها وجد نفسه تائها في ركب الحشود المتجهة عبر شارع الشواكة الى الصالحية . عند باب السفارة البريطانية صعد البعض على نصب الجنرال مود الذي يمتطي حصانا محاولا تخريبه ولما يأس تم سحبه بحبل مربوط الى باص خشبي فسقط جانبا .. وأستمروا في سحله والكل يقفز فرحا صارخا سقطت الملكية .. سقطت الملكية. لم يفهم ما يعني هذا...
لأول مرة في حياته يرى الشوارع مملوءة بالبشر بدل السيارات.. وقد لا يرى ثانية هذا الكرنفال وهذا الصخب الذي دفع الكبار بعيدا عن مناكفة الصغار أمثاله... فلا سيارة تدهسه.. ولا أب أو أخ يعنفه... ولا أم تلعنه.. وهذه هي الحرية التي أفتقدها طيلة حياته الماضية ..لقد ولد هذا لديه شعور بالغبطة والفرح طوال ذلك اليوم المشهود..ففي وسط الفوضى العارمة ..تتولد الحرية المطلقة.. وهذا ما كان يفتقده هو ومعظم المحتشدين ,كأن الزمن توقف..
في الأيام التالية رأى صور كريم وسلام وناصر على جدران مقهى أبيه الواقع في ساحة الشهداء فوق الحمام أو كما يدعى فوق الطمة
وكان مذياع المقهى يهدر بالبيانات العسكرية الممزوجة بأناشيد حماسية ومارشات عسكرية

من يومها.. صار يشاهد التظاهرات والهتافات واللافتات.. من حين لآخر .. تارة في الباب الشرقي وتارة في الوشاش ..وأخرى في علاوي الحلة .
كان أخوه يخذه على دراجته للتفرج.. فالحياة كانت خاوية من أي ترفيه وأصبحت التظاهرات لهما نوع من التغيير. في احدى المرات أخذه أخوه الى مطار المثنى ودخلا من احدى الممرات الجانبية ليجد نفسه وسط كراج كبير ذو سقف عالي جدا ,حيث تركن عدة طائرات صغيرة
وفي أحد الآيام تم نصب أول تلفاز في المقهى بسبب سخونة الأوضاع السياسية, وفي أحد الأمسيات اكتض المقهى بشدة حيث كان التلفاز يبث محكمة الشعب.. والمهداوي يصول فيها ..ويلقي الاشعار.. وكان الناس يشاهدون محاكمة سياسية لأول مرة.. وبطابع قريب من الكوميديا .فهم لا يعرفون ما هي المحاكمة أصلا وكيف تتم.

في احدى العطل الصيفية تم تشغيله عند “أوتجي” في سوق مسقف قرب قهوة البيروتي المطلة على النهر.. بين الجسر والمسناية.. حيث البلام التي تستخدم في صيد السمك بالشباك(أزيل السوق وأصبح ساحة لوقوفالسيارات أمام التقاعد والضمان)
وكان الصبية يسبحون في النهر هربا من قيض الحر اللاهب.. ولقد اصطدم مرتعبا مرات بأجساد صبية تم انتشالها توا من النهر.. حيث المياه مغرية ..وغادرة بالأطفال.. مقابل اهمال الآباء.. شأنها شأن أوضاع العراق الحديث التي كانت و ماتزال تغري العسكر الطامح للوثوب على السلطة.. والأمساك بلجام هذا البلد.. المتفجر دوما بالأغتشاشات والتمردات
كان يرتعب من رؤية صبي في سنه وقد أخرج جثة هامدة.. ليدفن تحت التراب ..حيث العقارب والأفاعي . كانت كلمة ”موت” كلمة مرعبة جدا بمعانيها ودلالاتها ..وكان شبح هذه الكلمة يختبأ خلف الكثير من الأقاويل والقصص.. ويظهر فجأة بأحداث صادمة.. تختض لها نفوس الأطفال مثله.. الذين كانوا عادة عرضة لتهديد الكبار كلاميا بها لأي سبب كان. كأن تهدد الأم أبنها بقولها
والله لو يعرف أبوك ليموتك كتل ...
حتى النصيحة لا تكتمل الا بذكر الموت.. كان يأكل حب شجر بقشوره لأول مرة وهو يشاهد التلفاز في المقهى واذا بزبون ينصحه ويقول:
ان هذه القشور سوف تمزق معدتك وستموت...
فأرتعب وهو يعطي البقية الى ذلك الناصح.. وفي ليلتها حلم بكابوس مرعب عن الموت.
ودخلت كلمة الموت حتى في قاموس أغاني الغزل. فالأغنية الحديثة تقول :
والله واحشني موت.. تدري بعدك أموت

كانت هناك حديقة غناء لا تتجاوز مساحتها الف متر مربع شمال الجسر بين النهر والساحة حيث موقف رئيسي لباصات المصلحة. في عصر أحد الأيام جائت فرقة موسيقى الجيش وعزفت عدة معزوفات ..كان منها معزوفة ”شيش كباب” مما نشر جوا من الفرحة في النفوس خصوصا عند الأطفال في تلك الأمسية الصيفية.
ولكن هذا الجو الأحتفالي الوحيد في ذاكرته لم يغط على أجواء التظاهرات المرفق بالتوترات والتلاسنات التي تحولت من هتافات ضد الأستعمار الى تظاهرات متعارضة بين الجعيفر والشواكة.. مع أو ضد ناصر
.فالشيوعيون يتظاهرون عادة في الصالحية / في تظاهرة هناك كانت صور لحمار ورأسه لناصر وهتافات ضد الحوراني
والقوميون يبدأون من الجعيفر الى ساحة الشهداء ورجوعا عبر شارع الشيخ معروف/ في أحداها كانوا يرددون:
الله وأكبر يا عرب..ما صارت بكل الدول..الشيوعية سووهه

كان مقهى ابيه يحتل الطابق العلوي لصف طويل من الدكاكين وكان يشرف على الساحة التي أصبحت مسرحا للتوترات والتظاهرات العنيفة بين الفترة والأخرى وأصبح مفهوم الوطنية عند البعض هو فقط بالتظاهر والهتاف يعيش.. يسقط ...
وأصبحت قيادات الأحزاب ترى وجودها وأستمراريتها وأكتساحها هو في أستعراض عضلاتها في الشارع.. بسبب أو بدون سبب.. و لذا صار التظاهر وكأنه عبادة أو طقسا مقدسا من طقوس العهد الجديد في أستعراض للقوة.. وبسبب استمرار التصادمات في الساحة.. أحتلت شلة من العسكر المقهى بشكل تام ولعدة أشهر للسيطرة على الساحة.. دون أي تعويض لهذا التعطيل
*********************************************
في صباح يوم جمعة أواسط رمضان 63 واذا بالراديو يردد نشيد
الله أكبر فوق كيد المعتدي
الله أكبر خير مؤيدي
أنا بالسلاح وبالروح أفتدي....
الله..الله..الله..الله..أكبر.. الله..فوق المعتدي
ومن حينها أختفت السيارات من الشوارع.. وأكتضت الساحة بباصات نقل الركاب المتوقفة عن العمل.وشيئا فشيئا تجمعت الناس وهي متعطشة لمعرفة ماذا يحدث..واذا بمدرعة عسكرية تقترب ولكي تفتح الطريق أمامها بأتجاه الرصافة أطلقت عدة صليات في الهواء..فهربت الجموع هلعا.
وهو يركض بين الباصات المتوقفة وقعت عينيه على حربة عسكرية ملقات ..فخاف أن يلمسها لكنه أخبر أحد الشبان الذي أخذها.
بعد حين توجه مع الراجلين عابرا الجسر..كان يروق له الأندفاع وراء الكبار اللذين يستعجلون معرفة ما يجري.. وخرجوا للتفرج.. وليس ليقفوا مع هذا أوذاك. كانت تقف دبابة أمام المتحف البغدادي.. وبعد أن تجول في سوق الصفارين.. ومن ثم البزازين حيث المحلات مغلقة.
.قفل راجعا الى الشهداء.. وهناك سمع من مأذنة جامع حنون نداء للألتحاق بالحرس القومي.. فتحرك بعض الشباب وصعدوا الى سيارات زيل عسكرية متوقفة. عند الظهر تمشى االى ثانوية الكرخ حيث تجمع الناس حول دبابة.. تصوب مدفعها نحو مبنى الدفاع في الضفة الأخرى... وكانت أصوات الرصاص تأتي متقطعة.وبعد حين طلب قائد الدبابة من المحيطين الأبتعاد لغرض الرمي.. وأطلقت أطلاقتان بأتجاه الدفاع.. وبسبب قوة الأرتداد.. أنطلقت حصى لتصيب أحد الصبية في بطنه.. ليؤخذ الى المستشفى.
حل العصر سريعا ..جائت أمه باحثة عنه لتأخذه الى البيت..ما زال مشدودا لما رأى..لقد رأى نفسه وكأنه في فلم حربي ..مدرعة تطلق صليات و دبابة تطلق قنابل..أصبحت المدينة مستباحة تحت زناجير الدبابات. وكأن أي تغير في السلطة يجب أن يبدأ بحوادث فظيعة صادمة..اما بالسحل في فلم للهنود الحمر أو بدبابات في فلم حربي.صعد الى سطح المنزل ليتقصى الأحداث..كانت أصوات الرصاص مستمرة.. والسماء على غير عادتها خالية من أسراب الحمام.. وكأن الأحكام العرفية سرت على الطيور في السماء
أسدل الغروب خيوطه على الأزقة الخالية من المارة..ذهب الى بيت أخته القريب.. حيث تجمع الجيران لرؤية ما أعلنته الأذاعة عن بث عملية اعدام كريم ورفاقه على التلفاز..حيث ظهروا وهم مقتولين..بعضهم ممددين على الأرض ..والآخرين على المقاعد..كان المنظر يدل على حدوث مجزرة وأنتقام و حقد بعكس ما رآه من محاكمات طويلة وسجال في محكمة المهداوي. رجع قافلا الى البيت محاولا النوم بعد يوم طويل جدا باحداث صادمة.. و بدأ يستعيدمحطاتها.. ليفقه ما حدث..وبدأت دموعه
تنهمرفجأة وبشدة وكأنه أستفاق توا من هول الأحداث..بكى كثيرا لأعدام كريم معتبرا أنه مظلوم.
ومضت الأيام..
كان أبيه رجلا أميا بسيطا في تفكيره ..و ليس له أية أهتمامات.. لا سياسية ولا اجتماعية وليس له أصدقاء..بل هو أقرب الى العزلة عن المجتمع بالرغم من امتلاكه لمقهى كبيرفي ساحة مهمة. وهو لا يزور الا أخيه وأخواته الأثنتين ..وهو مسالم جدا خارج البيت الى حد الجبن
لايعرف من الحياة سوى البيت والمقهى وأحيانا قليلة زيارة كربلاء والنجف للترفيه وأداء الواجب الديني..واذا رأى شخصامصابا بمرض جلدي في مقاه فيقدم له مرهم طبي وينصحه بالأبتعاد عن أكل المقليات.
واذا بأبيه يتم توقيفه بسبب تقرير رفعه أحد وكلاء الأمن بعد رفضه الأنصياع لأبتزازه, وتم حجزه بداية في سجن الخيالة قرب ملعب الكشافة بتهمة أستخدام الشيوعيين لقهوته مقرا لأجتماعاتهم الحزبية.
اضطر هو وأخته التي تكبره بعامين لأخذ الغداء للسجن يوميا ,حيث ألانتظار في باب السجن على الأسفلت الساخن في عز الصيف الى أن يسمح الحراس الغلاض بوجوههم الحادة لأخذ الغداء.تم نقل والده الى عدة أمكنة آخرها توقيف الأقامة. كان ايصال الغداء مهمة شاقة لهما.. ليس لقلة المواصلات وحرارة الجو وصغر السن ..بل الأصعب هو ألأنتظار خلف ألأبواب الحديدية العالية ومواجهة وجوه الحراس الخشنة وعجرفتهم, والشعور بالظلم الشديد لما تقاسيه كل العائلة من ظلم تلك الوشاية الكاذبة
ومرت عدة أشهر وكأنها عقود في ذاكرته, من الأنتظار ودق ألأبواب والوساطات لأخراجه ونفي التهمة.ولم يخرج الآ بدفع الرشى الكبيرة وبعدها انتقلت العائلة الى مدينة اخرى بعيدة




#علي_المشاط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقل البشري ..اخطر الاسلحة.. كيف نطوعه ونرد اخطاره (الحلقة ...


المزيد.....




- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي المشاط - بغداد العارية