أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابن جرير الرحماني - رواية الجزء الثالت - وجبة من طحالب الكتابة-















المزيد.....



رواية الجزء الثالت - وجبة من طحالب الكتابة-


ابن جرير الرحماني

الحوار المتمدن-العدد: 2543 - 2009 / 1 / 31 - 07:41
المحور: الادب والفن
    


الجزء الثالت

بالبيت تضمد بالنظرات القاصرات جروح الصبي، تود أن يخرج إلى الناس كافرا، و منهم يأخذ روح هذا الكون الفائض، و من نفسه يسخر ريحا عاتية يتناثر بفعلها رميم الجثث حتى يتعرى وجه الأرض، يكتري غرفة في رحم القساوة ، يقتات رضاعة من محيضها، و الأرحام زنازن تقتات الأجنة من حبل الصرة زقوم الحنظل، و النمارق من حجر، و أفرشتها من صبار، ولحافها من سماء اهترى غيمها، وهوى من أذيالها نقع من مطر، في الخواطر المكلومة لا ينبت زرعا وعنبا، إلا نخلة ثمارها مرفوعة إلى مائدة السماء، لا يقرب أكلها فقراء لا يستطيعون نطقا بلسان الصدى، وهم انبطاحا يلهتون ومن قيح الأرض يلعقون، فيولد من جديد عصيا يكسر عقارب الزمان، والنوم بنى للأتراب الزوائد كوخا فيه يتوفون جيفا، يدق أبواب الأرحام فلا مجيب لصهيله، وكأن العقم إغتال بها كل الأجنة، فعلق حضوره على حافة الكون عندما حل الخريف بعواصفه الهوجاء، يكنس المراعي والحقول من هشيم الأعشاب، فأصبح أديمها رميم تراب والشجر قد اصفرت وجنتاه والريح تجتث جذوعه، والأرض بها تشققت الشروخ، و التغضن كسا وجهها و احترق بلهب هبات الريح اللافح، والماء قد نضب من مجاري السماء، وشرابه استعصى على الناس ، والآبار قد جفت قعورها، وعين ماؤها دافق، سيلانه عن الخرير قد انقطع، والسنوات العجاف فتحت للناس أبوابها، فدخلوا جحيمها جميعا، ولما ذاقت حواصلهم وجع الزغب، على النهب والسلب والقتل أفاضوا كواسرا، يتقاتلون على حبة شعير والجوع عند الحاجة الأقوى، والنعي قضم المشي قدميه، جريا ينعي موت الأقارب، إن نصيب الطفولة من الهلاك كإرث الموت من الشيوخ، المقابر مفتوحة لحودها ولا محص للرفات، ورضعا في أحضان الأمهات لهم الموت ينتزع غصبا، وهن مستضعفات يقاومنه بكاء، غضب من الطبيعة صب عليهم جحيما، وجثث الموتى في العراء متناثرة، وقد أصابها السنن من التعفن، والريح لكريه روائحها حامل، وكأن المكان دارت به حربا كسرت القارب الذي صنعه الصبي وأمه ليرحلا به عبر الزمن، وهو يتلمس عبراتها، فظن أن من دمعها نشأ اليم، تحكي لما يحمل في ظهره من أحفاد، لوحة ليس لمبدعها في الكرى طيف، وتلعن مؤرخا جف حبر قلمه وكتم عن الأجيال صرة من الأرواح أزهقت غدرا، ولم يبد لانصرافها اهتماما، يظن أن انصراف الصبي سيكون كانصراف الجبناء، بلى إنه العصي على الموت نزعه من الكون، وسيمضي حتى يبلغ نبع الكفر، فينجب نظيرا له، يسرق موائد عليها أطباقا من قيح الأزقة، لكي يشتري وتابا ومدخنة وقصرا، وعندما يذهب إلى الجنة، يجد جيلا خرج من الكرى حاملا لجيده مشنقة ربطتها أصفاد حديد ويعلق على جبينه أحذية الخزي، وينشأ له محرقة من بيته حطبها مدن عواجز أبت أن تخلع عنها ما ألبسها الماضي من مآثر، وقرى ضربها الجفاف وغادرها ما تبقى من ساكنها، ولم يتركوا بها إلا من لا مقصد له، كحال الكهل العاجف ضامر البطن بارز الضلوع لا يقوى مشيا في خلاء قفر فراشة من قحط مبثوث، يبحث وهما عن طعام له يكسو عظامه لحما، والموت يتعقبه كالظل يجره من عقبه إلى غور أرض منها كان إنسانا، فكب وجهه إلى منحدر الوادي، ولازم مكانه وقتا ليس بقصير، يفرك عينيه بإسهاب، وكأنه يزيح عنهما غشاوة عمى، ثم حدق طويلا فيما يرى، حتى تبين أن نظيرا له في معزل يختلي بجثة شاه فارض، وأنينه من حولها يسمع زئيرا، يقلب فروها بتكرار، فلا يجد من تحته لحما، خال أنه يجلس إلى مائدة منها يطعم جوعه، تبقيه حيا ولو لأيام، فانشرح صدره وارتعدت شفتاه وتراقصت الرموش، والعين جاحظة حتى فاض حورها على الجفن، فخطا نحوه متربصا، خطوا خفيفا لا يحدث همسا، ولما دنا منه أفزعه شكله، حين هر منه وعيناه الغائرتان تظهران كشقين على وجه يلتحف لحية اشتبك بها شعر الرأس المهلهل، والطواحن تصطك غضبا، استوقد من فرقعتها نارا، يزعم على الهجوم وكلما حاول القيام من جثوه ارتد على الأرض، ثم لملم بداخله ما من ذرة قوة شحنتها به رحى المجاعة، لينتفض مدافعا وبكل شراسة عما خال أنه ملكه، من أجله يقاتل والعدو كان بالأمس أخا يفتح له الحضن معانقا، ليستقبله اليوم وبيارق الحرب مرفوعة في وجهه، يعترض حضوره بشراسة،فتقهقر الكهل مهزوما، يجر الخيبة متحاشيا الموت الذي يطارده، كما يطارده فاطر الأرحام، وبها وضع صورته، ومن ذريته اخرج وجوها مختلفة الملامح، يلهيها عن الصواب ما أبدعت من لعب، كانت في خياله رميما زائدا، يتكئ بمؤخرته على المآثر القديمة، ويمشي حبوا خلف سراب المداخن، يجمع في الخفاء من مزابلها فضلات منها يصنع رغيفا زائفا، تقتات منها جثث تدنس كونا وضع نفسه فيه حقيرا، وأطفأ ما في السماء من نجوم، تلمع من عيون أرواح خرجت عن طاعة الفاطر، أبى أن يبصر فقيرا يعيد ترتيب لوحات الكون، ومن ألوان إنسانه المشتت يملأ محبرته، وعندما يفقد جلده لون القرنفل يستوقد فرن محرقته ويقدم الطين وليمة للنار، حتى يصير في كفه رمادا تدري به الريح وتسوقه خارج الكون، بعيدا عن جرائم الإنسان، ليصبح نقيا طاهرا كالماء الذي يهطل من المزن ، يذيب ملح دمع قد ترسب حصى على وجنة صبية، تغضن جبينها في محرقة الأديان، وعنها انصرف الرسل متخذين من الولائم مقرات لأحزابهم، ومن فلك الأوباش اتخذوا قصورا ومساكن، واشتروا من السماء ما تنتعله من غيوم، وطردوا ما انحبس في مقلها من زخات عرق تبخرت من أجساد البؤساء تعبا وشقاء، حين نفتت به مداخن الإقطاع، ليتآلف في أجوائه ويصيح غيمة، يتهاطل منها نبيذا، يملأ الأكواب على منضدة الليل، فيقدم فطورا للطبيعة تحتسيه أقداحا في روضة من خيالي أبدعتها، فتخرج مني سكارى تحرر الإنسان من معتقلات الرسل، وتحذرني ألا يكون لي من هذا الإنسان ربيب، فإذا تشققت الأجسام ونفثت الريح بنقع ترابها خارج وجودي، وعرضت الأرواح من البدء للبيع، فلا تشتروا من عارضها إلا روحي، إنها المرشد لمن ضل الرؤى إلى نبع الكون، لأن روحي لا تخشى الموت، ولا تفر منه كحال الكهل عندما ولى مهزوما والموت يطارده، حتى طل على قرية جاثمة على خرابها أسفل الربوة، في أوحال صمت التراب غارقة، والموت يحرس أشلاء بيوتها، روابيها ومرابضها لا يسمع فيها ثغاء ولا مواء، يقبل جدرانها بشفاه حزينة، معكوف الظهر يجول أزقتها، يقتحم الأبواب باحثا عن لقمة عيش، يطرد بها الحمام العالق بأغوار صدره، فلم يجد بها إلا جثث معفنة يقذفها بالبصق معتقدا في كفره أنها لا تستحق الدفن، والنفس تغلو حسرة إلى حيث يبلغ المغيب، مستعصي الدمع، فيتلي الأقدام سيرا حتى مر على بيت قد هوى سقف بابه، ورحابه قد انفصلت عن ثوابتها و انطرحت على الأرض سقوطا، على أطلال تلك الأنقاض رأى صبية من قعر المهد نطت، وقد تجاوزت الحبو ، جسدها لا تكسوه وزرة ولا لحاف، وكأن الموت غض الطرف عنها عمدا وتركها لعبة للشقاء، عيونها الشاردة تأخذها من الوجود إلى عوالم العدم، شرود يذهب بها بعيدا إلى مقابر تبحث عن لحد،ولا احد يجود به عليها،ليكون لها مستودعا ، تلازم المكوث في موضعها دون مأوى، تسرف الوقت في امتصاص أصابعها من لذة حساء الذرة، ورقائقها عالقة من حول تغرها، والوجه يغطي أدمته ذباب كثيف، يدها النشاشة تسعى إلى طرده، فيغالبها ويمكث إلصاقا بالمقل، فسال لعابه، وهرول صوبها أعمى، وما أن دنا منها حتى انقض عليها بشراسة، ثم صرها إلى صدره حتى كاد يخنق أنفاسها، وراح ملهوفا يلعق ما على وجهها من رقائق الذرة العالق، ثم نفضها من قبضته حتى وقعت على مؤخرتها ، ونهض من لحظته يرتعد فرحا بما في البيت من طعام يسد رمقه، إن لم ينقض انقض الموت عليه وكان له ختاما، فالإنسان خلق ليكون للكون مدمرا، فاقتحم المدخل ثائرا، ينفث الحمم زفيره، والصدر فرن جمره مشتعل، زمهرير لهبه تذيعه الريح، وبه تبلغ أقصى غروب، حتى يسمع الصدى الأصم سعير النار، وهي تأكل افتراسا حطب ما حصدت النفس من فجوره، وساء لأخلاق في الخلق إني واضعها،فلقد كشف عن ناب وأبان عن شر كان بأغواره ، ناب طل نبته كالمدى من زغب حوصلة، به يفتك نهشا جلد طريدة، على لحمها يبتغي حصولا، وإن تكن فريسته إنسانا، كذلك، من لحمها يتخذ له رزقا، بين الطواحن يمضغ ويبلع ، فإن الجوع محل عليه أكله إن أراد أن يكون بقيا في البقاء، والدار خلت من أهل قد غادروا، ولم يتركوا للأرض قوتا، سوى حفنة رميم على أدمتها ملقاة، منها تنزعه الريح ويصير من نقعها منقوصا، تدري به عبتا خارج ما كان عليه أن يسلك من حصص الزمان، ولا هي عائدة به ولو هوا إلى مسكنه من حيث أفاض أول مرة .
على عتبة خاتمتها يتخبطها الحمام، ومخلبه حاد في أغوار الروح مغروزا، تحاول جهد المستطاع، والكبر والسقم قد بلغا بها أقصى طور العجائز، فتسقط عنها ما أصابها من عوز، وتخلق فيها قوة تكفهر نفسها أن تمخر على حطام مركب تلاشى منه مجداف الأجيال، عبابا كالجبال يموج على سطح سراب هائج،تقلع من آونتها ضعفا وخوفا في قعرها يقبع منكمشا ، فتتأجج فيها الرغبة أن تدير رحى من صخرة مثقلة بلبد الكآبة، واليد مغلولة والقيد أحباله من مسد، منذ أن نبت النخيل في مراعي الأجداد، ولما لمح الجدة وهي تصر إلى صدرها القدر،احتراسا أن ينزعه منها جائع ضليل، وقد طلا سخامه ملامحها، فإنه لم يصدق في الوهلة الأولى أن ما رآه حقيقة، إنه خال أن الجدة والقدر، هما وهما أبرق لمحهما في خياله من وحي المجاعة التي هو فيها يحتضر، فتجرد من عفة النفس وتقواها، وقتل ما فيها من بصيص الرحمة، وأصبح دون فؤاد كرجل السياسة لا تطل ولو بذرة رحمة من نفسه، يفعل بالخلق ما من فعل شنيع ولا هو واسع الرأفة بما من دابة تسعى على الأرض إلى جلب الخير لكائنات بها استضعفت في الجهالة، وعلى جبينها ضرب ختم التحقير، إنه للأمكنة مكتسح، ولا يبقي منها ركنا إلا فتشه، وعويل أمعائه يتفجر رعدا في المدى، فلم يحصل على نفع في مخازنها، أما المنزل الذي سقط في قعره يعمره ربائب، وهم منه الشبه ، وما من رؤى تسود ضعاف العقول، بها أصبح يستوي الناس اعتقادا، وظن أن ما في القدر من طعام إن لم يكن له منه نصيب أماته الجوع، وفي الأخرى لا يلتهم أبدا ما اشتهى من زينة الدنيا، وهو فيها كان منها منقوصا، وعن شهوات البطن كان الصوم يضرب عليه أطواقا، فجنح عن الصواب، بعد أن نسف مئذنته شرذمة من الأحزاب، وأشاعوا في الأرض فسادا، فبنى من خطاياهم ما بدا له صحيحا، فضرب الشتات لبه، وما حوى فيه من أداة التمييز بين ما هو نذل، وما للناظر يبدو له جميلا على قماش الإنسان، ففك عن العقل ما كان به يربط من أخلاق على حبل الإنسانية ناشر، وأنزل العقل إلى ظلمات، صارفيها لا يقبض إلا ما يتلوا عليه الجاهل، والأرض وما سطحت إلا تكون مسرحا للوغى، دق بصيحة طبل حرب، وللعجوز الشمطاء برز مصارعا، وبما ألم به من بؤس مدقع طعنها كفرا، وكفر بها وأنه من نبعها قد أتى، توأمان جامع بينهما نكاح، مزج بينهما في المضاجع عليه فطرا، منهما قد خرج جنين الكون، وحبا في الوجود حتى أصبح أديم الأرض مكسوا أمما وشعوبا،
إنها وجبة غثة، لا تطعم حوصلة بعوضة، ولا تقيها شر هلاك مبين، وحتى إذا أقدمت على أكلها مرغمة ، فإنها لا تدرها إلا وقتا يسيرا في الهروب من الجوع، ثم تلاقيه بعد ليلة فطام، والأيام الأخريات قادمات، تحمل في عدلها وعلى بطن الأرض مواسم عجاف، يتضرر منها البخيل لما تنفد منه ذخائر قوته، التي كان منها يأكل تقشفا، ويصبح العيش عليه عزيز، والهلاك منه الأقرب، على وجبة واحدة وعفنة بالقدر، نشب الخصام، وحضر الموت محلقا وقتا عسيرا، وحلق بانخفاض فوق ها متي متقاتلين استضعفهما الجوع، ومن قلبيهما بتر مكارم الأخلاق، فلا مفر لأيهما من قبضة منازعه، والروح عصية على الموت، وعزيز عليها مغادرة الجسد الذي به تقيم، ودخلا مسعورين في عراك أشد ضراوة مما هما فيه مع الطبيعة، كلاهما يهندس لنفسه مخرجا منه يجد فلتة ينقد بها حياته من قبضة عدوه ، فيغلو الصراع بينهما، وتعاركا وقتا طويلا حتى نزع عنهما ما كان به يستران سوآتهما، فلم ينل في المعركة أي منهما كسر شوكة خصمه، ونقلا المواجهة بينهما إلى فر وكر وإحباط هجوم من منهما هم على خطف القدر، الصبية إليهما ناظرة وإلى عرائهما، وإلى تفاهة الإنسان في صراعه على البقاء شاهدة، الأنثى مثل الذكر حظها في الوجود، فلم يدخر أي منهما جهدا ولا قوة إلا وسخرهما في القتال ،حتى أرهقهما العراك وخار قواهما ، فلم يفلح أي منهما على نزع رمق عيش من رحم الأرض كان إخراجه، فالتراب لا يأكل غير التراب، واستمرا في الشجار حتى جف ما تصفع من عرق قد مجت ملوحته من أجسادهما العجاف، وجثيا يلهثان ولفح الزفير أصاب بلعوم كليهما عطشا، فسرقت من وقته وقتا، فيه أصيب بكحة كاد سعالها أن يؤدي بحياته، وقتا كارتداد الطرف إبانه زحفت نحو القدر، ثم حبت، وما أن همت على الهروب به، حتى أرسلت السماء إليهما رسولا، فتدخلت ملائكة في شأنهما فضولا، ومنحت الذي ينطرح على حافة اللحد منهوكا، منجلا صدأ سدد رميته فأصاب ظهر العجوز وفيه انغرز نصله، فوقعت على الأرض ، ومنها نزعت الملائكة الروح درعا، والقدر قد ألقت به من وجع الضربة، فوقع على الأرض مكسورا، وكأن ما من طعام به تقيأه على الأرض ليكون لها قوتا، ولما حجبها عنه الموت، رفع عنه إحباطا كان يتخبط فيه من شر الفناء، وتضحك بداخله واتخذ جثتها هزءا، ثم زحف وحبا على ركبتيه، مثلما كان وصلها إلى ما بالقدر من طعام لم تنل من أكله إلا عذابا وقتلا، فعكف يغرف من الطعام غير عابئ بالتي قتل، يلتهمه ملهوفا، ثم انبطح على بطنه وحنى رأسه يلعق ما لم يستطع كفه جمعه، ثم لحس الأرض بلسانه ولم يبق عليها من رقائق الذرة ولو حبة تكون لنملة غداء، ثم تمدد استرخاء بجوارها من ما التهمه من طعام، آونة قياسها وقت قيلولة، فلم يغمض له جفن فيها، وظلت عيونه مفتوحة على الغير رقيبا، والكسل ركب أطرافه وعن الحركة أعاقه، والغير ما هم إلا جثثا منشورة في العراء، خشي منها أن تنهض من سباتها وتعد له ثأرا، عدوا يفسد عنه آونته، يقلب سرور وجهه ويصيره داخل النفس تتأبطه حزنا مريرا، وأبى أن يبيت في النوم ولو في السهو قليلا، يلوك لسانه بين الطواحن يمتص منها ما بقي بها عالقا من لذة الذرة، فجفف بلعومه لفح ريح أنفاسه، ونضب اللعاب من فمه، وأصبح اللسان تقيلا مخروسا، لا يستطيع قولا مبهوجا عما حملت النفس من غبطة رزقا مسروقا، فضرب العطش بحوصلته، وتتطلع إلى الماء فلم يجد إليه سبيلا، ورفع إلى السماء بصره فلم يعتر له على نبع منه يسيل، ولا هو حاصل عليه في جرة الأرض حيث يكون مخزونا، فشق السماء بنظرة، من رموشها يتدلى دمع البكاء، وإلى طوابق بها موصدة صعد، ومنها عرج إلى غرفة يكلم الله، وإليه يشكو اضطهاد النفس في الدنيا، وما يصيبها من اضطهاد قبل الإستهلال كان في ذاكرته مسطرا، وأخرج يده بيضاء من أكمامها، ومزق ما من حكاية دونتها على ثوب الكفن الألسن، ورمى بها زبلا على قارعة اللحد، لأن الجنة لا توجد بها مطارح كالمقابر فيها بقمامة الإنسان يطرح، وولى على أعقابه والعقل في الجهالة ينعم، ويقيس ما من جلباب الهزائم يوم عيد له النفس تلبس، ويخمد كالعرب في الذل والمسكنة، وهو منهم، وهم لا مصعد لصعودهم من الحضيض الأسفل، فقام يصلي مبطلا جنابة النكبات بالتيمم، والمكان قذر، به أوقع من الفجور جريمة، ثم ختم دعاءه مقبلا يديه، حمدا وشكرا بما أنعم عليه من رزق، مكنه من رؤية نفسه يمشي في الوجود لأقدام معدودات، فرارا من هلاك يقين، فاستوت على نفسه، طمأنينة مؤقتة، تداعبه كما يداعب الحلم في الكرى امرءا مكبوتا، وأرخى عيونه من حوله ناظرا، فأضاء له وميض من نفسه شع بريقه، جثة الجدة وهي كاشفة له عن جسدها، فأغرق بصره في اللمس، على ما هو نابت على جسدها من فاكهة الأنوثة، وأدلى بيده وهو غير عاقل، يتلمس ثديها، فسال لعابه على طريدة ميتة وهو مستدرجها للبغاء، فتأججت بدواخله شرارة ساخنة جعلت منه يهيم بأنثاه هائجا، وقضيبه يسري فيه الإنتفاخ والتمدد، فأتاها أعمى وهي جثة هامدة، ولما قضى صنيعه بقربها تمدد مبتهجا، وكأنه لفراق الكون لا يرجو منه خروجا، لذا زرع غصبا عنها في الرحم روحه، كي ينبث فيها، ومنها يكون خروجه للفناء معاندا، تلقى من الطبيعة أسئلة كثيرة، والإنسان في مهده لازال على الرد عنها قاصر، عاقر لا يستطيع إطلاقا إنجاب مجيب.
فحسب نفسه أنه نجا، ومن بين مخالب الهلاك أنقد بقاءه، وفك العقد عن طيف كان بحبال الجوع مربوطا، وسعى إلى روض الكرى، يغرس ما تلذذ به من طعام وطعام تلك الأنثى الهالكة، أزهارا وحلما، وأعز النفس وعنها نفض ما كان بها من كبت عالق، واستبق المطر وحرث أرضا ميتة، منها يرجو نباتا منه كانت بذرته، تبسم فتفتت من أطرافه طينا كان الكون به قد رمم ما من لوحات على جداره قضم الإهتراء منها نصيبا، والإنسان منها قد نهب وسرق ماراقه من جمالها، حتى ضاع منها وبكى نادما على أطلال فقد رسمها.
إنهم كقطيع الشياه في زريبة الدنيا، لا يلتهمون إلا ما أوجد لهم المطر من كلإ ، عقولهم يغشاها غطاء من دماسة الجهل، يفترشون النهار كالليل سباتا، عيونهم واضح حورها، والنوم منها يتخذ له وكرا، لا يميزون بين الطيب والخبيث، والصالح من المفسد، إنهم حول المفسد يلتفون، ومن الصالح ينفضون، على الأرض يسعون عميا عيشتهم كذابة على الفطرة تحيى، وإذا مس الجوع بطونهم، في قعور مآويهم يمكثون جمودا، وإلى السماء يهرعون فرادا وحشودا، يرفعون يوم نكد دعاء، وللاستسقاء يقيمون صلاة، تخفف عنهم ما أثقل النفس من إملاق ،يسرفون الوقت للإصغاء و المتكلم ثرثار لا يحصر في الكلام اختصارا، ولا يشعلون في الأزقة انتفاضة مما تحطب لهم الأحزاب من بؤس، في محرقته أطفالهم سيحرقون والأحفاد، وكل من يكون إرثا لحاكم من السماء نزل يكون لها على الوطن ربيبا، إنه عليهم يحرم زينة الحياة، وكل ما تشتهي الأنفس يكون عليهم تحريمها، إن حقهم في العيش مهضوم، جثة بين مخالب الكواسر، ليس له في المجتمع من منهم نازع، فإن الذي يدعي أن له مقعدا في الصدى، وهم نخاسون كثر في سوق الرعية، عند المحن تراهم فرارا إلى خمهم صوامت.
فجاءه الموت ومن بطنه إليه بعث، فأفسد عليه ما حوى بين أكل وجماع، ومن كثرة ما التهم من طعام، أصدر بحوصلته وجعا من مرارته تتقطع أمعاءه، فربط بذراعيه بطنه، وقوس ظهره حتى لامست ضلوع صدره عظام ساقيه، وقد صر من الألم شفته بين القواطع، ثم انقض إلى الأسفل ساقطا، يستقر بالحضيض وكأنه كان به موعودا، والأنين فواصل، بين حصر النفس في مكمنها ثم تسريبها عبر ضيق الزفير قصرا، حتى تكاد الروح منه أن تزهق، فلا يرى احتضارها غير الموتى، وبه يستهزؤون مما ابتاع لها من عذاب أليم بأبخس وجبة، وهو في الختم بخيس ذليل، يتخبطه الألم، فينقلب كافرا على الأرض، يلطم وجهها بصفعات من كفيه، وكأنه يرفض رفضا أن يكون جسده إرثا لها، به تحيى وتدوم، به اشتد ألم الوجع، وتمسس أن الموت بداخله حل، وأن البقاء منه تلاشى وطار طيفه، فاستبق الرحيل زاحفا، ومن جسد تلك التي كان منها الوليد اتخذ نعشا، به يلفف جوفه النخب مما كان عليه من الرأفة منقوصا، وبسط ذراعيه من غلها، وأصر التي قتل إلى صدره معانقا، وبقي فوقها مطروحا، بعد أن دوى مزق بحوصلته، كتم الصدى صوته لأن لسانه كان مخروسا، فتعاقب الليل والنهار، وعقاربهما مكسرة لا تثير دقات على أدمة يعمرها صدى صمت مريب، وتحت غطاء من سماء قد اهترت زرقتها من شدة القيض ، تسننت الجثتان وامتزج خليطهما وانصهر حتى صار لقمة غبار في كف الأرض تدخره في خزائنها حصادا محفوظا، حتى جاء الشتاء من الطبيعة إلهاما، ومعه يحمل الرياح والمحراث، وغيمة من مائها يسقي به ما حرث، ولما نبت الزرع، أكون قد ألبست لوجنة الأرض وشما من ربيعي فلا ترهقوا أنفسكم ولا تسخرون جنودكم في البحث عني داخل مخيلة الوجود، فإني كالطيف، يستبق نوري لمح البرق، أضيء خيالات المحتاجين إلهاما، وكلما أحرقتم وجه الأرض، استبدل وجهها ربيعا تسر أزهاره أجنة بعيني تنظر، وأفجر من عيوني أنهارا فتكون الغيوم مجراها، وما من جمال في الكون سخرتموه لأغراضكم التوافه حتى انقرض، فخيالي واسع الأرجاء فيه أرمم ما تخرب، أو آتي بالأفضل منه، لعل الإنسان ينقص من فجوره،و يكون على نفسه عادلا ورقيبا، ولكن الإنسان غاو يهيم في ظلال الشهوات، لا يمسك عنها ولو لمحة ارتداد الطرف، ولا يأجلها إلى آن ولو يحضر الموت بلعومه ، إنه يستبق الموت في ما تهوي النفس جمعه، وإن اقتضى الأمر كسبه غصبا من فقير زغب المخازن، حب الحياة بين الناس صراع دائم، فتنة قائمة بين ألوانهم تثار ، فنهلوا مما فجرت من عيون ماؤها علقم، شرابها زلال لظمي في الجحيم يحتضر، لعل كتاكيت القرويين يجنحوا إلى صوابي، ويمسحوا من الذاكرة ما أخذوه عن الذي زعموا أنه لهم زعيم، فإني لا أتركه يمشي في أزقتنا متبخنسا بجلباب الخذلان، فلقد سن على الجنوب ظلما وجورا وأفقر زنوجا، ومن أبناء كسيلة بالجبال أعمى تراثهم، وحاصر خروجه حتى يموت في المغارات معزولا، فإني عنهم مرافع، وهم في المحن عني نواب، لقد جئت لأقول في خلقي شيئا، أدخلك به كونا عند الغير لم يكن مألوفا، وأنطق جهرا ولا أخشى عقابا، لما أكشف عنهم قبحا به تشان مراتبهم، يخالون في قببهم أنه كتمانا مستورا، لا يطلع عليه إلا أفئدة حاشية منهم إلى الطغيان تجنح، إني لهم المزعج، الذي يأجج في صدورهم غضبا كالصواعق، فيرمون به بيتي خرابا، وإني للخلق ناطق خيرا، وإنهم السفهاء بكلام الشر والتضليل يكونوا من حولي قد بنوا جدالا، انك لا تقرأ على سيماهم إلا الخذلان، وإلى المذلة يتسابقون شراء، والذي يرفع شأن الحق، ولا يخفض هامته حضيضا، إنهم به يستهزؤون ابخاسا، ويقبر سجونا أسمائها يتكالب التاريخ عن ذكرها، وفي مزابله يحفظ كثمانها، ولا يفصح عنها إلا إذا انقلب الدهر على جلاديها، فإن لباسي في الحياة حلي من قرطاس ويراع، وبؤس من سقف الرموش تتدلى أذياله، إني منه فاطر مائدة أخشابها من شجرة لا تنبت أصنافها إلا في شروخ الشواهق، عليها أنعم بقوت فاكهة لا يأكل منها إلا رضيع يتيم، ولا يجد بين النساء حضن امرأة عاقر يتخذه في المهد مأوى يسكن إليه ، سوى يم فاضل إليه يمد عبابه، وكأنه له المنتشل من أرض لا تعطيه من ترابها إلا لحدا به يكون محبوسا، ومنذ أن كنت في المهد ولدا صغيرا، وسأكون في الآتي شيخا عجوزا، ينصرف نعشي على أقدامه من كوخ الكبر، فإنه لا يذهب إلى دار منها يدعي مجيئه جاهل، إني لن أكون بها نزيلا، أو ضيفا عابرا يتسول ليلة مبيت، أو لاجئا جيبه فارغ من نقود الحياة،فلا يستطيع فقرا كراء أو شراء محرقة، على جمر حطبها يكون قد فعل بروحه إحراقا، بها أو بالتي كانت من قبلها، لن أتبضع لجوعي أكلة من جنة، وأنتم على وتابها حسبتم أنفسكم من المخلدين، ترفلون في رغد العيش على مناجم، ثرواتها تأخذونها من أمة غصبا،فتنزع الأمكنة مما نصبتم عليها من مآثر قذرة، يلوث منها كل إنسان في الفقر صار لها عابدا، أحفاد منا لما يرفعون إلهامات شوامخ، سيقتحمون مساجدكم كفارا، وما يستعصي على عرش حضوري من جدار على السقوط، سيكون هدمه على العاصفة هينا ويسيرا، يومئذ نكون قد أفرشنا أديم الأرض مقابرا، وفي بهو التاريخ الذي كان علينا الدخول إليه محظورا، نفتي عقابا في الحساب يكون عسيرا، فيا خليلي الفقير، ابسط كفك إلى كفي، فكفي عنها الشح نافضة، وبالسخاء عليك تجود، قلبي إليك مانح ذرة حرية، وأنت لها الغارس في مزهرية الأرض، فتنمو لك زهرة لا تضاهيها في الخلق أزهار بساتين جنة، فإن عطرها ليس حاملا لرائحة التراب، ولونها من لوني الأبلج به زان إكليلها، ورحيقها يطهرك من كل أشكال نواقض الحياة، ويبطل عنك الوضوء في مواقيته، وعنك يسقط كل الأساطير التي سلمت لك بالمجان إرثا من تراث إنسان ادعى في الإنسان أنه نبي، فهذا أيها الخليل قبري وليس لي غيره ، أتأبطه ومنذ كنت في بطن التراب جنينا، كي لا يفلت مني وأضيع كالسراب في البيادي، فيه أموت وقت ما أشاء، ومنه أكون مبعوثا، لما أسمع مجادلا على الطبيعة بجهله تهجم، وعزم على قتل ما وضعت بها من جنين تزاوج أرواحنا، سفيه وإلى الخراب يسعى، يفتري على الناس تضليلا في جرائده، إنه يريد بهذا الكون إصلاحا، فهمس في أذني هامس، ومني طلب أن لا أدلي للغير بصفاته، وقال في الهمس: إن الإنسان ابن غير شرعي لهذا الكون، ولقد كان له في المهد الشيطان معلما، وعن عقيدته تتلمذ ليكون لجمال الكون مفسدا،
تنفست الأرض بعد اختناقها، فنكحناها نكاحا بماء دافق كان إخراجه من غيمة، تصفع بخارها من جبين يم جعلناه لباسا، والرياح سخرت هبوبها، كانسة ما علق على ضلوع الأرض من رميم الإنسان،وجاء الغيث يرفع عن الناس أثار سنوات عجاف ، أخرج إبانها الإنسان ما كان بجوفه من سوء مخزون عندما كان ينقب عن سحاب في أكمام زرقة السماء، يبتغي منه شرابا، ويسقي منه بهيمة وحقولا، ولو كان قنوعا ، لكان الماء منه قريبا، ولكن ما تحمل النفس من فجور، وحب الأخذ ما يملك الغير غصبا، جعل الغيث ينحبس من السماء ويصيح غورا في بواطن التي يعمرها بذرية منه لا تسعى إلا لخرابها، وفي ذلك إنذار له ، إنه يأبى جاحدا أن يغادر منها طواعية، ويصر على نشر البقاء في أرحام النساء .

فعفت عنه الطبيعة، ومسحت على جبينها بعرق المستضعفين ما من جرم في حقها قد ارتكب، فوضعت الأرض حملها، ومنها النبات نما، وما من كلإ تجود به سعى إليه بحذاء الطغيان أعمي يحسب أنه به الأولى، فيثير خصاصه بين الناس فتنة، وعلى الفقراء والمساكين في ديار البؤس عليهم يفرضه رزقا ممنونا .
فلم ينج من البلاء الذي أصابهم في محرقة المجاعة إلا قليلا منهم، في لهبها هلكوا جميعا غرقا في أوحال موت دنس، فتم إصلاح الأرض مما ألحق بها الإنسان من أعطاب، إن ذلك لم يتطلب منا إلا وقتا وجيزا، فكان على المفسد حولا ثقيلا، فانطلقت تجري في ما أنشانا لها من مدار واسع الفضاء، تضع عبره الأحياء في موازين من أربعة فصول، خصائصها مغيرات في توازن لنفسية الإنسان، والليل والنهار فيهما استراحة وكسب، تدحرج في تدحرج بهما تقاس الأعمار ويحدد الفناء، فصرفنا على الناس ما من مصيبة بهم حل نزولها، وبعد ما ينصرم طورها، فإن من يخلف الذين هلكوا يكونون لها نسيا، كمؤرخ سفيه من مدن سلالة المآثر، يغض عنها الطرف، وفي كتابه لن يدخلها جحودا بالأجيال، كي لا يتخذوا منها تراثا، إنه ناكر لما على الحضيض من ظلم في الأزقة تفشى من بوابة عدل وعم حتى الأرحام وما بها من أجنة ، أبرياء، ولا هو بناقل ما أرهق الناس من ضرر، منهم نزع أمتعة الحياة، ولم يترك لهم سوى الصلاة بها يستنجدون، إن المداد الذي يجري من أقلامه، لا يسطر إلا ما استحسنه الجلاد ورأى فيه نفعا وحجابا، والله...، إن الإله بكى حين رأى ما صار عليه خلقه من بؤس يتخبطهم في الحرمان إكراها،
فتحت الأيام التي كانت موصدة أبوابها، وخرجت الصبية من المقبرة، سالمة من قنص الحمام لها، كذبابة جوفاء عالقة على شع عنكبوت، تعلق بنظراتها كفنها الرث على عروش شجرة متيبسة، تشتهي حطبها أفران التدفئة في الشتاء، وتسوقها الأيام عبر فلك السنين ، لتكبها غبارا من رماد يتآلف في أكواب فخارية، ويتلبد في الأرحام عظاما، ومنه جسدا يصير، يرغم نفسه على البغاء فينادي من مضجعه على زوج يتخذ منه مقبرة يواري فيها قسطا من حضوره، ثم ينصرف متسللا إلى شيخوخته خوفا من عقابي له، عما رمى من قمامته في ما خلقت لنفسي من جمال وأسميته أنثى، ليكون الكون من بهائه جميلا، وأخرجته منها جسدا عصيا، اعرض كراء غرفته على أرواح ضائعة في التشرد على رصيف زقاقي، حيث الصبية كغيمة سل منها لونها فشردت عن الغيوم والسماء بيداء قفر، فانقضت عليها ريح العواصف، وبفظاعة مزقتها إلى أشلاء في الإفتراس، فتلاشت وتبددت واختفى معها رعد وبرق، وأصبحت ميتة، جثثها من حبل مشنقة تتدلى، لا تسقي من جرابها ظمآنا كوب مطر، طلت المحن وجهها بسخام من قدر الكآبة والتجهم، ونعلا من وحل الطين قد أثقل ممشاها، والأقدام مقرحة بلهب جمر الحقول، ودمع على الخد قد تراسب كالحصى، غطى ما وضعت من صورة على وجه التراب كانت له خمار صبابة، عندما أبصرتها في الكرى كالحلم، نظرت إليها عن قرب، وهي تصر إلى صدرها المتكلس لعبا ودمى من نسيج خيالات الصبا، وبنظرة عين مصابة بالرمد، تحلق على انخفاض والأجنحة منكسرة ، والشيخوخة أديمها لحد ضيق، فيه ومنذ نمت كبذرة من ماء حامز في رحم أنثى أرغمت على البغاء في سوق الدعارة، لم تذق ما اشتهت من ثمار نخيل سقيت واحاته مما افتروا من سدود السراب، ولا فاكهة أغراس شجرها بالحراس مسيج ، إن نصيبها من التراب، صحن خزفي صدئ عالق بيدها اليمنى، عليه وجبة موروثة من زقوم الإملاق، فإن الكبت الذي رغمونا على حمله، يمكننا أن نخلق منه أشياء تغضب القانون، ونطفئ بنفخة واحدة من ريح في صدر الأزقة، كل الفوانيس التي يتدلى منها سناء يخدع العيون، ونقطع الحبال التي تشدها إلى السماء ، فيتولد من حرائق أسمال التقاليد دخان كظلمة الليل يجثم على حارة الأعياد، فيرى الضرير في مرقدي إلاها يرتدي فرو إنسان يحتضر، فيتلمسه استهزاء بعصا، والعصا ذراع من جسدي بها سخرت له المشي، وتكبر الصبية يتيمة، والحرائق في أنوثتها مشتعلة، ورداؤها الرث الذي حاكته لها تقاليد البدو ليكون لها لباسا كباقي رعايا الخيمة التي تدار مقاليدها بالوراثة ، وفي عتمتها القاتمة ، تفض بكارة الصبية، عندما صارت ملامحها فريسة لشهوات الأنذال ، فوضعت من رحمها الذي صار متعفنا جيلا، ثم آخر، ثم وضعتني ، فطلعت منها حاضرا، شامخا، كشموخ توبقال على صهوة هذه الأرض التي كان منها نباتي ، بها ثلاثة جوامع عتيقة وضعت على عتبة البحر لتكون لبعضها جوارا ، تحتسي شراب الخمر من يد سلطة جعلت من أئمتها صهرا ، يحرم على نفسه الردة واضع بصره في غطاء عما تنشر في حاضرها من مقابر وسجون .
من كوة زنزانتها، استيقظت، كمطلع الشمس من جفن فجر أبى الليل أن يزيح عنه غشاء ظلامه، وجهها الملثم بالكبر، من البدر أخذ سمرة ضيائه، والفقر يلاطمها بعروش تدقي منها العيون ملح زبده، والعيون حور كعيون المهى، بالكحل زينت رموشها، يغرق الشذى الطافح على نظراتها شاعرا عفيفا في محراب الهوى مصلء، والسواك الموضوع على الشفاء، كطبق عسل يحل للصائم الإفطار في محرابه، فيهيم بها شاردا يقطف من أفنانها القبلات، وضفائر شعر مصففة يلمع منها وميض أقراص من فضة، حفيفها إن تراقصت، كشذى الناي إن غنى به النسيم على ربوة الصبح، وجيدها تنمق بعقد أضواء أزواج ألوانه، وعبق القرنفل يفوح من حبل الوريد أريجه، استوت قعودا، ومرقدها فراشه رث، منه الحموضة تنبعث روائحها، فبسطت ذراعا به تجر مشكاة إلى قربها، والمشكاة قد تاكل وجه طينها، وصار عبوسا مما يلفه من ضماد الجبر لكسوره، ينش حزنه تحت ضوء شمعة قد احترقت ولم يبق الليل منها سوى عقب، ولهيب نورها يكاد أن ينفلت عن فتيله، هربا من كوخ كسا الليل أديمه ظلاما،ترتعد أطرافه من رياح صقيع الشتاء ، فحتى النجوم تواري عنه بريقها واتخذت من الغيوم لها حجابا، تلاطم بأهذاب نظرة ولدا لها في المهد وضعته، وفيه عن قبر له تبحث، فاتخذت له من حضنها عرشا، والعيون يتفجر منها ندى يدري على الجفن حزنه، فتكاد من فرح مصعده القلب أن تنصبب دمعا، وفؤاد لا ينام الدجى حامل برأفة الأمومة، يسمع خفقانه من جوف صدر، والليل جدول فيه يسري حتى مصب الصباح، والإصباح على حبله تنشر أرقا، وبصرها على المهد ظلالا، ومنه تغرف نظرات لا تفارق أبدا من وضعت به احتراسا، وكف قد زينت بالحناء رسوما، وكعب يعلوها لباس دملج من فضة بريق لمعانه ساطع، وتفتح مزقا على أثوابها، وأبانت عن صدر به ثدي عالق، والثدي كجراب سقاء قد اهتراه الإفراط في الاستعمال، وصاحبه قد أنهكه ثقل الجراب وما يجلب إليه من بؤس فيه يمكث قعودا، فمسكت يدها الثدي برفق، وناولت الصغير الحلمة منها يرضع غداءه لبانا، فنفضها الثغر، وعنها قلب وجهه عبوسا، لما ذاق منها خبزا لحموزة التراب يحمل، طعمه في الذوق مرا كالزقوم، لابتلاع لقمته ينسد البلعوم، فعلا عويل استهلاله، وملأ الصدى بضجيج تمرده، فنهضت من موضعها مذهولة، والنفس بها جمر الحزن ملتهب، وعسعسة الليل عنها تغطي مآربا، بها تحاول أن تداوي انفطام الرضيع عن الأكل بالتمائم، فأثقلت جيده بما كسب إيمانها من أعراف شعوذة تداولها النسوة فيما بينهن إرثا، وفتح للكفر قلبه منزلا، وخرج منتفضا جحودا، فمر على قرية، بل قرى لها كعبة ورسول، وقد حففنا حدودها ماءا ورملا، ونشرنا على بسيطتها عقيدة ولسانا،فاتخذت لضعفها أقساما، أهله كأهلها يسكنون البيادي ويلبسون خياما، وحوشا ينعت الغير حضورهم، منازل حقيرة أقاموا لأنفسهم في الدنيا، فانغلقت أبواب الجنة في وجوههم، وصاروا في الجحيم أقنانا، في بيوتهم يستوقدون من الفتنة نارا، ولا يبحثون عن عيد يلبس ورزة الكرامة إصباحه، فأحصى المولود وعلى أمره مغلوب، فوجد الأعياد كثر وليس له منها نصيب، فأرجى أن يكون له عيد، فهرت كلاب الكون منه، وعين مقتنعة بما ترى من بؤس طحالب تتدلى على وجه الأرض، خلفها اختبأ النخاس وبسهمه أصاب المولود وحسبه جسدا زائدا، وتركه جثة يعيف اللحد أكلها، تقلبها بين يدي منجبته واللسان مثقل بالرثاء، إنك خلقت فقط،من اجل أن تكون رميم تراب، يكون له من العدم موطنا، فليس للطين قلب،و إن وجد لن يستطيع الإنسان حمله ، وإن حمله لن يستطيع أن يجعل منه للرأفة منبعا، وأن يلمم به شتات ألوانه، فإذا حضر الموت قصره وأخذ منه ما كان يعجبه، تراه متجهما وقد أدبر راكضا يقسو على الضعفاء، وما من وجه تغرف منه عيناك ما يزيد عن صاعها من جماله، وإليه تميل كالهيم منجذبا، غير مدرك أن مصيره بعد الهلاك جمجمة، لو اطلعت عليها في قعر اللحد لوليت منها فرارا، مادام في الوجود كل شيء مهدى إلى الإنسان سوى الحرية، في زمن لازال الذكور يشترون النساء ويضمرون الابتياع خلف المهر، وعزمت أن تلقي بالجثة في باطن الأرض، فهمست الجثة في صدى ضرب على أذانه الصمم، ولا يسمع إلا ما يستملحه، فلقد بلغ العقاب بالنساء أشده، أرامل وعوانس ومطلقات والثيبات من النساء، فالبغاء حق لهن ، بائن أم مستور، وما يشتهين لأنفسهن من فحول لمضاجعتهن غير مرغمات ولا مغصوبات، فإن النفس وما تحمل من شهوات لا تكون جميلة إلا إذا ظفرت بما اشتهت من جمال إليه تسكن، إني لها قرين وإن كانت خبرا بانقراضي من الصلصال، تاركا هذا الكون يذبل في مزهرية نخاس، كان من وراء مهدي أخذ كل أمتعتي غصبا، عندما بلغت البحر واتخذته مغسلة أطهر روحي من أسمال التراب، والضحى مصباحه في يدي يضيء بيت النهار، اتخذت من العباب شرفة، منها أهاجم قاض يزج بجنين و أمه في السجن وإن تبتت إدانتها، فإن ما من عقوبة تصدر في حقها باطلة،حتى تضع من برحمها ويبلغ الولد فطامه من فضله تتمتع بسراح مقياسه ما حملته في بطنها ،و ما له من حق في الرضاعة مضاعف و تلكم ستة أعوام وافية ، فإن يراعي لم يدر عدوا إلا أذاقه مر الطعنة البكر، حسام يدي له منذ المهد شاهرة، وبراقي حوافره من حديد، موعده في الركض العواصم العتيقة جثامينها عالقة بالسماء بحبل من مطر، رموسا على أطلالها لا يجدي بكاء نائح على قبر جيل بل أجيالا ثوارت في الجهل، ولم تترك من صلبها ولدا يوقد نارا، تضيء شعلتها أزقة قد استوى إلى سقفها الظلم والجور، وعلى مئذنة التاريخ تنتصب جثة عفنة تحارب بنبوآتها ذوي الألباب، وهم بين الرعية نذر فتتوارى خلف الحياة عقيدة كنت لها المشرع، فرائضها بعتها إلى أحفادي على ألواح من رميمي، يتلونها انتفاضة يضيئون بها قبر وطن يمتد من الماء حتى الماء حتى مراسي سراب البيادي، قبر يعج بجثث تخشى الضوء، كالأشباح لا تنشط إلا ليلا، والظلام يستر سرقات خيرات المستضعفين، يسوقون الأجيال كقطيع أغنام إلى السنوات العجاف، ثم يلقون بهم زبلا في براميل قمامة الإقتراع، بعد أن نهشوا الأطرى والألذ من لحومها وما تضمر الأرض وما تظهر من خيراتها، يخالون أن الحياة جميلة وما هي إلا ساعة عقاربها الإنسان، والموت أجمل منها بكثير، فلا تستقبح بئيسا كساه السفهاء بذلة الفقر، وراح يسعى بين أعراش الحزن مكلوما إلى رزق يحطبه مما حرثوا له من زقوم سقوه من محيض غيمة، فتمطر عيناه ماء أجاجا، والبحر وما حوى من ملح إلا من مقله لما كان رضيعا، استهلاله بكاء والمهد فراشه بؤس مبثوث حتى اللحد، بكاء تلاه أمام ثدي جداوله ناضبة الألبان، ولتلاوته السجية أذرف القمر دمعا منه تكونت النجوم، وانقلب إلى المساجد يشكو أمره، لعلها تمده بتميمة ترفع عنه ما أصابوه به من ضرر مزمن، ولما حللت موضعه وبلغت في الموت فطامي، أبدعت من المهد فلكا، تجري براءته في الوجود، وليس لمجراه مراسي بسطتها له يما من محيض النساء، حتى إذا بلغت مغيب أرحامهن، أرسيت مركبي لأكون في أكاليل الجمال رحيقا، وبصدر الأنبياء همس لما يدخلون الكرى يرهقهم مني وحي، على ألبابهم يستعصي خطابه فهما، إنهم بأسرار الحياة ليسوا خبرا، ولا هم يدركون ما حوى كفي مما قذف به البحر من زبد، أنشدت من ملحه صخرة صماء، فكسا عراءه نفسي وشاحا من زرقته، وهدير موجه كلمني عما بأحشائه كامن، فاغترفت من أغواره ما أشبع خواطري زادا، وطرحت البقاء عني بعيدا، وهمست للإنسان بالرحيل فكان جحودا عصيا، إن هذا الكون الذي نحط به الرحال طيف ونحن به سوى زوار، يسوقنا الرحيل بلجام الموت دون أن نأخذ منه تذكارا، فأحضرت في خيالاتي لوحة تحمل صورة الغروب، ووضعت لها من المواقيت غسقا، أجراسها مرفوعة وحبالها بيدي، كي لا يقربها إنسان ويكون لجمال رناتها مدنس، إني لن أكون خفيض الهامة إلى لقمة على كف طاعم يزعم أنه عظيم بجاهه، فإياك يا خليلي الفقير أن يكون كفك مطرح قمامة الأغنياء، فمشنقة أحب إلي وأعز من أن أحيا بفتات أذلة، أو أن أقبع مكبلا في مربط راخ السمع إلى خونة وهم يتلون على الأجيال كذبا، فالعهد مستنقع، ومن زقومه تغرف الأجيال شرابها، ومن أرض جثثها قد تحللت، فأرخت أمعاءها طحالبا أوحالا، منها للبطون الظاهرة يكون طعاما، حواصل ذاقت مر زغب، والمنايا لها لجم إلى القبور أسرى تساق ، وهرعت وبالجفن الرمد مزمن، وعلى مشارف ولادتي أبصرت لوحة على جيد السماء معلقة، قماشها من تراب يحمل نذلا من بطن زنجية قد خرج، ولقد اغتصبت في المضاجع بكارتها وهي قاصر، فمر على قرية تحتضن ما ينتمي إلى سلالته من مآثر، يتأبط جثثي مسرع الخطو إلى محرقة، جلب إليها من مسد النخيل حطبا، به يذكي الفرن إضراما، وحقولا من تربتنا يصير أدمتها رمادا، متخذا من جداريات السجون صحفا، عليها سطر أنني مجرد كذبة، أخفقت في المرور إلى كرى الأوباش لتكون لهم طيفا، بهم يدفع إلى شوارع اليقظة مردة كفارا، فالملامح لا تخفي ما بالدواخل، إذا أصابها قرح تفجر قيحه على وجنة الوجه، فيكون الزقاق بسيله مغمورا، لقد استولى على مائدة الأرض، وما يدخر البحر وما تختزن في باطنها، ولم يترك للحواصل معاشا، لقد حصد جميع ما حرث الفقراء من بذور غيث في غيوم نفتت بها المداخن، فكانت لها السماء حاضن، من مزنها توضأ، ثم استلقى على سرير من الليل، وأغمض جفن بدر، لف وجهه بلحاف من أسواره القديمة، ودرى من السماء ظلاما كسا بنقعه أريافا قصورا، وفي غرفة، من الجنة جلب إليها من الأثاث ما كانت به تفرش سراياها، فحفها بحراس شداد وتحت فوانيس مختلفة ألوانها، يضيء من كبدها سناء خافت، يمضغ حلمة عشيقته، ثم يلهو عابتا حتى إذا بلغ الليل جوفه، انقض عليها وأكل لحمها نهشا، ولما استقر ما بلع في بطنه، لحس بلسانه ما من دم الضحية به تلطخ ثغره، ثم ينادي على جلوازه بهمس بارد، زنجي من تخوم البشاعة أخذ صورته، إنه بائر في يد نخاسه، مروض على افتراس بكارة كل ما هو جميل في الكون وإلى الخلق مهدا،يأتيه كل آن بما يشتهي من خمور فاكهة على الناس أكلها ممنوع، ويأتيه كذلك، بما قد هيأ له من أطباق نسوة، لا ثيبات ولا عوانس، لا عذارى أزهرت عروش بكارتهن وفتحت لناظر أكاليلها، وأرخت على أطرافها زبدا، تلاطم به عيون ضرير، فترفع عنهما العمى، والمقل منها ينفتح الومض، و الهوى كان في الخواطر كامنا يتأجج، فإن هذا الذي يسكن الجنة، لا يقربهن ولو لمسا، إنه يحسب أن المحيض قد دنس بحموزته فروجهن، فيطيح بنفسه أسفل حضيض، ويدخلها جحر مذلة عندما افرش فراشه قاصرة، يحسب الذي أبصرها في حضنه تلعب أنها حفيدته لازالت تلهو في البرائة، صدرها لم يهل بعد منه نهد، ينزع أنوثتها غصبا، ويفترسها حتى القتل نهشا، ثم يخرج بتقاليد الصلاة إلى قارعة الصباح، وهو الخبيث المتبخنس بطغيانه، يرفل على الأرض وما عليها من مستضعفين، وما يهيأ له الخدم من شتى ألوان أطعمة الإفطار، لايلتهمها حتى يتلذذ وقتا طويلا بأنين السجناء في خياله، ثم يبقر بسبابته بطن كل حبلى كي لا تضع له أحمالها أحرارا ،يجبروه على اعتقالهم في سجونه حيث تقبر و لا عن الكرامة تسأل ، فوضعت نفسي على قارعة الزمان لأعد له عقابا، والسوط في يد من سيتلوني من الأجيال، يجلدون به القبر استهزاءا، فيخمد دليلا خجولا، ولا يستطيع في حارتنا حضورا، لقد جئت، من حيث أن الإنسان لم يدرك أبواب مجيئي، فيخال أني من رحم الطين قد خرجت ولدا، فنبتتي لم تزرع بالأرحام بذرتها، ولا هي من ماء حامز تدفق من شهوة الطين للطين، منه أفاض الإنسان فملأ غرف الأرض اكتظاظا، فإني أتيت من روح تمردت في الصبا على الأرواح، وكانت بالإنسان كافرة، في الكون رافضة أن يكون لها جسد الإنسان لباسا، فولجت حاضرا، والحراس عمي، حيث يقيم هذا الإنسان فجورا، فمنذ مهده بداري يفشي خرابا، فجئته لأكون له ختاما، فإن الحاضر مثيل ما انصرم من حقب، فما ظهر من انس على عقاربها، من شدة بطش الطغاة ترتج قلوبهم رعدا، قبر أزلف لهم في كمد الجهالة، فيه يقيمون عراة،أمتعتهم بيعت والمشتري نخاس لا ينجب إلا المآثر القديمة ، يمشون والأزقة مكتظة بطوابير اللامتناهية ، في قعر عواصم الوراثة يكون ازديادهم موتا، و لا يسمع بالصدى صوت ردة جهرا ولا همسا خفيضا، ولا لب على أطلال صومعة أو منار يستنكر جرائم ارتكابها رسل في ما ورثوا من أوطان حواصلها زغب، ومنها اتخذوا لهم ولأولادهم عرشا، تحت قوائمه ذل أهل الضاد في ديارهم، والنقصان في شأنهم ثم والكسر، و بالدناسة والقبح تشان رعية، لسانها يلبس عقيدة، في جحره يقبع خامدا محتشما، لا يستطيع نفض نبي لهم ووثابه منهم كان منزوعا، مقبرة بارزة على الأرض، وحراس الموتى قد اغتالوا الله صبيحة عيد فقر، ومن كفه اتخذوا مطرحا، فيه رموا ما قتلوا من شعوب، إذا ما اجتمعت صارت شعبا، بلاد ميتة لا تسمع بها صرخة، إليها جئت أتأبط الموت الذي منه يفرون ذعرا، فما كان علي الحضور إلى مزبلة هذا الذي أخد مني ما منحت الطبيعة من مواليد جمال كانت من خلقي، فإن الإنسان صدئ ولا يمكن ترميمه، ولكني قدمت غصبا، لأخرج الأعداء من جحورهم، وأسوقهم والنهار ضحى إلى دار عدل، نقاضي الطغاة، ونبلغ الأحفاد بما قد ارتكبوا من مزاجر في أرحام الأوطان، بخس وجهك العربي في هذا الزمان، وأصبح صخرة سوداء صماء يصفعها عباب البحر، فلا تتكلم، ولا تتمرد، مخروس اللسان، وذراع الكناس قد كلت من لفض أرواح القتلى على أرصفة الماء، أما الخصم فقد بنى سجونا قضبانها من ذهب على مشارف الجنة، فتساق بالهراوة والأصفاد على قفاك موضوعة، وأنت خلف بعيرك في البيادي تتوغل، وسماؤها من خيمة على هامتك بأوصال التخلف عليك تمطر، ولا أنت للمقصد مدرك إلا قبرا على السراب يطفو، وأنت به لست المحل، حتى تصير من الشقاء فتاتا، فالإصباح غيروا موطنه، واتخذوا منه غرفة معتمة، تتدلى من سقفها مشانق من المسد برمت الأحزاب حبلها، تقطف رؤوسا أينعت وفتحت أبوابها لجيل نفض عنه تقاليد الأجداد، ضعفاء مسكنهم جهل بعالم من جنة، عالم بلا مجاعة، بلا حروب، بلا مزابل من الفقراء، إنه فقط افتراء سلطة إنسان على الإنسان، فما يسن من دساتير ظاهرها سعادة الإنسان، وإنما هي من أجل محاصرته داخل غرف الشقاء، فيستغيث في مواقيت الحرج بالأحزاب لمحاربة شغب الشعوب.
فدعيني يا لغة قريش قبل السماء، دعيني أشيد من قصائدك ثماثيلا لحماقاتي، وعلى كل مقدس أضع صنما هو مني نظير، فإن الطبيعة تتمرد أحيانا وأحيانا تثور، فهي لوحة خالدة من الجمال، يفسدها فقط لون متطفل دخيل، إنه الإنسان، الذي يأبى الانقراض من وجودي، فالشمس من مقلتي مطلعها، ومقلي تذرف دمعا كحبات عقد من لجين أنثرها سخي على بيوت فراشها إملاق، ولما يحل الشتاء، ويجثم الليل على الفقراء، ويغشى بظلامه مراقدهم، وصقيع الثلج يلدغ أجسادهم النحيفة، ومدفئتي تعيق أكل حذائي المهترئ، أسرق من جسدي فروه وأبسطه عليهم غطاء، وأقدم لإمرة جائعة ما تبقى من جسدي وليمة تفترسه، وتتأبط روحي وتعبرني كالحلم في غرفة الكرى، فيسمع الصدى وقع أقدامي تخترق زقاق رحمها الموحل بالصلصال، فتضيع مني لوحة عليها وضعت ملامح طيفي، لما كان يلهو في حارتي رفقة ابن الأرملة بما أبدعت لهما من جمال يستهزئ به الإنسان وهي تسقي الأرض عرقا، أرض بها غرست شجيرة زقوم، لا يشتهي فاكهتها جائع، ولا على سقيها تأخذ أجرا، ولا العدل أقام لها كيلا بالقسط، ولا فقيه من مئذنتي يرفع صوتا جحودا، فليس لها من مخبأ غير ليل، فيه تنكمش وقتا، حتى يخمد في السبات من هم حاملون من الجهل إرثا تقيلا، وفي خيالها توقد شمعة، تمشي تحت نورها تستطلع المكان، خوفا من جواسيس تتربص بأسرارها، فتتفتح في أحواضها أكاليل الشهوات، وتسبح كالطيف أناملها تتلمس البواطن من أنوثتها والظواهر، فتتأجج فيها الرغبة في المضاجعة، فتبكي جوارحها من عطش، تبلل دمعته وجنة تكلست من التعب، دمع تجهش به زفرات النفس تحسرا، وأرخت اللسان يتلحس شفتاها، ترشف منها رطوبتها ثم تعض عليها بالقواطع، وكأنها تستخرج منها عسلا، لم يمتص بقبلة لذائذها من قبل عفيف، ثم شردت في فسحة، والمكان طلق يروق ربيعه عاشق، والجداول رقراق ماؤها الزلال زغاريد لها الصدى ناقل في سكون الليل، عروس تمشي بين الخمائل وعلى الربى، والقمر وضعته على مشكاتي واستوقدت لها فيه ضياء، يضيء حولها ما يخفي الظلام من زينة الطبيعة وهي منها البكر، تنادي بهمس رخيم على ذكر قد أعجبها من بين فتية القرية، ففتحت له رحاب خيالاتها، فلم يعقل في الركود حضورا، واتى مضجعها أنيسا، محملا بكل ما لذيه من هدايا الجسد، لأنوثة قد نضجت خصوبتها وأينعت، ونشرت جسدا طازجا على حبل غسيل، تعرض عليه ما من طعام شهي في الجسد، وقد أرغمت على دسه في محفظة البكارة حتى ليلة يكون فيها الأهل شهودا على افتضاض غشائها، فألهمته نهداها فنجان نبيذ، حتى يقربها تحت خيمة الهوى وهو سكران، فسوى بنفسها سرورا، التهم منها حتى التخمة و التهمت منه ما من طعام كان عليهما في اليقظة محظورا، ولما دنا من أصيل مهلب حيث الحشفة تنغمس فيه مغيبا، لحظة الوقت، فيها أحبط مرهبا من فزاعة القانون، عليه يحرم ذلك، وتعاقب النفس وما من شهوات بها ألهمت، فإذا سبرت أغوار نفوس الناس تجدهم لجور العدالة يبغضون، وإنه لعزيز عليها أن تخرج عن ما هو مألوف بين أميين اتخذوا من الجهل أعرافا، لهم في الحياة عقيدة، فتلذذت منه جمال الوجود، من وجود لا يستطيع توأمي العدل والشريعة أن ينفذا إليه، أو يقتحمانه بفيالق مما سن من قوانين على الضعفاء تكو جحيما، وما بالنفوس من بغاء محبذ منهم تغتصبه قمعا، ففي جنة النوم إنها لا تنعت ذلك جنحة ولا جرما، أو مساسا بعرض وصي عنها أو العشيرة في حديقة الكرى .



#ابن_جرير_الرحماني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية - وجبة من طحالب الكتابة- الجزء الثاني
- الرواية


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابن جرير الرحماني - رواية الجزء الثالت - وجبة من طحالب الكتابة-