أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابن جرير الرحماني - الرواية















المزيد.....

الرواية


ابن جرير الرحماني

الحوار المتمدن-العدد: 2524 - 2009 / 1 / 12 - 06:00
المحور: الادب والفن
    


الأديب، عندما ينشر صحفه، يهم بصفع أحزاب قد أمنت من التمرد والبطش، فساهت سباتا، إلى أن استفاقت مرعوبة اثر صرخات كانت بطياتها محملة، فأعدوا له وليمة عقاب، في ضيافتها لن يحيد عما لفظ به من قول مبين ، لن يخفض به الجهر أبدا، ولو توارى لحدا مجهولا...

أخذ المساء يكحل جفن السماء بالغسق ، ومساكن القرية يجثم عليها صمت مريب ، والكآبة على جبين أبوابها تتدلى جلية كعش عنكبوت ،وحيطانها الحجرية التي توشك على الإنقضاض ، تحت ظلالها يتمدد عجائز فرادى تعرضهم أزقتها للموت في مشهد حزين ،وعلى وجوههم المغضنة ، ضرب ما ورثوا من إملاق أثقل القلوب نبضها حتى كادت تنقبض ،ورغم ما ضرب البلاد من العهود العجاف ،لا زلت الشياه تجود لما تتعرى من كسائها ، تلبسهم جلاليب لولاها لما كان للأقنان من غطاء يستر سوءاتهم، وهم ركود فيما يغشاهم من الذلة والتبخيس ، إنهم كالحجارة قعود، لن يتزاووا إلى النور حيث يتصبب من كوتي مدرارا ،نبعه مشكاة من داخل مهدي يكون لهم منقدا ،مما هم فيه من جهل يعتنقونه منذ كانوا بالرحم مضغة ،و القوت الذي تحصل عليه سواعدهم ،فإن لقمته لا تشبع بعوضة ، ترى تخرج من جحرها إلى الموت جانحة به تعز كرامتها ، خير من أن تلتهم ما هو في الحضيض بخسا ، حتى وإن كانت قسوة الجوع على أكله ترغم ،فإن القرية حاضرها ككافة القرى ،ولو تباين بينها اختلاف اللهجات ،فإن كان الدخول إليها يحظر على عاقل ،فلا يدخل متاجرها إلا من كان حليفا لأحزاب الإقطاع ،وكان على استعداد لينبطح قارعة تدوي عليه أحذية هؤلاء الذين في قلوبهم توغل الطغيان ،ونشروا لهبه في البلاد كافة ،ولم يدروا امرءا إلا وأصابوا وجوده بقرح لن يندمل عبر الأجيال جرحه ، أما العجوز المتهالك في قرية أشبه بمقبرة خاوية لحودها من نبض الحياة ،فيها تسنن وتحمز جسده وتعفن مما غاص فيه من بؤس مزمن ،كان له محبسا ومنذ أن كان في الثرى جنينا ، أما اليوم وهو يشرف على مغرب حضوره ،تخال أنه لوحة من أسطورة الجحيم مأخوذة ،في موضعه يشرد حاملا جثمانه على نعش محفوف برعب وفزع إلى حيث لا يجد لروحه مأوى تسكن إليه ،في بركته يقبع أمدا طويلا ،ولا أحد يقتحم صمته ويكون له مؤنسا ، والعيون المصابة بالرمد مطبقة جفونها ،ترخي سكونا عميقا إلى قعر أحشائه ،والأصابع المتكلسة تحصي بحبات سبحة ما تبقى لذيه من فائض وقت ،وعندما يلتقط سمعه الثقيل نداء آذان يرهب قلبه ، وتنكمش أنفاسه بدواخله انقباضا ،وكأنه يتلمس لحظته مغلولة بحبل مسد على حافة اللحد ،ينتظر هبة ريح العدم كي تكب فيه قمامة جسده ،إنه منطرح في مطرح الزقاق ،انطراحا يكاد ظهره منه أن تتشقق طرائفه ،إنه كالجلمود لم يبد عليه أية ململة ،باسقا رجليه النحيفتين ،وقضيبه الرخو المتدلي تلاطم حشفته الثرى ،وكأنه منه يفرغ ما امتص منها من أحفاد ،رهط من صبية يتحلقون من حوله وهو عنهم في غفوة ، وعلى هيأة كل واحد منهم عرف موشوم مما يؤمن به ذووهم من تقاليد بائدة ،هم لها فقط وارثون ،ومحرم عليهم في الجهل نقدها ،فتقرب البعض منهم حبوا أو انبطاحا مستكشفين باستهزاء وسخرية ،وهم يرمون بالحصى أيره الرخو الذي مسه الهرم ، يعض عليه العجز ، حتى إذا دعي لوليمة من حسناء ، لا يرنو من الانتصاب ولو استلقى في حضن مهلب، رأسه الأصلع في السبات يوسد خصيتين يخرا عليهما الذباب ، فأصبح نسيا منسيا بعدما أنزل منه طينا عاقا في كمد الإنات، ليغدو هذا الصلصال أمامه ماثلا على هيأة إنسان.
داخل بيت ،والبيت لبيوت القرية مماثل ،تعاقبت عليه أجيال لا تحصى ،دون أن يلحقه أدنى تغيير ،العيش غث والسقم عشه بالمراقد تؤدي الأمراض بمن بالمهد مزداد ،واللسان مخروس ،وما ينطق إلا بمسميات ما فطروا على تداولها بينهم ،فنصيب الأنثى عندهم شراء ،فهي لا تشترى إلا لناكحها ،إن الأرياف محارق معزولة ،حطبها من فسق أحزاب وفسادها ،ولا تتراءى لناظر ،في قعر بيداء تم إبادة حاضرها ،فبكى الرب ولقد سمعت جهيش بكائه ،ومن نهر دمعه غرفت غرفات أطهر بملحها نفس الفقراء مما ألم بها من بؤس هالك قد أفقد منها طعم الوجود ، يمشون عراة حفاة والليل أزقته ظلماء ،فأستوقد لهم من إملاقي في البدر مصباحا ،يكشف سناه عن بيت وما حوى من جيف غرفتي مسجدين بهما جردانا وصراصير أبادت إرادة أمة على سجادة الإقتراع.
بيت سقفه سحابة ، تنفث بها مداخن شبيهة بالصوامع العتيقة ،أقام نذل أركانها من أجور الهزيمة ، لما اشترى بقصائده الخيانة ، زعيما يتوضأ في مغسلة القرويين بدماء أهل الجنوب ،فناب قلمي بائن يهر منه كالليث ، فلما يرعد المدى بصوت زئيره تلقي من شدة الفزع الحوامل ما بأرحامهن من بذور الثرى.
إن بيت الجنوب آهل بأترابي ،تبيد العواصم الأثرية حقه في الحياة ،فإن لم ينل منها عبر السنوات العجاف ،سوى العطش وكوبا من الصلصال ،وبركة سراب يظن أنها حفنة ماء في كف ملاك ،فكلما ذنا منها زادت عنه بعدا ،فيحسب أن نبعها الذي أقفلت إليه ملاقيه ،إني دوحة بالأرض ، بها من خيراتي ما تشتهي العقول ،أصر إلى أغصاني جائعا حتى يشبع من ثمرها جوعه ،ولا أبدي النهي لجائع منها أخذ طعامه ،فإن من الجوع ما هو خير للناس ،إذا هم لبسوا الشوارع عصيانهم.
كبائسة استوقدت نارا تحت قدر والقدر يصلى لهب النار ،فيتقيأ على حواشيه ما يطهى فيه من حساء رقائق الشعير ،فيناجي خواطرها الجريحة حلم الطفولة الدفين في المراعي ،فتسكب البراءة في عيونها قطرة ندى من فنجان الطبيعة ،والقمر يبزغ قبالتها على هودج من ذكريات بكارتها ،فتتلمس بقلب عفيف وجهه الأبلج ،وبنظرة حزن مثقلة بقسوة القهر ،تقبل محتشمة جبينه ،فيتلمس عفيفا بأنامل ومضاته البنفسجية مشاعر أنوثتها ،فيتفجر همس الغناء من نفسها ،وتتولد لذيها ابتسامة رقيقة ، ترسم رعشة على شفاه قد نضب منها شذى القبلات ،فينبض قلبها الطاهر برفرفة رقصات استوحت فساتينها من قماش الطبيعة ،نسمة جمال بهي ،طفت على سحنتها مما يتربص من بغاء بوجدانها ،ومن همس العيون ينساب لون كزهرة الرمان على وجنتيها يتصفع ،فأحيت بزينة الكحل والسواك ما قتلت الشقاوة من جمال الصبابة فيها ،والعائد إليها قن قد أثقل المعول ساعده ،والتعب ينخر جسده كلما كان عائدا من جنة الإقطاع ،وفي يده المقرحة رغيف من الثرى لا يطعم جوع يومه ،والنعاس يغالبه للسبات فاقد شهية أكل ما أثمر جسدها من فواكه أينعت وحان قطافها ،ويطول انتظارها شاردة متحسرة واليأس يدب بداخلها ليطفئ شمعة أوقدتها من شرايين قلبها ،وينفخ الليل من جديد بظلامه على الكوخ ،و الإملاق يرخي سدول السبات على مرقدهما العفن ،ورغم استيطان الأرق في جفنيها ،حملتها عربة الأحلام لتستوقد شمعة في الكرى تغرس على سناء ضوئها حلم جنة ترفض الأرض أن تكون له مشتلا ،ليطول ليلها جاتما على كيانها لولا رحمة الشمس بها حين نقرت باب القرية تزف لها ميلاد يوم من أيامها غير مبتور ، صباحه حركة ودبيب وصياح وثغاء ،ومساؤه كمساء سابقه عندما يهمد ضجيج الأطفال وعويلهم ويخف من حول المضخة الهوائية اكتظاظهم ،يملأ الغلام أودادس الجرة ماء ،وما كان له ملؤها لولا الرياح والناعورة ،والأتراب ككل عشية إذا بلغوها ،أفرغوا ما كانوا يضمرون في نفوسهم من شغب كان عليهم بالبيوت محرما ،يتعاركون ويقصي القوي منهم الضعيف ،وتستمر اللعبة بين كر وفر بصعود سلم المضخة ،وهم بالماء يتراشقون ،في تلك العشية خرج الغلام عن سلوك أقرانه ،وانطوى على نفسه فوق مسطبة يفتل أحبال حزنه من الثرى ،وبدا شاحبا مصفرا وكأنه أخذ مقعد الشمس وهي تغطس في المغيب ،ثم شرد هاجرا المكان والزمان حتى بدت له المضخة وكأنها لوحة أبدعها طيف خارج الكرى ،واللوحة الآن أصبحت تميمة في عنق الحاضر معلقة ، كان وراء ما أضحى عليه فرقاء بقلوب غير نابضة ،اغتصبوا كل إنسان خرج يرعى مما تخرج له الحقول من طعام ،فنظر إلى القرية وكأنها لحود بها جثث من الفخار قد تعفنت من نتانة الجهل ،وقال والصدى يخشى سياط الجلادين من أن يردد ما قاله ،ثم أرجع البصر نحو المضخة فرأى أنها فضل عظيم لولاها لما شربت القرية الماء حتى ارتوى بلعومها وذهب العطش عنها وعن بهيمتها ،فهي ليست من صنع الأجداد والآباء ،فما تركوا بعواصمهم سوى صوامع دفنوا في طينها أقواما منكوبة ،ثم أخذته غفوة فرأى نفسه كقن تناديه عجوز ألبستها قسوة الدهر ثوب الضغينة والحقد ،وهي فاصحة له بما كان في كمدها مكتوما ،أيها الأسمر إنك لن تكون ابنا شرعيا لهذه القرية ما لم تبد للأعداء ردتك ، فإن لم تكن لذلك فاعلا ، فستظل دوما ذاك المفعول به ،فنعشك قارب موت على الشط ينتظرك ،فهبت عليه نسمة رياح من الكرى توقده ،والرعشة تهزه من رأسه إلى أخمص قدميه مدركا أنها امرأة عاقلة تعلم ما سيلاقيه من قسوة وسوء العيش .
فهب أودادس صوب مطلع الشمس تحدوه رغبة الوصول، لكن حاضره مكسور الجناح وقدميه مغلولتان بقيد من طين ، يمشي مجانبا مجرى الماء المتدفق من الصنبور لم ير على حواشيه اخضرار نبات ،والسحابة التي تخيم على القرية لاهي داكنة ولا ناصعة ولا ماطرة من لون الغيث ،ولما كسا القيظ المراعي وألبس أديمها سرابا ،أقام العبيد بجنابة الفقر صلاة الإستسقاء كرها ،وهو في محراب طفولته من صورهم غاضب ،يغل يده تحت إبطه ،ولا هو لكفه باسط ،يلتقط ما يهبط منها من عرق ترشح من الأبدان ،ولا هو منه شارب ولو جرعة أو غرفة مما اغترفه المصلون ، إنه من هذا الشراب ليس بشارب ،ولو أنه من شدة الظمأ يجيف ، فيولي سيره من حيث أتيت ،حيث الطبيعة مني تجسد عظمتها في الإنسان، بالأمس طيفا يلهو في خيالات زوجين انصرما ،وتركاني شاردا أنهش سدول الزمان كي أصبح حقيقة لما أنجب من خيالي أفكارا وأبجدية أنقش بهما شخوص مجتمع على وطن من قرطاس يصعب على أي سلطة محوها أو اقتحامها للتنكيل بها ،وطنا يكون بديلا لأرض هرمت وأصبح عمرها يناهز العشرين قرنا أعني الخامس عشر ،وزمان العرب اكتظ بالذين سرقوا من البؤساء أحلاما ،كل الأحلام منها صنعوا جنة فيها يرغدون ،وأرسلوا رسلهم يرثون الإنسان وينعون له وفاة ما تدخر الأرض والبحر من زهور قطفوها ضحى ، واتخذوا لها من جماجم الضعفاء مزهريات زينوا بها شرفة التاريخ راسمين بها أسطورة سموها لوحة التداول .
تدفق الإصباح من نوافذ الفجر ، و صب في كوبي رحيق نسائمه ، أناولها خمرة على مائدة من خزف لطفل يتيم يحمل في كفه ما زرعت من طحالب البحر في عيون أرملة منكوبة ،تشتهي من السماء رغيفا كالبدر ،وكنت بجوارها نصلي ملتحفين أسمال سجادة بالقرب من مائدة ملفوفة إملاقا ،لا قوت ينبت على أدمتها ،و الحواصل زغب تعض المقل أرقا ،والأجسام السقيمة تفتت ما كان يكسو عظامها من فخار ،طال السجود وانساب الشرود يسبر أغوار الماضي حين خرجت جنينا من أحشاء زهرة تفجرت نبتتها من صلب صفوان ،والأظافر مخالب نسر كاسر ،أنهش بها غيمة، أستدرج ما بها من مطر نقي عوض ما يهيئ لي من ماء في جراب من فرو الأرض ،أتوضأ بقطرة عرق أو قطرة دمع لأطهر ما أطلع لنكاحه من فرائض الحياة ،وأخرج صاح مما كان يغشاني من بهيم العمى ،أحرث جبين صخرة ،قد زرعت بها ما يشبع البحر من أكياس التين ،ليتقيأني جثة تسعى فيها الروح عصية غير مطيعة لما سن لي الغير من تقاليد رثة تلبسني كما تلبس الأسمال ،فأخرج عن كل ما هو من طين أحمل الكفر في صلواتي أيام الأعياد ،متخذا من المقابر مطارح فيها ألقي بجثث أبت النعوش أن تكون لها مراقد، لأؤثث بها جنبات نهج أحج منه وفير البذور،ناقلا من حضيض إلى ربوة ما استأنست به النعوش من جثث أصير من رفاتها جنة حدائقها ناضرة ، ويصبح للموتى حقل في الكرى ،فيه يعبثون سكارى ،وينشدون دون قيد ما كان عليهم من الأحلام محرما ،وأسقي الأرض من مطري فتخرج منها الأجسام زهورا تفتن الناظر بما تثمر عروشها من إنسان نقي طاهر لا يرغب في نشر الزوائد من الرسل.
والليل ،وما حوى من ظلم منهم بدا ،يعجز العاقل على كسر قيده المكنون في جهالة القوم ،يملأ الغلام كالجرة وكلاهما من طين يقبل الكسر ،كما تكسر عند عتبة البيت لما ولى عنه مندحرا ،خوفا من ضيق إملاق بزواياه قد اعتكف وعلى الصدر المتكلس قد جثم ،وكب الوجه المقرح بجمرات الأحزان هائما تائها وكأنه إلى المرقد أصبح نافرا ،فبزغ القمر قبالته وكأنه يدله على المسلك، و هو يعبر محاديا حقل صبار كثيف النبت، فهز سمعه صوت سجال فتية، فاختلس الخطو صوب المصدر متصنتا، ليرى أحدهم يحمل منجلا مهددا آخرا بغية تصدر إتيان الأثان فانبعث من الجمهرة الذي أحس أنه أعقلهم و هو يصيح بينهم أن يهدؤوا لأنه لا حاجة أن يحضر القتل جمعهم ،ففزع الغلام في مخبئه والقلب يرتجف خوفا أن يكشف ،والتزم الصمت وعيناه جاحظتان تتفحص الوجوه على ضوء القمر ،فبدا له أنهم شباب قريته الذين حرم عليهم البغاء وأحل لهم الكبت ،فأعمارهم متباينة التفاوت منهم من أدرك عقده الثالث ومنهم ما دون ذلك ، وكل منهم عن قضيبه يشهر ليقضي وطره من الأثان فينطح أرضا مبتهجا مسرورا ،كونه يعيش أبد الدهر حتى ينقل إلى اللحد في مذلة الكبت ،لايقرب النساء ولا هو لطقوس المضاجعة يعقل ،وإذا خلا مرة بأنثى يكون المشهد اغتصاب والضحية قاصر ،ويكون للحادث فعل النزاع بين الأقارب ، فليس له الحق أن يعقد قرانا لأن الفقر للزواج مانع.
هم القمر بالمغيب مؤذنا للظلام ليفرض جناحيه على المكان ،وتعذرت الرؤية على أودادس وأقفل يسعى إلى حضن جدته وصورتها تملأ المكان ضوءا ،وقد فر بها الزمان سريعا إلى الذبول كأقحوانة تموت عطشا في مراعي البسطاء ،وبرد الحزن نفث على وجهها بسمة رضيع ،رحيقها الأسمر الذي يسافر عبر الحقول مثقلا بعبق قصيدة لم تبح بها الطبيعة لشاعر ،ودفعتها الشيخوخة إلى طرد ما بأحشائها من أجنة ،لتصبح كشمعة على مشكاة داخل غرفة كوخ لا يسمع همس بكائها إلا حفيد يحمل في عيونه دمعة رثاء لها الإنسان جاهل ، وهو يتقفى الخطى يستبق الزمان وصولا إلى الكوخ ليجدها بالباب منكمشة في قعودها ،تدلي بنظرات مثقلة بالتجهم ،وأصابعها المقرحة تغور في تجاعيد وجهها المكتئب ،هوى عليها بقلب منكوب معانقا الروح التي شردت عنها ،فصرته إلى صدر تجري في أغواره أنهار من رأفة الأمومة ،تفجرت ينابيعها من ثدي أغدق عليه طعاما من لبان ،تظللهما برهة صمت رهيب ،وكأنه يحكي لها في باطنه ما رآه ،وهي تتطلع إلى عينيه بنظرات حادة وكأنها تقرأ فيهما ما ظنت أنه عنها كاتم ، وهي تخشى ما أوحى لها به الشقاء من كابوس أرهب مرقدها الذي غاب عنه دفء الزوج حين رحل مهاجرا إلى المدينة قسرا ،صادا عن خطب مآذن ،تكن له من السوء ما يكفي لحرق الأماني التي اقتحم بها تخوم رحم المجتمع على مثن مراكب من سجون ،أدرك أنها خلقت للفتك بجيل من أجنته ،فاتخذ من مهده مقرا من بوابته تخرج القبائل متآلفة ومن حضوره تتخذ قياسا به تقيس عقب عهد أطفأ عن القرية كل المصابيح ،واتخذها طريدة ضعيفة لاتقوى على الهجوم ،وخطاب الإفتراس فظ ،ينهش في الولائم لحمها الطري تاركا إياه على طبق الغد يتسنن ،فحسب أنه الجحيم والناس فيه تحترق دون بكاء ولا صراخ ،فإن كان لكل شيء ختام ،فإنه اللابث عصيا إلى آخر الدهر ،والدهر قبل رحيله يكون له الفناء ،ومن فوق هضبة ولى ظهره للقرية دون وداع ينشد البحر الذي تراجع عندما أبلغ بقدومه ،ليكون رسولا واللحد رداؤه ، ينبئ مبلغا خلقا أتى من خصوبة الأرحام.
تتبع يوم 12/01/2009




#ابن_جرير_الرحماني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابن جرير الرحماني - الرواية