أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد السالك ولد إبراهيم - تمويل التنمية من -مونتيري- إلى -الدوحة-: من يمول من؟















المزيد.....


تمويل التنمية من -مونتيري- إلى -الدوحة-: من يمول من؟


محمد السالك ولد إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 2488 - 2008 / 12 / 7 - 10:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يجب علينا أن نضمن بأن الأزمة المالية لن تقوض التزاماتنا لتخصيص المزيد من الموارد للتنمية ومكافحة التغير المناخي". صيحة مدوية أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة أثناء انعقاد قمة الفرانكوفونية في أكتوبر الماضي بكندا، ليأتي نفس التحذير بعد ذلك على لسان السيد "خوسيه مانويل باروسو"، رئيس المفوضية الأوروبية، الذي حذر بدره الدول الغنية من "إغراءات" التراجع عن التزاماتها بذريعة صدمة الأزمة المالية الرهيبة. أما اليوم، فينعقد المؤتمر العالمي الأول لرصد تمويل التنمية في الدوحة بقطر، من 29 نوفمبر إلى 2 ديسمبر الجاري، بعد مضي 6 سنوات على قمة مونتيري. مؤتمر الدوحة هو إذن استعرض و مراجعة لحصيلة "مونتيري" من أجل ضمان تحقيق أهداف التنمية للألفية بحلول سنة 2015 ، فماذا حققت البلدان النامية من تقدم في تمويل التنمية؟ ما هو المشهد المالي الراهن في هذه البلدان؟ ما هي تدفقاتها المالية الداخلة و الخارجة؟ و من الذي يمول من في الحقيقة؟ كيف يمكن مكافحة هروب رؤوس الأموال و تفكيك "جنات" الضرائب؟ ما السبيل إلى ضبط إيقاع النظام المالي على الصعيد العالمي بعد نجاح أوباما؟ وهل يمر الإصلاح المالي حتما بإعادة هيكلة جديدة لـ "حكامة" عالمية (gouvernance mondiale)، تعكس واقع العالم الجديد متعدد الأقطاب؟


عندما اجتمع رؤساء أغلبية دول العالم في مونتيري بالمكسيك سنة 2002 لتنفيذ الشراكة من أجل التنمية التي اعتمدت بوصفها الهدف الثامن للألفية قبل ذلك بسنتين، كان هناك إجماع دولي على الالتزام بالقضاء على الفقر و تحقيق النمو المطرد والتنمية المستدامة للجميع والتحرك نحو إيجاد نظام اقتصادي شامل ومنصف.

و قد صيغت آنذاك التزامات مونتيري "التوافقية" تحت ستة عناوين بارزة هي: تعبئة الموارد المحلية، و تعبئة الموارد الدولية (بما فيها الاستثمار الأجنبي المباشر)، و تحرير التجارة العالمية كمحرك للتنمية، والتعاون الدولي، وقضية الديون، وأخيرا ، مراجعة منهجية الارتباطات القائمة بين النظام المالي و بقية العناوين الأخرى المذكورة.

وعلى الرغم من إحراز تقدم جديد في بعض هذه المجالات، كما يتضح ذلك من خلال انتعاش أدوار بعض دول الجنوب في مضمار تعبئة الموارد المحلية ومراعاة منهجية الارتباطات القائمة بين كل من التنمية والحكم الرشيد والنظام المالي، إلا أن هذا "الجديد" لم يكن في الحقيقة سوى "تمديد" لسيطرة آراء و قيم "الليبرالية الجديدة" التي كانت سائدة في العقود السابقة، مثل شعارات: "تصدير المزيد لكسب المزيد" و "المزيد من الاستثمار الأجنبي من أجل التنمية المحلية"، إلخ...

و بعد مضي 6 سنوات على قمة مونتيري، ينعقد هذه الأيام المؤتمر العالمي الأول لرصد تمويل التنمية في الدوحة بقطر، من 29 نوفمبر إلى 2 ديسمبر الجاري، هذا المؤتمر الذي يستعرض و يراجع سجل مونتيري من أجل ضمان تحقيق أهداف التنمية للألفية بحلول سنة 2015 ، فماذا حققت البلدان النامية من تقدم في تمويل التنمية؟ ما هو المشهد المالي الراهن في هذه البلدان؟ ما هي تدفقاتها المالية الداخلة و الخارجة؟ و من الذي يمول من في الحقيقة؟



أولا: التدفقات المالية الداخلة:
في سنة 2006، بلغ مجموع التدفقات المالية إلى البلدان النامية مستويات قياسية وصلت إلى 650 مليار دولار، و هو ما يمثل زيادة قدرها 20 ٪ تقريبا عن سنة 2005. و يظهر بأن الجزء الأكبر من هذه الزيادة يرجع إلى التدفقات الخاصة، ولاسيما الاستثمار الأجنبي المباشر و تحويلات المهاجرين.

أ. المساعدة الإنمائية الرسمية:
وإذا كانت هناك زيادة معتبرة في حجم المساعدة الإنمائية الرسمية في السنوات الأخيرة، وصلت إلى سقف 105 مليار دولار سنة 2006، فمن الواضح بأن الجزء الأكبر من تلك الزيادة يرجع أساسا إلى عمليات تخفيف الديون الممنوحة لبلدين فقط هما العراق ونيجيريا. إلا أن عملية إلغاء الديون هذه يتم تسجيلها كمساعدة إنمائية رسمية لتشكل ما يسمى بـالمساعدة "المنتفخة"، أي أن المبالغ التي لم تنفق محليا تعاد إلى البلد المانح. النفقات الأخرى هي تكاليف الطلاب الأجانب والتكاليف المتصلة باللاجئين (بما في ذلك إعادتهم إلى أوطانهم). وبالإضافة إلى ذلك، هنالك جزء كبير من المساعدات الإنمائية لا تزال مرتبطة بالسلع والخدمات القادمة من البلدان المانحة و تبقى المساعدة التقنية مكلفة للغاية، فهي وحدها باتت تمثل على الأقل 40 ٪ من مجموع المساعدة الإنمائية الرسمية.

و كملحوظة أخيرة في ما يتعلق بمشهد المساعدة الإنمائية الرسمية، تظهر الأهمية المتزايدة للجهات المانحة الناشئة، خاصة البلدان "المتحفزة" ( pays émergents) مثل الصين و الهند و البرازيل و روسيا و فنزويلا و إيران. فعلى الرغم من صعوبة الحصول على إحصاءات دقيقة لتدخلاتها مماثلة لتلك التي بحوزة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) ، يمكننا أن نرى أن البلدان المذكورة قد أصبحت تضطلع فعليا بدور متزايد الأهمية في مجال التعاون الدولي.

ب. تحويلات المهاجرين:
لقد شهد حجم التدفق المالي لتحويلات المهاجرين نحو بلدانهم الأصلية زيادة هائلة منذ سنة 1990، بلغت أكثر من 220 مليار دولار، هي الآن تمثل أكثر من ضعف المساعدة الإنمائية التي تأتي من بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وحتى هذه التقديرات لا تزال ضعيفة جدا، لأنها مأخوذة وفقا لبيانات البنك الدولي. و إذا علمنا بأن أغلبية القنوات التي تأتي عبرها تحويلات المهاجرين هي غير رسمية و يتم استخدامها على نطاق واسع، فإن هذا الرقم يمكن أن يتضاعف مرة أخرى أو مرتين بكل سهولة. وأخيرا ، من المهم الإشارة إلى أن حصة متزايدة من تحويلات المهاجرين أي ما بين 30 و 45 ٪ ، تتم فيما بين بلدان الجنوب نفسها.

ج. الاستثمار الأجنبي المباشر:
يشكل الاستثمار الأجنبي المباشر حتى الآن أكبر التدفقات المالية القادمة نحو البلدان النامية. و قد ارتفع نصيب الاستثمار الأجنبي المباشر في الناتج المحلي الإجمالي للبلدان المنخفضة الدخل من 2 ٪ سنة 1980 إلى 10 ٪ سنة 2006. و بالأرقام المطلقة، ارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر نحو البلدان النامية من 10 مليار دولار سنة 1990 إلى أكثر من 315 مليار دولار سنة 2006. ولكن على الرغم من الزيادة الكبيرة في الاستثمار الأجنبي المباشر نحو البلدان ذات الدخل المنخفض، فلا يزال توزيع الاستثمار الأجنبي المباشر غير متساو بين هذه البلدان. و هكذا، يظل تركيز الاستثمار الأجنبي المباشر أكثر على آسيا، فعلى سبيل المثال، تلقت الصين وحدها 25 ٪ من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر المتجه نحو دول الجنوب في سنة 2006.


وفيما يتعلق بالمستثمرين، فكما هي الحال بالنسبة للمساعدات، فإن نسبة متزايدة من الاستثمار الأجنبي المباشر تأتي من البلدان "المتحفزة"، خصوصا في آسيا مثل الصين والهند و في أمريكا اللاتينية مثل البرازيل و المكسيك، على الرغم من هيمنة الشركات متعددة الجنسيات القادمة من البلدان الغنية.

وأخيرا ، فإن الزيادة في الاستثمار الأجنبي المباشر نحو دول الجنوب هي أيضا نتيجة لعمليات شراء المحافظ (portefeuilles) الإستثمارية و كذا نتيجة تحرير سوق الخدمات في مجالات الطاقة، والأعمال المصرفية و نحوها، التي جرت في كثير من البلدان و كذلك ارتفاع استغلال الموارد الطبيعية، لاسيما في الدول الإفريقية، فضلا عن الاستثمارات الأخرى في الملاذات أو "الجنات" الضريبية . و هكذا، تأتي سنغافورة كثالث مقصد للاستثمار الأجنبي المباشر في آسيا كما تأتي جزر "فيرجنس" البريطانية في المكانة الرابعة في أمريكا اللاتينية.

و لكن، ما هو تأثير الاستثمار الأجنبي المباشر على التنمية؟ إذا ما قارنا صافي الاستثمار الأجنبي المباشر مع حجم إعادة الأرباح إلى أوطان المستثمرين، نجد بأن الاتجاهات هي في الحقيقة غير مشجعة. بل إن العملية من الناحية الاقتصادية قد تكون جد محبطة، خاصة في دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. فعلى مدى السنوات العشر الماضية، ظل الميزان بين تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وصافي الأرباح العائدة إلى أوطان المستثمرين سلبيا على العموم. فعلى سبيل المثال، تلقت دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى نحو 16.900 مليار دولار سنة 2006 كاستثمارات أجنبية مباشرة ولكن الكارثة هي أن مبلغ 23.300 مليار دولار قد غادر تلك الدول في شكل إعادة أرباح إلى أوطان المستثمرين. و في حين أنه من الطبيعي أن بعض الأرباح يلزم أن تعود طبيعيا إلى مواطن المستثمرين، نجد أن هذا الرقم يعبر عن مشكلة أساسية في دول أفريقيا جنوب الصحراء والبلدان النامية الأخرى بشكل عام، وهي عدم وجود نظام ضريبي قوي و عادل من شأنه أن يفرض الضرائب على المستثمرين بغرض إعادة توزيع الثروة و كذا وجود اختلالات بنيوية و وظيفية في قدرة تلك الدول على مكافحة التهرب الضريبي وهروب رؤوس الأموال و كذا في شفافية و نجاعة أنظمتها المالية و المصرفية.

د. تحرير التجارة العالمية:
هل التجارة العالمية هي المحرك الحقيقي للتنمية؟ على الرغم من الدور المركزي الذي تلعبه التجارة العالمية في جدول أعمال تمويل التنمية، فإن الفوائد الحقيقية من تحرير التجارة العالمية لا تزال أقل بكثير من التوقعات الأولية و تحت الآمال التي كانت معقودة عليها منذ أكثر من 6 سنوات. وهكذا ، فقد توقع البنك الدولي سنة 2001 حدوث زيادة في الدخل الفوري للعالم من 520 مليار دولار إلى 832 مليار دولار بحلول سنة 2015 ، ولكن مع نهاية سنة 2005 كانت تلك التوقعات أكثر تواضعا من السابق بكثير.

لم تعد المكاسب المتوقعة تتجاوز أكثر من 96 مليار دولار و هي تخص فقط 6 من البلدان المتحفزة هي البرازيل و الهند و الصين و الأرجنتين و اندونيسيا و تايلاند. و تبقى في الطرف الآخر لائحة انتظار الدول النامية الخاسرة و هي قائمة طويلة تبدأ من أقل البلدان "وزنا"، ثم الذي يليه، و هكذا، تماما كما في برنامج "الرابح الأكبر" على قناة الـ MBC. هذا الانخفاض في حجم المكاسب المتوقعة يرجع إلى حد كبير إلى إدراج التحرير الكامل للتجارة العالمية على جدول أعمال لم يكن متوقعا في جولة الدوحة للتنمية. و لكن، بالنظر فقط في جولة الدوحة، نجد أن التوقعات قد انخفضت من 520 مليار دولار إلى 96 مليار دولار فقط. وعلاوة على ذلك، إذا كان لنا أن نقيس مستوى الاستفادة بالمقارنة مع الانخفاض في عدد الفقراء، فإن النتائج مخيبة للآمال كذلك. ففي سنة 2003 كانت التقديرات تشير إلى أن إجمالي تحرير التجارة العالمية يجب أن يخفض عدد الفقراء بـ 144 مليون بحلول سنة 2015 ولكن بدلا من ذلك، فإن الرقم قد ارتفع بنحو 66 مليون فقير زيادة. وإذا ما أخذنا في الحسبان فرضيات الدوحة، فإن أفضل التوقعات واقعية يشير إلى انخفاض عدد الفقراء بنحو 6,2 مليون فقط في حدود الآجال المذكورة. و بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أن تكاليف تحرير التجارة العالمية، التي هي عامل رئيسي يؤخذ بعين الاعتبار، تجعل حتما من البلدان النامية هي الخاسر الأكبر في العملية. و حسب التقديرات، مقابل كل دولار تفقده خزينة الدولة من عائدات الضرائب نتيجة لتحرير التجارة العالمية، نجد أن البلدان المتقدمة بإمكانها استرداده بنسبة تصل إلى 99 ٪ من خلال جباية ضرائب أخرى، بينما تتراوح تلك النسبة في البلدان الفقيرة بين 0 ٪ و 30 ٪ فقط.

ثانيا: التدفقات المالية الخارجة:

أ. المديونية:
لا تزال الديون تشكل مصدرا رئيسيا للتمويل بالنسبة للبلدان النامية. فإجمالي رصيد ديون البلدان النامية قد ارتفع من 1330 مليار دولار سنة 1990 إلى أكثر من 2850 مليار دولار سنة 2006. وعلاوة على ذلك ، ثمة سياسة استدانة لدى هذه الدول تميزت على الدوام بزيادة مطردة في الديون التجارية بالإضافة إلى تراكم متنام للديون السيادية، و خاصة في البلدان ذات الدخل المتوسط، التي تفتقر إلى فرص الحصول على قروض ميسرة و منخفضة الفوائد. و قد بلغت تلك القروض لسنة 2006 ما يقرب من 115 مليار دولار، و هو ما يمثل زيادة حادة بالمقارنة مع إجمالي تلك القروض حيث كان يقدر سنة 2000 بمبلغ 87 مليار دولار فقط. و لكن، المؤسف هذه المرة هو أن الديون التجارية للبلدان الفقيرة المثقلة بالديون، المعروفة في إطار "مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون" قد أصبحت هي أيضا في ارتفاع، بعد انتهاء التسهيلات الخاصة بخطة إلغاء الديون السابقة. و هكذا، فمنذ سنة 2002، أصبحت ديون تلك الدول في ازدياد باعتبار أن أكثر من نصفها لم يعد ممنوحا بشروط ميسرة بعد أن وصلت لنقطة الإنجاز ضمن "مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون". و بالتالي، فقد أصبحت المديونية أكثر تكلفة بالنسبة لهذه البلدان.

و أخيرا، تجدر الإشارة إلى ظاهرة تزايد القروض الممنوحة فيما بين بلدان الجنوب. وهكذا ، تلقت دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بين سنتي 2004 و 2006 نحو 20 ٪ من القروض من طرف مصارف تقع في الجنوب. أما بالنسبة لإصدار الدين العام بقصد التمويل الذاتي، فإن هذا التوجه لم يعد مقتصرا على اقتصاديات الدول المتحفزة كما كان من قبل. فقد شهدت السنوات الأخيرة عمليات تسديد ضخمة في نادي باريس من طرف دول كالأرجنتين و فنزويلا و أوروغواي و روسيا و الجزائر و المكسيك و إندونيسيا و تركيا و البرازيل و نيجيريا، عن طريق إصدار الدين على شكل سندات خزينة تضمنها الدولة. و تمت تلك العمليات المالية على الرغم من ارتفاع التكاليف ومخاطر المضاربة التي تنطوي عليها، إلا أن هذا الأسلوب قد بدأ يتم اختياره في التعامل المالي حتى من طرف بلدان ذات دخل منخفض مثل غانا و الغابون و سريلانكا.

أما بالنسبة للبلدان الفقيرة المثقلة بالديون، و بعد إلغاء ديونها عبر "مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون" وتوسيع ذلك النطاق، فيما بعد، ليشمل الديون متعددة الأطراف، فقد انخفض فعلا مستوى الديون كما أن البنك الدولي قد لاحظ زيادة معتبرة في الإنفاق لمكافحة الفقر في 31 دولة من البلدان الفقيرة المثقلة بالديون التي بلغت نقطة اتخاذ القرار، حيث ارتفعت نسبة الإنفاق من 7 ٪ إلى 9 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن تلك الزيادة يجب أن تؤخذ بحذر لأن البنك الدولي نفسه يقر بأن تعريف الإنفاق لمكافحة الفقر قد أصبح أوسع نطاقا من ذي قبل. و بالتالي، فتلك الزيادة - إلى حد كبير- يمكن أن تعزى إلى مجرد تغيير بسيط في التعريف.



و من أجل تنسيب الحقيقة، ينبغي التذكير هنا بالحيثيات التالية. لقد اعتبرت أكثر عمليات إلغاء الديون الممنوحة بموجب "مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون" (PPTE) على أنها تدخل في إطار المساعدات الإنمائية الرسمية و سجلت إحصائيا على أنها كذلك، كما اعتبر إلغاء الديون بموجب المبادرة المتعددة الأطراف بمثابة خصم مسبق من الالتزامات المقبلة للقروض الميسرة لصالح الدول المعنية لدى البنك الدولي. أما من حيث شمولية الإجراء، فنجد علاوة على ما سبق ذكره، بأن عدد الدول المستفيدة من تلك المبادرة لم يتجاوز 40 بلدا، بينما تشير دراسات أخرى بديلة، أجرتها مؤسسة الاقتصاد الجديد البريطانية أنه يوجد ما بين 90 إلى 107 دولة في العالم متضررة و تطالب بإلغاء من 35 إلى 50 ٪ من ديونها، أي بنسبة عشرة أضعاف زيادة على النتائج التي حققتها "مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون".

ب. التدفقات غير المسجلة أو هروب رؤوس الأموال:
لم تحظ هذه الظاهرة حتى الآن باهتمام بحثي كاف من طرف المؤسسات الدولية، على الرغم من تأثيرها الهائل على عملية تمويل التنمية نفسها. و هكذا، ما فتئ صندوق النقد الدولي، في تقاريره عن التدفقات المالية من البلدان منخفضة الدخل، يصنف ظاهرة التدفقات غير المسجلة أو هروب رؤوس الأموال ضمن نطاق "الخطأ" و "السهو". أما البنك الدولي، فيعتبر بأن مسألة هروب رؤوس الأموال تنحصر في مشكلة الأموال المكتسبة بصورة غير مشروعة من طرف النخب الجنوبية. و هذا الموقف، بالرغم من وجاهة تحليله، إنما ينم عن اختزال كبير لظاهرة معقدة، تنطوي على كثير من الحيثيات الأخرى و تساهم في استمرارها جهات فاعلة متعددة.

و وفقا لبعض الخبراء، يمثل هروب رؤوس الأموال بمعنى تدفقات مالية غير قانونية بالنسبة للبلدان النامية ما بين 500 و 800 مليار دولار سنويا. وحسب هذه التقديرات، التي يعتمدها البنك الدولي كمعطيات أساسية في كفاحه ضد الكسب غير المشروع، يبدو أن أكثرية هذه المبالغ هي نتيجة لأنشطة تجارية قد تكون مشروعة في الأصل، غير أنها تتهرب من الضرائب، أما نسبة 5 ٪ فقط من المبلغ فهي ربما تمثل رشاوى أو عمليات فساد و اختلاس، يتخذ البنك الدولي حاليا من محاربتها حصان معركته الذي يراهن عليه.

كما توجد تقديرات أخرى أكثر تحفظا حيال ظاهرة التدفقات غير المسجلة أو هروب رؤوس الأموال، تتخذ من قياس الفرق بين دخول و خروج رؤوس الأموال مرجعا لها و تستخدم في ذلك معطيات ميزان المدفوعات في البلد المعني. وإذا كانت هذه الطريقة تجعل من الممكن الحصول على مزيد من المعلومات وتسهل المقارنة فيما بينها وكذا تتبع الأرقام، إلا أنها لا تتيح معرفة ذلك الجزء "غير المصنف" من التدفقات غير المشروعة التي لا تظهر في ميزان المدفوعات، و بالتالي، فهي لا تظهر جيدا كل أبعاد المشكلة و تقدير انعكاساتها على اقتصاديات البلدان النامية.

ضمن هذا السياق، صدرت هذه السنة دراسة جديدة متميزة، حيث أجريت أبحاثها على 40 بلدا إفريقيا، على مدى منحنى زمني يمتد من 1970 إلى 2004. و قد وجد الباحثون المختصون بأن هذه البلدان قد فقدت نتيجة لهروب رؤوس الأموال ما يعادل أكثر من 80 ٪ من ناتجها المحلي الإجمالي مجتمعة. و يمثل ذلك زهاء 420 مليار دولار خلال 35 سنة، أي 300 ٪ من مجموع ديون هذه البلدان في تلك الفترة الزمنية. و بهذا المعنى، خلص مؤلفو هذه الدراسة الاقتصادية الطريفة إلى ما يشبه "مزحة" مالية على طريقة صدق أو لا تصدق، حيث أن البلدان الأفريقية الفقيرة هي التي يجب، من الآن فصاعدا، أن تعتبر دائنة صافية تجاه بقية دول العالم !!!



خلاصة: من الذي يمول من؟
إذا قمنا برسم مخطط "فين" لتوضيح نسب التدفقات المالية من الداخل نحو الخارج و من الخارج إلى الداخل، فسيبدو جليا بأن البلدان النامية في الجنوب هي التي تمول الشمال وليس العكس! هذه المفارقة المذهلة يؤكدها تقرير مؤتمر الأمم المتحدة حول التجارة و التنمية (CNUCED) عن إفريقيا، الصادر في سبتمبر الماضي. فمع مراعاة معطى التدفقات غير المسجلة أو هروب رؤوس الأموال من أفريقيا، التي يتجاوز حجمها مجموع الديون المتراكمة للمنطقة، فإن البلدان الأفريقية تعتبر بحق دائنة صافية تجاه الشمال وليس العكس!

و هكذا، تبين الأرقام أنه في المتوسط، منذ اعتماد "موافقات" قمة مونتيري سنة 2002، تلقت البلدان النامية سنويا ما مجموعه 857 مليار دولار من صافي المساعدة الإنمائية الرسمية و تحويلات المهاجرين بالإضافة إلى قيمة محافظ الاستثمار الأجنبي المباشر وكذا القروض الجديدة، بينما نجد بأن البلدان النامية، خلال نفس الفترة، قد شهدت سنويا مغادرة أكثر من 1.2 مليار دولار لأراضيها، على شكل نفقات خدمة الدين، و إعادة الأرباح إلى أوطان المستثمرين، و أولا و قبل كل شيء، تدفقات غير مشروعة لرؤوس أموال إلى الخارج، يرتبط معظمها بعمليات التهرب الضريبي.

و هكذا، تبين الأرقام و كذا تحليل الظواهر المذكورة أعلاه بأن الصورة البانورامية لرحلة تمويل التنمية من "مونتيري" إلى "الدوحة" هي جد معقدة. و إذا ما أراد المجتمعون على مائدة الدوحة الطيبة تقديم إجابات حقيقية على مشكل العجز المالي الذي تواجهه البلدان النامية لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، وهي عبارة عن مجموعة من ثمانية أهداف إنمائية اُتفق على تحقيقها عالمياً بحلول سنة 2015، فيتوجب عليهم أن يأخذوا بعين الاعتبار جميع التدفقات المالية الداخلة و الخارجة في هذه البلدان النامية.

و لا شك أن مثل ذلك المسعى يفترض ضمنيا نوعا من التفكير "الثوري" يتجاوز القوالب الذهنية المعهودة، بهدف تركيز دول الشمال على تقديم المساعدة النوعية لمثيلاتها في الجنوب، و نحو مزيد من إلغاء الديون لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية و توجيه الاستثمار الأجنبي المباشر لخلق فرص الشغل و المساهمة في تعبئة الموارد و المكافحة الفعالة لهروب رؤوس الأموال، التي تمر حتما من خلال تفكيك "جنات" الضرائب و تنظيم و ضبط إيقاع النظام المالي على الصعيد العالمي. إن هذه الإصلاحات و غيرها، يجب أن تتم - بعد نجاح أوباما - ضمن إطار هيكلة جديدة لـ "حكامة" عالمية (gouvernance mondiale)، تعكس بصدق و موضوعية واقع العالم الجديد الذي هو متعدد الأقطاب، حيث أصبحت الدول المتحفزة جهات حقيقية فاعلة، لا يمكن تجاهلها في ميادين الاقتصاد و السياسة الدولية.
-------------
المصادر:
تقرير الرصد العالمي، البنك الدولي- 2008، تقرير مؤتمر الأمم المتحدة حول التجارة و التنمية (CNUCED) عن إفريقيا - 2008، الساعات الأخيرة لليبرالية: موت أيديولوجيا، منشورات المركز الوطني للتعاون و التنمية.

نواكشوط، 2 دجمبر 2008

* باحث/ المركز الموريتاني لأبحاث التنمية والمستقبل CMRDEF (www.adecarim.org) ،
محرر في شبكة أقطاب متعددة MULTIPOL (جنيف: http://www.blog.multipol.org).




#محمد_السالك_ولد_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليوم العالمي للقضاء على الفقر: الفقراء في مواجهة الأزمة الم ...
- 6 أكتوبر: الموعد النهائي لجميع المخاطر!
- موريتانيا و العسكر.. ديمقراطية بدون ديمقراطيين
- عسكرة الديمقراطية في موريتانيا: صراع -على هامش- الشرعية
- السلطة و المعارضة في موريتانيا.. نحو خارطة طريق للمصالحة
- السياسة الخارجية الموريتانية: جدلية الداخل و الخارج
- موريتانيا.. نحو الجمهورية الثالثة؟ بين تنصيب 18 ابريل1992 و ...
- بين الإسلام و الغرب: تهافت الديمقراطية


المزيد.....




- اغتيال بلوغر عراقية شهيرة وسط بغداد والداخلية تصدر بيانا توض ...
- غالبية الإسرائيليين تطالب بمزيد من الاستقالات العسكرية
- السعودية.. فيديو لشخص تنكر بزي نسائي يثير جدلا والأمن يتحرك ...
- صحيفة: بلينكن سيزور إسرائيل الأسبوع المقبل لمناقشة صفقة الره ...
- الديوان الملكي يعلن وفاة أمير سعودي
- الحوثيون حول مغادرة حاملة الطائرات -أيزنهاور-: لن نخفض وتيرة ...
- وزارة الخارجية البولندية تنتقد الرئيس دودا بسبب تصريحه بشأن ...
- أردوغان يقول إن تركيا ستفرض مزيدا من القيود التجارية ضد إسرا ...
- وزير الدفاع الأمريكي يشكك في قدرة الغرب على تزويد كييف بمنظو ...
- مشاهد للوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير قبل لحظات من ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد السالك ولد إبراهيم - تمويل التنمية من -مونتيري- إلى -الدوحة-: من يمول من؟