أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد زكريا توفيق - المدفأة - قصة قصيرة















المزيد.....

المدفأة - قصة قصيرة


محمد زكريا توفيق

الحوار المتمدن-العدد: 2436 - 2008 / 10 / 16 - 03:19
المحور: الادب والفن
    



يقع كتٌاب الشيخ فى قرية نائية من قرى الشرقية. لا تتمتع بشئ يميزها عن باقى قرى مصر فى الوجه البحرى. وربما كان هذا هو سر جمالها. تصفر فيها الرياح أثناء النهار و تخلو من المارة حيث يذهب الجميع للعمل فى الحقول. الكتٌاب عبارة عن غرفة صغيرة أرضية رطبة مظلمة. تقع فى حارة ضيقة فى نهاية القرية. تنخفض عن مستوى سطح الأرض بعدة درجات بفعل تراكم الأتربة. كأن الزمن يريد أن يقبرها بمن فيها، أو يخسف بها وبسكانها الأرض. تستقل بذاتها عن باقى البيوت كأنها ترفض أن تصاب بعدوى الحداثة والمدنية. لها باب واحد خشبى تهتكت أوصاله, لا يفتح أو يقفل إلا بصعوبة مع صرير وعويل بسبب صدأ مفصلاته المتآكلة. به فتحات طولية وعرضية سدت بأجزاء من صفحات الجرائد القديمة الصفراء اللون. للغرفة نافذتان صغيرتان مرتفعتان, هما أشبه بالثقوب أو الفجوات منهما بالنوافذ. الغرفة معروشة بحطب الذرة والقطن وبعض أقراص مستديرة من روث الماشية التى تسمى فى بلدنا بالمسكة, والتى تستخدم كوقود بطئ الإشتعال. جدران الغرفة الطينية مرتع للزنابير الحمراء الكبيرة التى يصل حجم الواحد منها حجم الجرادة, والتى تركت ثقوبا كثيرة فى الجدار الخارجى, حتى صار يشبه وجه سيدنا بما به من علامات وتشوهات تركهما الدهر ومرض الجدرى الذى أصابه فى صباه. كذلك النافذتان الصغيرتان المغلقتان على الدوام فى شكلهما وموضعهما يشبهان عينى سيدنا.
سيدنا رجل ضرير فقد بصره منذ طفولته. بدين دميم الخلقة, قصير القامة, فى خريف العمر, قسا عليه الزمن فحرمه من النور والمال والبنين. إنعكس ذلك على صوته وطباعه. ليس له حرفة يتعيش منها سوى تعليم أطفال القرية قواعد اللغة العربية وأصول الدين, وتحفيظهم القرآن الكريم. ولم يكن هناك فى الأربعينيات مفتش أو مجلس آباء يراجع ما يقوم الشيخ بتلقينه للأطفال وسلوكه نحوهم, أو طريقة تربيته لأولادهم. إنما كانت الثقة فى المجتمع وتقاليده هى السائدة فى ذلك الوقت. وهى ثقة موروثة منذ القدم. مناقشة هذه التقاليد أو الخروج عنها شئ غير وارد.
زوجة الشيخ سيدة طاعنة فى السن. فقدت أسنانها وتحدب ظهرها وإقترب أنفها من ذقنها. لا يشعر أحد بوجودها لبطء مشيتها وضعف صوتها وسواد ملابسها فى ظلام الغرفة. تقوم بخدمة زوجها بإخلاص نادر. فهو لها كل شئ. الأب والأم والولد. وهى له نور عينيه وخادمه الوفى. كلاهما غريبان فى هذا الوجود. جمعتهما قسوة الحياة وظلمها. فإزداد تمسك كلا منهما بالآخر كأنه طوق نجاة فى بحر الحياة المتلاطم الأمواج. يعيشان على حافة الوجود بما يجود به الزمان وأهل الخير من الإحسان.
كان ذلك اليوم ممطر قارس البرد. الطريق الترابى أمام الكتٌاب موحل. تتجمع به مياة الأمطار فى الأماكن المنخفضة مكونة بقعا وبركا صغيرة, ألقت فيها المارة الحجارة وقوالب الطوب للمساعدة فى العبور. أرض الكتٌاب من الداخل ترابية يغطى نصفها حصيرة قديمة مصنوعة من سعف النخيل. يجلس وينام عليها الشيخ وزوجته. على أحد حوائط الغرفة يتعلق مصباح كيروسين قديم نادر الإستعمال. فى ركن من أركان الغرفة يوجد زير صغير يستقر على حمالة خشبية ذات ثلاث أرجل. عليه غطاء خشبى يعلوه كوز صفيح قديم يضرب الصدأ فى جوانبه, ومربوط بفتلة دوبارة ينتهى آخرها بعقدة فى حمالة الزير. فى ركن آخر من الغرفة يوجد موقد ريفى يسمى كانون يعمل بالحطب الجاف, موضوع عليه آنية من الفخار. ونظرا لعجز الشيخ عن الرؤية, وزهد زوجته فى الضوء وحلول فصل الشتاء, تجد الباب والنوافذ مغلقة والكتٌاب من الداخل مظلم ليلا ونهارا.
كنا تسعة أطفال صغار داخل الكتٌاب. نلبس الجلاليب البلدى الزرقاء أو الإفرنجية المقلمة, والتى هى هجين بين القميص الأوروبى والجلباب البلدى. يحمل كلا منا حقيبة على شكل كيس مصنوعة من نفس قماش الجلباب. بها بلح ناشف أو فول سودانى أو عيش وحلاوة. أرجلنا إما عارية أو بها شبشب أو قبقاب أو صندل. رؤوسنا محلوقة نمرة واحد خوفا من القمل. تبدو للناظر المدقق خضراء اللون. بعضنا له مربع من الشعر فى وسط رأسه أكثر كثافة من باقى الشعر من باب التجميل والموضة. بعضنا عيناه بها أثار عماص أو بقايا ششم الديك(بودرة توضع فى العين أثناء النوم كعلاج). أهالينا فلاحون فقراء أو موظفون صغار يعملون فى الريف.
جلس الشيخ القرفصاء مسندا ظهره إلى الحائط. جلسنا نحن أمامه على الأرض حول مدفأة ريفية من الفخار, يضئ لهبها الأصفر المتراقص وجوهنا الصغيرة فى الظلام, فبدت كأنها بدور ذهبية مضيئة فى ليلة صافية. إختلطت براءة الأطفال بالشقاوة بالدفئ برائحة الدخان المنبعث من المدفأة برائحة الشيخ والخوف منه. فقد كانت طريقة شيخنا الجليل فى التعليم تنحصر فى الحفظ والتسميع عن ظهر قلب, دون فهم أو مناقشة أو سؤال. وعلينا أن نحفظ أجزاء كاملة من القرآن الكريم وبعض الشعر الجاهلى, وأن نراعى أثناء الحفظ النطق السليم وقواعد الصرف والنحو.
- إشرح ياحسين :
سحا وتسكابا فكل عشية * يجرى عليها الماء لم يتصرم
وخلا الذباب بها فليس ببارح * غردا كفعل الشارب المترنم
هزجا يحك ذراعه بذراعه * قدح المكب على الزناد الأجذم
وهنا إنتابنا صمت رهيب ورعب شديد. فلم تكن عادة الشيخ أن يسألنا عن معنى ما نحفظ. ولا بد أن يكون قد إختلط عليه الأمر, أو أراد عقابنا لسبب ما.
- إنت سمعت يا بغل بقولك إيه؟ إشرح الأبيات دى.
وما أن قال ذلك حتى رفع الشيخ هراوته فى الفضاء. فسارع كل منا ووضع يديه فوق رأسه فى وضع دفاعى. لأننا لا ندرى أين تهوى الهراوة, وعلى رأس من تستقر. فالشيخ لم يكن يجيد معرفة أماكن الرؤوس, ولم يكن يميز بينها فى كثير من الأحيان. وأردف قائلا.
- ما تنطق وجع بطنك.
وطبعا كان يوجه كلامه إلى حسين. فوقف حسين ونظر إلى سقف الغرفة ثم أغمض عينيه وقال بصوت جهورى.
- المال والبنون زينة الحياة الدنيا.
فقاطعه الشيخ قائلا:
- لا حول ولا قوة إلا بالله. إيه يا إبنى اللى جاب المال والبنون إلى سحا وتسكابا. لو كنت يا إبن الكلب بتفهم كنت عرفت تجاوب.
وهنا نزلت مطرقة الشيخ على رأس حسين كالهاوية. ولحسن الحظ لم يخطئ هذه المرة ليصيب بريئا. فصرخ المسكين وإنهارت دموعه. لكن شيخنا لا يرحم أحدا, إذا عاب فى سيبويه أو أغضب الخليل. فما بالك بإجابة كهذه.
كانت عملية تلقى العلم فى الكتٌاب عملية رعب وجحيم لا نقدر عليه نحن الصغار. ولم تفلح الشكوى للأهل من الضرب على الرأس حتى أصبحت رؤوسنا ممتلئة بالبقاليل والإنتفاخات. فقد كانت أهالينا تعتقد بأن القسوة والشدة على الأطفال تفيد, وتخلق منهم رجال المستقبل. وكلما هربنا من الكتٌاب, أخبر الشيخ آباءنا فنضرب على أرجلنا فى نفس الليلة. وعندما نعود إلى الشيخ فى اليوم التالى, نضرب على رؤوسنا مرة أخرى بعصا الشيخ الغليظة. لذلك إمتثلنا إلى القدر. وعلمنا أن الحياة لا بد أن تكون هكذا, ولا داعى للثورة والتمرد.
لم يكن الشيخ يضحك إلا فى النادر. ولم يكن يبتسم إلا فى أول كل شهر أو فى المواسم والأعياد, عندما نعطى له ما تيسر من العملة الفضية. وخلال الشهر كانت طلباته لا تنقطع.
- أنتم طابخين إيه يا على.
- فضلت خيرك بامية يا سيدنا
- باللحمة ياله (أى يا ولد بلغة أهل الريف)
- باللحمة الجملى يا سيدنا
- الله أكبر. قوم يا إبن الكلب هات لنا طبق, وخلى أمك تتوصى باللحمة. وقول لأبوك الشهرية لم تصل.
كانت كمية البراغيث لا توصف. وما نكاد نجلس حول المدفأة كالمعتاد حتى تقوم الباغيث بشن هجوم سريع على أرجلنا العارية. فنبدأ فى الهرش والدعك. لكن شيخنا لا يهرش ولا يتململ. ويبدو أن جلده لم يعد يستجيب لهذه التفهاهات. لكننا قد لاحظنا أن شيخنا فى ذلك اليوم عصبى المزاج أكثر من اللازم, ولا ندرى ما السبب. فالهراوة تهوى على الرؤوس كالصاعقة ولم ينج منها أحد. الشتائم تنهال مع أتفه الأسباب. فساد الرعب والخوف بيننا أكثر من المعتاد. وكنا نعد الثوانى إنتظارا للفرج والعودة إلى منازلنا. وكلما فتحت زوجة الشيخ باب الغرفة لسبب ما, تسرب الأمل إلينا مع ضوء الشارع ورجونا الخلاص مما نحن فيه.
بدأ الشيخ يتململ ويعتدل فى جلسته من حين إلى آخر كلما أصابت رجلاه الخدل كعادته. لكنه فى ذلك اليوم كان يلبس جلبابا قديما باليا, لأنه يوم الغسيل فيما يبدو. لذلك لم يكن يلبس ملابس داخلية. وكلما إعتدل فى مجلسه, ظهر منه مالا يجب أن يظهر. وخصوصا فى محراب جليل للعلم كهذا, وأمام أطفال صغار السن. وكلما رأينا المستور, راودنا الضحك. لكن الخوف من الهراوة جعلنا نكتمه بوضع أكفنا على أفواهنا, وتحويله إلى إبتسامات خبيثة.
إستمر الضحك المكتوم والهمس فى الآذان فترة غير قصيرة. إلى أن أخذ حسين, وقد كان أكبرنا سنا, سلكا معدنيا كان يستخدم فى نبش الفحم المشتعل فى المدفأة. وضع هذا الشقى السلك وسط النار فى المدفأة. وباقى الأطفال تراقبه ولا تعلم هدفه اللعين. إنتظر حسين حتى إرتفعت درجة حرارة السلك وإحمر طرفه. ثم تتابعت الأحداث سريعة مذهلة لا يصدقها عقل.
مسك حسين السلك المعدنى من طرفه, وبالطرف الآخر المتوهج قام بتقريبه من سيدنا حتى لامس عضوا حساسا فى جسده. وإذا بنا نسمع صوت أزيز, ونشم رائحة كاوتش يحترق. ثم صرخة مدوية من الشيخ إرتجفت لها أركان الغرفة. فى نفس اللحظة, قفذ هذا العفريت الصغير وفى يده السلك المعدنى تتصاعد منه الأبخرة نحو الباب, تتبعه باقى الأطفال وهم فى إندفاع رهيب كالإعصار نحو الخارج. ثم لاذوا بالفرار وأرجلهم تسابق الريح.
لم أر الشيخ بعد هذا الحادث المأساوى. ولا أدرى ماذا ألم به ومدى إصابته وتأثيرها فى قدرته على الإنجاب. الذى أعرفه أننى وباقى الأطفال ضربنا علقة ساخنة من آبائنا فى مساء ذلك اليوم المشئوم. فقد إعتبرونا مسئولين مسئولية تضامنية عما حدث للشيخ. لأن الإحتجاج لا يكون بهذا الشكل. والثورة على الظلم لا تكون بهذا العنف. ولكن مهما قيل عن هذا الحادث, إلا أنه كان السبب فى التعجيل بذهابنا إلى المدارس الأميرية. وهناك وجدت أسلوبا فى التعليم لا يختلف كثيرا عن أسلوب الشيخ. حفظ وتسميع بدون فهم, وضرب وصفع ومد وعبط. الفارق الوحيد هو أن المدارس الأميرية لا توجد بها مدفأة. من قال أن الأطفال أبرياء, وكيف يكون فعل الشياطين؟



#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات فى الدين والتدين
- عمرو خالد ومحنة الشباب
- عالم المخلوقات الصغيرة
- عالم النمل
- الإنفجار العظيم وتطور النجوم
- الحداثة ومستقبل العالم الإسلامى
- نظرية التطور والجنس
- زغلول النجار والإعجاز العلمى للقرآن
- حروب رجال الدين ضد العلم والعلماء
- مصرنا العظيمة
- السلطة
- نحن ونظرية التطور


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد زكريا توفيق - المدفأة - قصة قصيرة