أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عماد عبد اللطيف سالم - ملاحظات عن الشأن الاقتصادي في مذكرات بول بريمرعن مهمته في العراق















المزيد.....



ملاحظات عن الشأن الاقتصادي في مذكرات بول بريمرعن مهمته في العراق


عماد عبد اللطيف سالم

الحوار المتمدن-العدد: 2259 - 2008 / 4 / 22 - 04:44
المحور: الادارة و الاقتصاد
    



د. عماد عبد اللطيف سالم *

" لايسعني السماح بان يتحول التشاؤم
الى لافعل . وربما لن اكسب في
منافسة حول مدى شعبيتي ؛ لكن
الجزمة التي ارتديها شجعتني على
ركل مؤخرات بعض الاشخاص "
بول بريمر . عام قضيته في العراق.
ترجمة عمر الايوبي . دار الكتاب العربي .
بيروت . لبنان 2006 ( ص43 )


تمهيد

كان بول بريمر ( قبل تعيينه مبعوثا رئاسيا من قبل جورج W بوش ، ومديرا لسلطة الائتلاف المؤقتة من قبل رامسفيلد ( مديرا لقسم ادارة الازمات في شركة مارش اند ماكلينان . فهو متخصص تحديدا في ادارة الازمات في شركة امريكية كبرى .
وكان بالامكان ( ولو للوهلة الاولى ) ادارة العراق على انه شركة تتعرض
لازمة ؛ شركة بحاجة لاعادة هيكلة ، شركة افلست وعلينا اما بيعها او
دمجها مع شركات اخرى بحيث تكون الكلفة اقل مايمكن و العائد اكبر
مايمكن . كان لابد من ان يكون هذا هو هاجس بريمر الاول
للاسباب الاتية :
- " انهم مهتمون في ان اتولى منصب ادارة العراق المحتل " (يقول بريمر في
بداية مذكراته ) ويقينا ان شخصا بخبرة بول بريمر يعرف جيدا ان هذه
الادارة ستكون في جزء كبير منها اقتصادية وليست سياسية فقط . ومن
يدرك تماما ان مهمة اعادة بناء العراق ستكون صعبة " يدرك تماما البعد
الاقتصادي لهذه المهمة ، ولايمكن ان يكون بريمر قد اسقط من جدول اعماله
هذا الركن الهام من اركان ادارته المستقبلية لعراق كان يحترق ... وكان
دخان حرائقه هو اول شيء يستحوذ على انتباهه عند هبوط طائرته في
بغداد في 12 آيار – مايو 2003 .
- في لقاء له مع الرئيس جورج W بوش يشير بول بريمر الى ان خبراته التي
استمدها من عمله في الحكومة و القطاع الخاص تجعله من رعاة مبدأ " وحدة
القيادة " ص19 "وذلك يعني انه يجب ان يكون لدي السلطة التامة على
استخدام كل موارد الحكومة الامريكية من اجل اعادة اعمار العراق " ص20

- وفي مجال الصلاحيات قام الرئيس الامريكي بتعيين بريمر مبعوثا رئاسيا الى
العراق له السلطة التامة على موظفي الحكومة الامريكية وانشطتها واموالها
فيه. كما قام وزير الدفاع بتعيينه مديرا لسلطة الائتلاف المؤقتة ؛ ومفوضا
بكل الاعمال التنفيذية و التشريعية و القضائية في العراق.
وبقدر تعلق الامر بمقتضيات هذه الورقة سيتم طرح تصورات بول بريمر عن الشأن الاقتصادي على وفق الاتي :



اولا :- الادراك المبكر لمعطيات الوضع الاقتصادي القائم .

قام بول بريمر بعرض اولويات ادارته للعراق ( وهي قطعا اهتمامات الادارة الامريكية ) في اول لقاء له مع مستشاريه على النحو الاتي :

1- اصدار امر باجتثات البعث
2- انشاء ادارة عراقية مؤقتة في اواسط حزيران 2003
] 3- " تحريك عجلة الاقتصاد ، وذلك يشكل تحديا كبيرا جدا فالعراق المستقر يحتاج الى قطاع خاص فاعل" [ ص30 .
ولست معنيا هنا بالبحث في تفاصيل الاولويات 1و2 (فقد قيل فيها الكثير ) ... غير ان ما اود التركيز عليه هو ان بول بريمر كان مدركا تماما لما ينبغي عليه فعله في المجال الاقتصادي . فهو يؤكد على ضرورة الاستفادة من معطيات التجربتين الالمانية و اليابانية " الديمقراطيات لاتعمل مالم تستند البنية السياسية الى مجتمع مدني صلب ... وقضاء مستقل ... ومسؤولية صريحة عن الاموال العامة .... " " وهذه هي ادوات امتصاص الصدمة في المجتمع ؛ وهي التي تحمي الفرد من سلطة الدولة المجحفة" ص30
فاذا كانت المقدمات واضحة الى هذا الحد ( منذ اليوم الاول لوصول بريمر الى العراق ) ..... فما الذي جعل النتائج على الارض ( فيما بعد ) بعيدة عنها بل ومتناقضة معها الى درجة تثير الدهشة والريبة معا .
ان العراق ليس اليابان او المانيا عند نهاية الحرب العالمية الثانية .... و الفوارق كبيرة بين بنية هذه المجتمعات وبين مستوى تطورها السياسي و الاقتصادي ؛ وتماسك بنيتها القيمية و المجتمعية .. وكانت الادارة الامريكية تدرك هذه الاختلافات وتدرك ايضا " ان سياسات النظام السابق ادت الى تدمير الطبقة الوسطى والقطاع الخاص" (ص54 ) وكانت تمتلك التصميم و الارادة لاعادة بناء اقتصاد متنوع يعمل وفق آليات السوق الحرة ؛ ويقلص هيمنة الدولة وسلطتها في تخصيص الموارد الاقتصادية ؛ ويمنح القطاع الخاص الريادة في الاقتصاد ؛ ويؤسس لمجتمع مدني فاعل ؛ ويحرر المبادرة الفردية من سلطة الدولة وهذا يعني ان خصائص النظام الاقتصادي المطلوب بناءه ( او الانتقال اليه ) كانت محددة على نحو صارم ....فكيف انتهى المطاف بالعراق الى كل هذه الفوضى و الخراب و الفساد المستشري في كل مرفق ... كيف تحكمت مؤسسات حكومية غير كفؤة بالمال العام .... وكيف اصبحنا دولة اكثر ريعية مما سبق ، واقل انجازا مما سبق ، ولم نخرج وسط ركام العراق باسره الا بشرعية دستورية ناقصة و مختلة ( باعتراف الكتل السياسية العراقية الاساسية في العراق ما بعد الاحتلال ) . ؟
سنحتكم هنا الى نص المذكرات في محاولة للاجابة على كل هذه الاسئلة .... وساحاول جاهدا ان لااسمح لقناعاتي الشخصية ( او ما املكه من معلومات ومعطيات ) بالتدخل في صياغة تصورات او طرح استنتاجات او بناء قناعات مغايرة لقناعات الكاتب الا في اضيق نطاق ممكن .... ذلك انني اعتقد ان مهمتي هنا هي ان اطرح كيف لم تتسق المقدمات التي ساقتها الادارة الامريكية عندما قررت غزو العراق ، مع النتائج التي توختها في المجال الاقتصادي حصرا ..... ولان هذه المذكرات تتناول مرحلة التأسيس فانني اعتقد انها قادرة على ان تكشف لنا عن جزء من الاسباب الحقيقية وراء هذه الانتكاسة المريعة في الاداء الاقتصادي التي نشهد تداعياتها الان .
ويقر بول بريمر بعدم وجود خطة امريكية لادارة العراق بعد الاحتلال ...و هكذا فقد كان ملزما بوضع خطة تصمد امام الواقع لكي يتمكن من مواجهة مجاهيل الواقع العراقي ، خاصة وان سلفه ( ج غارنر ) كان قد منَي هو وفريقه في مكتب الاعمار
و المساعدة الانسانية بفشل ذريع " لان المشكلة الوحيدة التي لم يتمكن من حلها هي المجهول " ص38 .
غير ان عدم وجود خطة لايعني عدم وجود ادراك متكامل لحجم وطبيعة المشاكل الاقتصادية القائمة و المستجدة ، ولحجم وطبيعة الاختلال الهيكلي في الاقتصاد العراقي ( كما اسلفنا) : كان بريمر يعلم جيدابان البنية التحتية الاساسية قد انهارت " فالنظام الصحي وصمة عار ولايمكن الركون الى مورد الماء في واحدة من اخصب المناطق في العالم و نظام الاتصالات و المواصلات من نوعية العالم الرابع . و النظام الكهربائي هامشي ودون المستوى القياسي وكثير الاخطاء " ص85 ، وكان يعلم بان النفط هو مصدر الايرادات الرئيس ، وانه سيواجه لاحقا ( وسريعا ) " ازمة موازنة كبرى " وان النظام المصرفي مفلس وان البلد على حافة المجاعة ، ص42 " وان مشاكل العراق الاقتصادية كانت هائلة " ص82 " وان صناعة النفط هي بمثابة دم الاقتصاد العراقي . وسيموت الاقتصاد اذا لم تعمل " ص83 . " كما ان المشاريع الحكومية متوقفة ( وعددها 192 مشروعا) ؛ وتتكبد خسائر سنوية تقدر ببليون دولار سنويا ولايمكن تركها لتغرق وهي تستخدم نصف مليون عراقي ، في حين تزيد البطالة عن 50% " ص85ولهذا كله فقد كان الهدف واضحا ايضا " علينا ان نتحرك بسرعة لاعادة اطلاق النشاط الاقتصادي ، وبدء عملية الاصلاح طويلة الاجل " ص85 .







ثانيا :- شكل وجوهر النظام الاقتصادي المطلوب

يؤكد بريمر حاجة العراق الى اقتصاد حديث ويستطرد " فالنظام الاقتصادي الذي تبناه النظام السابق يجمع بين اسوأ ما في الاشتراكية ( وهو الايمان الطوباوي بالتوجيه البيروقراطي و المشاريع التي تملكها الدولة والفساد الذي تتميز به النظم الاستبدادية ) . والنتيجة هي اساءة تخصيص الموارد الرأسمالية العراقية بصورة متواصلة ومذهلة " ص86 .
ويعرف الاقتصاديون العراقيون جيدا ماذا يعني ذلك ؛ وبعضهم طرح هذا التشخيص بشجاعة نادرة في احلك الفترات سوادا ورعبا ... ومع ذلك فان بريمر يسأل كبير مستشاريه الاقتصاديين بيتر ماكفيرسون ( وهو نائب لوزير الخزانة ومدير الوكالة الامريكية للتنمية الدولية سابقا ورئيس جامعة ميتشغان) :- " انت ’مربٍ يابيتر ... فهل تعتقد ان بوسعنا تعليم العراقيين النافذين اسس اقتصاد السوق الحرة ؟ " ص86 .
فهل كان تعليم العراقيين ( النافذين ) هذه الاسس بداية صحيحة لتدشين نظام اقتصادي جديد في العراق الجديد؟
ومن قال ان الاقتصاديين و المعنيين بالشأن الاقتصادي في العراق ( بما في ذلك غيرالنافذين منهم ) لم يكونوا قد عرفوا اسس اقتصاد السوق الحرة ( كما صاغتها الكتابات الاقتصادية الانجلوسكسونية بالذات ) قبل ان يعيها بول بريمر وبيتر ماكفيرسون بوقت طويل ؟
هل تكفي معرفة شكل وجوهر النظام الاقتصادي ( المطلوب الانتقال اليه ) الى انجاز سلس وقليل الكلفة ( ومقبول شعبيا ) لهذا الانتقال ...... هل هذه المعرفة الاقتصادية هي الشرط الضروري و الكافي لهذا الانتقال ..... ؟ ومادمت افترض ان هذه المعرفة موجودة .... فلم لم يتحرك العراق خطوة واحدة صحيحة تجاه هذا الانتقال حتى بعد مرور ثلاث سنوات على مغادرة بول بريمر للعراق ؟
لقد كان هناك على الدوام قصور في الادراك ( الامريكي بشكل خاص ) ليس بصدد حقائق الوضع الاقتصادي في العراق ؛ ولا حول ما ينبغي فعله لانتشال هذا الاقتصاد من وضعه المزري ؛ ولا بصدد خصائص النظام الاقتصادي المطلوب .... ولكن بصدد طبيعة الممكنات والتحديات التي يمكن ان يواجهها الانتقال من اقتصاد مخطط مركزيا ( في دولة ريعية – ابوية – راعية ) الى اقتصاد السوق الحرة ، في تشكيلة اقتصادية – اجتماعية ذات خصائص قيمية – سلوكية – معينة كالتشكيلة الاجتماعية العراقية .


فالديمقراطية الاقتصادية تتطلب ديمقراطية سياسية . وهذه الاخيرة تعني في واحدة من اكثر اشكالها شيوعا نوعا من الشرعية الدستورية . وقد تمكنت الادارة الامريكية والقوى العراقية السياسية النافذة من انجاز ذلك دون ان يتم التقدم خطوة واحدة باتجاه ارساء اسس النظام الاقتصادي الجديد وكانت العقبة هي ان التشكيل الاجتماعي كان يبحث عن شرعية الانجاز فقط ..... وكان يريد ممن منحهم الشرعية الدستورية ان ’يضاعفوا له انجاز الدولة المركزية ( الاستبدادية ) السابقة .... والا نزع عنهم شرعيتهم الدستورية .... او فقد الايمان بهذه الشرعية ( في افضل رد فعل ممكن او متوقع على غياب هذا الانجاز) .... فهل ادركت ادارة الاحتلال ذلك ؟ وكف تعاملت مع ما يعتقد العراقيون جميعا ( على اختلاف مواقفهم من النظام السابق ودرجات ايمانهم بالنظام الجديد ) انه حقوق اقتصادية مكتسبة لايمكن التفريط بها ايا ما كان شكل النظام الاقتصادي و السياسي الجديد ؟ .
وفي هذا الصدد كان اختلاف القناعات بين بريمر وبين احتياجات ملحة لمجتمع تكفل بادارته واسعا جدا ؛ ذلك ان بريمر كان يعتقد :-
- ان الدعم الحكومي خطيئة . " وان واحدا من اكثر الامثلة الهدامة بهذا الصدد هو ان العراقيين يدفعون اسعارا رمزية للكهرباء " ص89 .
- " واذا كان هناك ماهو اسوأ فهو نظام الحصص التموينية " ص89 وبطبيعة الحال فلا يمكن لاي اقتصادي يحترم نفسه ( بما في ذلك الاقتصاديون العراقيون ) ان يقبل بان تصل تكاليف دعم الطاقة الى خمسة بليونات دولار في السنة ، وتكاليف دعم الاغذية ثلاثة بليونات دولار اخرى ، وان يبتلع الدعم الاجمالي 65-75% من ايرادات الموازنة العامة للدولة .
- "ان هذا الدعم يشوه نظام الاسعار ؛ ويترك اختلالات عميقة الاثر وبالغة السوء على النشاط الاقتصادي ...."
كل هذا صحيح ومعروف .... ولكن ما العمل ؟ كيف يمكن لك ان تنتزع من هذا
الشعب ما يعتقد انه حقه المكتسب ؛ وانه لاينتظر ممن اصبحوا اولياء امره
الجدد الا تعزيزا و تكريسا لهذا الحق ..... وعلى نحو يتعارض ويتقاطع مع
اية محاولة جادة للبدء باصلاح اقتصادي جاد و فاعل ؟
ان " التفكير بعمق " في مثل هذه الاشكالية كان غائبا عن ذهن الادارة الامريكية في ذلك الوقت فما عكسه الفصل الثالث من مذكرات بول بريمر هو تنامي الادراك بان على هذه الادارة ( ومديرها في العراق ) " ترميم بلد محطم ... و القفز من الترميم ( وليس اعادة البناء ) الى فتح الاقتصاد على العالم .... واصدار دينار عراقي جديد ، وانشاء اول مصرف مركزي عراقي مستقل مماثل لبنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي " ص104 .


ولم يفصح لنا بريمر حتى نهاية الفصل الثالث من مذكراته كيف ان من المسلم به ان الحريتين السياسية و الاقتصادية " يمكن لهما ان تسيران جنبا الى جنب " في بلد كالعراق .
وبما ان الفصل الرابع من المذكرات كان يحمل عنوان " الرقصة السياسية " ص105 فان الفصل الثالث الذي كرسه بريمر للحديث عن الشأن الاقتصادي كان هو الاخر عبارة عن " رقصة اقتصادية " كان الراقص الوحيد فيها هو تلك الوصفات المعروفة للمنظمات الاقتصادية الدولية بصدد كيفية اصلاح اقتصادات متعثرة او الانتقال من اقتصاد مخطط الى اقتصاد انتقالي يضع العراق على عتبة السوق الحر .
وفي وسط هذه الفوضى على الحلبة ، لم يقل لنا احد كيف يمكن لاقتصاد محطم ( بل لم يعد له وجود اصلا ) ان يفي باحتياجات ملحة لشعب لم يعد لديه ما يملكه ؛ ولم يعد لديه ما يخسره ، غداة الاحتلال الامريكي لبلده .




ثالثا :- اعاقة " السياسة " للاقتصاد

ادى انقسام القيادة السياسية العراقية الجديدة وتشرذمها الى عدم حصول توافق حقيقي حول ما يجب عمله بشأن الانهيار الاقتصادي . وفي حين كانت اولوية سلطة الائتلاف المؤقتة هي دفع الرواتب و الاجور لتحريك الاستهلاك الراكد بفعل الحرب ، ومن ثم الشروع بعملية اعادة اعمار تتصاعد وتيرتها تدريجيا ، فان اولويات القيادات السياسية العراقية الجديدة كانت تتركز على مطالبات (( شعبوية )) تقوم على العاطفة " الدينية او العرقية " وكان مدير سلطة الائتلاف المؤقتة يقابلها بالرفض او التسويف . كان بريمر يعتقد ان اولويات القادة السياسيين العراقيين تنطوي على " عواطف جياشة " وتفتقد الى الخطوات و الحلول العملية الملموسة ص158 .
كان بريمر يؤكد على ان هناك مقايضات صعبة في انفاق المال الشحيح " فهل نعطي معاشات سخية الى مئات الالاف من ارامل الحرب .... ام نقوم بصيانة شبكة الكهرباء ؟" ص158 .
وهكذا اجتمع تناحر القوى و القيادات السياسية العراقية وعدم اتفاقها على اولويات محددة بشأن اهداف العملية السياسية برمتها ؛ ووضعها الشأن الاقتصادي في اخر اهتماماتها من جهة مع غياب صريح لاي رؤية مشتركة مع من بيدهم مفاتيح العملية السياسية و الاقتصادية برمتها ( وهي الادارة الامريكية ممثلة بسلطة الائتلاف المؤقتة ) من جهة اخرى .... لينتج عن ذلك غياب كامل للارادة السياسية المطلوبة في مرحلة تأريخية مصيرية كهذه . كانت حتى لغة التفاهم مفقودة بين من يملكون القوة و المال وبين من ’يفترض انهم المعنيون بحكم البلد و المسؤولون عن دفع عجلة الاقتصاد ’قدما و يلخص بريمر هذه " القطيعة المعرفية " من خلال افصاحه الدائم عن عدم ثقته بالقيادات السياسية العراقية ، وشكه بقدراتها " ان حكم بلد ما شأن معقد . وفكرت في ان هؤلاء الاشخاص ليسوا بمنأى عن الدش البارد" . "ما الذي كان يمكن ان يحدث لو سلمت الحكومة الامريكية العراق الى ( هؤلاء المنفيين ! ) في آيار/ مايو ، كما كان يريد بعض الاشخاص في واشنطن ؟ " ص158 .
وهكذا تضاربت تصورات القادة العراقيين مع تصورات الادارة الامريكية بصدد مسارات التطور الاقتصادي . وعلى وفق مقتضيات الواقع على الارض فلم يكن العراقيون يمسكون بزمام المبادرة على الدوام . كانوا في بداية انقسامهم وتناحرهم وتكالبهم على سلطة وثروة لم تكن تحت تصرفهم اصلا ..... ولم يتمكنوا من بناء الارادة السياسية اللازمة لانتزاعها .

وهكذا استمر بريمر يحدد الاولويات و الاهداف و الوسائل
- دفع الرواتب المتأخرة و الشروع بحملة للنهوض بمستوى الخدمات .
- طلب المزيد من التخصيصات من واشنطن .
- بالتزامن مع بذل المزيد من الجهد لتصدير النفط باسرع وقت ممكن .
- الاهتمام بالجانب النقدي في الاقتصاد لكي تتمكن مؤسسات مالية و نقدية كفؤة من اعداد موازنة حقيقية ؛ و التعامل مع المؤسسات الدولية و المانحين و الدائنين بفاعلية تسهم في انتشال الاقتصاد العراقي من ازماته المتعددة و المعقدة مستفيدة من نفوذ القوة الاقتصادية و العسكرية الاكبر في العالم .
وارى ( و اتمنى ان اكون مخطئا ) ان القادة السياسيين الجدد في العراق قد خسروا ( ومنذ وقت مبكر بعد الاحتلال ) قدرتهم على المبادرة في المجال الاقتصادي... بل و تنازلوا عنها طوعا لصالح الولايات المتحدة الامريكية.
وخلال السنة التي تحكم فيها بريمر بالعراق، كان مايسميه بـ(التمرد) قد بدأ بالاتساع، وأصبحت الأولوية في ملف إدارة العراق المحتل هي حماية أرواح الجنود الامريكيين وليس تحقيق الاستقرار الاقتصادي للعراقيين.
ولكن..هل كان لهذا الأسلوب في الادارة الاقتصادية ما يبرره (من وجهة نظره على الأقل)؟!
نعم بالطبع ذلك أن انعدام الثقة (المتبادل) بين بريمر وما يفترض أنهم حلفاؤه من العراقيين كان يستند الى إيمانه المطلق بعدم كفاءة هؤلاء، وانعدام خبرتهم وضعف قدرتهم على التعامل مع الملفات المعقدة للإقتصاد العراقي (داخلياً وخارجياً). وأدت أزمة عدم الثقة هذه الى تفرده بالقرار الاقتصادي.
كان بريمر يعمل لوحده بصحبة نخبة مختارة من مستشاريه الاقتصاديين، وكان من يفترض أنهم أدرى بشعاب بلدهم بعيدين جداً عن دائرة اتخاذ القرار.
ومن خلال هذا النمط من أنماط الحكم كان بريمر يمارس أسلوباً في الادارة ً يكرس من خلاله نوعاً من أنواع الدكتاتورية الاقتصادية بدلا من الشروع في بناء مؤسسات ومنظومات قيم تساعد مجتمعاً مغلقاً منذ عقود على الانفتاح الاقتصادي والانتقال به الى اقتصاد السوق.
واختلطت هذه الدكتاتورية الاقتصادية بنمط شاذ للديمقراطية السياسية لتكون حصيلة كل ذلك هذا الجمود الذي أصبح متحكماً بكل مفاصل النشاط الاقتصادي.

وترتب على ذلك انفراد الادارة الامريكية بتحديد اولويات تخصيص الموارد على وفق ما تراه مناسبا من اجل انجاز مهمتها في العراق ؛ و التفاصيل في هذا الصدد معروفة ولاداعي لاعادة سردها في هذه الورقة .. غير ان مانود التأكيد عليه هو انه حين تتغير اولويات الولايات المتحدة في تحديد جهة انفاق الموارد الاقتصادية ( عراقية كانت ام امريكية ) ... فاننا لانجد على الجانب العراقي من يمتلك القدرة على التأثير لتغيير الدفة التي تتحكم بالمسار . بل ان تناحر القوى السياسية الجديدة في العراق كان قد منح الادارة الامريكية المبرر لتحويل الموارد من الانفاق على عملية اعادة الاعمار الى الانفاق على الامن ( ومحاربة القاعدة و الارهاب و المليشيات و لجم الصراع الطائفي الذي بدأ يلوح في الافق ) .
ونعلم جميعا ان الانفاق على الامن لن يخلق الترابطات الامامية و الخلفية المطلوبة لتشغيل اقتصاد لايملك حتى الحد الادنى من مقومات تفعيله . ولهذا فقد كان هذا التحول في وجهة انفاق الموارد اعلانا صريحا بالتخلي عن الاقتصاد لصالح السياسة و الامن .... ومن المثير للسخرية و المرارة ان القيادات السياسية العراقية لم تفعل شيئا ( حتى من باب الاحتجاج ) لتعديل مسار الانفاق . ومنذ تلك اللحظة والى الان طويت صفحة الاهتمام بالشأن الاقتصادي ( كاولوية قصوى ) لصالح السياسة ( و الامن ) .
ومنذ تلك اللحظة تراجع الاداء السياسي ، و تراجع الامن ...
ان هذا هو ما يحدث دائما عندما يتراجع الاقتصاد وتتقدم السياسة ؛ في بلد كالعراق كما ان هذا هو ما يحدث عندما تكون للبندقية الاولوية على الاقتصاد في اي بلد في العالم ، وليس في العراق وحده .
رابعا :- معايير الانجاز و التقدم في المجال الاقتصادي

تحفل هذه المذكرات بالكثير من غطرسة كاتبها . ولم يكن بريمر( على امتداد صفحات الكتاب ) قادرا على اخفاء عقدة تفوقه على حلفاءه من العراقيين ( ناهيك عن معارضيه منهم ) . لم يكن يثق بقدرات اعضاء مجلس الحكم ، وكان يعرف عن العراقيين اكثر مما يعرفون عن انفسهم ؛ " ويقاتل هو وفريقه و المئات من المتطوعين عشرين ساعة يوميا من اجل مصلحة العراق ؛ في حين يتسم رد فعل القادة العراقيين بالبطء و الكسل ، وتعوزهم روح المبادرة ؛ ولايفهم الا قلة منهم شؤون الاقتصاد ، و الوحيد منهم الذي يفهم الاقتصاد الحديث لايمكن اصلاحه ويمثل نوعا من الشخصيات المأساوية " ( انظر ما ورد في الصفحات 114، 115 ، 185 ، 205 ، 216 ، 220 ، 226 و 242 على سبيل المثال لا الحصر ) .
وكان بريمر يعدد الكثير مما يعده انجازات كبيرة في حقل الاقتصاد ... بينما كان جله عبارة عن جهود لاعادة ترميم بعض المنشأت و الانغماس في مشاريع تشغيل آنية قصيرة الاجل .
كان يتحدث عن عن تشغيل الالاف من العاطلين في مشاريع التشغيل الوقتية . ويستطرد كثيرا في سرد تفاصيل انجازاته الاقتصادية : " في الاول من تشرين الاول – اكتوبر – 2003 وصل انتاج الطاقة الكهربائية الى 4217 ميغاواط ، وهو رقم قياسي يصل الى مستويات ما قبل الحرب تقريبا . وفي هذا اليوم انتجنا 1,96 مليون برميل من النفط . ونحن نسيطر تدريجيا على انتاج النفط ، قلب الاقتصاد العراقي ." ص230
وجميعنا يعلم الان ان هذا ليس صحيحا في اسوأ الاحوال وليس دقيقا في احسنها .
كانت الادارة الامريكية منتشية بانجازات اقتصادية ليس لها ادنى قيمة ( باستخدام اي معيار سليم وصحيح لقياس مدى التقدم على هذا المسار ) .
وكان الامر في بعض الاحيان يخرج عن اطار الطرح المعقول ليصبح نوعا من الكوميديا السوداء :- " اقر رامسفليد بان المجال الاقتصادي جيد ، ووافقته ، ملاحظا اننا شهدنا انفجارا في الانشطة الاقتصادية منذ التحرير .. بما في ذلك نعمة مئات الالاف من السيارات التي تزدحم بها شوارع العراق و نقمتها " ص236 .
هل هذه هي المعايير التي يمكن من خلالها الحكم على مدى تحسن الاداء الاقتصادي في بلد مدمر ؟ .
هل هذا هو المنهج الذي يمكن من خلاله " بناء قصة نجاح ، تبقى جيدة بعد خمسين عاما ، على غرار الوضع في المانيا و اليابان " ؟ ص261 .

ربما تكون الاجابة عن هذه الأسئلة أكثر صدقاً ودقة من خلال معطيات أخرى لم يشر اليها بريمر في مذكراته ولا يمكن لأي مؤرخ منصف لهذه المرحلة أن يتغاضى عنها، ففي نهاية السنة التي تولى فيها بريمر حكم العراق بدأت الظواهر الاقتصادية الآتية بالبروز، وسرعان ما امتد أثرها التدميري ليأتي على ما تبقى من "أنقاض الاقتصاد العراقي"
• بدأت الكثير من الأسواق والأحياء التجارية البغدادية الناشطة بغلق ابوابها وتراجع النشاط الاقتصادي بمعدلات غير مسبوقة حتى في أكثر مراحل التاريخ الاقتصادي العراقي سواداً وبؤساً.
• خسرت الطبقة الوسطى العراقية المتهالكة (أو ما تبقى منها) والتي طالما تغنى بريمر بجهده في دعمها خطوط دفاعها الأخيرة.
كان المثقفون والليبراليون والأكاديميون قد بدأوا بالفرار من جنة بريمر (في ركنها المعرفي) أما في ركنها المادي فقد اندثرت المشروعات الصغيرة وسُحق الصناعيون العراقيون تحت موجات الاغراق السلعي التي اكتسحت السوق العراقية على نحو مناقض لكل الأعراف والأسس المعتمدة في التبادل التجاري الدولي، وبهذا تحولت السوق الوطنية الواعدة الى(بازار بدائي) بكل مافي هذه الكلمة من معنى.
• تدنت الانتاجية في جميع القطاعات الاقتصادية الى حدود غير مقبولة بموجب أي معيار اقتصادي سليم، ووصلت نسبة مساهمة القطاع الزراعي والصناعي في الناتج المحلي الاجمالي، ومعدلات تكوين رأس المال الثابت الى أدنى مستوياتها خلال العقود الخمسة الأخيرة.
• والاهم من كل ذلك هو تدمير فكرة الوطنية العراقية . وعملية التدمير المنظم للوطنية العراقية – ( من خلال سلسلة من الاوامر و القرارات و الاطر القانونية و الدستورية التي اصدرها بريمر واصر على تنفيذها ضمن توقيتاتها الزمنية المقدسة دون ادنى اهتمام بالمصالح الوطنية للعراقيين)- لم تترك امام العراقيين اي منفذ للخروج من ازماتهم المستعصية ( اقتصادية كانت ام سياسية ام اجتماعية ) . وبقدر تعلق الامر باهتمامات هذه الورقة فانه لايمكن لاي نشاط اقتصادي لايستند الى سوقه الوطنية الموحدة ان يتطور ( او حتى ان ينمو بمعدلات مقبولة ) .
لقد دشن حكم بريمر بداية عودة العراق الى عصر الدويلات الاقطاعية المتناحرة وذات الاسواق المجزأة الصغيرة ( بكل قيودها المعيقة للتطور الاقتصادي ) .




لقد كانت الهوية العراقية ( كالسوق العراقية ) تتسم على الدوام بالالتباس ، وصعوبة التحديد . ولكنها لم تكن ممزقة الى هذا الحد . لقد اطلق بريمر قوى التجزأة من قمقمها بعد عقود طويلة من الاحتجاز ، وكان عليه ان يتحسب للعواقب الوخيمة المترتبة على ذلك ، ولكنه لم يفعل . والاقل فاعلية منه كانوا حلفاءه من العراقيين ، و معارضيه منهم ، على حد سواء .
وفي التاريخ الحديث و المعاصر للكثير من الدول تجارب نجاح لامم متعددة القوميات و الاديان و المذاهب ، تمكنت من تجاوز محنتها ( او محنها المركبة ) من خلال تنمية اقتصادية حقيقية عززت ورسخت (اولا) مبدأ المواطنة ، وتكافؤ الفرص و المساواة امام القانون ، وعدم التمييز على اساس الجنس او العرق او اللون او الدين ، ولم يتم زج مكوناتها المجتمعية المختلفة في صراع مرير على السلطة و الثروة ، واغراقها في الجدل العقيم حول الاليات الديمقراطية الا بعد عقود من التطور الاقتصادي المستدام ... وليس قبله كما حدث في العراق بعد 9/4/2003 ، ولازال يحدث حتى الان .

فإذا كان بريمر (بعد هذا كله) قد حقق نجاحاته في مجال ما (ربما كان يفوق إدراكي) فما سبق ذكره هو عينة صغيرة من عينة إخفاقاته التي لاتحصى في المجال الاقتصادي.
وحين يكتب التاريخ الاقتصادي للعراق المعاصر، سيكون هناك الكثير مما يمكن توثيقه بشأن الطريقة التي أدار بها بريمر ملف الاقتصاد العراقي خلال مدة حكمه للعراق. وسيتم توثيق الكثير أيضاً بشأن الطريقة التي تعامل بها القادة العراقيون الجدد مع هذا الملف (ومع نمط إدارة بريمر له) خلال المدة نفسها.















خاتمة

لم يكن للشأن الاقتصادي ذلك الثقل الهام في المذكرات ... كان هناك ادراك لما ينبغي فعله ، وادراك لبعض مما تم فعله وتصنيفه في باب الانجازات الشخصية للكاتب وكفى . كان تحليل القضايا الاقتصادية سطحيا . ولم يحدد الكاتب اية مقدمات ويمضي بها الى نتائجها المنطقية . بالمقابل كان الطرف العراقي غائبا تماما في حديث الكاتب عن الاقتصاد العراقي . وفي احسن الاحوال ( وهي نادرة ) كانت اسماء بعينها توافقه الرأي على ما يقول ( قانون الاستثمار الاجنبي ، استبدال الدينار العراقي ، اصدار قانون البنك المركزي العراقي الجديد ) .
لم يشر بريمر الى اخفاق واحد في مشاريع اعادة الاعمار ؛ ولا الى حجم الاموال التي انفقها على الامن ، او تلك الانتكاسة المريعة في المؤشرات الاقتصادية الرئيسة واسباب استمرارها وعدم النجاح في اعادة الخدمات الاساسية ( بحيث عدنا ثانية الى عصر ما قبل الصناعة ) .. بل هو لم يشر الى الاسلوب المثير للسخرية الذي اتبعته سلطة الائتلاف المؤقتة في انفاقها ( او هدرها ) للمال العام ( امريكيا كان ام عراقيا ) و الذي ادى الى موجة فساد غير مسبوقة بحيث تم تصنيفها لاحقا على انها اكبر فضيحة فساد في التأريخ.
لم يشر بريمر إطلاقاً الى تقييمات أجهزة ومؤسسات الرقابة وتقارير المفتش العام الأمريكية حول تصرفاته المالية ..وحتى هذه اللحظة فإن أحداً لم يقم باستجوابه حول الكثير من حالات الهدر والفساد التي تمت في عهده، بما في ذلك حمى الانفاق التي انتابته في اللحظات الأخيرة من حكمه للعراق وأدت الى تبديد بلايين الدولارات في أيام معدودة.
كان الفصل الثالث الموسوم " ترميم بلد محطم " هو الفصل المخصص لشؤون الاقتصاد في الكتاب . خمسة واربعون صفحة ( وبضعة اسطر هنا وهناك ) من اجمالي صفحات الكتاب (496 صفحة بطبعته العربية ) هي كل ما يستحقه الشأن الاقتصادي في هذه المذكرات من شخص يفترض انه يعرف الاقتصاد جيدا بحكم خبراته العملية ، يتسنم مسؤولية بلد محطم لايختلف اثنان في ان اعادة بناءه واستقراره تبدأ من اعادة تحريك مفاصله ، وتفعيله بقطاع خاص قوي ؛ ودولة قوية (معا ) ، وليس باغراقه بالخردوات و السلع الرديئة وجعله مركزا لتجميع "النفايات التصديرية" من مختلف بقاع العالم ( بما في ذلك تلك الدول التي كان العراق يصدر اليها قبل خمسين عاما افضل منتجاته الصناعية و الزراعية ) .





لم يتحدث بريمر ابدا عن جهد بذله عراقي مخلص واحد من اجل اعادة بناء اقتصاد وطنه ( على امتداد صفحات هذه المذكرات التي كان جهد بريمر الاول منصبا فيها على مناكفة القادة السياسيين و الدينيين في كل صغيرة و كبيرة وعرض محاولاته للتشهير بهم وتسطيحهم وكشف مناوراتهم ومكر احدهم بالاخر .... و التأكيد على ان مستقبل هذا البلد لم يكن يوما ( وابدا ) جزءا من اهتماماتهم .
لم يشر بريمر الى اية شخصية اقتصادية عراقية ( حتى ولو عرضا ) ... لان الوحيد الذي يفهم الاقتصاد الحديث من بين القادة الجدد كان شخصية مأساوية ( كما اسلفنا في الورقة ) وعندما حان الوقت للحديث عن احدهم ( وابرزهم ) وهو الدكتور سنان محمد رضا الشبيبي ( محافظ البنك المركزي العراقي ) فانه لم يتحدث عن انجازات هذا الرجل المثابر و فريقه ( في بيئة لاتصلح حتى لفتح كشك صيرفة على اعتاب البنك الذي يتولى ادارته ) ... بل تحدث عن طلب هذا الاخير اجراء اتصال وداعي معه يعرب له عن تقديره لعمله في العراق : " لقد قمت بتعيينه في حزيران – يونيو -2003 وجاء ليشكرني لانني جعلت من المصرف مؤسسة مستقلة ، وحررت معدلات الفائدة . قال لي ( اي الشبيبي ) : هذه الخطوات جوهرية لكي يستعيد العراق قوته الاقتصادية ويتوصل الى الاستقرار في نهاية المطاف " ص479 .
لقد تحدث بريمر طويلا عن تضحيات ابناء بلده من اجل العراق ، ولكنه لم يتحدث ابدا عن تضحيات العراقيين او عن اولئك الجنود المجهولين ( في المجالات كافة بما فيها المجال الاقتصادي ) الذين عملوا باخلاص ونكران ذات من اجل اعادة بناء بلدهم في اكثر من وزارة وفي اكثر من مؤسسة ومن خلال الكثير من الفعاليات التي لم يقوموا بها ارضاءً وتزلفا لسعادة السفير ... ولهذا فانها لم تحظ بسطر واحد من مذكراته .
كانت هناك على الدوام اشارات عابرة للشؤون الاقتصادية تنم عن التسطيح و العمومية ، وتبخس الفاعلين الحقيقيين اشياءهم فبينما كان الاقتصاديون العراقيون المخلصون يعملون كخلية ازمة لانقاذ ما تبقى من اقتصاد بلدهم ، كان بريمر يجير كل ذلك لمصلحة العميد سكوت كاسل ( المستشار العام لسلطة الائتلاف المؤقتة ) . فهذا الرجل هو الذي يعد مسودات القوانين " بغية ايجاد هيكلية قانونية يمكن من خلالها ان تنتعش الديمقراطية و الاقتصاد الحر" . وهو الذي اعتمد " مقاربة جراحية دقيقة بدلا من استبدال القوانين العراقية باخرى غربية" . اما دور العراقيين في كل هذا فهو دور هامشي على الدوام . " يضيف سكوت : ان محامين عراقيين خدموا مع فريقنا ، كما كنا نجري مشاورات منتظمة مع عراقيين اخرين – مدعين عامين ، ومهنيين ، ورجال اعمال . وتعاونت الوزارات العراقية المعنية بشكل وثيق في تحديد الاصلاحات الضرورية " .

وعلى امتداد صفحة كاملة (ص486 ) لايتوقف بريمر عن عرض انجازات سكوت " المضنية و الدقيقة جدا" في التنسيق مع المنظمات الدولية وحكومات الدول الصديقة لانجاز الاصلاحات المطلوبة . ولكنه لاينسى ان يضفي على هذه الانجازات بصمة مجده الشخصي " لقد سعينا ايضا الى تحديث القانون التجاري العراقي لكي يكون العراق بلدا قادرا على المنافسة ولمساعدته في تطوير قطاع خاص يتميز بالنشاط و التنوع" ص486 .
ويعرف الاقتصاديون جيدا ان المصطلحات هي مجرد كلمات . ولايكون المرء اقتصاديا الا حين يجعل المصطلح جزءا من سياسة يتم صنعها بدقة ، واستراتيجية يتم بناؤها على مهل . هذا يعني ان الامر ليس مجرد كلمات . خذ المصطلح الاقتصادي ، ضعه على ارض العراق ؛ وابدأ من هذا الواقع باستشراف واع للمستقبل ويفترض ان بريمر يعرف ( او ان ادارته تعرف ) كما يعرف المبتدئون في علم السياسة ( وليس فقط المبتدئون في علم الاقتصاد ) بان هناك مشاكل عامة في العراق. وان المشاكل الاقتصادية تاتي في المقدمة منها . وان هذه المشاكل تلقي بظلالها وتاثيرها على العملية السياسية ، او على الاقل على محتوى هذه العملية وعلى نحو لايستطيع صناع السياسة تجاهله عند اعدادهم لجدول اعمالهم . وعند دخول هذه المشكلة جدول اعمال الحكومة تمثل ما يعرف في الادب السياسي بـ ( Policy Issue ) . وهنا تصبح عملية السياسة العامة عملية ضرورية يتعاون على انجازها شركاء حقيقيون تسود بينهم الثقة وروح التعاون ( وليس المكر و المؤامرات المستمرة بين الاطراف الفاعلة في العراق الجديد كما افصحت عنه المذكرات من بدايتها الى نهايتها ) .
وبهذه الطريقة الفجة في التعامل مع اصل المشكلة تم افراغ عملية صنع السياسة العامة ( في العراق الجديد ) من اي مضمون حقيقي لها ( وتحولت الى مجموعة غير مترابطة من الاجراءات و الانجازات و " المكرمات" كما كان يحدث تماما في النظام السابق ) .... ولم تعد هذه السياسة تعبر عن اهتمامات الفاعلين الحكوميين بالمشكلة العامة وفاعليتهم في وضع حل لها .

فهل ادرك بريمر ذلك ؟ هل ادركت سلطة الائتلاف المؤقتة ذلك ؟ هل ادركت الادارة الامريكية ذلك ؟ هل ادرك العراقيون ذلك ؟
كلا لم يدرك احد ذلك .... فالرطانة الاقتصادية انتقلت من بريمر الى اخلافه ( من العراقيين و الامريكيين ) وسط غياب تام للسياسة الاقتصادية وادواتها واهدافها المعروفة ووسط ضبابية وهلامية تامة تحيط بشكل النظام الاقتصادي القائم .... لم يعد احد يعرف ال اين يمضي اي شيء ... وما هي وجهة اي شيء بالضبط .... واصبح الاقتصاد المدمر ( في بلد مدمر ) يلفظ انفاسه الاخيرة وتمضي مؤشراته الحيوية من سيء الى اسوأ .
ويعود ذلك في جزء اساسي منه الى ان من بيدهم الامر في العراق الجديد ( مثل بريمر ) لايملكون سوى كلمات كبيرة يسوقون بها بضائعهم ( نشر الديمقراطية و الدفاع عن حقوق الانسان ؛ ومكافحة الارهاب وحماية الاقليات العرقية المذهبية و الدينية ..... ) و الاقتصاد ( بكل تفرعاته و معطياته ) لايتفاعل ولا يعمل ولا يستدام من خلال الكلمات الكبيرة وحدها حتى وان جاءت على لسان " ملك كبريمر " .
كان على بريمر ( وهو ممثل الادارة الامريكية هنا ) ان يدرك انه يؤسس لاشياء كبرى ( ويؤسس لكل شيء في بلد كان يفتقر عند وصوله لكل شيء ) ، وان الاجل الطويل وليس القصير هو الحاسم في مهمته . ولكننا عندما نحتكم الان الى ما افرزته مرحلته لن نجد سوى الفوضى و الانقسام و الخراب .

لقد وضع بريمر ( ومعه ادارته ) الاسس الكفيلة باطلاق اكثر الدول فشلا وفسادا في العالم بعد ثلاث سنوات فقط على مغادرته العراق . ولعل واحدا من اهم الادلة على ذلك هو ما ورد في " تقييم الاستخبارات الامريكية للوضع في العراق" و الذي انجزته 16 وكالة استخبارات امريكية في 17/8/2007م ، ما نصه " حدث تحسن محدود في الناتج و تنفيذ الموازنة و التمويل الحكومي . " الا ان المشاكل الهيكلية الرئيسة مستمرة في منع تحقيق تقدم ملموس ومستدام في النمو الاقتصادي و ظروف المعيشة " .
. فهل كان بريمر يدرك حينها مدى البطء وانعدام الكفاءة وسوء الفهم في عمله هو وفريقه في العراق ؟ هل كان يتحسب هو وحلفاءه ( في الداخل و الخارج ) لمتاهات تلك المهمة التأريخية التي اوكلت اليه والتي تركت كل هذا الاحباط و الالتباس في فهم شعبنا ( وشعبه ) لمقتضيات واحدة من اهم مراحل الانتقال في التأريخ السياسي و الاقتصادي المعاصر للعراق .

الجواب هو كلا بكل تأكيد .
* اكاديمي عراقي



#عماد_عبد_اللطيف_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- القضاء الروسي يجمد حسابات أكبر بنك أمريكي في روسيا
- بوتين يستشهد بمؤشر يؤكد صلابة الاقتصاد الروسي
- رفع الحد الأدنى لأجور القطاع الخاص في مصر
- البنك المركزي الروسي يبقي على سعر الفائدة الرئيسي عند مستواه ...
- تعديل آلية تصاريح العمل بالكويت هل يخفض أجور العمالة؟
- قيود أميركية جديدة على صادرات الأسلحة النارية
- بورصة -وول ستريت- الأمريكية تتلون بالأحمر بعد بيانات اقتصادي ...
- شويغو: عرض النصر سيقام العام الجاري بمشاركة الحائزين على الم ...
- “الاصفر عامل كام عراقي“ سعر مثقال الذهب اليوم في العراق عيار ...
- ارتفاع أسعار النفط مع تجدد المخاوف في ظل توترات الشرق الأوسط ...


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عماد عبد اللطيف سالم - ملاحظات عن الشأن الاقتصادي في مذكرات بول بريمرعن مهمته في العراق