أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى ابو مخ - من سيرة ذاتية لأقلية: خطاب النصر خلف تجربة الهزيمة في -عرب يرقصون- لسيد قشوع















المزيد.....

من سيرة ذاتية لأقلية: خطاب النصر خلف تجربة الهزيمة في -عرب يرقصون- لسيد قشوع


هدى ابو مخ

الحوار المتمدن-العدد: 686 - 2003 / 12 / 18 - 05:42
المحور: الادب والفن
    


ساناقش في هذا المقال رواية "عرب يرقصون", لكاتب فلسطيني مقيم في الطيرة. الرواية كتبت بالعبرية عام 2002. الرواية تروي فترة من حياة البطل منذ فترة ما قبل المراهقة وحتى اواسط العقد الثاني. البطل يمر بتجارب عديدة بحكم اختلاطه بالمجتمع اليهودي العنصري, والغير متقبل للعربي كبشر, بل كاخر مطلق. الرواية تستعرض كذلك نتائج كل هذا على البطل الذي يعيش صراعات عنيفة في داخله تقده في لحظات معينة الى الضياع المطلق.

ما ان صدرت الرواية العبرية "عرب يرقصون" (2002) للكاتب العربي سيد قشوع, حتى توالت مقالات عدة في نقدها وتحليلها بالعربية والعبرية على حد سواء. لكن اكثر ما لفت انتباهي واثار حفيظتي كان عدة مقالات نشرتها بعض الصحف العربية, ينتقد كتابها المؤلف الطيراوي على مسه بالماضي العريق لعائلته ولمجتمعه. ومن منطلق رفضي القاطع لهذه التحليلات التي اراها سطحية ومفتقرة الى أي عمق فكري او ادبي, فقد ارتايت اعادة شئ من الاعتبار الى هذا النص واطلاع القارئ العربي عليه بصورة اكثر جدية وموضوعية.
 
لا شك ان رواية "عرب يرقصون"  لسيد قشوع هي احدى الروايات القادرة على الولوج بقرائها الى خبايا واقع المجتمع العربي في اسرائيل وملامسة اشد المواضيع حساسية له. فمنذ قرأت هذه الرواية لم اتوقف لحظة عن الاحساس بوجع الكارثة الروائية الموصوفة لمجتمع اجمع على الانهزام, والاحساس في ذات الوقت بوقع المقاومة يدب من تقدم خطوات سطور الرواية. فالرواية تعج من ناحية بالشخصيات المهزومة في اعماقها, ويزيد الى هذه الهزيمة واقع الاحتلال والاضطهاد الذي تحياه, ما يولد لدى القارئ شعورا عنيفا بالهزيمة. ومن ناحية اخرى فان الرواية تحمل "ثقة كبيرة بالنفس", فنراها قوية من حيث قدرتها وبراعتها الفائقة في الاشارة الى "مواقع" الهزيمة, والاهم, انتاج بعد معين منها يتيح لها السخرية بها, ما يولد لدى القارئ, لا سيما العربي, المنهمك بهزائم الشخصيات – بسبب العلاقة الوثيقة بين الواقع الروائي لها وبين واقعه الملموس- الاحساس بالقوة من خلال اكتشافه لمسببات الهزيمة, السخرية بها وبالتالي مقاومتها...
يقوم سيد عمليا بتحليل عوامل الهزيمة – الفردية والقومية- وفكفكتها الى مركباتها الاولية. فيكشف لنا البنية ذات الباع في تلك الهزيمة, ومن هنا تتبدى الرواية للقارئ والناقد الساذجين عن المعنى الحقيقي لها صورة شوهاء للمجتمع متناسين كونها محاولة لمواجهة الهزائم وعلاجها. فما اسميه ب"فكفكة الهزيمة" هو جزء من بناء الوعي والادراك الذاتي للفرد والمجتمع العربي قاطبة, فالاشارة الى مواقع الضعف ليست ممكنة الا للمنتصر, والرواية تبدو لي مهرجان انتصار لشخص يقاوم الهزيمة, ومن هنا تاتي كل تلك القوة المستشعرة خلف الهزائم الذاتية للبطل الذي يعترف قائلا:
"احيانا اتذكر الصبا, واشكر الله انني لست هناك. فليسامحني الرب, كيف بدوت, كيف شعرت. انا سعيد جدا لانني بالغ الان" (83) وفي مكان اخر: "مررت بتجارب كثيرة في الحياة, وانا قادر على ان اعيد تلاميذي الى الطريق الصواب. احافظ عليهم كيلا يقعوا مثلي, احذرهم منذ البداية, ولكن بدون ان اكشف لهم الى اين وصلت" (125), فالراوي شخص انتصر على كل تلك الهزائم وبات قادرا ايضا على قتلها بالكتابة باللغة المضادة التي شكلت له يوما حلما وعائقا بوجه اندماجه في المجتمع العبري, وحطت من قدره وكرامته حين سخر منه الطلاب لعدم لفظه على سبيل المثال لحرف ال "به" (العبري) بصورة صحيحة, لكنه الان انتصر عليها.
بنفس قوة النقد اللاذع الممتلئ سخرية للمجتمع العربي, يتوجه الكاتب الى المجتمع الاسرائيلي ايضا, فيظهره كمجتمع قاس, عنصري, منغلق بوجه الاخر, ذو ثقافة وقيم معقدة ومصابة بالانفصام بمفاهيمها وبما تربي ابنائها عليه. ابرز مثال على ذلك الصديقه "اليسارية" للبطل, نوعمي, التي القت عليه محاضرة حول " الانسان كانسان, انه لا يوجد فرق بين الشعوب. ان علينا ان نحكم على الافراد, وممنوع ان ننظر الى شعب كامل كانه كله ذات الشئ. هي قالت انه في كل شعب هنالك اشخاص جيدون واخرون اشرار" (84). لكنها وبنفس قوة هذا الالقاء الخطابي تنفصل عنه, على الرغم من انه "لا يوجد لها شئ ضدي, لكن خسارة انهم لا ينادونني حاييم" (88) وتعلل ذلك ايضا بالقول: "ان والدتي اخبرتني انها تفضل ابنة شاذة على ابنة تخرج مع عربي" (89). هذا التناقض المريب في توجه نوعمي يثير السخرية والمرارة ضدها في نفس القارئ, ويحول توجهها العقلاني حول تساوي الشعوب والاعراق الى توجه ديماغوغي فارغ من أي معنى.
يستعرض سيد الهزيمة بمحورين متشابكين:
- الهزيمة القوميه
- الهزيمة المتجذرة في الوعي والادراك الذاتي- جماعي.
فالرواية هي اعتراف بالهزائم القومية, بل هي سجل يحويها, لكنها في ذات الوقت مشروع مقاومة للهزيمة في الوعي الذاتي – الجماعي, بحيث ان هزيمة كهذه هي ما يقود الى النهاية الحتمية للمجتمع وافراده, فيتحولون الى اشخاص لا يملكون هوية قومية, ثقافية, واجتماعية. اي اشخاص يعانون من مشاعر عدم الانتماء, الضياع وانحطاط الذات.
الهزائم القومية: كما ذكرت اعلاه فان الرواية مبنية على عدة حروب: حرب 48, حرب 67, حرب الخليج, حرب لبنان ومجزرة صبرا وشاتيلا, يوم الارض الخ... وكلها حروب تربط بينها الهزيمة التاريخية للعالم العربي عامة, والاقلية العربية الفلسطينية في اسرائيل خاصة, وهي ذات الاقلية التي تنتمي اليها كل تلك الشخصيات الفاشلة في الرواية. ومن شدة وقع الهزيمة فان البطل يعاني الخوف الدائم من الحرب كما يتذكر ذلك حين كان طفلا: "اردنا ان نحفر ابارا كبيرة حول المنزل, لكي نتمكن من الاختباء فيها حين تبدا الطلقات النارية بالانهمار" (23).
هذه الهزائم تمثل المحرك الاساسي للشخصيات, وتشكل الخلفية التي بها  وعليها تتحرك وتفكر الشخصيات.
الهزائم المتجذرة في الوعي: ما لا شك فيه ان كل هذه الحروب قد حددت ملامح مرهقة للشخصيات في الرواية: فالوالد عاش بانتظار رؤية النصر بعد الهزيمة (111), وامن "ان عبد الناصر سياتي لتحريره" (15), وصدق قصص البطولة: "عندما كنا نسافر للبحر ونمر بجانب مقبرة تل موند, دائما روى لنا ان على كل القبور يظهر العنوان: 1948, المعركة على الطيرة ... انه حتى يومنا هذا اهالي تل موند ورمات هكوفيش لا يكلموننا, لاننا قتلنا عددا كبيرا منهم" (38), ولا يغفل سيد من الاشارة الى ذكريات والده الفخوره في مطار بن غوريون: "لم يطلبوا مني يوما ان انزل ... لم يكتشفوا انني عربي. وفي كل مرة انزل فيها الجنود عربيا, نهضت من المقعد وصرخت بهم, انزلوني, انا ايضا عربي! كانت بحوزتي الهوية, الوح بها بكبرياء" (73). لكن في نهاية الرواية وبعد زيارته الى مصر فان الوالد يتغير, واندفاعه وحماسه للعروبه ينقلب الى ضده, ف"هناك –في مصر- منشغلون بالجوع" (163) "منذ السفر الى مصر, والدي لا يرغب زيادة بالنضال. هو يواصل مشاهدة الاخبار من كل العالم, لكنه توقف عن ايجاد حلول واجابات, توقف عن التحليل, لا تهمه ثورة, مساواة, اراض ودولة حر. والدي استسلم ويقول ان على الفلسطينيون الاستسلام ايضا" (164), ويواصل: "فقط الان فهم والدي ان ناصر مات ولن يقوم ناصر جديد" (163).
اما عادل, فهو شخصية مميزة بواقعيتها المرهفة, فهو الصديق العربي الوحيد للراوي في المدرسة اليهودية في القدس. وهو كما يصفه في البداية شيوعي ذو ثقة كبيرة بالنفس, لا يخجل من التحدث بالعربية في الباص الممتلئ باليهود (على عكس الراوي), يعشق الحياة والنساء, شخصية ايجابية.. لكنه في نهاية الرواية يظهر بصورة اخرى: فعادل عاد الى الدين وعدل عن الشيوعيه وبات حلمه الاعظم الجنة و"يشرح انه فقط صلاة تستطيع ان تعينه على مواجهة الصعاب" (144) وبات يؤمن بان "الاسلام هو الحل" (144) وانه في نهاية المطاف سياتي المهدي, ليوحد بين المسلمين, والامبراطورية الاسلامية ستكون الاقوى في العالم "تماما كما حدث في عهد عمر بن الخطاب" (144). فيظهر كشخصية سلبية, تتعامل مع الواقع بالحلم والاستسلام و...البكاء. ولعادل تتكون رؤية اخرى للوضع, تختلف عن تلك للوالد, فهو يقول ان لليهود والامريكان توجد التكنولوجيا والقوة, لكن حسب القران فان الحرب الحاسمة ستحدث بالسيوف والايادي. كما امن بان المهدي في مكة, وانه سيحرر القدس ويغلب اليهود والامريكان (145), "لكن الجنود الاسرائيليين على الحدود والذين كلمونا بادب شديد اوضحوا لعادل ان المهدي لم يات بعد" (148). تماما كما مات عبد الناصر بالنسبة للوالد.
شخصية اخرى مثيرة للانتباه, هي شخصية الجدة. منذ البداية يصورها سيد كشخصية على حافة الموت, لكنه "حشاها" بتاريخ من الهزائم القومية والنسوية- وان لم يستطرد طويلا في ذلك- ما منح الهزيمة بعدا اجتماعيا: فهزيمتها لا تحدث فقط على يد اليهود, بل ان للمجتمع العربي وتقاليده يد فيها:
- ماساتها الاولى كانت في كرامتها حين زوجت على طريقة البدل لرجل متزوج وله اولاد كبار.
- واخرى حين قتل زوجها على يد اليهود (21).
- واخرى عن حلم تبدد: "احيانا حلمت جدتي بمكان يدعى البصه, هناك اعتاد والداها قضاء فصل الصيف ... بعد الحرب ذهبت الى هناك مرة مع كيس من القش على الراس. الاطفال كانوا جياعا, وهي ذهبت لتفحص ان كان هناك شيئا في الحقول. منعوها من الدخول اذهبي اذهبي. حاولت اجتياز الجندي, لكنه صوب بندقية الى صدرها" (41).
- وفي نهاية الرواية يعود بنا سيد الى موضوع الموت, ويتبين لنا ان احد اسباب حزن الجدة وبكائها "انها ظنت مرة انها ستدفن في ارضها", تسال حفيدها الراوي: "هل تتذكر اين مفتاح الخزانة؟ وكلانا بكينا معا" (166).
هنا تنتهي الرواية, حيث الارض حتما ضاعت, والجدة قد دنا اجلها, وحيث جيلا كاملا واملا كاملا ضاعا, فالجدة تمثل جيلا فقد واقعا كان واستحال حلما.

الشخصية الاخيرة التي ساتطرق اليها, وهي الاكثر اهمية, اثارة وتعقيدا في الرواية, هي شخصية الراوي. لم يكن اختيار وجهة النظر التي منها تروى الرواية عشوائيا. فالراوي شخصية شديدة التعقيد بكل تلك القوى المتصارعة في داخله. تلك المتمثلة بوالده وتربيته حول العروبة والتمسك بالارض, وانه لا مكان اخر لهم, وان الانتصار على الاعداء يحدث بالاطارات والحجارة (110), وقوة اخرى هي الواقع بما فيه من هزائم وعنصرية, فالبطل عايش حروبا عدة: صبرا وشاتيلا, حرب الخليج, ويوم الارض وغيرها, وهو ايضا تعرض لحوادث عنصرية اظهرته بصورة الاخر المطلق لليهودي: فهو مثلا لا يعرف استعمال السكين والشوكه, لا يعرف فرقة البيتلز, لهجته تختلف, ملابسه تختلف (ساله اصدقاءه بسخرية "أتوجد بناطيل مميزه للعرب؟"), هذه الاختلافات تجلت بصورها الاكثر تطرفا في حادثين تعرض لهما في اسبوعه الاول في القدس: الحادث الاول حين تعرض له ولزميله عادل طلاب من مدرسة بولانسكي فيصفهم: "الطلاب من بولنسكي يبدون مختلفين عن طلاب المدرسة, وانا وعادل نبدو مختلفين عنهم كلهم". اما الحادث الاخر والاشد تاثيرا في نفس الراوي فكان حين اقتاده الجندي في مطار بن غوريون من الباص لتفتيشه, اذ انهم في هذا المطار "ينزلون العرب" للتفتيش. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي اكتشفوا فيها انه عربي "وحالا بعد ذلك تحولت الى خبير في تزييف الهويات", اي في الظهور كيهودي والسرور لسماع يهودي يلاحظ له "انت لا تبدو عربيا البته" (67). كل هذا ادى به الى فقدان الامل: "انا ممتلئ بالكراهية. اكره والدي" حيث الوالد يمثل روح العروبة وكرامتها. وهو يمثلها ايضا بانهيار القيم فيها, اذ انه من اجل الحصول على وظيفته "باع كل قيمه. قبل اربع عشرة سنة ايد عميل تنافس على رئاسة البلدية, وبالمقابل حصل على اذن بالعمل لصالح الدولة" (133), نفس الامر يتكرر على نطاق اوسع, فاهل الطيرة مثلا يفتحون حوانيتهم على الرغم من اعلان اضراب يوم الارض لان الناس "لا يستطيعون السماح لانفسهم بخسارة مال. واضافة الى ذلك فان هذه الاضرابات تخيف اليهود, المارين في القرية بطريقهم لتسور نتان وكوخاف يئير. هم زبائن جيدون" (156). العامل الاقتصادي والدونية الثقافية والعرقية للعربي في المجتمع الاسرائيلي- يهودي, يتخذان بعدا اوسع حين يتضح للوالد ان مصر, منشأ القومية العربية, ما زالت منشغلة بمحاربة الجوع والفقر.
كراهية واحتقار الراوي –العربي- للعرب تصل ابعد حدودها في فصل "مساء بوريم", حيث يدور حوار بينه وبين صديقة عربية تدعى شادية في ملهى ليلي في القدس –الغربية, في امسية عيد البوريم, حول راقصين عربيين احتلا منصة الرقص, فيقول: "ممنوع السماح للعرب بالرقص... لماذا لعرب مثلهم ان يرقصوا ديسكو؟ هم لم ينتبهوا الى أي درجة هم مختلفون, كم هذا غير ملائم لهم, كم يبدون قبيحون؟" (126).
هذا الفصل يوضح عمق الازمة لدى الراوي, أي ازمة الهوية. فهو لا يكتفي هنا بالمحاكاة الخارجية لثقافة الاغلبية, أي المحاكاة باللباس, اللغة, التسريحة والاغاني والخ, بل ان المحاكاة تبرز هنا اكثر ما تبرز اذلاله واحتقاره المستعلي لما يسميه بالعربي. لكن في ذات الوقت فان الراوي يشعر بالانتماء الى هذان الراقصان اللذان يذكرانه بذلك العربي الدفين في اعماقه والذي يحاول جاهدا قمعه, لكن بلا جدوى: "ان كنت ابث للاخرين ما يبثه العرب امامي فانا في مشكلة جدية. لكن هذا غير ممكن. الناس لا يخافونني ولا يشمئزون مني. وربما نعم..." (129) والناس في هذه الحالة هم اليهود. فهو يستطيع, اذا, من ناحية ان يشعر بانه يهودي وانه من عرق وثقافة "ارقى" من تلك الثقافة وذاك العرق العربيين, لكن شيئا في داخله سيجبره دوما على التردد في حقيقة هذا الشعور. هذا الشئ هو ذلك العربي المهزوم فيه والذي يشده الى الدونية, وهو ذات العربي "الشتيمة" (154) الذي اصرت الثقافة الاسرائيلية على غرسه في نفوس العرب. فالعرب الاسرائيليون يستطيعون ان يشعروا انهم مثل اليهود, وانهم من مجتمع وحضارة ارقى من تلك العربية, للفلسطينيين من غزة مثلا, لكن عليهم, أي العرب الاسرائيليين, ان يعوا دوما انهم مختلفون وذلك بحكم كونهم عربا, تماما كما شرح المفكر الهندي هومي بابا في تحليله للمحاكاة. هذا الانتماء الهش الذي تمنحه الثقافة الاسرائيلية, والانتماء المهزوم الذي يستوعبه الفرد العربي – في حالتنا الراوي- يوضح سبب تلك الحركة الكثيفة للراوي ما بين الاماكن وما بين الثقافات – أي ما بين الجغرافيا الواقعية وما بين الجغرافيا المتخيله بمصطلحات ادوارد سعيد. هذه الحركة التي تسبب له ارهاقا نفسيا وجسديا وضياعا يقده الى اسفل سلم الاخلاقيات كما يعترف بنفسه: "كنت اريد الدخول الى السرير مع كتاب. مجرد كتاب, ربما كتاب نكت او نوادر جحا. كنت اود القراءة بمتعة ... كنت اود ان يفلت الكتاب من يدي رويدا رويدا, ان يسقط على سريري بدون ان اشعر. كنت اود ان اكون متدثرا جيدا, ان يكون جسدي بدرجة الحرارة الملائمة له. الا يكون باردا زيادة او حارا زيادة. كنت اود النوم بالوضعية الاكثر دقة, ان تكون الوسائد بالارتفاع الصحيح, الا يؤلمني عنقي, والا احتاج للتحرك... ان اجد راحة صحيحة" (122) ومن حلمه الفردي يتحول الى احلام اكثر خيالية, وسخرية: "ساكون رئيس حكومة. احضر السلام والحب الى المنطقة ... ساكون رئيس اتحاد دول اسيا, واسرائيل ستسوق المقلوبة والزعتر في كبرى المجمعات التجارية في نيويورك. الفتاة العارية التي تركتها امس في الخلف لن تصدق. لقد ضاجعت القائد الاقوى في العالم" (125).
في نهاية الرواية فان مسالة الحدود القومية تصل منعطفا من حيث مرونتها بالنسبة للراوي, وذلك حين يوقف على حاجز شرطة للتفتيش: "انا يوقفونني؟ انا العربي الاصغر سنا الذي تعلم لفظ حرف الפ"א؟" (148). هذا الحادث يؤكد ما قاله له والده يوما "ان اليهود قادرون على منحك الشعور بانك فرد منهم ... لكن في مرحلة معينة تفهم انه لا يوجد لك امل, انك من جهتهم ستبقى عربيا الى الى الابد" (76). والنتيجة: "احيانا افكر بالتهود, واحيانا افكر ان علي ان افجر نفسي او ادهس جنودا في مفرق رعنانا. انا اسافر اكثر واكثر الى الطيرة بحثا عن اجابة, لفحص ماذا قرر اشخاص مثلي, ذوو هوية زرقاء" (163). فالراوي بات يعرف ان لا مفر له فهو سيبقى باعين اليهود عربيا, وكنتيجة ليقينه هذا فان قضايا الجماعة بدات تحتل حيزا من تفكيره وهويته المشتتين, وباتت ذاكرته ذات متسع لذاكرة جماعية ومصير مشترك محتمل الحدوث: "علي العودة. امي تقول, انه ربما يكدسون كل قرية على شاحنات. نحن ياخذوننا من بيت صفافا الى الاردن, واهالي الطيرة الى لبنان. امي تقول ان علينا ان نصعد الى نفس الشاحنة كل العائلة" (163).
برايي فان استعراض الكاتب لهذا الخوف المتجذر في لا وعي الذاكرة الجماعية لعرب اسرائيل يكشف بعدا اخر في الرواية. فتجربة التهجير واللجوء في عام 48 تتحول الان في الرواية الى تجربة يتلمسها الوعي اكثر منه الواقع, بحيث ان تداعيات التجربة على النفس يكون اقوى اثرا من التجربة ذاتها, ما يعكس لشعورا بالوهن الدائم لدى الشخصيات المختلفة في الرواية.

***********

طالبه تدرس الماجستير- تخصص ادب عبري
الجامعة العبرية في القدس



#هدى_ابو_مخ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى ابو مخ - من سيرة ذاتية لأقلية: خطاب النصر خلف تجربة الهزيمة في -عرب يرقصون- لسيد قشوع