أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - سعيد مبشور - حزب العدالة والتنمية المغربي وتحولات الزمن السياسي















المزيد.....



حزب العدالة والتنمية المغربي وتحولات الزمن السياسي


سعيد مبشور

الحوار المتمدن-العدد: 2168 - 2008 / 1 / 22 - 12:07
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


تعد تجربة حزب العدالة والتنمية بالمغرب مجالا غنيا للدراسة والتأمل في تطور الحركة الإسلامية المغربية، إذ أن الحزب المذكور هو نتاج سياسي وثقافي واجتماعي التقت فيه مجموعة من الحالات عبر مراحل ومكونات شديدة التعقيد، فمن جهة يعتبر الحزب امتدادا للحالة الإسلامية التي تشكلت عقب استقلال المغرب ونادت كما مثيلاتها في الشرق العربي بضرورة الرجوع إلى المنابع المعرفية الأولى للإسلام واتخاذها كمنطلق أساس لنهضة العالم الإسلامي وعودته إلى الريادة الحضارية، وقد بلغت هذه المجموعات أوجها إثر تشكل ما عرف تاريخيا بـ "حركة الشبيبة الإسلامية" ذات التوجه الصدامي مع السلطة، وهو التوجه الذي انتهى إلى حادثة اغتيال المحامي الاتحادي عمر بن جلون، وقد كان ينتمي إلى هذا التنظيم بالفعل ثلة من القيادات والكوادر الحالية في "العدالة والتنمية"، هذه القيادات التي اختارت القطع مع منطق الهيجان والمواجهة وانحازت مع بداية ثمانينيات القرن الماضي إلى طرح أكثر اعتدالا باختيارها لمنهج الدعوة السلمية وممارستها طبقا للقوانين والإجراءات الجاري بها العمل ووفقا لما تسمح به السلطة السياسية من هوامش وأجواء، وهو الاختيار الذي سيتطور مع مطلع التسعينيات إلى حزب سياسي ذي "مرجعية" إسلامية بشراكة مع أحد رموز ومهندسي مغرب ما بعد الاستقلال الدكتور عبد الكريم الخطيب، هذا الاندماج أريد بموجبه لهذا التيار أن يحقق الشرعية الوطنية بانسجام وتناغم مع الشرعية الدينية والدعوية، مما أعطى ومنذ بداية التأسيس لحزب العدالة والتنمية حضورا مميزا في مختلف ساحات العمل السياسي والاجتماعي، وأضفى على الساحة السياسية بالمغرب حالة حراك جديدة تزامنت مع البدء في مسلسل دخول أحزاب المعارضة اليسارية القديمة تجربة ممارسة السلطة الحكومية من خلال ما عرف بـ "التناوب".
إن الانتقال من منطق الثورة مرورا بمنطق الدعوة وانتهاء إلى منطق الدولة، سيجعل من إسلاميي "العدالة والتنمية" نموذجا في البراغماتية السياسية التي تتفادى السقوط في تلك الرؤية التي مفادها أن " الإسلام السياسي الراديكالي لا يستطيع التمكن سلطويا من الدول الحديثة أو الدول المتحولة إلى طور الحداثة في قلب العالم الإسلامي، وأنه لا يستطيع إقامة نموذج بديل وفعال للحكم" (1)، وبالتالي المضي تباعا في سلسلة متوالية من التحولات التي يبدو أن آخرها هو النقاش الدائر داخل الحزب نفسه حول جدلية الدين والسياسة وكذا وضع الحزب في ظل المتغيرات الدولية والمحلية الجديدة، خصوصا بعد نتائج انتخابات 2007 والتي جاءت بعيدة كل البعد عن طموحه السياسي الحقيقي وانتظارات قواعده ومتعاطفيه.
ويتواجد حزب العدالة والتنمية المغربي منذ مدة ليست باليسيرة، في موقف لا يحسد عليه، إذ تعرض لحملة شرسة متوالية منذ الإعلان عن نتائج إحدى استطلاعات الرأي التي تنظمها الدوائر الأمريكية الشبه رسمية، والتي أعطت لحزب الدكتور العثماني احتمال الهيمنة الكاسحة في الانتخابات التشريعية المنظمة سنة 2007 بالبلاد، وهي الانتخابات التي أفرزت نتائج دون طموحات قيادة هذا الحزب "الإسلامي" القادم في عنفوان، على الرغم من أن "ما حققه الحزب في الواقع يمثل نتيجة إيجابية، ولا تمثل هزيمة، ولكنها اختلفت فقط عن التوقعات." (2)، وعلى الرغم أيضا من الأجواء التي رافقت هذه المحطة الانتخابية وصعوباتها التقنية والمسطرية التي حدت كثيرا من فاعلية الأحزاب وقدرة أي فصيل سياسي على الهيمنة على قوائم الناجحين، عدا أنه يمكن اعتبار النتائج التي حصل عليها العدالة والتنمية خلال انتخابات 2007 جزءا من المحصلة العامة للتعاطي الرسمي العربي المرحلي مع القوى ذات المرجعية الإسلامية، وهو التعاطي التي أفرز نتائج متقاربة من حيث مواقع التمثيل السياسي في كل من الأردن والمغرب والجزائر.
وضعية "حزب العدالة والتنمية" التنظيمية والجماهيرية، وطروحاته وفلسفته في التعاطي مع الدين والسلطة وإدارة الشأن العام بالمغرب، أسالت الكثير من مداد الساسة والمثقفين وكتاب الرأي في مختلف بقاع العالم العربي، بين مستهجن للدور الذي يمكن أن يلعبه الحزب داخل الرقعة السياسية، ولو من موقع المسؤولية الحكومية، في حال تحققت نبوءة المعهد الجمهوري الدولي الأمريكي (ولو بعد حين)، وبين آراء أخرى اتجه أصحابها إلى تأييد الدخول الإسلامي إلى مواقع التسيير وإدارة الشأن العام، مادام الاتجاه الشعبي السائد هو مساندة طروحات حركات الإسلام السياسي وتمظهراتها، وهو ما عبر عنه الكاتب الأردني ياسر الزعاترة بقوله أنه: "من المؤكد أن هذا الحضور الكبير لحزب العدالة والتنمية، أكان الراهن منه أم المتوقع، هو في جوهره تعبير واضح عن ميل شعبي نحو التيارات الإسلامية في الشارع المغربي، تماماً كما هي الحال في الدول العربية والإسلامية الأخرى، وهو ميل يرجع في جزء منه إلى رصيد التدين المتنامي في المجتمعات الإسلامية، إضافة إلى الضجر السائد من الأوضاع الرسمية البائسة على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي الأمل في بديل أفضل. من هنا تبدو المجتمعات الإسلامية في حاجة إلى عنوان إسلامي مقنع تلجأ إليه في سياق البحث عن ذلك البديل" (3).
فيما يروج البعض إلى اعتبار التقدم الإسلامي على ساحة الصراع السياسي استغلالا للفراغ الذي تعيشه هذه الساحة بعد التراجع الكبير والأزمات التي تعرفها القوى العلمانية والوطنية والديمقراطية الحداثية أو التقليدية على المستويين الفكري والتنظيمي، كما أن هذا التقدم ليس إلا صورة من الوجه الآخر لـ "الأصولية" الإسلامية البراغماتية، تتمكن خلالها من اجتياح الوضع داخل بلدانها والوصول إلى هدفها الأسمى، وهو الاستيلاء الاستدراجي على السلطة، ومن ثم فرض نظام توتاليتاري يعتمد الإسلام التقليدي المحافظ كنمط حكم وركيزة حياة.
ويذهب كثير من المحللين إلى أن المسألة لا تعدو أن تكون انخراطا في المشروع الأمريكي بالمنطقة، والرامي إلى إدماج بعض الحركات السياسية ذات العناوين الإسلامية، في عملية إصلاح وترميم للبنية السياسية المهترئة لعموم دول العالم العربي، وعن طريق ما أضحى يعرف بـ: "الدبلوماسية الشعبية" لدى الساسة الأمريكان، وتكتسب مشاركة هذه الحركات في عملية الإصلاح والترميم هاته أهميتها من كونها أضحت تمتلك المساحة الأهم في دائرة التعاطف الجماهيري، ومن حيث كونها أيضا إحدى مداخل التخفيف من حدة الاتجاه نحو رفض الهيمنة التي تفرضها أمريكا وحلفاؤها على بلدان العالم الإسلامي، وكذا المساهمة في القضاء على ما يتم وصفه بالإرهاب الإسلامي، وهي المسألة التي تشغل مقدمة الأولويات بالنسبة لصانعي القرار الغربيين.
فيما يؤكد الدكتور فهد عبد الله النفيسي أن: "واشنطن رأت أن ثمة قوى إسلامية صاعدة أثبتت وجودها على الأرض فأخذت تتحسس طريقها إليها لتعمل على تطويعها ضمن منظورها لأهدافها الاستراتيجية في المنطقة" ويلفت في هذا السياق الانتباه إلى أن محاولة الولايات المتحدة في هذا الاتجاه تعمل على" إخراج الجماعات الإسلامية من تحت الأرض إلى النور سعياً منها لإحراجها وبالتالي مغالبتها سياسياً"(4)، وهو رأي قد نخرج منه بخلاصة مفادها أن الحركات الإسلامية في أشكالها السياسية الراهنة، قد تـُستغل كمجرد أدوات استراتيجية تندرج طبعا في السياق "الإصلاحي" و "الفوضوي" الأمريكي نفسه، تُؤَمن لبعض النظم القائمة حالة الامتداد، وتخرج بعضها من حالة المراوحة بين الاستمرار والزوال، وتضغط على أخرى في سبيل تنحيتها عن ساحة الصراع(5)، وفي نفس الآن تتبخر طاقة هذه الحركات، وتفقد كثيرا من سيولتها التنظيمية وارتباطاتها الجماهيرية، خصوصا إذا ما وصلت إلى سدة الحكم والتسيير العام، دون أن تقدم إجابات وافية، وحلولا ملموسة لواقع مجتمعات إسلامية تتخبط في كل أنواع المشاكل والتردي، وهو الشيء الذي قد يعود على التجربة الإسلامية برمتها بكثير من النتائج الغير مرغوب فيها، ولعل هذا هو عين ما أشار إليه جيرهام فوللر عندما قال: " لا شيء يمكن أن يُظهر الأسلمة في صورة غير جذابة أكثر من تجربة فاشلة في السلطة"(6).
على أن قبول الحركات الإسلامية ذات التوجه السياسي المهادن تجاه الغرب، بالانخراط في عملية إعادة رسم خارطة المنطقة المستهدفة من مشروع الشرق الأوسط الجديد/الكبير، لا يعني قبولها المطلق بكل تبعات هذا الاختيار، إذ أن مشاريع الإصلاح الأمريكية لن تمر إلا عبر التذويب الكامل للكيان الصهيوني في المنطقة، بوصفه دولة قابلة للإدماج والتعايش، شأنها في ذلك شأن باقي دول "الشرق الأوسط"، وهو الأمر الذي يصعب تصوره إذا ما استحضرنا الخلفية العقدية والثقافية لهذه الحركات، الشيء الذي يجعل منها أشد القوى الشعبية رفضا للاختراق الصهيوني للمنطقة، كما أنها تعد، مهما بلغت درجة اعتدالها وعقلانيتها ومرونتها، أقوى الواقفين والممانعين في مواجهة مشاريع تفتيت المنطقة وتصفية شخصيتها التاريخية والحضارية، ويعبر سعد الدين العثماني أمين عام حزب العدالة والتنمية عن وعيه بتلك: "المحاولة المكشوفة والهادفة إلى إدماج الكيان الصهيوني في الجسم العربي وتطبيعه معه، وقد يكون ذلك هو جوهر الإصلاح في المنظور الأمريكي"(7)، مضيفا أن: "أمريكا اليوم تحتل العراق، وليس في ممارساتها ولا خططها الظاهرة ما يوحي بأنها تقيم ديمقراطية أو تطبق إصلاحات سياسية أو اقتصادية. وبناء على هذه التجارب المريرة، فإن كثيرين يشكُّون في أن الديمقراطية التي تسعى أمريكا إلى إنزالها في دولنا ستفرز أنظمة تتوافق مع الرؤية الأمريكية للمنطقة، وليس مع رؤية شعوب المنطقة وتطلعاتها. ستكون ديمقراطية على المقاس الأمريكي تصب في المصالح الأمريكية"(8)، إضافة إلى التحرك الذي دشنه الحزب خصوصا في السنتين الأخيرتين من أجل إغلاق معتقل غوانتانامو وتجديد "إدانته للسياسة الأمريكية المعادية لحقوق الإنسان "(9)، ومثل هذه المواقف هي التي تجعل من التأييد الأمريكي لصعود الإسلاميين، تأييدا مدروسا، يقضي بإدماجهم في العملية السياسية، إدماجا تحجيميا، وذلك:" بإشراكهم في الانتخابات بشكل محدود وتحت سقف السلطة الحاكمة ومن خلال ضوابط ومحددات تحقق وجودهم في المشهد السياسي عبر تأثير محدود تحت السيطرة، وبما لا يسمح بتكرار تجربة اكتساح الإسلاميين الأصوات كما حدث في الجزائر"(10)، أو يقود إلى ما يشبه نتائج الانتخابات الفلسطينية التي خفضت نوعا من وتيرة الاسترسال الأمريكي في تشجيع ما تعتبره إصلاحا ديمقراطيا في عالمنا العربي، وبالتالي استبعاد السيناريو الذي توقعه بعض المختصين حين افترضوا أنه "إذا فاز حزب العدالة والتنمية في المغرب وأقبلت الإدارة الأمريكية على التعامل مع الحكومة التي قد يشكلها، فسيعني ذلك ظهور صورة أفضل للتعامل الأمريكي مع الحركات الإسلامية التي قد يأتي بها التحول الديمقراطي في العالم العربي". (11)
بيد أن للعدالة والتنمية المغربي، ورغم مواقفه القومية التي لا تختلف عن باقي المكونات الإسلامية في المشرق، تميزا على مستوى الخطاب والمنهج، يجعل منه قوة أقرب إلى القبول لدى الإدارة الأمريكية، فهو ليس حزبا جديدا على الاستحقاق الانتخابي، بل إنه أثبت من خلال تجاربه السابقة قدرته على التماشي مع الخط العام لسياسات الدولة واختياراتها، ومن ضمنها مشروع دولة العهد الجديد، مشروع الحداثة والديمقراطية، وبالرغم من تأكيد الحزب على المرجعية الإسلامية فإن العثماني "حرص على التأكيد، في أكثر من مناسبة، على أن الحداثة ليست على تناقض مع الهوية الإسلامية، فالفكر الأساسي للحزب يدور حول مكافحة الفساد والانتهازية، وشفافية الإدارة والأسواق العامة واستقلال القضاء، مما يساعد على تهذيب الحياة العامة وجذب المستثمرين في الخارج"(12)، بل إن الحسن الداودي القيادي بنفس الحزب يؤكد على أن: "المرجعية الإسلامية لا تعدو كونها قيمة أخلاقية"(13)، وهو ما يبرز النزوع الليبرالي ذي الخلفية المحض أخلاقية للحزب، والذي يثبته تحالفه مع قوى أخرى تتقاسمه أو تفوقه هذا النزوع، ممثلة في حزب القوات المواطنة بقيادة أحد رموز البورجوازية الحداثية، وهو رجل الأعمال المعروف عبد الرحيم لحجوجي، والذي أكد بدوره على أن "حزب العدالة والتنمية حريص كل الحرص على إدماج المغرب في عملية العولمة وقيادة الطبقات الشعبية للحداثة"(14)، ورأى البعض في هذا التنسيق مجرد تحالف: " مع بعض القوى والأشخاص المحسوبين على الماضي السياسي البائد، المتورطين إلى الأذقان في الاستغلال الطبقي، والاستحواذ على ثروات الشعب، وفساد مرحلة، مما لا يتلاءم وتطلعات القاعدة العريضة للحزب، التي تنتمي إلى الطبقات الفقيرة والكادحة والمعدمة"(15).
وإن هذا التحالف والائتلاف بين القوتين، اعتبره البعض – قبل انتخابات 2007 - مؤشرا إلى احتمال أن تكون حكومة ما بعد السابع من شتنبر بالمغرب، حكومة تمزج في تكوينها أساسا بين عناصر ذات توجه إسلامي وأخرى تقنوقراطية أو ذات أصول وتكوينات اجتماعية بورجوازية، مع إمكانية وجود قوى سياسية أخرى بأدوار أقل أهمية، إلا أن النتائج التي أفرزتها الاستحقاقات المذكورة أكدت بالملموس صعوبة – إن لم نقل استحالة - إدماج المكونات ذات الخلفيات النظرية والفلسفية الصارمة إيديولوجيا في رقعة التسيير السياسي على الأقل في الوقت الراهن. (16)
وإذن فحزب العدالة والتنمية، الذي هو إحدى أهم القوى السياسية المغربية، حضورا جماهيريا، وقدرة على التعبئة والتأطير، وديناميكية على مستوى الحركة والتنظيم، والذي لم يفتأ يطور خطابه طيلة مراحل تكوينه، من رحم الجماعة الإسلامية الشعبوية، إلى المؤسسة السياسية والحزبية، لم يستطع تحقيق إحدى أهم مطامحه السياسية المشروعة في الوصول إلى مربع الحكم، ما يعني أن مستويي الخطاب والممارسة اللذان وصل إليهما حاليا لا يقودانه أو يؤهلانه بعد لأخذ موقع الشراكة في الحكم، في ظل "وبروز الإرهاصات الواضحة لإبعاد حزب العدالة والتنمية عن دائرة المشاركة في تدبير الشأن العام" (17)، وذلك رغم بنيته المنفتحة كائتلاف ووعاء جامع لكوادر وفئات تتقاسمها رؤية ووجهة العمل الإصلاحي من داخل المؤسسات، ومسلكيته الواقعية والبراغماتية خطابا وممارسة، من قبيل التحرك على أساس ما هو قائم بالفعل، دونما اضطرار إلى رفع شعارات مكلفة وقد لا تكون للحزب مصلحة في ترويجها استجابة ربما لضرورات الواقع والتدرج المرحلي (18)، هذه المسلكية التي انتقدها بعض نشطاء اليسار حين اعتبروا أن الحزب: " وهو يقدم التنازل تلو التنازل سوف يواجه أزمة هوية يمكنها أن تحول الحزب سريعا إلى حزب يميني عادي، مثله مثل الأحزاب الأخرى" (19)، وهي ملاحظة قد تساهم بشكل أو بآخر في تمديد حجم العقدة الاستراتيجية في الزمن السياسي المغربي الحديث والمتمثلة في حالة المراوحة التي تعيشها العلاقة بين الإسلاميين واليسار، بيد أن أسلوب التدرج المعتمد في تعاطي "العدالة والتنمية" مع الواقع السياسي نابع من النهج الإصلاحي الذي اختطه الحزب لنفسه مخافة البقاء في ثلاجة النسيان والتهميش الذي تتعرض له القوى الرافضة للاندماج والتأقلم مع خصوصيات التجربة المغربية في المجال السياسي، وقد نجح الحزب إلى حد كبير في الاندماج داخل النسق السياسي المغربي، وذلك بفضل المرونة والبراغماتية اللتان يتمتع بهما على مستوى الوسائل والأهداف، وبفضل القناعة المكونة لدى قياداته في كون الحزب يجب أن يمارس السياسة في المغرب كما هي لا كما يطمح إليها، يقول عبد الإله بن كيران: "نحن حزب سياسي، نمارس السياسة، نصيب ونخطئ، ننجح ونخفق، وفي بعض الأحيان تكون شعبيتنا مرتفعة، وأحيانا أخرى تكون أقل ارتفاعا، وهذا طبيعي ونحن نقبل به ولا نبالي"(20)، هذه الممارسة السياسية التي تبقى حسب رأي الأمين العام للحزب في ورقة حديثة أعدت حسب جريدة التجديد لتكون أرضية للنقاش في أفق المؤتمر القادم للحزب "مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية"، على اعتبار أن الدين هو "حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافقة دافعة، وقوة للأمة جامعة"، كما أن الدين يمكن أن يبقى "محفزا للإصلاح السياسي، ومعالجة الظواهر السلبية في الحياة الانسانية." (21)، في تطمين واضح للسلطة السياسية المغربية أولا التي تستند على الشرعية الدينية بقوة البيعة الدينية والتاريخية لمؤسسة إمارة المؤمنين، وتلميح للقوى السياسية المناوئة ودعاة العلمنة بأن حزب العدالة والتنمية ليس سوى حزب وطني ذو مرجعية تقليدانية تستمد أصولها من الدين الإسلامي دون المس بجوهر العملية الديمقراطية، وفيه توجيه داخلي إلى قواعد وفعاليات الحزب بمقتضاه يتم الفصل نهائيا بين الخطين الدعوي والسياسي وربما إقامة جدار عازل بين المؤسسة الحزبية والمؤسسة الحركية المتمثلة في "الإصلاح والتوحيد"، وهو موقف ينضاف إلى مواقف أخرى قد تجعل منه حزبا مقبولا أكثر لدى الدوائر الغربية بالرغم من مرجعيته "الإسلامية"، في تماه مع الصورة التي جعلت من نظيره التركي حزبا ذا تأييد عالمي واسع، إلى حد أن الدكتور العثماني يشبه حزبه المغربي "بالأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوربا التي تنطلق برامجها من القيم المسيحية لكنها تقدم برامج مدنية وتتحرك بآليات الفعل السياسي وتنطلق من قيم ومبادئ وتوجهات من منظور مسيحي، ولكنها في الأفعال والتطبيق لا تقوم بفعل ديني أو فعل تعتبره مقدسا وإنما فعل بشري يهدف إلى تحقيق أهداف سياسية" (22).
لقد سبق لحزب العدالة والتنمية، أن امتنع عن التصويت في البرلمان، ولو بعد أخذ ورد، على اتفاقية التبادل الحر بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، ورغم معارضته للسياسات الخارجية الأمريكية، فقد عبر الفريق البرلماني للحزب عن "أسئلة" وتحفظات بشأن "التدبير الحكومي للتفاوض ومدى أهليته لتأهيل النسيج الاقتصادي والاجتماعي والمؤسساتي كي يكون قادرا على الاستفادة من الإيجابيات المأمولة، ويتجاوز الانعكاسات السلبية المؤكدة" (23)، وهي الاتفاقية التي ناهضتها قطاعات واسعة من هيئات وقوى المجتمع المدني المغربي، ورأى البعض أنها "تتوخى خدمة الأهداف السياسية والجيوستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية للرأسمالية الأمريكية، واستغلال الموقع الجغرافي المتميز للمغرب لتحويله إلى قاعدة عسكرية واقتصادية" (24)، في حين أن تصويت الحزب لصالح الاتفاقية كان سيشكل "رسالة إلى الخارج وواشنطن بالتحديد، مفادها أن الحزب لا يعادي السياسات الأمريكية في المغرب والمنطقة ولا يسير عكس الاتجاه العام للسياسة الخارجية في البلاد التي يرسمها المقربون من الملك ويحددون أولوياتها ووجهتها!"(25)، زد على ذلك تأكيد قياداته في رحلاتهم إلى البلدان الشريكة سياسيا واقتصاديا للمغرب "بالتخلي عن الأفكار الجاهزة التي ألصقت بالإسلاميين، كونهم يرفضون الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد الحر"(26)، وهو جزء مما يشير إليه الباحث السويسري باتريك هيني من اندماج لبعض القوى الإسلامية في عقلية وثقافة السوق والميل العولمي، مشيرا بالضبط إلى نموذجي تركيا والمغرب (27).
وإذن، فالتعاطي مع المنظومة الليبرالية الجديدة، وأفكارها، وإنتاجاتها في مجالات الاقتصاد والمعرفة السياسيين، هو واقع لدى حزب العدالة والتنمية كما هو لدى حركات إسلامية أخرى متعددة بالعالم العربي، وحتى إن لم تتحاور هذه القوى مع الولايات المتحدة، ولم تتفق معها في تفاصيل ووجهات نظر معينة، فإنها في العمق تلتقي معها، عندما لا تجد حرجا في الترويج لأساليبها وإنتاجاتها، تماما مثلما حدث عند التصويت على اتفاقية التبادل الحر المغربية الأمريكية، التي وإن امتنع الحزب عن التصويت عليها فإنه بالمقابل لم يتحرك مع باقي الهيئات الوطنية المحتجة على وجودها، أو عندما يعترف مسؤولو الحزب بأن زياراتهم إلى أمريكا هي من أجل لقاء فعاليات المجتمع المدني الأمريكي ومغاربة المهجر في بلاد العم سام. وبالتالي فلا يوجد - في نظر الكثيرين - من داع للدفاع المتواصل عن النفس، الذي تمارسه بعض القيادات كلما تعلق الأمر بمسألة الحوار أو الاتفاق مع الأمريكان، مما قد يوحي ويوقع في ازدواجية الخطاب الفكري والسياسي.
ثم أنه أضحى من المفهوم اليوم، وفي سياق الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة أن الدعم الأمريكي أو لنقل تشجيع الإدارة الأمريكية للقوى الديمقراطية الواعدة في المنطقة العربية والإسلامية وأساسا الإسلاميين، هذا الدعم لا يتم حتما عبر البوابة الرسمية أو الديبلوماسية أمريكيا، بل إن مراكز الأبحاث ومؤسسات المجتمع المدني تدفع في اتجاه تبني عملية دمج الإسلاميين في أجواء الإصلاح الديمقراطي، باعتبارهم "حائط الدفاع الأول في مواجهة المتطرفين والمتشددين" (28)، بل إن إحدى الدراسات الأمريكية اعتبرت تجربة "العدالة والتنمية" المغربي من ضمن عدة "حالات واعدة يمكن للولايات المتحدة البناء عليها لكسب (معركة الأفكار) في العالم العربي" (29).
ومن ثم فإن الهامش الذي تتيحه مثل هذه الدعوات الأمريكية لحركة الأحزاب الإسلامية، والغير متاح لقوى أخرى كثيرة، يمكن أن يساعد تنظيما كحزب العدالة والتنمية على المزيد من استغلال الانفتاح الدولي تجاه نماذج "الإسلام الديمقراطي"، والانطلاق بالتالي إلى الاستفادة من ريع المرحلة السياسية الدولية الراهنة وبصمات الأسلمة التي تطبع ملامح الصراع العالمي، وآفاق التحول – ربما – نحو الإسلاميين كمخاطب رئيس ضمن محطات الحوار الكوني الجديد، أم أن إكراهات الواقع الداخلي المغربي، والخصوصية البالغة للمسألة السياسية بالبلاد، قد تدخل الحزب في دوامة الصراع من أجل المواقع، وبالتالي الخضوع لنفس المنطق الذي يحكم باقي الأحزاب المغربية ؟ ولعل بين هذا وذاك قوسا ممكنا ومفتوحا باستمرار من أجل تطوير الرؤية النظرية للحزب وخطابه الإصلاحي في أفق التحرك من موقع الشراكة مع السلطة السياسية وليس من نافذة المراقب "المعارض" لاختيارات رجالات العهد المغربي الجديد.


هوامش:
(1) شيرين حامد فهمي، إسلام أونلاين 18/02/2006، نقلا عن كتاب "الظل المنحسر للنبي: صعود وسقوط الإسلام السياسي"، للمؤلفين "راي تاكيا" و"نيكولاس كاي. جفوسديف".
(2) - د. رفيق حبيب، العدالة والتنمية .. بالعربي "صحيفة المصريون الإلكترونية 18/09/2007.
(3) جريدة الحياة اللندينة، 20 أبريل 2006.
(4) جريدة الراية القطرية، 07/01/2006 .
(5) ولنتأمل المواقف الأخيرة للتنظيم السوري للإخوان المسلمين.
(6) شيرين حامد فهمي، إسلام أونلاين 18/02/2006.
(7) من حوار أجراه موقع إسلام اونلاين مع الدكتور سعد الدين العثماني بتاريخ 22 أبريل 2004.
(8) نفس المصدر.
(9) بيان حزب العدالة والتنمية المؤرخ في الرباط يوم 10 يناير 2008
(10) الإسلاميون وازدواجية إشراكهم وتحجيمهم، راكان المجالي، صحيفة الدستور الأردنية عدد 14912، 06 ديسمبر 2005
(11) الدكتور ناثان براون، كبير الباحثين في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، حوار مع إذاعة سويسرا العالمية (سويس أنفو) 07 مايو 2006.
(12) مقال نشر بمجلة لكسبريس الفرنسية يوم 14 إبريل 2006 تحت عنوان "العثماني والورقة الإسلامية". ترجمة إسلام أونلاين 08 مايو 2006.
(13) نفس المصدر.
(14) نفس المصدر.
(15) عبد الله لعماري، التنجيم الأمريكي .. وآفاق حزب العدالة والتنمية المغربي سنة 2007، جريدة الاتحاد الاشتراكي عدد الأربعاء 26 أبريل 2006.
(16) حالات أحزاب تحالف اليسار الموحد وكذا حزب البديل الحضاري.
(17) التقرير السياسي المقدم من قبل الدكتور سعد الدين العثماني (المجلس الوطني 28-12-2007)، عن الموقع الإلكتروني للدكتور سعد الدين العثماني.
(18) مسألة المطالبة بتطبيق الشريعة مثلا.
(19) مقال منشور على موقع الدفاع عن الماركسية بعنوان: إلى أين يسير المغرب؟ موقع باسم جون دوفال، بتاريخ 14 يونيو 2004
(20) عبد الإله بن كيران في حوار مع موقع قناة الجزيرة القطرية بتاريخ 29/01/2007.
(21) د. سعد الدين العثماني: الدين والسياسـة تمييز لا فصل - الجزء الثاني التجديد 01/01/2008.
(22) حوار مع سعد الدين العثماني، عمر حمزاوي الباحث في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، نقلا عن موقع الوحدة الإسلامية الإلكتروني بتاريخ 02 يناير 2006.
(23) التقرير الخاص بمناقشات الجلسة العمومية رقم 131، بتاريخ 13 يناير 2005 ، عن موقع مجلس النواب المغربي على الأنترنت.
(24) عبد السلام أديب في حوار مع جريدة المستقل بتاريخ 28 يناير 2004
(25) المغرب بين تناوب الإسلاميين والاشتراكيين - ادريس الكنبوري - مجلة المجتمع عدد 1699 بتاريخ 29 أبريل 2006.
(26) العدالة والتنمية يقيس درجة قبوله لدى شركاء المغرب التقليديين، الشرق الأوسط عدد 9996 بتاريخ 11 أبريل 2006.
(27) إسلام البورجوازية وبورجوازية الإسلام، حوار مع باتريك هيني، مجلة البوصلة، القاهرة، العدد الثاني، النسخة الإلكترونية.
(28) دعوة أمريكية جديدة لدمج الإسلاميين، تقرير واشنطن، العدد 127 سبتمبر 2007.
(29) نفس المصدر.




#سعيد_مبشور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصراع العرقي بالمغرب: بين هدوء الواقع وعاصفة الاحتمال
- الاستراتيجية الأمريكية بالمغرب الكبير: ملامح وأهداف
- المشروعان: الجهادي والأمريكي: مواجهة أم تواطؤ ؟
- على هامش صدور كتاب الأخطاء الستة لفريد الأنصاري: في الحاجة إ ...
- الحوار مع معتقلي السلفية الجهادية بالمغرب وآفاق المراجعات
- في الحاجة إلى حكومات الوحدة الوطنية: العراق – لبنان – فلسطين ...
- مخاض العدوان على لبنان، وميلاد الشرق الأوسط -العنيد-
- شعوبنا وصعود جبهة الممانعة
- إنجاز حماس ومهمات المرحلة
- باكستان والهروب إلى إسرائيل
- الحوار بين أمريكا والإسلاميين: المنطلقات والأهداف -الحلقة ال ...
- الرئيس اليمني والطريق الثالث للإصلاح
- الحوار بين أمريكا والإسلاميين: المنطلقات والأهداف - الحلقة ا ...
- منعطف السودان الجديد، أعياد الثورة، أعياد السلام، وملامح الا ...
- الإصلاح الأمريكي ونموذج الدولة الموقوتة


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - سعيد مبشور - حزب العدالة والتنمية المغربي وتحولات الزمن السياسي