أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبد الإله السباهي - أولاد المهرجان















المزيد.....



أولاد المهرجان


عبد الإله السباهي

الحوار المتمدن-العدد: 2137 - 2007 / 12 / 22 - 12:05
المحور: سيرة ذاتية
    


 أفترقت عن شاكر منذ أيام بغداد ، من سنين طويلة . حتى إنني فقدت الأمل بلقائه مرة أخرى .
 ولكن في السنة الماضية قرأت إعلانا على أحد المواقع في الأنرنيت يقول :
 يزور شاكر الدنمارك. وسوف تكون له في عاصمتها أمسية ثقافية في الأسبوع القادم.
أسكن أنا كاتب هذه السطورفي قرية صغيرة وسط غابة صنوبر مطلة على البحر. غير بعيدة عن العاصمة  .
 فاخذت القطار الكهربائي إلى كوبنهاكن العاصمة وهناك التقيت بشاكر.
كان لقاء حميما جدا ولم أترك أمسية شاكر الثقافية إلا وهو معي . منّ عليّ بقبول ضيافتي ليوم واحد.
كانت الذكريات الحميمة تنزف طيلة ذالك اليوم و بدون توقف . ختمها شاكر بسرد أحداث سفرته العجيبة إلى مهرجان الشباب في موسكو عام 1957 وبالتفصيل الممل .
أترككم مع شاكر ليحدثكم مباشرة عن تلك السفرة وقد أتدخل من وقت لآخر فأنا لا أطمأن بترككم معه على انفراد :
الطريق من بغداد إلى دمشق طويلة وتمتد مئات الكيلومترات عبر الصحراء الغربية.  لم تكن تلك الطريق معبدة كلها ، لذا كانت السيارات تسيير لساعات على أرض عبدت بالقار يدويا , وبطبقات تراكم يعضها فوق بعض . فكانت العجلات ترسم خطوطا متعرجة على طول الطريق. وخاصة أثناء فصل الصيف حيث الحرارة تصل إلى الخمسين درجة مئوية.
تلك الطريق المملة تنتهي عند مدينة الرطبة الحدودية . وهي آخر المدن العراقية  في الطريق إلى الشام  .
 لم تكن مدينة الرطبة سوى شارع رئيسي من المحلات التجارية والمقاهي وبيوت من الطين. و في آخره بناية من الطابوق هي المركز الحكومي الوحيد  والذي يضم كل دوائر الدولة بما فيها شرطة الحدود.
لا تظن أن الطريق القادمة ستكون أفضل . فبعد أن تغادر مدينة الرطبة تبدأ السيارات تسلك طرقا جانبية وسط الرمال ، هربا من الحفر الخطرة التي انتشرت على طول الطريق، والتي شكلت مطبات خطرة يحجبها التراب وسط أسفلت تآكل منذ أمد بعيد و لم يهتم أحد بإصلاحه .
روى العديد من السواق قصصا عن فقدان سيارات بركابها بعد أن ظلت طريقها في تلك الرمال الناعمة.
 قبل أن أحدثك عما عانيته في مدينة الرطبة من التعب والخوف أود أن أبدأ معك من البداية.
خذ راحتك أبو ( رنّا ) الليل طويل وغدا عطلة والبيت قريب والجو رائع وزيارتك فرصة ربما لا تتكرر، علقت مازحا معه.
شاكر على عادته سارح بأفكاره رغم استرساله بسرد قصته بتلذذ . و لم يعطي فرصة حتى لسجارته أن تنطفي ولا لقنينة الجعة أن تفرغ متمثلا قول الشاعر :
 " قد حرم الله سكرها لا شربها  --   فاشرب هنيئا أبا العباس "
ولكنه يتوقف فقط عندما تلح عليه مثانته فيذهب ويقضي حاجته ليعود منشرحا بعدها و يعاود الحديث وكأنه لم ينقطع :  
كاد ذلك أن يحدث معي عام 1957 أي كنت سأتيه في تلك الرمال وربما أكلتني الذئاب ،عندما كانت السيارة التي أقلت أخوك شاكر وتسعة مسافرين آخرين من أعمار شتى  في الطريق إلى دمشق.
 بعد ساعة من مغادرتنا المدينة أصبحنا وسط  الرمال الناعمة .و رحنا نتتبع  بحذر شديد الآثار التي تركتها السيارات التي سبقتنا على تلك الطريق علها توصلنا إلى درب سالكة.
على الرغم من مهارة سائقنا وخبرته الطويلة في مهنته .ورغم الهدوء المتشنج  الذي ساد الجميع وانخراطهم  في التركيز مع السائق على تتبع ذلك الأمل الواهي في النجاة كانت النتيجة هي أن ظللنا وجهتنا  في صحراء شاسعة لا أثر للحياة فيها والخوف يخيم على الوجوه .
 لم نستسلم طبعا فالحياة عزيزة .
راحت السيارة تشق طريقها بإصرار ولكن دون هدى وسط  تلك الرمال الناعمة تاركة خلفها شريطا أحمرا ارتفع إلى عنان السماء ، كأنه بقايا رذاذ دجلة حين تشقه الزوارق البخارية السريعة في موسم الفيضان ، والتي كان يقودها الجنود البريطانيون برعونة وزهو قرب قاعدتهم في مدينة  قلعة صالح .
   "ربك ستر"  وصلنا أخيرا وبالصدفة إلى البنزين خانه التي تسبق مركز الحدود السورية.
كنت وشاكر نحتسي الجعة من نوع ( كالرسبيرغ  الدانمركية) في مقهى صغيرة وسط غابة من شجر الصنوبر مطلة على "السوند- كاتيجات" وهو خليج ضيق يربط بحر البلطيق بالمحيط الأطلسي . ويفصلنا عن مملكة السويد  .
 أضواء المدينة السويدية التي أمامنا قد تساقطت في البحر وكأنها غابة من الأنوار .
 كان هذا المضيق يمرّ بأراضي مملكة الدانمرك فقط حيث كانت ضفته الشرقية والأراضي المحيطة بها تابعة لتلك المملكة . وذلك قبل أن تستقل السويد عن الدانمرك وتكوّن مملكتها الخاصة  في عام 1865 .
 راح شاكر يسترسل من جديد في سرد أحداث رحلته الأولى والتي مضت عليها أربعة عقود ولكن بتفصيل دقيق هذه المرة وكأنه قد عاد توا منها.
أنها المرة الأولى التي يزورني فيها شاكر ، في بلدي الجديد الدانمرك . ولابد أن الفضول يدفعكم الآن لمعرفة هذه الشخصية الفذة التي استحوذت على هذه الصفحات.
شاكر يا سادتي الكرام من النفر القلائل الذين أنجبتهم أرض العراق . شاعر رقيق جدا وفنان مرهف الحس . متواضع إلى حد التماهي مع عامة الناس . صغير الجسم وجهه جميل مميز ولا يمكنك أن تنساه لمجرد رؤيته ولو لمرة واحدة .  تغطي عيونه نظارات طبية فهو لا يميز الحروف من دونها .
 لفظه العراق مع الالآف من أمثاله ، علماء وفنانين وأدباء ومبدعين وعلى مدى ثلاثين سنة  يهربون من عراقهم وكأنه نزيف شريان لا ينقطع بسبب رعونة السياسة والتشدد الديني والمذهبي.  يعيش هؤلاء الآن في ديار الغربة لا ينوب العراق منهم غير الحنين والنواح .
  مزحت مع شاكر قائلا هل لا زال وزنك خمسون كيلوغرام ؟ أجابني بجد :
أخي صحح معلوماتك وزني ثمانية وخمسون .   " لا صار زحمة ! " .
هذا الرجل الذي يزن رأسه أكثر من جسمه له صولات مع اللغة العربية وحروفها سوف يذكرها التأريخ بكل فخر. ومع ذلك تراه لا يفاخر بما أنجزه ولا يتحدث عن نبوغه مثلما يفعل الآخرون .
تصوروا إنه لم يحدثني سابقا كونه قد التقى بأشهر شعراء وأدباء القرن الماضي من ناظم حكمت إلى اراكون وجورج أمادو وغابريل غرسيا ماركيز وآخرين . وكانت له لقاءات ومشاركات غنية مع نوابغ الفن والمسرح العربي والعراقي مثل يوسف العاني ومحسنة توفيق ونعيمة عاكف وغيرهم.
الخدر اللذيذ ، والذي جاء مع القنينة الثانية شجع شاكر بالاسترسال في سرد قصته ناسيا إنه كان قد قصّها لي منذ عشرين سنة ونحن في موقف مشابه لهذا الموقف ، حيث كنا نجلس في العتمة خلف  شجيرات الشبو الليلي في مقهى على  ضفة دجلة في شارع أبي نؤاس .
 كنا نحتسي حينها الجعة أيضا و كانت من نوع ( فريدة و المصنعة بإشراف شركة كارلسبورغ الدانمركية ذاتها ) وأضواء القصر الجمهوري تراقصت أيضا على موجات النهر الخالد .
 حديثنا كان همسا حينها . ونادل تلك المقهى يضع القناني على الطاولة بتكلف .حتى لم يكن يعيرنا انتباه كان رجل يسد النفس أطلق  شواربه على شكل عقرب.
لا أعرف سرّ تمسك شاكر في سرد تلك القصة بالذات في مثل هذه الأجواء "الشاعرية".
 ربما تذكره هذه المواقف بنهر موسكو وعتمة ضفافه عند حديقة (غوركي) ؟.
بعد أن رشف شاكر جرعة كبيرة من الجعة على خلاف طبيعته . ففي العادة كان يحتسي الجعة برشفات صغيرة متتالية . ومع نفس عميق من سيجارة لم أميز علامة الشركة التي صنعتها ولكنها كانت ذات رائحة عطرة .
انطلق شاكر من جديد يسرد ذكرياته دون أن يلتفت لي وكأنه يحدث نفسه:
توقفت السيارة نوع  فورد التي أقلتنا قبل أن تدخل الحدود السورية ببضع كيلومترات عند محطة للبنزين لتتزود بالوقود، بعد أن ا استهلكت الطريق الرملية مخزون السيارة منه.
 كان البنزين يباع هناك في علب من الصفيح مغلقة تفتح كما نفتح اليوم علب ( الببسي كولا) .
لم  تكن محطة الوقود تلك سوى غرفة بنيت من صفيح البنزين الفارغة .  تآكلت واسود لونها بفعل الصدأ. تظللها بعض أشجار من الأثل لا يعرف متى زرعت فقد تحول لونها الأخضر إلى لون التراب الذي يغطيها  .
عندها وجد الركاب العشرة وكلهم من الذكور فرصتهم في مغادرة السيارة. فانطلقوا في اتجاهات شتى. منهم من ابتعد قليلا ليقضي حاجته في الهواء الطلق أو يفرغ ما في معدته بعد دوار أصاب الجميع . ومنهم من راح يبحث عن ماء يبلل به وجهه ليحرره من الرمال التي غطته ولم تترك فيه غير عينان محمرتان .
 أما أخوك شاكر فقد جلس وحده  تحت شجرة أثل بعيد عن تلك الغرفة هربا من رائحة البنزين الحادة  يستعيد تفاصيل رحلته من البداية :
لم يكن شاكر تلك الأيام يشبه شاكر الذي أمامك اليوم . فلم يكن يعرف من العالم غير قريته الصغيرة المدفونة بين بساتين نخيل العمارة على الضفة اليسرى من نهر دجلة. حيث لم يكن في عالمي  أكبر من هور* العمارة . أما حدود هذا العالم  فتنتهي  في السودة والبيضة*.
 بيوتنا هناك مبنية من القصب . والأسرة التي ننام عليها من جريد النخيل أما الحصران التي نجلس عليها فهي من خوص النخيل أيضا .
 مدرستنا الوحيدة في القرية كانت مبنية من الطين . يحيطها سياج مرتفع من السعف . زرعت مساحات منها بزهور برية يرحلّ عطرها في ذاكرتي حيثما  رحلت .
تتوسط سياج المدرسة سدرة كبيرة كانت سببا في عراك الصغار على ثمارها . كم قاست هذه السدرة من رمي الصغار لها  بكل ما كان في متناول اليد حتى "القنادر"  ليسقطوا ثمرة أينعت على احد الأغصان القريبة من الأرض. أما الثمار التي كانت في أعلى الشجرة لا يطولها الصغار فتظل من نصيب الحارس .
تعلمت الحروف العربية في تلك القرية . وعشقتها من المرة الأولى موهبة من ربك . فأصبح خطي مضرب المثل في قريتنا والقرى المجاورة . حتى ذاع صيتي وحصلت على جائزة الخط العربي في اللواء*.
 وأنا تحت تلك الأثلة رحت أستعيد أيامي الأخيرة في بغداد وكأنني في حلم .
سرح بي الخيال هذه المرة إلى مديرية الجوازات العامة التي شغلت بناية قديمة في وسط البتاويين* . بناية قديمة على الطراز البغدادي . تتوسطها شجرة كبيرة من اليوكالبتوس  كانت ظلالها تحمي العشرات من المراجعين من حرّ حزيران وشمسه المحرقة .
العديد من دوائر الشرطة تشارك مديرية الجوازات في تلك البناية .فكان أفراد الشرطة بملابسهم الخاكي وبنطلوناتهم القصيرة وهي  تنزل تحت الركبة بعدة أصابع  ،وسدارة من الخاكي مالت على رؤوسهم وهم يتحركون بين قادم وغادي في فضاءها  كأنهم خلية نحل.
أول شرط  للحصول على جواز سفر هو كتابة عريضة . ويجب أن تكون عند كاتب العرائض. وهؤلاء الكتاب لديهم نماذج مطبوعة يدونون فيها المعلومات لكل طالب سفر ويتقاضون ربع دينار* عن تلك الخدمة .
لا تقبل العريضة إن لم تكتب عندهم  وبالديباجة التي حددوها هم ،حتى لو كنت " مصطفى جواد " بذاته . أو دونت بخط الثلث الذي أجيده أيما إجادة كما تعرف .
دفعت الربع دينار وبعد لصق طابع من فئة الخمسين فلسا والذي يباع عندهم أيضا وبسبعين فلسا أرفقت الطلب بوثائق ثبوتية وأولها كتاب موافقة من دائرة التجنيد .
كنت قد أعددت كل الوثائق الثبوتية ومنها كتاب الموافقة من دائرة التجنيد والذي  اشتريته من أحد السماسرة المتواجدين في دائرة السفر بعد أن دفعت له مبلغ خمسة دنانير لتلك الوثيقة فقط وبالواسطة .
كان هذا السمسار رجلا طويل القامة يلبس الصاية ويلفّ الجرّاوية *على طريقة أشقياء بغداد وكان مرحبا به في كل أقسام المديرية .
كان قد اتفق جماعتنا معه ليسهل معاملة إصدار الجواز للعديد من أعضاء الوفد والخمسة دنانير كانت سعر الجملة ففي الحالات الفردية يأخذ ضعف المبلغ .
 أخذتني رعدة خوف عندما قدمت العريضة والأوراق المطلوبة للشرطي الجالس خلف كوة صغير تفصله عن طابور المراجعين .  فقد كان كتاب التجنيد  المزور صادرا من دائرة تجنيد الكوت وأنا من سكنة العمارة ولا أعرف من جغرافية الكوت إلا القليل جدا وحتما ستنفضح حيلتي لو جرى الحديث معي عن الكوت أو عن الوحدة التي خدمت فيها ولكن "ربك ستر" .
 ترى هل ستمّر كل الأمور على ما يرام يا شاكر؟ .
 لا مبرر لخوفي  فكل شيْ مرّ بسلام . والظاهر أن الأمور كلها كانت مرتبة في تلك المديرية بشكل متقن وكل مسؤول يأخذ حصته المعلومة.
 صدر لي جواز سفر لأول مرة في حياتي . فحرصت على استلامه من الموظف المختص مباشرة للتأكد من شرعيته . ثم رحت أقلب أوراقه وأتفحص الطوابع التي لصقت على صفحته الأخيرة غير مصدق .
قرأت توصيات وزارة الخارجية العراقية المعنونة  لكل دول العالم بمساعدة حامل هذا الجواز والذي يسمح بموجبه الدخول إلى كل بلدان العالم عدى إسرائيل .
لكن ماذا لو حصلت مشكلة لحامله في مملكة العراق على الحدود مثلا ؟
أخذت جواز السفر وغادرت مديرية الجوازات بأقصى سرعة وظل الخوف مسافر معي طول الطريق حتى الحدود السورية .
 توكل و أتركها على الله يا شاكر رحت أحدث نفسي كل يوم ولحين موعد السفر .
  طاب لشاكر الجلوس تحت شجرة الأثل غير مصدق أن كل هذه الأحداث التي مرّت عليه قد عدت بسلام . ثم أخذ يبتسم  ثم راح يقهقه مستذكرا سفرته الأولى  خارج حدود العمارة والتي كانت إلى بغداد عندها كان صبيا :
كان ذلك قبل عشر سنين تقريبا عندما حشرت  جنب أمي في ( خانة ألشواذي ) *في  باص  صنع هيكله الخشبي محليا  يسع ثمانية عشر راكبا . ولكن حشر ف ذلك الباص خمسة وعشرين راكبا صفت حقائبهم  فوق سطح السيارة و رصت جنبها مجموعة من الخراف والنعاج بعد أن ربطت جيدا  وكان رذاذ بولها يتساقط على وجوه بعض الركاب ممن لم يحتمل الحر وتورط بفتح النافذة . إلى أن وصلوا  مدينة الكوت وكانت الأمور تجري على ما برام  .
توقف الباص في مدينة الكوت . وبعد استراحة غير قصيرة تناول فيها ا لركاب غداءهم وشربوا الشاي انطلق الباص من جديد .
بعد أن أصبح الباص بعيدا عن المدينة راحت امرأة من الركاب في الخمسين من العمر و كانت تسافر ربما وحدها لأول مرة . راحت تتوسل بسائق السيارة ليتوقف كي تقضي حاجة طارئة . استجاب لها السائق مرغما  وأركن الباص على جانب الطريق على الرغم من تذمر بعض الركاب واحتجاج الآخرين .
 نزلت المرأة مهرولة تبحث عن أقرب مكان يسترها. ولكن لا سترا هناك فالأرض مستوية على امتداد البصر .
 لم تبتعد كثيرا وربما اضطرارا أو خوفا من فقدان الباص في تلك النواحي المهجورة رفعت المسكينة ثيابها وراحت تقضي حاجتها متجاهلة عيون الركاب.
 لقد وجد السائق حرجا شديدا في منظر تلك المرأة فابتعد قليلا بسيارته عنها  لتأخذ راحتها        و ليجنبها و الركاب الحرج.
 ولكن المرأة عندما شاهدت السيارة وهي تتحرك ، تركت ما هي فيه وعادت إلى الباص مهرولة.
و بعد أن ركبت الباص والذي انطلق مسرعا محاولا تعويض الوقت الضائع . لم تتمالك المسكينة  نفسها فجددت نشاطها مرة أخرى ولكن داخل السيارة هذه المرة .
عمتّ الرائحة الكريهة الباص وامتزجت بصرخات الركاب التي لم تتوقف إلى بتوقف الباص في المدينة التالية .
 لا أعرف لماذا تذكرت تلك الحادثة بالذات وراحت أقهقه متجاهلا نظرات رواد المقهى  وهم عاملان وركاب السيارة ؟. ثم رحت أستذكر انطلاقتي من بغداد . وأقول انطلاقتي لأن الأرض لم تكن تسعني حينها .
 على الرغم من أن الطريق في بداية السفرة كان مثيرا ومسليا ولكن بعد أن غابت بغداد خلف البساتين التي كانت تحيط بها أصبحت الطريق خالية تقريبا من معالم الحياة عدى بعض الرعاة الذين يظهرون وسط تلك الأرض القاحلة بين الفينة والأخرى .
في البداية رحت أدرس وجوه المسافرين الذين معي في السيارة . إن لم ترق لي سحنته احدهم كنت أقول لنفسي ربما كان هذا مدسوس من قبل الأمن لمراقبة المسافرين. ثم  أشيح بناظري عنه و أبحث بعيوني عن الشخص الذي سوف يتصل بي بعد أن نجتاز الحدود كما قالوا لي قبل سفري  ترى من يكون ؟ .
كانت التعليمات التي وصلتني قبل السفر تقول بأن هناك من سيتدخل لمساعدتي عند الضرورة.
أخذت أدقق في الركاب مرة أخرى  وأصبح ذلك شغلي الشاغل . ترى هل يكون هو ذلك الراكب الأنيق ذو الشوارب الكثيفة الذي استأثر في المقعد الأمامي والذي لم أطمئن لسحنته ؟ ربما  وأعود لأقول لنفسي لا تستعجل يا شاكر " كل شي يجي بوقته وربك الساتر" .  
انطلقنا من جديد وأضحت أشجار الأثل خلفنا وبعد كيلومترات قليلة كنا في أبو الشامات المركز الحدودي السوري.
 قاطعت شاكر عندها :
 أبو ( رنا )  قبل أن تبدأ حديث الشام حدثني يرحم أبوك قبل أن تنسى ، ماذا جرى معك في الحدود مع الشرطة والجمارك العراقية ؟
على بختك أنسى ؟ "جيب ليل وخذ عتابه" ولكن قبل كل شيء أرجو أن تنادي على النادلة "ا بنت الأبالسة كأنها من حور العين مكلفة بخدمة عباده الصالحون من أمثالي". واطلب منها رجاءا أن تدبر لي سجائر . وما اسمها بالمناسبة ؟.واستمر شاكر:
نعم ، عندما وصلنا إلى مركز الحدود العراقي طبعا في الرطبة أخوك شاكر السبع ظل يرتجف. وتظاهر بالإعياء الشديد عسى أن يتدخل ( المخلصّ ).
ولكن كل شيء مرّ بسلام و "ربك ستر" جاء السائق و جمع جوازات سفر الركاب كلها وأخذها إلى شباك صغير يذكرك بشباك المديرية في بغداد. وبعد نصف ساعة عاد بها مسرعا وبعد تفتيش سريع لحقائبنا من قبل شرطة الجمارك وفي نفس البناية انطلقنا في تلك الطريق الترابية التي حدثتك عنها يسابق الشمس. تصور كل الرعب الذي عشته والقلق ظلّ خلفنا بعد أن اجتزنا المركز الحدودي . ولكن فرحتي لم تكتمل حيث الخوف من تلك الرمال الناعمة أخذ نصيبه منيّ أيضا .
أخذت اشك أن السائق هو المكلف بالتدخل لمساعدتنا لما أبداه لنا من خدمة في تخليص عملية تأشير الجوازات ، ولم أكن أعلم أن ذلك جزء من واجبه المتفق عليه مع شرطة الحدود ليتخلصوا من زحمة وإلحاح المسافرين . تلك الظنون لم توصلني إلى نتيجة ولم ينكشف ذلك السرّ إلا بعد أن اجتزنا مركز أبو الشامات السوري.
هناك لم تجري الأمور بسهولة . فأول سؤال طرحه الدركي السوري على أخوك هو :
 لماذا جواز سفرك خفيف ؟
 أقسم  لك بأغلظ الأيمان لم أدرك حينها لماذا جواز سفري بالذات كان خفيفا ؟ وما معنى ذلك ، هل توزن الجوازات في سوريا ؟  ولكن تدخل السائق هنا أيضا و في الوقت المناسب  وأعاد جواز سفري إلى وزنه الطبيعي بعد أن وضع بداخله نصف دينار استله من جيب قميصه وكأنه يعرف هذا السيناريو من قبل . أعطيته نصف دينار لاحقا مع الامتنان والشكر مع شعوري بالعجز والبلاهة .
غادرنا المركز الحدودي السوري وقد أنهكنا التعب والقلق ولكن الشعور الجديد كونك حر شيئا لا يوصف.
كثير على أخوك شاكر أن يجرب الحرية لأول مرة. كم كان شعور الأول بها عميقا ؟ بحيث صبغت حياتي بعدها بتحدي كل ظلم . إنها إحدى الطرق التي يرسم فيها القدر. فكان النضال من أجل الحرية قدري وسيظل إلى آخر المشوار . مشوار العمر.
تيقنت أن سائق السيارة هو المسؤول عنا في هذه السفرة فقد كان بجانبي في كل الأوقات الصعبة التي مرّت بيّ . حتى إنني أردت أن أكشف ذلك له عند وصولنا دمشق ، لولا شدة قوية على يدي من قبل ذلك الرجل الذي لم أكن أرتاح له طول السفرة والذي استأثر بالمقعد الذي بجنب السائق أعادتني لما تعودنا عليه من السرية وضبط النفس .
 كان ذلك الرجل هو المسؤول عنا ، وتبين لي إنني لست الوحيد في هذه الرحلة ،فكان أغلب ركاب السيارة هم من الوفد العراقي المشارك في مهرجان الشباب في موسكو.
 وكم توطدت صداقتي بهم لاحقا !.
لقد ضيع عليّ انشغالي بالمسؤول الجديد والذي تعرفت عليه في آخر السفرة، متعة اللهفة لرؤيا نهر بردى الخالد ، حتى إنني لم أشعر به عندما اجتازته السيارة بلحظة . ولم أفطن إليه إلا عندما صاح أحدهم هذا نهر بردى مشيرا إلى ساقية تشبه نهر الحفرية بقريتنا. ظننت لأول وهلة أنه يمزح ولكنها كانت الحقيقة !
شاكر عزيزي هل أقول لك بصراحة ؟
 نعم تفضل !
في المرة السابقة حدثتني عن تلك السفرة وللحقيقة كان الحديث مختصرا فهل هذه إضافات ؟.
ماذا تعني ؟ هل تريدني أسكت أم أستمر ؟
استمر عيوني ولا تزعل وأنا جد مشتاق لسماع نهاية هذه السفرة التي لا حديث لك غيرها.
ها بدأ التصنيف ؟
لا وحياتك....أمزح معك فقط  استمر عزيزي شاكر أرجوك .
وعاد شاكر إلى حديثه على مضض هذه المرة. فالظاهر أن مزاجه قد تبدل ولن أظفر من ببقية القصة إذا لم نعدل مزاجه.
آنسة كرستينا هل جلبت السجائر المطلوبة لضيفنا ؟ اجلبي لنا معها لطفا قنينتا كارسبوغ .
جاءت كرستينا بالسجائر وعاد شاكر يرهق رئته الضعيفة أصلا بأنفاس عميقة من سموم تلك السجائر فعاد له مزاجه وعادت له حماسته :
في دمشق سكنت في غرفة مع أحد العراقيين المقيمين في دمشق . ونمت تلك الليلة بعمق.
فيومي كان مرهقا منذ فجره.
في صباح اليوم التالي استضافني هذا المقيم الطيب ،المنحني على آلة طابعة لا يفارقها ولا يفارق السيجارة وقد امتلأت نفاضة السكائر بالأعقاب واصفرت أصابعه منها .استضافني على فطور رائع لم أذق مثله من قبل.
في بغداد وكذلك في العمارة كنا نفطر يوميا على  صحن من القيمر والدبس وأرغفة من الخبز الساخن مع استكان شاي .
 أما اليوم في دمشق فقد تبل كل شي وظهرت أسماء جديدة زعتر وزيت زيتون وجبن ضفائر وغيرها . لن أدوخ رأسك بالتفاصيل . أفطرت على عجل وطلبت من مضيفي أن يأخذني إلى وسط دمشق لأرى سوق الحميدية وجامع الأمويين ووو .
لا تستعجل أخي الكريم فهناك من سيأتي ليأخذك أما أنا فربما في يوم آخر سوف أريك من دمشق  أماكن لم يرها أحد من جماعتكم وهذا وعد مني .
 أنا اسمي طالب وكما ترى إني مكلف بعمل كثير جدا مع هذه الطابعة اللعينة والتي أبرت أظافري وأرهقت عيوني.
وأخوك شاكر .
و بالفعل لم تمضي نصف ساعة حتى جاء أحدهم  وكان اسمه جواد والذي أصبح صديقي المقرب بعد المهرجان.أخذني في جولتي الأولى في دمشق والتي فضلت أن تكون سيرا على الأقدام.
 لن أتعبك في الحديث عن دمشق وأسواقها وفاكهتها ولا حتى عن الشاميات فأنا أعرف الحديث عن كل ذلك ممل وليس فيه جديد على رحّالة مثلك.
المهم كانت رئاسة الوفد قد استأجرت شقة كبيرة في وسط البلد في ساحة المرجة  لتكون مقرا للوفد وقدمني جواد إليهم . كان التحضير للسفر يجري هناك على قدم وساق .
 التقيت هناك بشخصيات كان مجرد رؤيتها يمثل حلما لنا في تلك الفترة. هناك  صافحت وتحادثت مع قادة الحركة السياسية والفينة والأدبية العراقية مثل محمد صالح العبلي وجمال الحيدري وصفاء الحافظ وعبد الوهاب البياتي ويوسف العاني وعبد الجبار وهبي ووو .
لم نمكث طويلا في دمشق فقد أخذتنا باصات سياحية كبيرة  إلى اللاذقية ومن هناك صعدنا إلى ظهر باخرة روسية عملاقة كانت تحتل رصيف اللاذقية بكامله.
 بعد أن مررنا بدائرة الجوازات السورية وكانت معاملات ختم خروجنا من سوريا تجري بكل يسر. وعلى ظهر الباخرة تجمع كل الوفد العراقي المسافر إلى المهرجان  .
 كان الوفد العراقي يزيد على 170 شاب وبينهم بعض الفتيات . وكان الشباب السوريين يعدون بالمئات ربما وصل عدد هم إلى 700 شاب وشابة . وعلى تلك الباخرة أيضا تجمعت وفود عربية أخرى من مصر والسودان ودول أخرى.
ما جرى مع أخيك شاكر على ظهر تلك السفينة تكتب عنه القصص. لم أرى في حياتي  باخرة بهذا الحجم طبعا . وإنها أول مرة أرى فيها البحر فأخذتني رهبة من ذلك المشهد ومن زوارق الإنقاذ التي علقت على جوانب ذلك الصرح الشامخ. ترى هل ستكفي للجميع لو غرقت السفينة لا قدر الله ؟ و في أي منها سوف تتعلق يا شاكر إذا ما حلت الواقعة ؟ .
الحركة على الباخرة كانت بطيئة واجراءات التحضير للإبحار تسير بشكل ممل وحشود المودعين على الرصيف يزيد من مللي وتذمري الذي لم يكن هناك من يسمعه ولا مبرر له سوى اللهفة إلى الوصول وعدم وجود من يودعني في تلك الحشود..
الخوف من البحر ومن دواره قضى على كل متعة كنت أحلم بها .فلم يتركني دوار البحر طيلة السفرة . وأصلا بدأ معي منذ أن تنشقت رائحة  القمرة الصغيرة التي حشرت فيها مع ثلاثة ركاب آخرين والتي كانت كافية لتسبب لي الدوار قبل أن تبحر السفينة .
كان معي في تلك القمرة الصغيرة أحد المهمين في الوفد العراقي وكان اسمه قاسم . بالمناسبة كل أسماءنا كانت غير حقيقية فأخوك كما تعلم لا شاكر ولا هم يحزنون كان ذلك لدوافع أمنية كما قالوا لنا ولم يكن التعود على تلك الأسماء الجديدة سهلا فلم أكن أعرف شاكر قبل تلك الرحلة ولا حتى بعدها.
كان معنا اثنان من شباب بلد عربي آخر، أحدهم  كان يافعا وشديد السمار له وجه جميل كفتاة . أظن أن اسمه كان أحمد  ولا أذكر اسم رفيقه الذي معه .
انطلقت الباخرة مبحرة بنا عصر ذاك اليوم الجميل وكل الركاب على السطح يودعون ميناء اللاذقية ويتمتعون بمنظر البر للمرة الأخيرة ربما ؟ .
 بعد أن ابتعدت الباخرة وراحت المياه تحد النظر من كل جانب وكان البحر هادئا.
تزاحم الركاب في الممرات وعلى السلالم كل يبحث عن القمرة التي سوف يأوى إليها  عند غياب الشمس .
 وكانت قمرتنا أنا وقاسم ذات أربعة أسرة في الطابق الثالث تحت السطح.وكنا أول من وصل إليها . تقاسمنا أماكن النوم فيها . فكان السرير الأرضي من نصيب قاسم حسب رغبته . وأنا في سرير فوقه.
لم نتعرف بعد على الذين سوف يشاركونا الغرفة الصغيرة وهكذا ظل السريرين الآخرين شاغران إلى الليل.
 كان قاسم طويل القامة جميل الوجه ذو ملامح رجولية طاغية تظنه واحدا من أشقياء بغداد. ولكنه في الحقيقة وديع  وخجول جدا كما اتضح لي لاحقا . تختم  إصبعه الصغير بخاتم من الذهب الخالص مطعم بحجر من الفيروز الإيراني رائع الزرقة. كان هذا الخاتم هو الإرث الوحيد الذي تركه والده وقد أصبح من نصيب قاسم بعد أن تنازل الآخرون عنه محبة بقاسم .
 لا تتصور أنه خاتم ذهبي عادي وحسب ولكنه متوارث في العائلة  أب عن جد . وهناك اعتقاد ساد في عائلتنا أن هذا الخاتم يجلب المحبة والقبول لحامله. أسرّ لي قاسم بذلك على الرغم من عدم إيمانه بالغيبيات. إلا أنه كان شديد الحرص على هذا الخاتم وقد أدلى لي بكل هذه الإيضاحات ليرضي فضولي بعد أن أبديت إعجابي بذلك الخاتم وبلون تلك الفيروزة الساحر.
نمنا ليلتنا بقلق ودوار بسيط وكانت الأسرة قصيرة بالنسبة لقاسم أما أنا فكما ترى الحمد لله ولا يحمد على مكروه سواه. كان السرير يكفيني وزيادة لذا نمت في السرير الذي في الأعلى وتركت قاسم يتقلب في السرير التحتاني لا يعرف أين يضع قدميه.
نهضنا في الصباح وحسب الأوقات المحددة سلفا ليتسنى لمطاعم السفينة أن تخدم الركاب جميعهم وعلى شكل وجبات.
كانت وجبتنا الأولى فتحتم علينا النهوض في الساعة السادسة والنص ثم الذهاب إلى المطعم لتناول الفطور في الساعة السابعة. وهكذا كنا هناك حسب الموعد فنحن مدربين بشكل جيد على الدقة في المواعيد حتى أصبحت تلك الدقة جزء من طبيعتي إلى اليوم .
كان هناك العديد من الركاب الذين شغلوا الموائد قبلنا.
أرشدتنا فتاة قصيرة ممتلئة إلى مائدتنا وكانت في آخر المطعم . ولم تسلم تلك الفتاة من نظرات الشباب التي راحت تلتهما قبل الفطور على الرغم حظها المتواضع من الجمال ولكن  " البياض ثلثين الحسن " .
كانت الموائد غنية بكل ما لذ وطاب ورتبت فوقها الأواني الخزفية الجميلة والتي لم أعرف ماذا أصنع بالعديد منها ؟.
 الشراشف التي غطت الموائد بيضاء ناصعة البياض مع مناديل أكثر بياضا . جلسنا إلى المائدة التي أرشدتنا النادلة إليها أنا وقاسم وبعض الشباب اللبنانيين على ما أذكر.
كنت في البداية مترددا في مد يدي إلى الطعام الذي لا أعرف تفاصيله و لم أرى مثله من قبل فرحت أقلد قاسم وباقي الشباب .
 أخذت قطعة  كبيرة  من الخبز الذي كان يشبه الكيك ، ورحت أفرش عليها طبقات من الزبد كما كان يفعل الشاب اللبناني الذي يقابلني ولكن بشكل أكثف ثم أغطيها بطبقات من المربى البرتقالي الذي لم أعرف من أي فاكهة صنع .
ولكونني أحب السكريات بشكل كبير أخذت أزيد من المربى ولم أفهم نظرات قاسم والآخرين الحادة وكأنهم ينتقدون ما أفعل.
 هل يكون الأكل والمربى خاصة مقننا لا يسمح بالإكثار منه ؟
على كل ما لي و لقاسم وللآخرين  فلحظات السعادة لا تعوض. دسست تلك القطعة المغطاة تماما بالمربى في فمي بكل نهم ويا ويلي !
 كانت لقمة أشبه بالكابوس . احترت ماذا أصنع بها ؟ ما هذا الورطة التي وضعت نفسي بها ؟ لم يكن ذلك الذي فرشت به خبزتي مربى  بل مادة زفرة وكأنني أتذوق سمك نيّ، وهو ما كان فعلا. فمن كثرة كرم مضيفينا رصت موائدنا  بالكافيار الأحمر الغالي الثمن والذي لا يحلم به إلا أثرياء العالم  !.
ولكن ماذا تصنع مع الفقر ؟ المعيدي يظل معيدي· .
احترت كيفية التخلص من ذلك الرفاه . أين أجد مكان أرمي به تلك اللقمة والتي كانت أكبر من تبلع مرة واحدة ؟ . وبعد أن تخلصت منها رحت أزدرد قطع الخبز خالية كمن غص بعظم كي أزيح تلك الزفرة من فمي . راحت الزفرة  ولكن كيف أتخلص من تعليقات قاسم والشباب الذين معنا طيلة السفرة . لقد أورثتني تلك اللقمة المشؤومة عقدة وضحكات تهكمية لم  تنتهي.
اضطررت بعدها وطيلة سفرنا على تلك الباخرة وحتى بعد ذلك إلى سؤال كل من كان يقاسمني مائدة طعام ,عن كل شيء تحويه تلك المائدة . أو عندما أكون غير واثقا تماما من ماهيته.      والسؤال مو عيب مو ؟
هل كل الدنماركيات جميلات مثل هذه النادلة ؟  هل تأتي أنت إلى هنا دائما ؟
ها أظنك ارتبكت ، طيب لا تزعل و للتو اتفقنا أن السؤال مو عيب ؟
اترك كرستينا أبو رنا وخليك معي .
 طيب في تلك الليلة وهي الثانية لي على " سفينة نوح ".كان دوار البحر قد عكر مزاجي وحرمني من التمتع بمناظر الطبيعة الرائعة ونحن نجتاز مضائق الدردنيل .
بعد أن رحلت الشمس إلى ما وراء بلاد الإغريق خيم الظلام على سطح السفينة فعدت إلى القمرة التي لم أعد أطيق رائحتها  وكنت أو العائدين إليها .
 تسلقت السلم الصغير ورحت أجبر نفسي على النوم  مطبقا طريقة العد إلى المائة ولا أظنني وصلتها وغبت في نوم عميق .
 لم أعرف كم مضى من الليل حينما أيقضني قاسم بهزات عنيفة فهبطت مسرعا ووقفت أمامه كالجندي وأنا نصف نائم .
ها قاسم  هل حان موعد الفطور؟  إنني تعب وليس لي رغبة في الطعام  اتركني لأنام  أرجوك لا بل أتوسل إليك.
 لا ليس هذا موعد الفطور فالليل في أوله ولكن هناك مصيبة.
مصيبة يا رب أستر هل السفينة تغرق أم ماذا هناك انطق يا قاسم أقلقتني ؟
الشاب الأسمر الذي ينام تحت جنب سريري ...
هذا الشاب الأسمر المائع ماذا به؟
أيقضني  ويريدني  أن ألوط بيه
وأين المصيبة ؟.  الشاب أعجب برجولتك . وربما هذا من تأثير الخاتم ؟
 بما أجبته وماذا قلت له ؟  وغلبني الضحك.
 غضب  قاسم وراح يشدني بعنف . هل جننت ؟ هذا وقت الضحك والاستهزاء ؟ 
  اعتذرت له و طمأنته وعرضت عليه أن ينام في فراشي إن كان هذا يرضيه. وقد فعلها فعلا ولا أظنه نام ليلته تلك وكأنه فتاة بكر في ليلتها الأولى.
وفي اليوم التالي كبرت المسألة ودخلت في جدول مهام قيادات الوفود ولم نرى ذلك الشاب الأسمر بعدها . ولكن لا أظنهم قد رموه في البحر!
بعد أن اجتزنا "تشناق قلعة" وعبرنا الدردنيل وكيلومترا ته ال58 أصبحت مياه بحر مرمره  هي كل ما تراه العين .
 بعد إبحار طويل في المياه التركية المالحة  قطعنا فيها  200 كيلو متر وصلنا  إلى اسطنبول عاصمة الشرق. والتي  شقها مضيق البوسفور إلى نصفين كما تشق دجلة بغداد إلى كرخ ورصافة .
  شدت اسطنبول الركاب جميعا إلى السطح إلى أن غاب عن العيون جمالها الساحر.
 لم يكن البوسفور طويلا فهو 27 كيلومتر فقط  وهذا كل ما يفصلنا عن البحر الأسود حيث تقع مدينة أودسا التاريخية. وهناك سوف تنتهي رحلتنا  وينتهي معها دوار البحر الذي لم تقمعه عشرات الأقراص الطبية .
وصلنا إلى مدينة  أودسا السوفيتية* . وكان صباح مشرق على ما أذكر إنها أول مدينة في الأتحاد السوفيتي " العظيم "  تطأها قدماي .
 جحظت عيناي وأنا أحاول الوصول بها إلى كل مكان في تلك المدينة . لم أرى لون الرصيف فمن كثر حماستي وهتافي للحشود التي كانت تستقبلنا سقطت في البحر العدسات الطبية التي لم تفارق أنفي قبلها.
 كانت جماهير أودسا قد غطت الميناء بكامله . واختلطت باقات الزهور بتلك الوجوه الجميلة الباسمة التي لم أرى حشدا بحجمها من قبل .
نعم كنت أرى حشودا كبيرة في العراق في التظاهرات والوثبات التي كانت تتكرر ضد السلطة المستبدة هناك وضد النظام العميل لبريطانيا . وكذلك في يوم عاشوراه . ولكن لا مجال للمقارنة هنا فالرجال في السبايات سمر وقد لوحتم الشمس العراق الحارقة وغطت وجوههم  لحى غبراء  و رؤوسهم  طبّرت وسال الدم منها وأدميت ظهورهم بفعل ضرب السلاسل الحديدة .
 والنساء ! النساء في بلادي كن أشبه بكتل من السواد  البائس .
 لم أكن أعلم أن على كوكب الأرض، هذا القدر من تلك الوجوه الجميلة .
 استمر الاستقبال لساعات في ذلك الميناء . ثم نقلنا بقطارات غطى الورد نوافذها ، والجماهير تنتظرنا في كل محطة على الأرصفة والأعلام ترفرف فوق رؤوسها ويختلط الغناء بأصوات الآلات الموسيقية حتى وصلنا موسكو .
طول الطريق على موسكو لم أفترق عن قاسم . وكنت أذكرّه دائما ب"الموضوع "مداعبا وكان هو ينفعل لذلك أحيانا و يتوسل بي أن أنسى تلك الليلة. وكان هو يذكرني بلقمة الكافيار.
 وهكذا إلى أن افترقت عن قاسم عند وصولنا موسكو . فكانت له مهماته الخاصة حين وصلنا إلى المجمعات السكنية المبنية حديثا في ضواحي موسكو والتي تحيط بها غابات الصنوبر ..
لم أستوعب هذا الكم الهائل من الانفعالات ولا ذلك الانبهار فالورود الكثيرة الجميلة في كل مكان والغابات والخضرة تحيط بنا من كل صوب والناس كلهم يطالعونك بوجوه مشرقة.
فهل نحن حقا "خير أمة أخرج للناس " استغفر لله ؟.
بعد أن أانتهى الوقت المخصص لراحة القادمين نقلنا بعربات مكشوفة عبر شوارع موسكو التي تزينها المباني التاريخية الجميلة والمغطاة بمعالم الزينة احتفالا بنا.
 راح موكب السيارات التي تقلنا يشق طريقه بصعوبة وبطئ وسط الحشود البشرية التي اصطفت على طول الطريق المؤدية إلى ملعب المدينة الرئيسي.
أ صحيح ، كل هؤلاء البشر جاءوا ليرحبوا بنا ؟ من نكون نحن ؟  تصور حتى رئيسهم خرشوف  والذي ضرب الأمم المتحدة بحذائه ظل ينتظر وصولنا ساعتان ليفتتح المهرجان.
نعم إنها المرة الأولى التي يرى فيها الشعب السوفياتي وجيل المهرجان خاصة بشرا من خارج حدود بلادهم الشاسعة .كأننا هبطنا عليهم من كوكب آخر. لقد كانت فرحتهم كبيرة بوجود  بشر يشاطرونهم العيش على هذا الكوكب الرائع !.
بعد مراسم الافتتاح واستعراض الوفود اطلقت في السماء أربعين ألف حمامة بيضاء وغيرها من الفعاليات الرسمية .ثم انفض "المولد"و أصبحنا أحرار فرحنا نذرع  شوارع موسكو مذهولين.
بينما كنت أهم في دخول محطة للمترو قريبة من الساحة الحمراء شدني وجه فتاة ملائكي لا أظن أن رب العالمين خلق أجمل منه.
 تقدمت منها فاغر الفم مسحور بما أرى. لم أعرف كيف أحدثها فوقفت أمامها مرتبكا. ابتسمت لي  بمحبة مما شجعني على تحيتها . و لا أعرف من أين جاءتني الجرأة في تلك اللحظة. فشبكت أصابعي بأصابعها وغادرنا محطة المترو.
اسمي شاكر وأنا فنان صغير من العراق . من بلد الف ليلة وليلة . أتعرفين علي بابا ؟ نطقت تلك الجملة بالانكليزية  العراقية .
اسمي نتاشا من موسكو طالبة في الجامعة قسم  اللغات .أجابتني بانكليزية جيدة مضيفة  وأعرف ياسمين أيضا .
ضحكنا وفرحنا كوننا نملك لغة مشتركة نتفاهم بها .
حاولت أن أدعوها إلى مقهى لنشرب شيئا ولكنها كانت قاطعة في الرفض .هل ترى  أن إضاعة الوقت في المقاهي فكرة حسنة ؟  أنا بنت موسكو وسأكون مسؤولة عنك وأنا القائد هنا . ما رأيك ؟. ما رأيي ؟ رأيي أنا ؟ .وهل عند العراقين رأي ؟
رحت أذرع معها شوارع موسكو بنشوة فوق ما تتصور . ورغم ذلك لم أرى من موسكو شيئا.  كنت معها ولكنني كنت مسحورا وأعيش في عالم ثاني  .
آه  لو تعلمين يا أجمل بنات الدنيا  يا فرحتي الأولى . لم أعرف غيرك قبل اليوم يا نتاشا
"الرحمة واجبة مع المساكين أمثالي".أشعر كأن دوار البحر عاودني من جديد فدعينا نجلس قليلا.
كانت نتاشا في أول العمر. جميلة جدا صدقني  إنها كانت من أجمل البنات. أنظر إلى كرستينا كم هي جميلة ؟ ثق أن كرستينا هذه لا تصلح أن تكون وصيفة لنتاشا .
وأنا جالس معها على إحدى المصاطب المعزولة عن الناس في حديقة غوركي شعرت للمرة الأولى بدفء المرأة . القيت ذراعي على كتفها ورحت أضمها .فقدت توازني تماما أو قل ذبت بين يديها ." رحم الله عبد الوهاب ك لم أدري ما طيب العناق على الهوى      حتى ترفق ساعدي فطواك" . ترى كيف سأقبلها ؟ إنها المرة الأولى التي أقبل فيها فتاة ؟ هل يجب أن أخلع النظارات أو يمكن تقبيلها وأنا ألبسها ؟ وهل ستؤذي وجهها ؟ لا الأفضل أن أخلع النظارات قبل ذلك ولأضعها في جيب القميص. ولكن كيف سأضمها إلى صدري وهذه النظارات اللعينة ، ألا تؤذيها أو ربما تنكسر؟.
 لا أعرف كيف انتهت كل تلك الاستعدادات وكل ما أحسست به هو إنني ذبت في ألذ شفاه في قبلة تمنيت أن يتوقف عندها الزمن .
بعد أن أفقت من تلك السعادة التي لا أدري كم امتدت، تذكر أمي وكانت تردد على مسمعي  دائما صام  صام وفطرعلى جريّة· . لو تدرين يا أم شاكر كيف أن ابنك قد صام وصام ثم أفطر على حورية؟.  كيف سأصفها لك تلك الحورية ؟ شعرها مثل الكلبدون· . وعينونا شديدة الزرقة كبحيرة ساوه تحيط بها  رومش حادة منتصبة كأشجار الصنوبر . وصدرها  آه على تلك النهود التي طفحت كما يطفح الحليب في القدر .
 صدق ( ناصر حكيم ) حين قال: " أتمنى قبري يصير ما بين النهود ". كم تمنيت أن أدفن هناك .
 استضافتني نتاشا في بيتها علمتني الحب.عرفت المرأة لأول مرة في حياتي . قضينا سوية أجمل السهرات كتبت لها أجمل القصائد.
كانت هي حبي الأول والأخير.  تعاهدنا أن نبقى سوية إلى الأبد. وعدتها صادقا أن أبذل المستحيل للعودة إليها. وهي وعدتني كذلك بأنها ستنهي دراستها الجامعية وتكون في انتظاري لنقضي العمر سوية.
 ثم جاء الرحيل . كم كانت ساعات الوداع مرّة . كم كانت دموعنا مرة !.
 فكرت حينها بجد في البقاء معها وتركل كل شيء فهي أهلي وهي وطني . ولكنني رأيت كيف أن البوليس الروسي قلب الدنيا عندما حاول أحد أعضاء الوفد العراقي من الأكراد الهرب  للالتحاق بالبرزاني  وكيف مسكوه وأعادوه بالقوة "*.
 أنقضت أيام المهرجان بسرعة وجاءت ساعة الفراق. وما أصعبها من ساعة ؟
كان طريق العودة حزينا ثقيلا على الرغم من مراسيم التوديع الرسمية والشعبية على طول الطريق من موسكو إلى أوديسا ثانية  وإلى الباخرة من جديد وإلى اللاذقية ودمشق مرة أخرى .
كان طريق العودة طويلا مملا وكنت طوال الوقت مهموما حزينا لم أكلم أحدا ولم أطق سماع أحد حتى دوار البحر لم يخرجني من هم الفراق.
في دمشق كانت هناك ترتيبات جديدة من قبل رئاسة الوفد حيث استأجرت بيتا كبيرا في حي القصاع وهو من أحياء دمشق القديمة .ودعت كل من يرغب السكن فيه من أعضاء الوفد لحين استطلاع طريق العودة إلى العراق.
 تعرضت سوريا في ذلك الوقت إلى التهديد العسكري الجدي من قبل تركيا فراحت جماهير الشعب السوري تستعد للدفاع عن الوطن .
انخرطت مع العديد من الشبان العراقيين في المقاومة الشعبية ورحنا نتدرب على السلاح فوق جبل قاسيون استعدادا للمعركة . وبذلك وجدت بعض السلوى .
كان أحد ضعفاء النفوس من شرطة الحدود السورية العاملين في ميناء اللاذقية  قد باع  أسماء الوفد العراقي إلى الحكومة العراقية . ونقلها كما دونت في جوازات سفرهم. فراحت مفارز الشرطة العراقية في الرطبة تتصيدهم الواحد بعد الآخر وتعتقل كل قادم من أعضاء الوفد وترحله إلى بغداد مغفورا .
في القصاع راحت تعقد جلسات لتقوية معنويات العائدين  يعلن خلالها وبعد عبارات حماسية عن اعتقال فلان وفلان ..... ويضاف إلى الإعلان المهم سلامة الوفد . و هكذا في كل مرة حتى لم يبقى من الوفد إلا النفر القليل فأغلقت الدار والمهم سلامة الوفد.
هؤلاء النفر تفرقوا كل حسب اجتهاده وظروفه فمنهم من طلب اللجوء في سوريا ومنهم من عاد سرا إلى العراق عن طريق دير الزور وبعضهم سكن في فنادق بسيطة بأمل الحصول على سمات دخول لدول الخليج أو غيرها وكنت من هؤلاء البعض .
استأجرت مع جواد غرفة في فندق بور سعيد الواقع خلف الحميدية  حيث لم نجد أرخص منه في كل دمشق ولا حيلة لنا غير ذلك ونحن ننتظر الفرج .
 لا تقلق لن أحدثك عن جواد ! ولكن كنا نقضي النهار في التسكع في الأسواق . ونقضي الليل في لعب الشطرنج .
 كان طعامنا صنفا واحدا لم يتبدل طيلة أيام الانتظار. خبز وزعتر وزيت الزيتون ونادرا ما تدخل فيه قطعة من الجبن .فتلك الأكلة الدسمة تظل رابضة في المعدة وعصية على الهضم فتساعدنا في السهر حتى الصباح . ثم يجبرنا السهر على النوم إلى ما بعد الظهر لنعاود بعدها التمتع بالزعتر وزيت الزيتون .
بعد أن شعرت بأن نقودي أخذت تنفذ والشتاء على الأبواب قررت العودة إلى العراق مهما تكون النتائج . وبما تبقى معي من نقود اشتريت تذكرة سفر في سيارة صغيرة عسى أتجنب تعب وملل طريق الشام بغداد ،وكان ذلك الدلآل كالأمنيات الأخيرة للمحكوم عليه بالإعدام ساعة التنفيذ .
تركت عشرات الهدايا وحتى صور أعز الناس في دمشق مع جواد وانطلقت إلى بغداد صباحا يوم شتوي و وصلت إلى مركز الحدود السوري . ولم أبالي هذه المرة إن كان جواز سفري خفيف أو ثقيل والظاهر أن الشرطة السورية لا تدقق كثيرا في "زنة " جوازات السفر مع الخارجين من البلد.
 بالمناسبة لم أرى جواد منذ ذلك الحين ولا أعرف ماذا حلّ به . وفقدت أعز مقتننياتي  التي حصلت عليها في المهرجان من صور وهدايا عزيزة.
وصلت مدينة الرطبة وكلي أمل أن لا يكون اسمي مع المطلوبين. والأماني هي آخر ما يتحقق. فوجدت في مركز الرطبة الحدودي شرطي بانتظاري ولم  أجادل .
 استسلمت للأمر الواقع ووضعوا القيود الحديدية في معصمي واقتادوني إلى بغداد دون توقف.
بعد أن رشوت الشرطي الذي اقتادني فسمح لي المجال بإيصال خبرا إلى أهلي عن طريق أحد الأصدقاء الأوفياء من بيت الساعاتي ، مفاده أنيّ وصلت إلى بغداد معتقلا وسوف أكون أول الأمر في مديرية التحقيقات الجنائية ولا أعرف ما بعدها.
تقع مديرية التحقيقات الجنائية في شارع المستنصر وهي بناية قديمة رطبة مطلة على دجلة .
 في التحقيقات الجنائية أدخلوني زنزانة مظلمة وأقفلوا بابها  خلفي وتركوني هناك .
كنت وحيدا في تلك الزنزانة وكل ما توفر فيها  من فراش بطانية واحدة بلون الأرض ووسادة قذرة من القطن . لم تكن معي ملابس كافية تحميني من البرد الذي جاء مبكرا في هذه الدائرة المرعبة.
فتحت الزنزانة مساء، ثم أخرجوني لدقائق قليلة وبعدها أعادوني ورموا لي رغيف من الخبز وبيضة مسلوقة.
لم أنم تلك الليلة . كان البرد يقرصني كلما دب النعاس إلى جفوني فأجلس على نصف البطانية وأغطي أكتافي بالنصف الثاني .وبعد أن تعبت من رسم  صور الرعب والمصاعب التي ستواجهني في اليوم التالي .وكيف سأجيب على هذا السؤال أو ذاك . وكيف سيتصرفون معي ؟وأي أنواع التعذيب سوف تستخدم معي ؟
 وبعد أن أتعب من تقليب الأمور ،أستسلم للقدرو أصبر نفسي باستعادة ذكريات أيام موسكو الرائعة وأظل ساعات أحادث نتاشا.
بعد غفوة صغيرة عند الفجر استدعيت إلى غرفة الضابط المسؤول عن التحقيق معي. كانت غرفته تطل على دجلة فكانت فرحتي كبيرة في رؤية ضرع  العراقيين الأبدي ، دجلة .
بعد الأسئلة المتوقعة مثل أين كنت ؟ من كان معك ؟ لأي حزب سري تنتمي  وهل أنت شيوعي ؟   بعد الإجابة بالنفي على كل تلك الأسئلة تركني الضابط وأرسل لي أحد الأفراد ومعه  أدوات التعذيب.
بدأ هذا الضرب بالخيزرانة على رأسي ويدي وعلى كل أنحاء جسمي . استغربت في البداية من هذا التصرف البدائي .ثم أهملته وتركته يمارس هوايته في  تعذيب جسدي رغم الألم الذي كانت تسببه لي تلك الخيزرانة .
سرحت بأفكاري مع أمواج دجلة فوصلت معها إلى قريتنا في العمارة وإلى خيزرانة معلم الدين هناك . ثم استحضرت صورة حبيبتي  ورحت أشاغل النفس بالأيام الجميلة التي لا تزال ساخنة.
 وكما يقول المثل الشعبي " شياكل العنز يطلعّه الدباغ " .
خلع الجلاد حذائي وصار الضرب على باطن القدمين وعلى الأصابع . و بعد  أن ورمت قدمي اقتادني إلى الزنزانة وأغلقها خلفه.
رحت أواسي قدمي وأفحص الأضرار التي لحقت بها.  تكررت تلك الممارسات لأيام عدة ثم تركت في تلك الزنزانة المظلمة ليعذبني فيها برد قارص ووحدة مقرفة .
خارج الدائرة، دفع أهلي رشوة لأحد ضباط الأمن فأطلق سراحي بكفالة . وعدت بعدها  إلى الجنوب متخفيا .
لقد انقلبت حياتي رأسا على عقب . فلم أعد قادر على  العيش بهذه الطريقة أبدا . كيف سأخطط لغدي ؟ هل أجازف وأجرب السفر بجواز سفر مزور وماذا لو القي القبض عليّ مرة أخرى ؟   هل سأظل هنا  إلى أن أتبلد ؟
جاء الفرج هذه المرة من مجموعة الضباط الأحرار. فبعد عدة أشهر قليلة اسقط النظام الملكي ومعه مديرية التحقيقات الجنائية ورئيسها الجلاد بهجت العطيه. وأسس نظام جمهوري .
انفتحت الحكومة الجديدة على دول المنظومة الاشتراكية ومنها الاتحاد السوفيتي.
 وهكذا تجدد الأمل وراح يداعب القلب مباشرة . ومما زاد في ذلك افتتاح جامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو والتي خصصت لشعوب العالم الثالث وشعبي واحد منها.
حصلت على قبول في تلك الجامعة في قسم الأدب الروسي بعد أن أرسلت الشهادات والأوراق المطلوبة مع تزكية من المنظمة الشبابية التي سبق و أرسلتني إلى المهرجان.
عدت إلى المربع الأول من جديد . إلى مديرية السفر والجوازات . لم  تتبدل الإجراءات هناك وإن اختلفت الرسوم والطوابع  والأختام . والشعار الذي يميز الباسبورت هذه المرة لم يكن تاجا وإنما شيء آخر .
 ولكن الوثيقة الأهم وهي الموقف من الخدمة العسكرية لم يتغير ، و كانت تلك العقبة الأساسي في حصولي على جواز سفر باسمي الحقيقي .
 رحت أفتش عن صاحبنا أبو ( الجراوية ) فربما  لا يزال هناك رغم التبديلات الظاهرية في المديرية ؟.
 لم أجده وإنما التقيت هناك بقاسم . و يا لها من صدفة وكان ذلك لقاء فذا لا يحدث حتى ولا في الأفلام الهندية ! .
كان قاسم قد طلب اللجوء في سوريا بعد عودتنا من المهرجان وعاد إلى العراق بعد سقوط الملكية . و قد قبل في الجامعة ذاتها وخاتمه الذهبي كان لا يزال في إصبعه الصغير.
 بعد المصافحة الحارة وتبادل القبل سألته ما هي آخر كرامات خاتمه الذهبي ؟ ضحكنا كثيرا ورحنا نستعيد بعض الذكريات حلوها ومرها .
كانت معاملة الحصول على جواز سفر قد أتعبت قاسم مثلي وبالذات وثيقة الخدمة العسكرية فنحن الاثنان لم نخدم في الجيش ولا يوم واحد . 
سألت قاسم عن صاحبنا أبو الجراوية ومن محاسن الصدف إنه قد عثر على شخص آخر قد دبر له هذه الوثيقة و وعدني بأن يعرفني  به .
فرحتي كانت أكبر من أن يتحملها حظي العاثر دائما. فقد سارت معاملة قاسم حسب الأصول وحصل بالنتيجة على جواز سفر .
 أما أنا فتعرقلت معاملتي بآخر لحظة وكادت توصلني إلى السجن من جديد بتهمة التزوير وفي العهد الجمهوري ! هذه المرة .
لو كنت أعرف كرامات الفيروز لاشتريت خاتما منه مثل قاسم مهما كان سعره قبل البدء بالمعاملة  ولكن !
ودعت قاسم يوم سفره وأعطيته عنوان نتاشا وطلبت منه أن يزورها و يشرح لها الظروف التي صادفتني ومنعتي من السفر، وينقل لها شوقي وحبي و سعيي الذي سوف لن يكل من أجل الوصول إليها كما تعاهدنا.
مرت سنون عدة وتبدل نظام الحكم مرة ثانية وعلى أيدي بعض الضباط أيضا . وساد البلد إرهاب مرعب  هذه المرة . فكل من يتنطق باسم الاتحاد السوفيتي يصبح تحت ملاحقة رجال الأمن. وهكذا انقطعت أخبار قاسم وأخبار نتاشا .
    بعد أن قطعت أمل اللحاق بحبي البعيد الضائع. اقترنت هنا بأول امرأة اقترحتها العائلة ، ولكي يجبر الله بخاطري فقد كانت أم رنا امرأة ممتازة في كل المقاييس.
بعد أكثر من عشر سنين التقيت قاسم بعد أن حصل على شهادة الهندسة وعاد إلى الوطن. وقبل أن اسأله عن نتاشا راح هو يحدثني عنها.
 كيف  التقى  بها بعد سنتان من التحاقه بالجامعة وكيف رحبت به كثيرا . وبناء على طلبه أخذته في جولة إلى أماكن المهرجان التي يحن لها العراقيون كثيرا وهناك وعدته بزيارة أخرى للحديث عن شاكر فقط.
 لقد التقى بها مرة ثانية وحدثته عن الكثير من ذكرياتنا وأرسلت معه رسالة ليّ  ولكن فقدت من قاسم بظروف غامضة كما ادعى .
تألمت كثيرا وكانت قناعتي أن إنسان واع ومسؤول مثل قاسم لابد أن يقدر قيمة تلك الرسالة بالنسبة لي إن كان صديقا مخلصا وصادقا معي .
 ولا زلت إلى الآن تعيش معي حسرة الرسالة المفقودة تلك. و مما زاد في عذابي إنه لم يحدثني بالتفصيل عن نتاشا .
 وهكذا فقدت صداقة قاسم أيضا بعد غضبت منه ولم أعد أرغب بلقائه . و منذ ذلك الوقت ولم أعرف له طريق وإلى اليوم.
يا سبحان الله لقد ظلمت الرجل. عهدي بك يا شاكر أكثر طيبة وأكثر حصافة .
كيف ؟  لم أفهمك ؟
عزيزي شاكر كنت قد التقيت قاسم  في بلغاريا بعد هروبنا من النظام العراقي الدكتاتوري الفاشي  وكانت بلغاريا إحدى المحطات التي اتخذتها عصابات تهريب العراقيين إلى دول أوربا الغربية. ولكون ساعات الفراغ كثيرة هناك كنت التقيه كل يوم تقريبا وكنا نجلس في إحدى مقاهي صوفيا  بانتظار ساعة الفرج نستعيد ذكريات الوطن المفقود والأصدقاء الذين افترقنا عنهم ودار الحديث عنك ذات مرة.
طيلة الحديث عنك وقاسم لم يرفع عينيه من الأرض . يشعر بمرارة لخسارتك . كان يكن لك احتراما وحبا تحسد عليه. و أنت تعرف جيدا أن قاسم لا يحب أنسانا ويحترمه بهذا القدر من السهولة فخجله وطباعه الصعبة والتي أنت أدرى بها  مني لا تتركه يركن إلى الناس بسهولة.
 قضينا ساعات في الحديث عن سفرتكم التاريخية إلى المهرجان .
حدثني كيف أنت فقدت " سدارتك " في مسرح اتحاد نقابات العمال بعد أن أنهيت دورك في مسرحية " فلوس الدواء " مع الفنان الكبير يوسف العاني .
 وحدثني عن فطور الكافيار ثم عن نتاشا وحبك لها ورسالتك التي فقدت. ولكنه لم يحدثني عن "قمرة الباخرة".
 التقى قاسم نتاشا كما قلت . ودعته إلى بيتها وقدمته إلى أسرتها الجديدة. فبعد أن طال انتظارها لك تزوجت من أحد العاملين في السلك الدبلوماسي وكان عندها طفلين في ذلك الوقت . لم تكن ملامح الطفل الكبير روسية بينما الصغير ذو شعر أحمر وعيون زرق . ولم يجرأ قاسم على سؤالها عن ذلك . وكان يظن إن الكبير هو من أبناء المهرجان* .
كتبت نتاشا رسالة لك شرحت فيها ظروفها وامتنانها للأيام الجميلة التي لا تنسى والتي قضتها معك . و كانت تحن بشوق لجلساتكم على ضفاف نهر موسكو وللساعات التي كانت تقضيها بجنبك والتي كانت تمرّ بسرعة في حديقة غوركي وكيف كان الفجر يداهمكم سوية. وتمنت لك حياة سعيدة وأعتقتك من كل العهود التي قطعتموها سوية.
ظلت الرسالة مع قاسم طيلة السنين التي قضاها هناك في موسكو ولكنها فقدت منه عند عودته إلى العراق في ظروف غامضة. لقد كان شديد الحرص عليها حتى أنه كان يحتفظ بها مع قطعة من ياقوت ساعة الكرملن كانت مهداة  له من "نتاشته" حيث كان أبوها يعمل في تصليح الساعات وقد كلف في إصلاح ساعة الكرملن في أيام ستالين . وتلك القطعة المكسورة من الياقوت استبدلت بجديدة وظل الأب يحتفظ بها وأصبحت لأبنته بعد وفاته . كانت تحرص عليها بشدة ولكنها أهدتها لقاسم عند وداعه .
قبل دخول قاسم إلى العراق عن طريق الكويت كان يحتفظ بالرسالة والياقوتة ومعها خاتمه الذهبي ذو الفيروزة العجيبة في كيس من قماش القطيفة صناعة الصين .
بعد أن غادر مركز حدود المطلاع* افتقد ذلك الكيس الذي كان يحتفظ به في جيب سترته .
لقد كانت خسارة قاسم كبيرة بتلك المقتنيات الصغيرة والتي لا يملك أعز منها . ثم جاء زعلك  ليزيد حسرته في فقدان صداقتك بسبب تلك الرسالة .
بالمناسبة شاكر عزيزي أترى أضواء تلك المدينة السويدية التي أمامنا ؟
نعم ما بها ؟
ربما كان ضوء مصباح غرفة قاسم ينعكس الآن مع تلك الأضواء الراقصة في البحر. هل تريد أن نفاجئه غدا بزيارة ؟.
  
 
                                                                  عبد الإله السباهي
                                                               الدانمرك 1/12/2007
 
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 


* الأهوار مسطحات مائية تشغل مساحات واسعة من جنوب العراق يغطيا القصب والبردي وجفف معظمها في الحرب العراقية الإيرانية .
*  قريتان صغيرتان تقعان على الحدود مع إيران في أطراف هور الحويزة .
* كان العراق يقسم إلى ألوية لا محافظات كما هو اليوم ولواء العمارة يحكمه متصرف مدينة العمارة هي مركزه.
* البتاويين محلة قديمة في وسط بغداد قرب الباب الشرقي تسكنا فئات فقيرة من العوئل المسيحية المهاجرة إلى بغداد من مدينة تلكيف في شمال العراق بحثا عن لقمة العيش.
* كان الدينار العراقي يساوي ثلاثة دنانير وثلاثمائة فلس وهو مبلغ ليس بالقليل في تلك الفترة.
* الجراوية هي الكوفية وهي من القماش بلونين الأسود والأبيض ومنها بألوان أخرى وهي مستعملة بكثرة في عالمنا العربي إلى اليوم.
* كانت الباصات التي تقل الركاب تصنع هياكلها من الخشب محليا وكانت المقاعد الخلفية فيها تسمى بخانة الشوذي لكثرة اهتزاز ها.
· المعدان مجموعة من سكنة الأهوار في العراق يمتهنون تربية الجاموس وكان احتكاكهم بالحضارة محدود جدا.
* بعد أن تفكك الاتحاد السوفيتي أصبحت أودبسا مدينة في جمهورية أوكرانيا
· الجري نوع من السمك  يحرمه ولا يأكله الشيعة في العراق لإعتقادات مذهبية.
· الكلبدون هي خيوط ذهبية رفيعة جدا تستقمل في تزيين عباءات الرجال المهمين.
* هو رئيس جمهورية العراق اليوم  (جلال الطالباني) وقد كان أحد أعضاء الوفد العراقي للمهرجان وحاول اللتحاق بألبرزاني حينها.
* صدر تقرير من الجهات  السوفيتية المختصة أن ما يزيد على خمسين الف طفل  غير شرعي ولد نتيجة لهذا المهرجان
* كان المطلاع هو المركز الحدودي للكويت مع العراق عام 1968  ثم أصبح بعدها  يبعد عشرات الكيلومترات إلى الشمال في العبدلي



#عبد_الإله_السباهي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هكذا تسقط الأنظمة
- لعبة في الطبعة الأخيرة


المزيد.....




- وزير دفاع أمريكا يوجه - تحذيرا- لإيران بعد الهجوم على إسرائي ...
- الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لعملية إزالة حطام صاروخ إيراني - ...
- -لا أستطيع التنفس-.. كاميرا شرطية تظهر وفاة أمريكي خلال اعتق ...
- أنقرة تؤكد تأجيل زيارة أردوغان إلى الولايات المتحدة
- شرطة برلين تزيل بالقوة مخيم اعتصام مؤيد للفلسطينيين قرب البر ...
- قيادي حوثي ردا على واشنطن: فلتوجه أمريكا سفنها وسفن إسرائيل ...
- وكالة أمن بحري: تضرر سفينة بعد تعرضها لهجومين قبالة سواحل ال ...
- أوروبا.. مشهدًا للتصعيد النووي؟
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة بريطانية في البحر الأحمر وإسقا ...
- آلهة الحرب


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبد الإله السباهي - أولاد المهرجان