|
غربال الذاكرة : محمد الماغوط
فيصل الياسري
الحوار المتمدن-العدد: 2059 - 2007 / 10 / 5 - 11:25
المحور:
الادب والفن
اكتب اليوم ( 3/10/2007 ) عن الشاعر محمد الماغوط بعد مرور سنة ونصف بالتمام على وفاته قي 3/4/2006 ، اي انني احتفي بالذكرى السنة – نصفية وليس الذكرى السنوية لوفاته فهذا اقرب الى طريقة تفكيره التي كانت تنفر من المألوف كما ترفض ان يكون معاكسا تماما .. فهو كما عرفته عن قرب , لم يكن مهادنا ولم يكن معارضا , وهو الذي كتب صراحة في كتابه ( ساخون وطني : هذيان في الرعب والحرية – 1987) كتب يقول ( يتملكني الخوف من التأييد ومن المعارضة. الخوف من الاشتراكية ومن الرأسمالية. من الرفض ومن الاعتدال. من النجاح ومن الفشل. من قدوم الليل ومن قدوم النهار.) لذلك كان محمد الماغوط دائم الحزن ودائم الفرح معا ، يلتهم حبوب الاسبرين باستمرار ليكافح الصداع ويدخن المالبرو بلا انقطاع ليصاب بالصداع !! وفي اخر مرة التقيته فيها قرب ساحة النجمة في دمشق كان يحمل كيسا من الورق ، يحتضنه بحرص شديد .. وكاد ان يفلت من يديه وهو يريد ان يعانقني بفرحه المعهود ، ثم قال تعال شاطرني ما في الكيس .. وفتح فوهة الكيس لارى ما بداخله .. زجاجة نبيذ احمر ورغيف خبز افرنجي ، وعلبتا سيجاير .. وعلبة سردين او لحم مقدد !! ... ضحكنا بدون سبب وسرنا باتجاه الصالحية وصار يتذكر سهراتنا الطويلة قبل عشرين سنة في منزلي في ابو رمانة حيث كنا نجتمع مع بعض الاصحاب – مخرجين وممثلين وكتاب - نثرثر حول كل الموضوعات ونلعب الورق – بمبالغ بسيطة - حتى ساعة متأخرة من الليل .. وكان الماغوط ياتي ومعه كيس مثل هذا فيه زجاجة من النبيذ الاحمر من الصعب ان يسمح لاحد ان يشاركه فيها !! وكان يلعب بترو واستمتاع ، ويفكر بامعان قبل ان يلعب ، ولا يهمه الحاح الاخرين عليه ان يعجل قليلا .. كان يرد عليهم بابتسامة سمحة ونفس طويل من سيجارته التي كان لا يرميها الا بعد ان تحرق اصابعه !! ولم يكن يترك مائدة اللعب الا بعد الهاتف الثالث او الرابع من زوجته الشاعرة سنية صالح ( توفيت بمرض السرطان عام 1985) صاحبة ديوان ( ذكر الورد ) الذي صدر بعد وفاتها بثلاث سنوات ، وكان ديوانها الاول (الزمن الضيق ) قد صدر عام 1964 وعمرها 29 سنة !! وهي شاعرة متميزة لم تاخذ حقها في الشهرة لا في حياتها ولا بعد مماتها ! اختها الكاتبة والمترجمة والناقدة خالدة سعيد والممثلة مها الصالح ، وبذا يكون محمد الماغوط عديل الشاعر علي احمد سعيد (ادونيس) والممثل اسعد فصة ... في ديوانها ( ذكر الورد) تصرخ سنية صالح تحت عنوان ( لمَ لا تصغون الي ..؟) : أيها المقنّعون بكل ما نحب ونكره لم لا تصغون إلى؟ لساني الثقيل سيذهلكم إذا ما انطلق مرة واحدة أيها الغامضون إذا مسستكم بسيفي شطرت لسانكم إلى ألف كل شطر يناقض الآخر. بوفاة سنية صالح ، فقد محمد الماغوط الزوجة والرفيقة والطفلة كما كان يصفها في احاديثه فلا يجد بعدها "طفلة" في العالم، فدوّن خسارته بكلمات قليلة كتبها على شاهدة قبرها في دمشق/ السيدة زينب: "هنا ترقد الشاعرة سنّية صالح، آخر طفلة في العالم. ثلاثين سنة وهي تحملني كالجندي الجريح ولم أستطع أن أحملها إلى قبرها بضع خطوات.." لقد عرفنا سنة صالح من خلال الماغوط عرفنا مقدار التفاني والمؤازرة والصبر والقوة التي حملها قلبها فكانت تتحمل حدة مزاجه الى جانب تحمل نتائج نقده اللاذع للانظمة العربية الشمولية فتعاضد وتساند وتؤازر الشاعر في أحلك ظروفه ( بما في ذلك السجن ) ... وهي التي كتبت بمعرفة ناضجة ومسؤولة وبقلم ينضح شقاء وحبا، مقدمة الأعمال الكاملة لزوجها" الماغوط" ورفيق دربها في الكتابة ومقارعة الحياة ... ************* في الستينات والسبعينات من القرن الماضي كان الماغوط يدهشنا بتنوع انتاجه ، فبالإضافة إلى الشعر الذي بدأه بديوانه( حزن في ضوء القمر ) والمسرحية الشعرية(العصفور الاحدب) التي لم تقدم على المسرح ابدا , كتب للتلفزيون وللمسرح والسينما، ولا تقل كتاباته النثرية أهمية عن كتاباته الشعرية، وكنا نتابع باهتمام زاويته الاسبوعبة في جريدة تشرين والتي كان احيانا يكتبها امامنا ، ينعزل عن مجلسنا لساعة او اكثر عندما تأتيه الخاطرة ويضع الورق على ركبتيه ( وهي طريقته المفضلة للكتابة ولا يحب الكتابة على طاولة ) ويكتب مفكرا بكل كلمة يخطها فهو يعرف ان الاف القراء ينتظرون ما يكتبه من لواذع فكرية سياسية ... وهو يقول عن نفسه في حديث معه قبل وفاته باشهر قليلة ( أنا من أكثر الكتّاب العرب صدقاً وبساطة، وأصل إلى الناس بسهولة عن طريق الشعر، وإن لم يكن عن هذا الطريق فليكن عن طريق المسرح أو التلفزيون أو الإذاعة وهكذا. إن دروبي عديدة للوصول إلى القارئ لأنني أعلم أن محمد الماغوط من أكثر الكتّاب الذين يقرأ لهم الناس، فالعالم العربي كله قرأ كتابي "سأخون وطني" وكان من أكثر الكتب قراءة في فلسطين والسجون "الإسرائيلية"، مع كل ذلك لو أنكرني الجميع، سأظل كما أنا ولن أغير أو أبدل كلمة واحدة أو أعدل في أسلوبي....) كان الماغوط في لقائتنا الخاصة يسكت عندما يرى ان الحوار خرج عن المنطق والواقعية ودخل في التحليلات العاطفية .. وكان يصرخ فينا قائلا ( اسمعوا انا ضد منطق الغوغاء منذ صغري، الهزائم التي لحقت بالأمة العربية كلها بسبب غوغاء الشعارات .. لم اصفق في حياتي لشعار غوغائي وموقفي هذا اوصلني إلى السجون والقهر والجوع والتشرد ) في فترة السبعينات اصدر الماغوط ديوانه ( الفرح ليس مهنتي ) ثم مسرحية ( المهرج ) التي خلط فيها ماضي الامة مع حاضرها في صيغة لاذعة ! ثم انصرف فترة لكتابة مسرحياته السياسية لدريد لحام من غربة – الى ضيعة تشرين ثم كاسك يا وطن وكتب للسينما فيلمين مع دريد لحام هما التقرير والحدود !! **** كان محمد الماغوط ابن السلمية (ولد فيها عام 1934 ) مغرما بمدينة دمشق حتى ان ابنته اسمها شام ! وفي احد الايام ( اواخر الستينات او اوائل السبعينات ) جائني الماغوط وانا مدير تلفزيون دمشق وابتدا يتحدث عن عدم رضاه عن الاعمال التلفزيونية المعروضة وقلة اهتمام الكتاب بهموم الناس اليومية .. وقال ان عنده رغبة في ان يقدم مسلسلا عن دمشق والدمشقيين ! قصص الناس البسطاء مسلسل في حلقات بعناوين مختلفة تتناول الظواهر الاجتماعية والاقتصادية السلبية والايجابية، وصار الماغوط يشرح كيف ينبغي ان يتناول المسلسل تفاصيل هموم الحياة اليومية لمواطنين عاديين وصراعهم مع جملة الشروط الموضوعية التي تحيط بهم، والبحث عن المفارقات بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي ضمن الظروف الاجتماعية والاقتصادية للافراد ... وكان الاطار العام للمسلسل من خلال مشاهدات حارس ليلي في حي شعبي بدمشق ! وقد تحمست للفكرة واشتغلها المخرج غسان جبري مع الماغوط الذي ادهشنا يومها بتفهمه لمتطلبات العمل التلفزيوني وصبره في التعامل مع الفنانين والفنيين , وهكذا ولد مسلسل ( حكايا الليل ) وهو واحد من اهم الاعمال التي قدمها التلفزيون السوري في السبعينات من القرن الماضي دون بهرجة انتاجية وبلا فخفخة شكلية هدفها الابهار ليس الا ، وانما مسلسل شعبي واقعي يتكئ على افكار محمد الماغوط ولغته الشعرية الشفافة ! لقد قضيت حياتي وأنا أنتظر حلول الليل طلوع الفجر الحب تغريد الطيور شروق الشمس الابداع ,الالهام , الهبوط ,الاقلاع إلا الذي أحبه أن يعود. فلا أرى له أية بارقة أمل. *** أقسى ما في الوجود أن لا يكون هناك ما تنتظره أو تتذكره أو تحلم به!!
#فيصل_الياسري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعادة طباعة قصة -القنديل الصغير-، للروائي الفلسطيني غسان كنف
...
-
إطلاق دورة جديدة من جائزة غسان كنفاني للرواية العربية
-
-ذاكرة قلب- يثير تفاعل الجمهور في الموسم الرمضاني 2024
-
روسيا.. جمهورية القرم تخطط لتدشين أكبر استوديو سينمائي في جن
...
-
من معالم القدس.. تعرّف على مقام رابعة العدوية
-
القضاء العراقي يوقف عرض مسلسل -عالم الست وهيبة- المثير للجدل
...
-
“اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش
...
-
كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
-
التهافت على الضلال
-
-أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق
...
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|