أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - الحرب والشعر















المزيد.....


الحرب والشعر


كمال سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 619 - 2003 / 10 / 12 - 03:37
المحور: الادب والفن
    


 

 
تاريخ العالم امرأة شرسة تخضعنا لها بقوة، وفي الوقت نفسة تريد من نظرتنا وتنهدنا الاخيرين ان يكونا من حصتها. بينما نحن سنقبل ان نوجد، مسرورين ، في أي جزء آخر ، عارفين اكثر مما ينبغي ان الجميل في التاريخ هو الجزء المتعلق بالروح حسب ، والممتع في مضيّ الماكنة الجهنمية كلها ليس غير لحظات التجريد وغياب العقل ، اللذين على الرغم من كلّ شيء ينبثقان دائما.
ومع مرور الوقت، لن تكون المصيبةُ : الدويَّ والقصفَ وفضاعةَ ان يجلدنا التاريخ ، بل ذلك الانعكاس للتوسل، الذي سيعكس فوق المياه العكرة –بفن سحري- سماءً مزورة من المثل.
                                       هرمان هسّه 1940 *  
 
1- الاندفاع في الشعر
أفكر في ما كتبه فوكو في اقتصاد العقاب. كان العقاب نفياً ثم أصبح تشغيلاًَ. وفيه قال فوكو: زمن الألم يتكامل مع اقتصاد الألم.
وأنا لا أشتغل بما يدر ربحاً للاقتصاد. لكنني أبدو في النفي كالمعاقب ميتافيزيقياً من جانب واهب الصورة بتعبير ابن سينا، وكالمنقاد - في الحركة دورياً - للعقل الأول الذي يحرّك الأجرام "وهو غير الخالق" بتعبير ابن رشد.
سيكون للعقاب الميتافيزيقي تأثير ماديّ في الوجه والشعر، وفي قوة الجسد في النظر والحركة.
وإذا كانت وظيفة "الفاعل" عند المعلم الشيخ ابن سينا هي إيجاد الصورة للمادة، فإن هذا الفاعل - واهب الصورة قسى عليَّ كثيراً. فقد أسقط مني الكثير من الشعر، وغيَّر تفاصيل الوجه وأحوجني إلى نظارتين... الخ.
كما أن دورة الهرب من بغداد، مروراً بدول أخرى، والارتماء سنوات عدة في إسبانيا، ثم الانتهاء منعزلاً في مدينة صغيرة في الجنوب الهولندي، والرغبة في العودة إلى بغداد، قد تكون منقادة غيبياً - وفيزيائياً حتى - لحركة الأجرام عند ابن رشد، التي تدور دورياً في أفلاك، يحركها العقل الأول. وفيها قال ابن رشد قوله الجميل في "تهافت التهافت": "السماء حيوان مطيع للخالق، بحركته الدورية". وقد استعرته في قصيدة قصيرة أخيراً.
وغير هذا، فقد أكون وفَّقت - في حالي هذه - بين مذهبين مختلفين: مذهب الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا ومذهب فيلسوف قرطبة أبي الوليد بن رشد.
على انني في هذا المنفى، المنعزل بي عن الناس، أندفع بقوة في الشعر بحثاً عن قوته التي أتوهمها، للدفاع عني، ضدي أو ضد ابن سينا وابن رشد.
أما لماذا أندفع بقوة في الشعر؟
ربما لأنني شاعر أولاً. ولأن فيّ - أصلاً - مسعىً تراجيدياً منذ الصغر ثانياً.
والشعر والتراجيديا توأمان.
وفي اندفاعي هذا أقرأ حول الشعر كثيراً. بينما لا أكادُ أقرأ شعراً إلا لشعراء أعرفهم.
وقراءة الشعر الذي تعرف صاحبه، هي قراءة ودودة حتى إذا أردت أن تقسو. فالشاعر الذي تعرفه يطل عليك من بين الأسطر بعينين تتبدلان تبعاً لتبدل عينيك وقت القراءة. فإذا ارتحت لمقطع شعري وظهرت علامات الارتياح واضحة في عينيك، ارتاحت عينا صاحبك، وإذا غضبتَ من مقطع غضبتا عليك، وإذا سكتّ، لا تريد أن تقول شيئاً ظلتا حائرتين مترقبتين.
لكنما الاندفاع في الشعر لا يُختصر في قراءة الشعر، أو في ما يكتب حوله حسب. الاندفاع في الشعر هو خيار روحي وعقلي في آن. قد يُفهم أحياناً، وقد لا يُفهم في أحيان أخرى، لكنك تمسك به، سعيداً، كما لو أنك تفهمه، وقد تكون تفهمه حقاً، لكنك لا تستطيع حصر فهمك في فكرة ما.
وأنت في كل هذا تسأل:
لماذا نكتب الشعر؟
ولماذا لا يعلوه أي أمر آخر في الحياة عند عدد من الشعراء؟
ولماذا يرضى هذا العدد من الشعراء أن يخسر في حياته كل شيء، من أجل ألا يخسر الشعر؟
أهو وهم أن يتعالى على ملذات الحياة فيعيشها معوزاً؟
وماذا يجني في ما بعد من الشعر؟
وما معنى أن تخسر الشعر؟
ومتى يُخْسر الشعر؟
ما معنى أن تخشى على شعرك ألا يكون طاهراً؟
ما هو الشعر الطاهر؟
ولماذا ترضى أن تكون شاعراً منعزلاً، معوزاً، ولا ترضى أن تكون شاعر دولة أو رجل أعمال؟
ومتى تعلّمتَ هذه الأسئلة؟ وأين تعلمتها؟ ومن علمك إياها؟
لنوقف الأسئلة. فهذا العدد من علامات الاستفهام - وحده - قد يقتل الرغبة في المضيّ قدماً في هذه الكتابة.
ليس غرض هذه الكتابة الإجابة مدرسياً عن هذه الأسئلة. لكنما غرضها الفعليّ هو استقراء وضع كاتبها، مادياً ونفسياً.
فهو يسمّي نفسه شاعراً، ويُسمّى عراقياً، ويسمي نفسه وقد يُسمّى منفياً. وثمة حرب على الأبواب...
إن أحداً منا، ربما تمنى لو أنه لم يولد عراقياً، فقد أخذت الدولة من عمره أكثر من ثلاثين سنة في نظام طوارئ، قاسٍ، حتمته حروب داخلية وخارجية، افتُعلت افتعالاً، وسقط فيها مليونا قتيل.
إن أحداً منا ربما تمنى لو أنه لم يولد عراقياً، وهو يرى هربه من البلاد يرميه في عزلة، لا تشبه إلا عقاباً ميتافيزيقياً قد تكون أقرته الآلهة جميعاً. إن أحداً منا ربما تمنى لو أنه لم يولد عراقياً وهو يرى نفسه يخادع المصير كل مرة بأملٍ ما يقي الجسد المتعب: الهدم الأخير.
هذه الكتابة، وكل كتابة، هي مخادعة للمصير...
وتستدعي كل كتابة عن الحرب مشاهد عن الطائرات والبوارج والدبابات والمدافع والرشاشات وغيرها... تطلق صواريخ وقنابل ورصاصاً، فتتهدم أبنية ويُقْتلُ أناس...
قد تكون الأبنية معاقل أمنية لديكتاتور. وقد يكون الأناس فيها جلادين وقتلة.
ولكن قد تكون الأبنية - أيضاً - بيوتاً ومدارس ومستشفيات ومعامل ومعسكرات للجيش. فتتهدم كلها على بشر أبرياء ومنهم جنود مكلفون الخدمة الإلزامية، قد لا يفقهون شيئاً في السياسة.
وهذا كله تدمير...
هذا كله قتل...
ما ذكرته تواً قد يكون أمراً مضحكاً في كتابة عن الحرب. لكنما استذكاره قد لا يكون بلا مبرر... وثمة حرب على الأبواب...
تبدأ الحرب عندما يصدر قائد سياسي أو عسكري أوامر صارمة واجبة التنفيذ إلى آلته الحربية، بضرب العدو ضرباً شديداً من أجل تدميره.
لكن الحرب تبدأ أيضاً، في مكان آخر، عندما يرى شاعر منعزل، أعزل، مسكين، خطأه قد أصبح الصواب الأوحد.
سيسأل القائد مساعديه: كم قُتِل من العدو؟
وسيسأل الشاعر ذاته الوحيدة: كم قُتِل من الناس؟
وإذ لا يجديه أي جواب نفعاً، ينكفئ الى ذاته الوحيدة، كما في كل مرة، متذكراً كونفوشيوس، الذي قال مرة عن الفارق بين السلم والحرب: في السلم يدفن الأبناء آباءهم وفي الحرب يدفن الآباء أبناءهم. لكن هذا السهل الممتنع، على فداحته، يصح على الحرب في الجبهات، لا على حرب قصف المدن بالطائرات، والصواريخ البعيدة المدى. سينكفئ الشاعر الأعزل والمنعزل إذاً الى ذاته الوحيدة، المندفعة بقوة في الشعر، عله يجد جواباً في هذا الاندفاع - الخيار الذي قد يُفهم أحياناً، وقد لا يُفهم في أحيان أخرى، على الرغم من الإمساك به، ولكن من غير حصره في فكرة ما.
الاندفاع في الشعر، ولنقل الشعر منذ الآن، بدلاً منه، بعد أن تساويا تماماً، لا يوقف الحرب. لا يحمي البشر من السقوط قتلى في الجبهات أو في المدن المقصوفة المحاصرة. لكنه سينجّي الشاعر من التساوي مع القاتل أو القائل بالحرب، عندما يفرض على الشاعر ان يستذكر أسئلته بعلامات استفهامها الكثيرة، بدءاً من: لماذا نكتب الشعر؟ وانتهاءً بما لا أدريه من الأسئلة.
عندما لا يتساوى الشاعر المنعزل مع القائل بالحرب، سيتحقق له ما يتمناه الشاعر الحق في هذه الحياة: التساوي بين الشاعر والشعر. يعني أن يصبح الشاعر هو الشعر. سيفهم الشاعر المنعزل، الفقير، الوحيد، ان سعادته في الحياة تتحقق هنا، لا بالأموال والممتلكات...، إنما بتساويه مع الشعر. الحرب ليست فعلاً شعرياً، سيقول الشاعر... الرافض للحرب.
ولكن ثمة من الشعراء من يتغزل بطائرات الحرب المقبلة، المتوجهة إلى ضرب بلاده. والجملة الأخيرة الموضوعة بعد الفارزة، هي للتقليل من فظاعة فعله، لا للإيحاء بخيانة ما.
فأن يقبل بأن تضرب الطائرات، أية طائرات، مدناً فإنما يرتكب فعلاً يعافه الشعر، كما أرادت هذه الكتابة أن تقول. وعندما يقبل بأن تضرب الطائرات، أية طائرات، مدناً في بلاده، فإنما يعطيني أملاً لكي أفهمه. وعلى الرغم من أن الشق الأول من الجواب، هو كفيل بالشق الثاني منه، إلا أنني سأظل ماسكاً بأملي المسكين، في فهمه.
لكن الحرب ليست فعلاً شعرياً، حتى لو كانت حرباً ضد  بلاده!
هنا لا يتساوى الشاعر القائل بالحرب مع الشعر. فهو في وادٍ، والشعر في وادٍ آخر.
وهنا أيضاً، سيفهم الشاعر المنعزل، الفقير، الوحيد، ان سعادته تتحقق في عزلته وفقره ووحدته، هنا... لا بالأموال والممتلكات، إنما بمشيه في الشوارع، مزهواً بتساويه مع الشعر. بينما الآخر، الغنيّ المالك، البخيل عادةً، يعارض الشعر، والشعر كله، بتغزله بالحرب وبآلاتها.
التغزل بالحرب هو غير التغزل بالموت.
التغزل بالحرب هو تغزل بالفوز فصانع الحرب ذاهب ليفوز. والتغزل بالموت، هو تغزل بالخسارة.
سيكون إذاً الشاعر المتغزل بالحرب، وهو هنا شاعر شاطر في الفوز، عدواً لرافض الحرب، الشاعر المنعزل الفقير، حتى لو كانا من بلد واحد.
سيذهب الشاعر الشاطر ليفوز فوزاً، لنُسمِّه ربحاً. وسينكفئ الثاني إلى خسارة الموتى، متباهياً بأنه من الذين لم يربحوا شيئاً من غنائم الحرب، سيظل يبحث عن سعادته في هذه الخسارة، وقد يجدها في الجمال غير المتحقق، حتماً، في دموية الربح، بل في عزاء الخسارة.
خوان رامون خيمينيث، قال في كتابة له عن ذكرياته في أميركا:
"إن أعظم ما يستهويني في أميركا كامن في سحر مقابرها".**
كان يرى طفلة خارجة من بيتها فتعبر إلى المقبرة وهي تلاعب عروسها أو ترمق فراشة تتطاير أمامها. وتنعكس صلبان الشواهد على زجاج النوافذ من حولها، فيجتمع البيت والضريح في ظل واحد، ويطير العصفور من شاهدة القبر إلى نافذة الدار، آمناً أمان الطفلة الصغيرة في المقبرة.
ثم يقول:
يا له من نصر - هنا - ينتصر به الجمال على الموت.
لا شك في أنه نصر رومانطيقي يذكِّر بالأدب الانكليزي في القرن التاسع عشر تحديداً [أتذكّر الآن قصيدة وورد زورث الفَرحة التي يرثي فيها ابنته، لا أملكها الآن، في بيتي، مع الأسف].
لكنه نصر.
سيكون للشاعر الشاطر، الاحتلال، ودماء الربح، وغنائم الحرب.
وسيكون للشاعر المنعزل الفقير، خسارة الموتى، ونصر الجمال الرومانطيقي في مقابرنا غير الساحرة كمقابر أميركا...
لكنه نصر...
فيه الإجابة كلها عن الشعر، وعن كل أسئلته.
نصر، يشبه الشعر والاندفاع فيه بقوة، قد يُفهم وقد لا يُفهم، لكنك تمسك به سعيداً كما لو انك تفهمه من غير أن تحصره في فكرة ما.
أيرضينا حقاً والبلاد تتهدم، وتُحتل، ويُقتل أبناؤها؟
لا. لكنه نصر، يحفر عميقاً في اللاوعي الجمعي لشعب بأكمله. في قوة مأساته وعدد ضحاياها وفي تطهير محاكاتها للرائي والسامع، تماماً كما هي المحاكاة عند أرسطوطاليس في فن الشعر.
نصر خاسر ومكسور، لكنه يتوثب كل حين، في رجفة العين قبل الدمعة، وفي تجهيز أطفالنا في الصباح للذهاب الى المدرسة، أمام عيون جنود الاحتلال.
نصر خاسر ومكسور، ومذبوح كرأس الحسين، وزاهٍ كوسام على الصدر عندما يكتب المؤرخ ان شاعراً عدواً للديكتاتور، مشرداً في المنفى، وفقيراً، رفض أن تتهدم بلاده، وأن تُحتل، ورفض أن يشترك في الحفلة النكراء الطامعة في غنائم ما بعد الاحتلال. وأن آخر، يُلعَن، لأنه طمع فيها.
 
 
 
Hermann Hesse .Escritos poliicos.1932-1962*
 
T: Hermini Dauer.Bruger,Barcelona,1983
 
** خوان رامون خمينيث،بترجمة عباس محمود العقاد في كتابه:
شعر اندلسي وجائزة عالمية. دار الكتاب العربي- بيروت. 1971 
 
 
 
2-التاريخ والعزلة
 
يوم َ هربتُ من العراق، كنتُ أفكـّر/ كأيّ هاربٍ، بالثأر في يوم العودة. وليس الثأر عند الشاعر، أكثر من الكتابة، ولقد قلتُ مرّةً : إنّ القصيدة ملجئي الوحيد للثأر.
 
لكنّما القصيدة قد لا تحضر، فيكون المقال، عندئذٍ، تعويضاً.
 
في الساعات الأولى للهرب فكّرتُ في المقال. وفي عنوانه حتـّى: المهزلة البدويـّة، وعدلتُ عنه، فالأمر، قلتُ في نفسي قبل كلّ تلك السنين، أقسى من مهزلةٍ بدوية. ثمّ نسيتُ المقال، وبدأت رحلة المنفى الشاقّة، متذكراً صحبتي، الأحياء منهم والأموات في كلّ خطوةٍ أخطوها.. فلقد كنتُ شاهداً على الجحيم، وهارباً منه. ولقد كنتُ أحسبني مديناً لهم، ذا واجب روحي، في نقل ما هم عليه إلى العالم..
 
في المنفى، كان المشهد الثقافيّ، مشهد خدمٍ للدكتاتور، ومشهد خائفين منه.. ومشهد لاعبين ماهرين وصيادي فرص..
 
وكنتُ أقتربُ من الخائفين، فهم الشعراء، الفقراء، العـزّل، أمام جبروت نظامٍ كان إذا قتل معارضاً في دولةٍ ما، محت له تلك الدولة آثار جريمته معتذرةً عن إيوائها القتيل. وثمة من دول الحرية من سـلّمت له معارضين "فرنسا الثمانينيات مثلاً"..
 
أخذتُ أقول عن هروبي، بأنه كان هروباً شعرياً لا حزبياً. حتى لو كان الدكتاتور قد أصدر حكماً عليّ بالاعدام،  بل  حتى لو كان قد علّق حكمه هذا على الجدران. والخروج الشعريّ، لا يـُفهم عادةً في الساحة العراقية الحزبية، فالهرب حزبيٌّ، والهارب من الأحزاب لا يهرب إلا بعد أن يتيقن تماماً من حماية الأحزاب له. ولذلك ترون الهاربين الحزبيين يتكومون أكواماً في كلّ حيٍّ من العواصم الكبرى، قد لا يفصل بين اثنين منهم غير جدار.
 
كان المشهد الثقافيّ سفسطائياً، وعملياً، كذلك الذي شاع بديلاً ومضاداً للفكر التأملي، كما  قالت لنا الكتب، بعد انهيار ديمقراطية أثينا. وحين أردتُ أن أقربه إلى مثيلٍ عربي، لم أجد غير زمن ما بعد مقتل عليّ، حين تخلت الدولة العربية، إلى الأبد، عن العدالة الشعرية في الحديث المعروف: "ادرأوا الحدود بالشبهات"..
 
الرحلة إلى المنفى، هي رحلة البحث عن مأوى. فهمها بعضهم فهماً عملياً ناجعاً فامتلك بيتين وأجـّر واحداً.. !
 
المنفى ليس بيتاً، كذلك البلاد التي يحكمها دكتاتور. منطقٌ يقول به الشاعر الفقير، المنعزل. ولا يقول به الشاعر السفسطائيّ، والعمليّ، والشاطر، الذي ربح من الاثنين: الدكتاتور والمعارضة.
 
لكنما العزلة، التي يختارها الشاعر الفقير، مهما أُحكمت، لا تبعده عن التماس مع الآخر العمليّ، عندما يبدأ الأخير لعبة تحرير البلاد، علناً. حتى لو كان هذا التماس مجرّد آهة، من بعيد.
 
يمسح الأول دموعه، ويمضي إلى الكتابة.
* * *
أنا أعزل أمام الحرب.
أعزل بلا تاريخٍ ينجيني من الضياع.
كنتُ أحسب أن التاريخ يأتي إليّ في كلّ مرةٍ أقرأه، ، أي في كلّ مرةٍ أطلبه.
كنتُ أظنني لن أكون غريباً عنه، وأنا أقرأه في الدين والأدب كثيراً. ألتهمه كلّ يومٍ كما يلتهمه المحافظون.
لكنني اعزل، بلا تاريخٍ ينجيني من الضياع.
أهو ثأرٌ مني، ألاّ يأتي في هذه العزلة، وأنا لا انظر إلاّ إليّ فلا أحد معي يسمعني، أو يـُسمعني نفسه؟
وفي النظر إليّ أبحث عن مكونات ما أدّعيه في الشعر، الآن، أو ما كنتُ أدعيه خلال العقود الثلاثة الماضية.
ولكنني لا أكاد أعثر إلا على الطبقات السميكة المتوارثة للعقل، تلك التي حفظناها في البيت وفي المدرسة. تلك التي لقنونا إيّاها تلقيناً.. وأكثرها كان مواعظ ونصائح. وبعضها كان تعاويذ .. ورقىً
 
ولكن أين ذلك التاريخ بكلّ كتبه وأحداثه وأبطاله؟
لاشيء في الذهن الآن. على الرغم من أنّ حياتي في هذه العزلة ليست غير نشاطٍ لا ينقطع من التذكّر.. تذكّر كلّ شيء. فهو الحوار الآدميّ الوحيد، الذي أقوم به .. والذي أسمعه.
أيكون كلّ هذا لأنني شاعرٌ.
جربتُ ألاّ اكون شاعراً ليومٍ واحد.. ثمّ وجدتـُني أسأل نفسي: هل أنا شاعرٌ كلّ يوم؟ ما معنى أن تكون شاعراً في الحياة داخل البيت، المغلق بابه، المسدلة ستائر نوافذه؟
هل أنت شاعرٌ حين تتحفّز للكتابة، وأثناءَها؟
ألستَ شاعراً قبل الكتابة، قبل أن تتحفز لها؟
ألستَ شاعراً بعدها؟
ثمّ وجدتـُني أسأل نفسي السؤال الصعب: هل الشعر كتابة؟
سيل الأسئلة حين يبدأ، لا يتوقف، إلا بالقطع المتعمد.
قطعٌ إذن، كما يكتب السينمائيون في سيناريوهاتهم.
هل الشعر تاريخ؟
لا مفرّ إذن من الأسئلة.
 
أنا أعزل بلا تاريخ لأنني شاعر. ولكن لم لا أدخل إلى التاريخ من الشعر؟ ألم أذكرْ علياً قبل صفحة فولسكوب وبضعة أسطر. فلماذا لا أذكر حديثه الشهير بعد انتهاء معركة الجمل: إلى الله اشكو عـُجَري وبـُجَري؟ و"عـُجَرُهُ وبـُجَرُهُ" في المعجم: عيوبه وأمره كلّه، ويضع المعجميون العرب، عادةً، في هذه المادة، حديث عليٍّ المذكور. وعدد من المؤرخين يرويه شعراً، وأثبته، منهم، طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى". لكني أميل إليه قولاً مليئاً بالشعر، بل هو الشعر كلّه، أكثر منه بيتاً منظوماً. لذلك اكتفيت منه بصدره "أشكو إليكَ عـُجَري وبـُجَري" وهو من الرجز، وأهملتُ عجزه، ووجدتُه في حاله هذه أقرب إلى الاقناع من بقائه مرتبطاً بالعجز المهلهل، أو بالحديث المعتمد في المعاجم. إنه يبدو الآن قولاً جاء موزوناً بالمصادفة.
 
"أشكو إليكَ عـُجَري وبـُجَري" هذا ما أحبه. وقد قاله عليّ أثناء تعرّفه على القتلى من أنصاره، في الميدان، وعلى القتلى من معسكر أعدائه، الذين كانوا أصدقاء حياته كلـّها .. في مشهدٍ تراجيدي، لا أعرف له مثيلاً، قطّ، في التاريخ.
أَوَ ليس هذا تاريخاً؟
لا. لقد كنتُ في حضرة الشعر والتراجيديا.. ولم أزل فيهما. فلم تأخذني الأحداث بعيداً عنهما. بل إنني لا أتذكر الأحداث، أو لا أرغب في تذكـّرها. لكنني فرحٌ لأنني تذكرتُ ذلك الحديث، ففيه نموٌّ لهذه الكتابة يشبه النموّ الدرامي في المسرح الكلاسيكي: بداية، وسطٌ، ذروةٌ أو نهاية.
هل أنا في البداية؟ هل أنا في الوسط؟ أم أنا في الذروة؟
تكثر الأسئلة في الكتابة، لأن الشاعر كائنٌ حيران، ولأن الحيران يسأل.
 
قول عليٍّ، بكاءٌ في الحرب، ونحن في حرب. شعرٌ يلغي التاريخ، يلغي الأحداث وروايتها. لن تكون لدينا أحداثٌ نختلف في صدقها، ودقة حدوثها. لن يكون لدينا رواةٌ، يجهدون أنفسهم ويجهدوننا بـ قال فلانٌ، نقلاً عن فلان.ز لأنّ الشعر حاضرٌ، وحين يحضر الشعر يختفي الحدث والرواة. لن يكون لدينا غير الحديث نفسه، وقوّة العاطفة وصدقها التراجيديّ. لكنّ أحدنا يتمنى لو أنه يقوله، لو أنه يسمعه، وصور ضحايا الحرب تـُعرض على شاشة التلفزيون كلّ حين.
 
في التاسع والعشرين من شهر آذار الماضي، وفي الثلاثين منه، عرض تلفزيون الـ BBC ريبورتاجاً لمراسله من مدينة الناصرية، كانت طائرات الكوبرا، فيه، تطلق من منتصف نهر الفرات صواريخها على البيوت في الضفة المقابلة، فتنفجر البيوت.
 
يومَ هربتُ من العراق، لم أكنْ أفكـّر في قول عليّ بين قتلى معركة الجمل، بل كنتُ أفكّر في قصيدة العودة أو في مقالها.. في ثأري الشعريّ، في حلمٍ يتشوّه الآن بالحرب وبضحاياها..
 
لم أكنْ افكـّر في أنّ ثمن تحقيقه سيكون جثثاً مرميةً في شوارع المدن والطرق الخارجية، وجرحى مقطوعي الأيدي أو الأرجل، نائمين على أسرّة عتيقة في مستشفيات مدنٍ محاصرة..
 
كان مشهد نهر الفرات سوريالياً بامتياز: منفيون يحلمون بالعودة إلى بيوتهم. يأتي محررون يعلنون الحرب على الدكتاتور حتى يعود المنفيون إلى بيوتهم. لكنهم في حربهم على الدكتاتور يطلقون صواريخ على البيوت الواقعة على ضفة النهر.
 
يعود بي هذا المشهد إلى الجمال الذي يتخلى عن الأخلاق.
فليس أجمل من بيوتٍ عراقيةٍ على نهر الفرات في فصل الربيع، حيث السماء زرقاء، والطيور تتنقـّل من قصبٍ في النهر، إلى حدائق البيوت، وإلى سياج الجسر القريب، وأعمدة الضوء فيه.
 
يكتب شيلر، الشاعر الألماني، في عام 1793 مقالاً "عن الرقـّة والكرامة" يبحث فيه عن نظريةِ للجمال ليعاكس كانط الذي كان يقول عليك أن تتصرّف من أنّ غاية ما تريده لا تتنافى مع القانون العام. كان الشاعر يريد من الواجب أن يتسق مع الرغبة فطالب بموقفٍ أخلاقيّ يكون في الوقت نفسه جميلاً. كان يبحث عن "الروح المنصفة الطاهرة".
مؤكّدٌ، انّ مـُطلق الصواريخ من طائرة الكوبرا لا يفقه شيئاً عن التفلسف في الجمال. وقد يكون قد اعتقد بأنه في فعله ذاك إنما يحقق الجمال كله.
يتثقف الأمر ذاته بعاطفةٍ ما، في مشهدٍ للجنرال الأمريكيّ باتون أحد اشهر محرري أوربا، في الفيلم الذي يحمل اسمه (كتبه فرانسيس فورد كوبولا وأخرجه فرانكين ج شافنر 1970 " ، عندما يصادف دباباتٍ محترقة وجثثاً مكومةً قربها، فيقول: "أحبّ هذا، إلهي، كم أحبـّه كثيراً، أكثر من حياتي".
 
قول الجنرال باتون نقيضٌ شعريّ لشيللر،  وللروح المنصفة الطاهرة.
وهو نقيضٌ شعري وتراجيدي لقول عليّ، حتى لو اختلفت المعركتان، واختلف دافع القولين.
قول باتون هنا تاريخٌ يلغي الشعر.
ستكون لدينا أحداثٌ نسعى لتذكرها، سيكون لدينا رواةٌ يتفننون في روايتها. لأنّ الشعر غائب. وحين يغيب الشعر، يظهر الحدث والرواة.
لن يكون لدينا بكاء الرجل المنتصر، بين الجثث، بعد المعركة. إنما فرح عاشق الحرب وهو يتشمـّمها في الدبابات المحترقة والجثث الملقاة، بلا أي تضاد معنويّ يحتـّمه الشعر بينه وبين المشهد، بل في انسجامٍ بليد مع مضيّ الحدث في الزمن، كما هو التاريخ عند الرواة.
 
قول باتون، الجنرال، نتيجةٌ يصل إليها، عادةً، الفكر السفسطائي ومن ورائه الفكر العمليّ – الانتهازي. قولٌ شائعٌ يقال غريزياً في الحرب، كلّ حرب. إنه الجمال مقلوباً، متخلياً عن الأخلاق.
 
إذن أنا أعزل بلا تاريخ. لأنّ الشعر يلغي الحدث.. عماد التاريخ عند الرواة. أو لأنّ الشاعر، تراجيدياً، يكتفي من الحدث بذروته، ومن الذروة بما يصفو منها شعراً.
سنكون في صلب المصير الشعريّ الفرديّ الأعزل، المتأمل في مأساته. سيكون هذا المصير في ألمه كله، هو الجمال التراجيديّ بحق.
أنا أعزل بلا تاريخ ينجيني من الضياع.
لأنّ الشاعر، أمام الحرب، كائنٌ ضعيف، سريع البكاء، كما هم البشر الطبيعيون، الخائفون من الدكتاتور، الذين يرتعدون خوفاً كلما تذكروا مخطط هربهم. أو الذين إذا حلموا ذات مرةٍ بعودتهم إلى بغداد يفزّون من النوم بكابوس، لا أكثر منه غير الموت: هل يـُعدمون اليوم؟.. كيف يهربون من بغداد ثانية؟
 
الخائفون من الدكتاتور، لا خدمه، ولا اللاعبون الماهرون وصيادو الفرص، هم الشعراء الذين، في ضعفهم، يخافون من الضياع، فيظنون التاريخ مخلـّصاً لهم، روحياً وعقلياً، يلمّ لهم شتاتهم في غربتهم الغريبة بتعبير السهروردي،  لكنهم يكتشفون في موتهم البطيء أمام شاشة التلفزيون، وفي تجوالهم الخجل في شوارع منفاهم، أنّ الشعر قد ألغى التاريخ، في تكوينهم الروحيّ والعقليّ، وابقى منه، من كلّ حدثٍ وحكاية، ذروةً، هي الشعر نفسه، وهي التراجيديا.
       

 



#كمال_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اِبْنُ رُشْد ..
- آخِرُالمُدُنِ المُقَدَّسَة
- جراح الضحايا
- أُدباءُ الحَفيز!
- جلسةٌ قبل الحرب
- فــي الأصــلِ الشـّـعـريّ


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - الحرب والشعر