أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - خضر محجز - الواقع الإعلامي وصناعة الحقيقة















المزيد.....

الواقع الإعلامي وصناعة الحقيقة


خضر محجز

الحوار المتمدن-العدد: 1990 - 2007 / 7 / 28 - 11:20
المحور: الصحافة والاعلام
    


كلنا سمع بكتاب المفكر الفرنسي روجيه جارودي (البنيوية: فلسفة موت الإنسان) ذلك الكتاب الذي شكل صرخة مبكرة في وجه النزعة الكلية, التي وسمت مذاهب البنيويين على اختلاف منطلقاتهم. وإذا كان من الضروري تبيان معنى النزعة الكلية هنا، فإني أود تلخيصها باعتبارها رداً لكل الظواهر داخل النص إلى نظام كلي، كاد أن يتحول إلى عقيدة ميتافيزيقية، أطلق عليها (البنية): حيث يحيل هذا المصطلح إلى جملة علاقات تربط بين وحدات النص الجزئية، وتحكم سياقه اللغوي، من وراء وعي الكاتب. وتتمثل مهمة الناقد عندئذ في وضع يده على هذا النظام اللغوي, وكشف آليات تحكمه في النص؛ الأمر الذي جعل البنية نظاماً كونياً لا يتحكم فيه المؤلف، بل إنه لا يعرفه أساساً, ليتطور الأمر من بعد ليتم اعتباره ـ أي المؤلف ـ مجرد آلة ناسخة لنصوص سابقة, سواء تمت له قراءتها, أو تسللت إلى وعيه من خلال الثقافة السائدة. وقد عبر عن هذا التوجه الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت بمقولته الأشهر (موت المؤلف)(1).
لقد مات المؤلف والتاريخ وكل العوامل التي هي من صنع الإنسان، وبقي النص كائناً لغوياً فاعلاً وبديلاً عن كل العلاقات السابقة. وقد عبر عن هذا أحد كبار الشعراء العرب قائلاً: "وطني هو لغتي". وبذا فقد أصبح فقه اللغة مقدساً أول ومرجعاً نهائياً، في وجه أي محاولة من محاولات البحث عن المعنى؛ وحلت اللغة محل الحقيقة. وهذا هو "آخر عاهات فرع من فروع المعرفة ـ بحثي ـ تحول كلياً إلى معرفة خابرة عقائدية في العلوم الاجتماعية"(2).
وهذا التعبير ـ الذي يحلو لكثير من مثقفي آخر هذا الزمان ترديده ـ سوف يحيلنا فوراً إلى منظومة فلسفة ما بعد البنيوية. ولقد أرى من الضروري هنا، الإشارة إلى محاولات حثيثة، جرت طوال عقود، للمطابقة ما بين البنيوية والحداثة ـ خصوصاً في التجليات العربية لهذا المذهب ـ حيث صار مصطلح (ما بعد البنيوية)، بعد ذلك، مرادفاً لمصطلح آخر هو (ما بعد الحداثة) التي طورت مصطلح (النص) واعتبرته مرادفاً للحقيقة, بل سابقاً عليها, مستفيدة من بعض مقولات نيتشه حول نسبية الحقيقة, وصولاً إلى اعتبار الإنسان ـ بما هو خالق للتاريخ ـ مجرد كائن أنشأته اللغة(3).
لقد تطور الأمر على هذه الشاكلة:
1. فحسب المفهوم التقليدي لعصر سيادة العقل (عصر العلم والثورة الصناعية)، كانت اللغة معبراً عن الفكر، وآتياً من بعده: حيث سبق الفكرُ اللغةَ، التي جاءت من بعد لتترجم الأفكار والصور الذهنية إلى رموز كلامية (شفوية أو مكتوبة).
2. ثم جاء عصر توجهت فيه الفلسفة الغربية إلى اعتبار اللغة كائناً مشاركاً للعقل، لا مجرد تابع له، على اعتبار أنها تدخل معه في علاقة جدلية: فالفكر يبحث له عن وسائل للتعبير، لكن اللغة الناتجة ـ بما أنها لا تتطابق مع المرجعي، وهو الصورة الذهنية ـ لا تستطيع نقل الفكرة بأمانة، الأمر الذي يحدو بالفكر إلى محاولة مواءمة نفسه مع مخلوقه اللغوي، فيصبح بذلك متأثراً بالحقيقة اللغوية، بنفس الدرجة التي هو متأثر فيها بالحقيقة الذهنية. والعقل ـ خلال هذه المحاولة للتواؤم مع اللغة التي أنشأها ـ يقوم بإنشاء لغة شارحة، لتدخل المضمار الجديد، وتتفاعل معه ـ أي العقل ـوفق العلاقة الجدلية السابقة من جديد، محتاجةً إلى لغة شارحة أخرى... وهلمجراً.
3. وفي المرحلة الثالثة تقرر لدى فلاسفة كهايدجر، أن اللغة هي الأساس الأول للكينونة الإنسانية، وأن الإنسان لا يكتشف ذاته إلا من خلال اللغة. وبذا فقد أصبح ما كان مجال أخذ ورد أمراً بديهياً. وهذه عاهة أخرى من عاهات فلسفة تصادر على المطلوب، منذ البداية، وتقرر مقولات غير متفق عليها، لتضعها كمقدمات منطقية، يجب التسليم بها ابتداءً، ثم الانطلاق من خلالها إلى صناعة حقائق. ولنتأمل كيف يصوغ ڤنسنت. ب. ليتش رؤية الفيلسوف الألماني (مارتن هايدجر) هذه:
"الشعر هو مصدر وأساس اللغة والفن والتاريخ والكينونة والزمن والحقيقة. إنه التأسيس الأول, والإنشاء الأول, وتحديد المكان الأول, والتسمية الأولى. إنه يخلق الوجود, وينتج التفكير. لا شيء له وجود خارج الشعر. وبمعنى دقيق: لا وجود لـ (خارج الشعر), بل حتى (اللاشيء) نفسه لا وجود له خارج الشعر... إن الوجود نص خالص من البداية إلى النهاية"(4).

وبديهي ـ حسب هذا النمط من التفكير ـ أن كل ما هو غير مكتشف فهو غير موجود في الواقع (بحسب طريقة التفكير الغربية مرة أخرى. فالهنود الحمر لم يكونوا موجودين في أمريكا قبل أن يكتشف وجودهم الرجل الأبيض، بما تحيل إليه هذه الفلسفة من تبرير لكل ما حدث بعد ذلك) فاللغة ـ أو مجموعة المنظومات اللغوية ـ هي التي تقوم بالتعبير عن الواقع أو الحقائق، وهي إذ تعبر عنها فإنها تكتشفها: أي تخلقها. فاللغة إذن سابقة على التفكير والكينونة. والإنسان مجرد كائن لغوي. ولولا أننا نعرض هنا لفلسفات مادية، لقلنا إن الله ـ بحسب هذا المفهوم ـ لم يكرم الإنسان بالعقل، بل بالكلام. ولو صح من هذا شيء، لكانت أمة العرب الآن أقوى الأمم؛ باعتبارها ربة الكلام!.
4. ولقد ظل هذا المفهوم يتطور، إلى أن وصلنا ـ على يد بعض توجهات مدرسة ما بعد الكولونيالية ـ إلى اعتبار كل ما جرى في التاريخ مجرد ظواهر لغوية، وأن الحقيقة الموضوعية لا وجود لها. وبذا فقد غدا كل ما آمنا به عبارة عن سرديات كبرى (Grand narratives). والسرديات الكبرى مصطلح يحمل في طياته حكما قيميا بالسلب، على كثير من مفاهيم مرحلة سابقة، شغلت نفسها بأمور من قبيل:(جدل الروح ـ تأويل المعنى ـ تحرير الذات العاقلة أو العاملة ـ الرأسمالية المستغلة ـ الثقافة القومية) وهذه المفاهيم في نظر توجه هؤلاء قد انقضى زمنها وتحطمت أوهامها، بفعل سيادة (عقلانية) مرحلة ما بعد الحداثة: تلك العقلانية المادية التي لا ترى الحقيقة إلا فيما هو واقع بالفعل، لا فيما هو مجرد تطلعات سامية غير قادرة على التحقق. .
فالسرديات الكبرى ـ في نظر ما بعد الحداثيين ـ هي كل نظرة شمولية تشكل أساسا تتم العودة إليه في التفسير. وكل علم يستقي مشروعيته من هذه النظرة الشمولية ـ حسب ما بعد الحداثيين ـ هو علم يرجع إلى زمن مضى, حيث كانت حكاية التنوير شائعة ـ كما يقول الفيلسوف الفرنسي (جان فرانسوا ليوتار) ـ وتتخذ طبيعة سردية على شكل حكاية, يعمل فيها بطل المعرفة لبلوغ غاية أخلاقية أو سياسية جيدة، هي السلام الشامل. وعلى العكس من كل ذلك، يتسم زمن ما بعد الحداثة ـ في رأي هؤلاء ـ بأنه يحتفي بتشظي هذه السرديات الكبرى ـ كما يقول (هومي. ك. بابا) ـ التي طالما داعبت خيالنا، وآن أوان التخلص منها بحجة العقلانية(5).
وهكذا ظهرت مجموعة من الدارسين والنقاد، تعتبر القومية، والروابط الوطنية، واستقلال الأوطان، عن تدخلات القوى المهيمنة، مجموعة من الخرافات، التي أثبتت نظم صناعة الواقع الجديد زيفها: فالدولة الوطنية خاضعة لاحتكارات السوق؛ واللغة القومية ما هي إلا آثار تفاعلات عالمية في المحيط المجاور؛ والاستقلال الوطني خدعة تروج لها الأنظمة الحاكمة، بهدف المحافظة على عروشها من مد الديموقراطية؛ وحدود الوطن شيء اخترعته شركات الإنتاج البرجوازية، لحماية منتجاتها من المنافسة الخارجية... وهكذا(6).
والآن أصل إلى لب الموضوع، بعد هذا التمهيد الذي كان لا بد منه.
يعتمد الواقع الإعلامي، كما هو معروف، على سلطة النص. والنص الذي أقصده هنا ليس مجرد الكلام المكتوب أو الشفهي فقط، بل كل ما يساهم في صناعة الحقيقة، لدى المتلقي: كالنص المكتوب والنص الشفهي والنص المرئي أو المسموع: فالصورة نص، والأغنية نص، والرقصة نص، والموسيقى نص, كما هي الكلمة المكتوبة سواء بسواء.
"النصوص وقائع سلطة، لا وقائع تبادل ديموقراطي"(7). هكذا يقول نيتشه، بمنتهى حدة الذهن؛ واضعاً يده على مفتاح السر، في أحد أهم آليات الهيمنة: فالنص يقول، وأنت تتلقى، ولا تستطيع التحاور مع ما يقوله. ولا ينطبق هذا القول على شيء، بقدر ما ينطبق على وسائل صناعة الواقع، في العصر الحالي: فنحن نجلس أمام التلفاز ونتلقى، ونقرأ الجريدة ونتلقى، ونحن نسمع الموسيقى ونتلقى، ونحن نستمع إلى الخطاب الأمريكي الجديد ونتلقى. ولقد يمكن القول بأننا نرفض بعض ما نتلقاه، وهذا صحيح مؤقتاً، لأننا ـ بفعل التعود ـ سوف نتقبل كثيراً مما كنا قد رفضناه في السابق. ولقد مضى وقت قاطع فيه الناس نوعاً محدداً من الأغاني، على سبيل المثال، ثم ماذا حدث بعد ذلك؟. لقد اكتشفنا أنهم ما لبثوا أن تقبلوها، بل وصاروا يطلبون سماعها. وهكذا حدث لنا مع الخطاب الأمريكي، مع الفارق في النسبة والدوافع.
لقد ركز الخطاب الإعلامي الأمريكي ـ المدعوم بقوة القوة ـ على محاربة شبح غير محدد الملامح، اسمه الإرهاب. ولئن حاولت بعض الدول والأنظمة إقناع الإدارة الأمريكية ـ في البداية ـ بضرورة عقد مؤتمر دولي لتحديد معنى الإرهاب: أي (تحرير المصطلح)، فلقد كانت هذه المحاولات حسيرة قاصرة، وتخلو من أدوات التأثير، الأمر الذي شجع أمريكا على مواصلة نهجها هذا، في اعتبار الإرهاب هو ما تقرر هي أنه كذلك.
ومن الطبيعي هنا أن ندرك، أن هذا الخطاب الإعلامي الجديد، يحمل في طياته فلسفة وأيديولوجيا محددتي الملامح، تقولان: إن أمريكا هي الحضارة والخير والعلم، وإن من يخالفها هو الجهل والشر والتخلف. وإن كل ذلك هو بيئة الإرهاب ودفيئته.
إلى هنا وكان من الممكن اعتبار الخطاب الأمريكي خطاباً قاسياً من الناحية الإنسانية، ومرفوضاً من الناحية العقلية، ويستحق المواجهة من الناحية الأيديولوجية. لكن الذي جرى كان غير ذلك بالمرة؛ نظراً لتمتع هذا الخطاب بعدد من الدعائم المادية والنفسية، جعلته يسود رويداً رويداً. ولقد كان من أهم هذه الدعائم العوامل التالية :
1. القوة العسكرية.
2. المساعدات المادية التي تقدمها أمريكا، وتوظفها كسلاح لمصادرة القرار الوطني، في الدول الفقيرة عموماً، وفي الدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص .
3. التفوق الإعلامي الأمريكي، الذي أتاح لمراكز صناعة القرار الأمريكي التحكم في كبريات وسائل الإعلام ومصادر المعلومات.
4. هشاشة الأنظمة الحاكمة في الدول المستهدفة، وعدم ارتكازها على مرجعيات قارّة: شعبياً وقانونياً ـ بل حتى إنسانياً ـ بحيث بدت هذه الأنظمة خائفة من زلزلة أمريكا للأرض من تحتها، خصوصاً وقد بشرت أمريكا شرائح النخبة والإنتلجنسيا المثقفة، في هذه الدول، بحلول (مرحلة الديموقراطية) التي تحلم بها. وكلنا رأينا ماذا فعل الحزب الشيوعي العراقي، وكيف تحالف مع الغزاة، وفتح لهم الأبواب في بغداد.
5. الإغراءات البصرية التي تقدمها شركات المتعة في هوليوود، كمثال لشعوب فقيرة تتوق إلى إعادة إنتاج ما تراه على الشاشة، من وفرة وجمال وقوة. ويحضرني في هذا الصدد ما قاله الرئيس الهندي جواهرلال نهرو، لأحد أقطاب السياسة الأمريكية خلال حقبة الحرب الباردة؛ من أن أهم ما لا تستطيع الهند مواجهته، ولا تملك أدوات دفعه، هو الـ (C.I.A) وهوليوود.
وهكذا بدأنا نسمع وسائل الإعلام، الموجهة في الدول العربية مثلاً، تستخدم مصطلح (الإرهاب) بنفس الطريقة التي قررتها الإدارة الأمريكية. فماذا جرى من جراء هذا الاستخدام، وكيف حدث هذا؟.
لقد جرت صناعة حقائق جديدة على الأرض: فحركة المقاومة الفلسطينية، وحركة المقاومة العراقية، صارتا تسمى، في وسائل الإعلام العربية، إرهاباً!. وصحيح أنه قد جرى ـ في المرحلة الأولى ـ تبرير هذا (الإرهاب)، تخفيفاً لوقع هذا الانزياح المتعمد للمصطلح على وعي الشارع العربي، باعتبار هذا الانزياح دالة على الاستخذاء الوطني. لكن سحر العادة سوف يتيح، بعد ذلك، لهذا الانزياح، أن يتباعد، إلى درجة حلول المعنى الجديد لكلمة الإرهاب محل المعنى القديم: حيث صار يجري الآن استخدام مصطلح (الإرهاب)، دون أي تبريرات تفسيرية، وصارت عمليات المقاومة إرهاباً بإطلاق. فالفلسطيني، أو العراقي، كان في المرحلة الأولى مناضلاً، ثم في مرحلة تالية إرهابياً، دفعه إلى (إرهابه) واقع الاحتلال والظلم، وصولاً إلى اعتباره إرهابياً بإطلاق.
وعندما يتقرر كون المناضل إرهابياً، فإن ما يتقرر تبعاً لذلك هو ضرورة ملاحقته، والقبض عليه، أو تقديم المعلومات التي تتيح ذلك، أو المشاركة في فرض الحصار عليه، على أقل تقدير. وأعتقد أن هذا المثال دال على قدرة وسائل الإعلام، المدعومة بقوة الهيمنة، على صناعة حقائق جديدة عبر الألفاظ ـ بغض النظر عن كون هذه الحقائق الجديدة موافقة للعدالة، أو موافقة للشيطان ـ وابتعدت الحقيقة عن الحق. بل صار الحق جزءاً من الحقيقة الواقعية. الأمر الذي أنتج لنا فئة من المثقفين العرب ـ يا للعجب ـ تأخذ بما قال به المؤرخون الصهاينة الجدد، من أن الصراع على أرض فلسطين هو صراع بين (حقين)!.
لقد تراجع المنحى الإنساني، في الفلسفة والنقد وكافة منظومات التقويم والحكم على الظواهر، مع تصاعد قوة الهيمنة الأمريكية، التي تريد مرة واحدة ـ وإلى الأبد ـ إقامة إمبراطورية رومانية عصيّة على التحلل، بعد أن سبق وبشرت بـ (نهاية التاريخ)، وتوقف حركة الإنسان في الفعل والتغيير. وإذ لم يعد بمستطاع النخبة المثقفة منازلة هذه الهيمنة الجديدة، فلقد وجدت لها مندوحة في اللجوء إلى الوصف والتحليل، بعد أن كانت مهمتها ـ كقوى تغيير تاريخية ـ الاستدلال والقياس والتقويم، وإصدار الحكم المعياري. وقد رأينا كيف سادت المذاهب الوصفية الشكلانية، في الأدب والفن، وتراجعت أحكام المعنى والقيمة الأخلاقية الإنسانية، خصوصاً بعد الانهيار المفاجئ، لكل منظومات المناهج الإنسانية، على المستوى السياسي: فبعد انهيار الاشتراكية على سبيل المثال، سادت المذاهب الواقعية الوصفية، والبنيوية الميكانيكية، التي لا تجعل الحكم القيمي على النصوص من مهماتها. لكأنها تقرر أن ما حدث قد حدث. وإذ لا فائدة من مراجعته وإصدار الأحكام بشأنه، فلقد يكون من المناسب أن نحلله ونفككه ونصف تجلياته.
لقد كان الجمال والأخلاق متصالحين، منذ القدم. وكانت مهمة الفن هي البحث عن قيم الحق والخير والجمال، وتعزيز كل ما يمت بصلة إلى هذه القيم الكونية الكبرى، فاقتضى ذلك البحث عن المعنى، تمهيداً لإصدار الحكم المعياري. ولقد كان هذا المعنى دائماً ذا طبيعة أخلاقية نفعية. أما الآن فقد أصبح استخدام مصطلح (النفعية)، في الفنون والآداب، ذا مدلول هجائي، يتم التعالي عليه، ويتبرأ من الوقوع في حبائله عددٌ من المثقفين المضحكين، الذين يلوكون الكلام كما لو كانوا يضاجعون امرأة رخيصة. ولنا في المسلسل الأمريكي الأشهر (الحسان والشجعان) خير مثال، على نوع من الحسن يتيح للمرأة الزواج من الأب والابن والأخ والعم على التوالي ـ مع إقامة العلاقات الجنسية معهم جميعاً، خلال الفترة الفاصلة بين انتقالها من واحد إلى آخر من أفراد هذه العائلة النموذج ـ ونوع من الشجاعة، لدى رجال يكتشفون أن هذا جميل، فيقررون التمادي فيه، على طريقة الرب الذي خلقه سفر التكوين.
وعن مثل هذا النوع من (المثقفين)، يقول إدوارد سعيد:
"لكن طبقة رجال الفكر (الإنتلجنسيا) هي ذاتها عنصر مساعد... وقد رُسم دور لهذه الطبقة, وصُنع لها ؛ بوصفها طبقة مُحدثِنة [من اسم الفاعل]: أي أنها تمنح الشرعية, والسلطة المرجعية, لأفكار حول التحديث والتقدم والثقافة, تتلقاها من الولايات المتحدة, بصورة رئيسية. ويقوم الدليل على هذا في العلوم الاجتماعية, وبما يفاجئ إلى درجة كبيرة [يقوم الدليل كذلك] من الجذريين [اليساريين الراديكاليين] الذين أخذوا ماركسيتهم, بالجملة, من نظرة ماركس التسلطية إلى العالم الثالث"(8).
وبناء على ذلك فأنت لا تستطيع أن تكون حداثياً، أو حتى أديباً معترفاً به منهم، إذا كنت مناضلاً اجتماعياً، أو سياسياً، على نحو لا يرضي أمريكا: فلسوف توصف بالديماغوجية إذا كنت مناضلاً سياسياً، ولسوف توصف بالمباشرة إذا كنت ممن يشتغلون بالفن أو الأدب، ويقيناً أنك ستوصف بالإرهاب إذا كنت من المدافعين عن الوطن.

***********************************
الهوامش:
1ـ انظر: رولان بارت. لذة النص. ترجمة: منذر عياشي. ط1. سلسلة الأعمال الكاملة:1. حلب. مركز الإنماء الحضاري. 1992. ص56.
2ـ إدوارد سعيد. الاستشراق: المعرفة ـ السلطة ـ الإنشاء. نقله إلى العربية: كمال أبو ديب. ط4. بيروت. مؤسسة الأبحاث العربية. 1995. ص318.
3ـ انظر: عبد الوهاب المسيري. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية. مجلد5. القاهرة. ط1. دار الشروق. 1999. ص473.
4ـ انظر: د. عبد العزيز حمودة. المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك. الكويت. سلسلة عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. نوفمبر2003. ص303.
5ـ انظر هومي. ك. بابا. موقع الثقافة. ترجمة ثائر ديب. ط1. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 2004. ص.48. وانظر كذلك: عطيات أبو السعود. نيتشه وما بعد الحداثة. فصول (القاهرة). عدد63. شتاء وربيع: 2004.ص50 ـ 61.
6ـ انظر المقدمة الوافية التي كتبها ثائر ديب مترجم هومي. ك. بابا. المصدر السابق.
7ـ انظر: إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. ترجمة: عبد الكريم محفوض. دمشق. منشورات اتحاد الكتاب العرب. 2000. نسخة مأخوذة عن موقع الاتحاد على شبكة الإنترنت: http://www.awu-dam.com بتاريخ12/8 /2005. ص45.
8ـ الاستشراق المصدر السابق. ص321 ـ 322.



#خضر_محجز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في العلاقة بين الثقافة والاستبداد


المزيد.....




- تابعة لإسبانيا..نظرة على وجهة استثنائية تقع وسط شمال إفريقيا ...
- خبير مصري يعلق على قبول -حماس- وقف إطلاق النار ورد الفعل الإ ...
- نحل الخلافات -خلف الأبواب المغلقة-.. الجيش الإسرائيلي يتحدث ...
- هجوم روسي واسع على منشآت الطاقة في أوكرانيا
- رسمياً.. جزر البهاما تعترف بدولة فلسطين
- بيستوريوس من نيويورك: لا ينبغي لبوتين أن يفلت بحربه العدواني ...
- قصة غامضة.. -آية- من البحر الأحمر تنقل جاك كوستو من أعماق ال ...
- رئيس الصين يهنئ فلاديمير بوتين بتوليه منصب رئيس روسيا
- مسبار Chang-e 6 الصيني يصل مدار القمر
- زيلينسكي يكشف عن محاور القتال -الأكثر سخونة-


المزيد.....

- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير / مريم الحسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - خضر محجز - الواقع الإعلامي وصناعة الحقيقة