يفتوشينكو في الخرطوم


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 6404 - 2019 / 11 / 9 - 14:34
المحور: الادب والفن     

يَا لَلْرَوْعـَةِ! أَيُّ نَاسٍ أَنْتُم؟!

(1)
يفغيني أليكساندروفيتش يفتوشينكو، الشَّاعر، الرِّوائي، النَّاشر، الممثِّل، الفنان التَّشكيلي، الأستاذ الجَّامعي، المصوِّر الفوتوغرافي، المخرج السِّينمائي، كاتب السِّيناريو والمسرح، خرِّيج معهد غوركي للآداب، عضو الأكاديميَّة الأمريكيَّة للفنون والعلوم، الرُّوسي من أصل أوكراني، الذي يجيد الإنجليزيَّة والأسبانيَّة إلى جانب لغته الأم، الأكثر مقروئيَّة، ليس على مستوى وطنه فحسب، بل وعلى مستوى العالم بأسره، حيث ترجمت أشعاره إلى أكثر من سبعين لغة، وُلد بمنطقة زيما، بسيبيريا، في الاتِّحاد السُّوفييتي، في 18 يوليو عام 1932م، وتوفِّي، إثر أزمة قلبيَّة، في الأوَّل من أبريل عام 2017م، بتولسا، بأوكلاهوما، في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة التي انتقل للعيش فيها منذ العام 1991م، كمنفى اختياري، في عقابيل انهيار الاتِّحاد السُّوفييتي.
يفتوشينكو كان قد طرح اقتراحاً ذا دلالة خاصَّة، وهو تغيير مصطلح "الشِّعر السِّياسي" إلى "شعر حقوق الإنسان"! ومن المفارقات ذات الدَّلالة، أيضاً، أنَّه، برغم عدم انتسابه للحزب الشِّيوعي، ظلَّ يعلن على الملأ أنّ "الشّيوعّية والنّزاهة كلمتان مُترادفتان"، وأنّ "الماركسيّ الحقيقيّ هو الذي يتعلّم باستمرار"! وبقدر ما كان يتَّخذ في شعره، على أيَّام الدَّولة السُّوفييتيَّة، من مواقف ناقدة بشجاعة للتَّضييق على الحريَّات، وبالأخص للنَّهج الستاليني، مِمَّا تجلى، مثلاً، في إدانته الصَّريحة للتَّدخُّل في تشيكوسلوفاكيا وأفغانستان، ودفاعه عن باسترناك وسولجينيتسن، فقد ظلَّ يشجب، لاحقاً أيضاً، وهو يعيش في أمريكا، تربُّص الغربيِّين ببلده روسيا، وسعيهم لقمع إرادة التَّحرُّر لدى شعوب البلدان النامية. وبرحيله فقد العالم ربَّما آخر شعرائه العظام.

(2)
عندما زار يفتوشينكو القاهرة في أواسط ستِّينات القرن المنصرم، وقرأ قصائده بالرُّوسيَّة للجُّمهور في مسرح الأوبرا، وأعدَّ وقرأ ترجماتها خلفه كبار الشُّعراء والأدباء العرب: أدونيس، وعبد الصبور، وحجازي، وماهر عسل، بالاضافة إلى المستشرقة السُّوفيتيَّة تمارا كوزمنيا، وأصدرت مجلة الهلال عدداً خاصَّاً بتلك المناسبة، اعتُبر ذلك حدثاً يؤرَّخ به؛ وانتابت الغيرة الحركة الشِّعريََّة السُّودانيَّة، وتمنَّت لو انها نالت عُشر مِعشار تلك الحظوة، فقد كان اسم الشَّاعر العالمي الضَّخم، وشعره، يصهلان، أوان ذاك، صهيلاً تتمايح أصداؤه في أركان الدُّنيا الأربعة!
فقط بعد عقدين من الزَّمان بالتَّمام والكمال، اتَّفق لنا، في اتِّحاد الكتَّاب السُّودانيِّين، عند منتصف الثَّمانينات، أن نحقِّق تلك الأمنية. كان يفتوشينكو يقوم، وقتها، بجولة في أفريقيا، بداية من شمالها. لم يكن السُّودان ضمن برنامجه، ومع ذلك كانت تلك فرصة لا يمكن تفويتها! كانت تربطني به علاقة قديمة في موسكو وثَّق من أواصرها، آنذاك، صديقنا وعرَّابنا المرحوم جيلي عبد الرحمن، فقلت أستثمرها. كان في تونس عندما نجحت في الاتِّصال به عن طريق بعض الأصدقاء الفلسطينيِّين. عرضت عليه أن يدرج الخرطوم ضمن جدول زياراته. تمنَّع بشدَّة، دون أن تفارقه روح الفكاهة التي عرف بها:
ــ "ما بالك؟! هل تريد إقناعي بأن ثمَّة جمهوراً يُحسن الاصغاء للشِّعر في بلدكم هذا"؟!
لم أيأس، وواصلت الالحاح:
ــ "رجاءً .. أنت أصلاً ذاهب إلى نيروبي ودار السَّلام بشرق أفريقيا .. تفضل عندنا في طريقك ترانزيت ليومين أو ثلاثة، وسترى بنفسك"!

(3)
وافق بعد لأيٍّ ، مشترطاً ألا تزيد الزيارة عن يوم واحد، ومع ذلك كدتُّ أطير من الفرح! وجاء، وما لبث أن ذهل للكمِّ الهائل من الشُّعراء والأدباء والمثقَّفين والصَّحفيِّين الذين وجدهم بانتظاره في المطار، ولدفء المشاعر الجَّيَّاشة التي أحاطوه بها، ولدقَّة البرنامج الذي أعددناه لزيارته على مدار السَّاعة، والذي شمل استقبالاً له بمكتب رئيس الوزراء الصَّادق المهدي، ومكتب وزير الثَّقافة محمَّد توفيق، فضلاً عن زيارة المتحف القومي، ودار الاتِّحاد بالمقرن، وبعض بيوتنا في مختلف أحياء العاصمة المثلثة، حيث رافقه، خلال ذلك، نفر من كبار شعرائنا وأدبائنا وفنَّانينا، وفي مقدِّمتهم الشَّاعر المرحوم علي عبد القيُّوم، والشَّاعر القاص بشرى الفاضل. وبهره مستوى الحوار العميق الذي نظمناه له، بالإنجليزيَّة، مع عدد كبير من أعضاء الاتِّحاد وغيرهم من الأضياف، وتولى إدارته وترجمته المرحوم خالد الكد، وكان ذلك حول مأدبة غداء فاخرة أقمناها على شرفه في باخرة نيليَّة جاءت خدماتها من القراند أوتيل، وأمر السِّيِّد إدريس البنا، عضو مجلس السَّيادة وقتها، مشكوراً، بسداد فاتورتها من ميزانيَّة القصر الرِّئاسي، ولم تعكِّر صفوها ولا حتَّى المحاولة الخرقاء التي ارتكبها شويعر لم تكن تسعده نجاحات الاتِّحاد، فتطفَّل ناصحاً للضَّيف الكبير بألا يخدعه ما أسماه "الكرم المصطنع" الذي قال إنه لم يعهده، من قبل، في "اتِّحادنا الفقير"! وكم كان صافعاً ردُّ يفتوشينكو عليه حين رماه بقوله الحكيم:
ــ "إطمئن! لا شئ يخدعني! أنا متأكِّد، تماماً، أن ذلك تقطيع من الجِّلد، وأنا خبير بهذا الضرب من الكرم الذي يبزُّ كرم الأثرياء، فقد كنَّا فقراء، ونحن، بعد، صغار، والثَّورة الاشتراكيَّة لمَّا تزل صبيَّة، حين كنت أرى أمِّي، عندما يحلُّ علينا ضيف عزيز، تخرج خزين مطبخـها كله، وتضعه في أثمن ما لديها من صحاف تصفُّها على المائـدة"!
إلى ذلك افتتن يفتوشينكو بالشَّمس السَّاطعة، والسَّماء الصَّافية، والنهر الرَّائق، ومشاهد المقرن، وتوتي، وشمبات، وأم درمان، وأم دوم، ومرائي الصيَّادين والمزارعين يلوِّحون لنا، في مودَّة آسرة، من عرض النَّهر، ومن الشَّاطئين بخضرتهما العميقة. لذا، ما لبث أن أشرع، بعد الغداء، آلات التَّصوير الفوتوغرافي خاصَّته، بملحقاتها المعقَّدة، تكاد عدساتها تلتهم كلَّ شئ، فقد كان مصوِّراً محترفاً يجيد هذا الفنَّ إجادته للشِّعر. واستطراداً كان لدينا في السُّودان، أيضاً، شاعر كبير آخر شغوف بالتَّصوير الفوتوغرافي، هو النُّور عثمان أبَّكر، عليه رحمة الله ورضوانه.

(4)
في المساء اكتظت قاعة الشَّارقة، في جامعة الخرطوم، بجمهور غفير استقبل إطلالة الشَّاعر العالمي، وهو يعتلى الخشبة، بعاصفة من التَّصفيق. سألني، وعيناه تبرقان بلمعة الدَّهشة:
ــ "بماذا أبدأ"؟!
أجبت فوراً:
ــ "سوق في سمبرسك"!
افترَّت أساريره، وهمس مبتسماً:
ــ "أحسنت، فأنا متيَّم بمديح المدن"!
وعندما شرع في الالقاء ران على القاعة صمت رهيب، وطفق الجُّمهور يتابعه مبهور الأنفاس، ولا غرو، فليس ليفتوشينكو أخٌ في الالقاء، وكان حدَّثني بأنه تخصَّص فيه بمعهد غوركي، فلكأن جسده، وهو يضطرم داخل قميصه الحريري عميق الزُّرقة، موجٌ صخَّاب، ولكأن صدره وحنجرته أوركسترا متعدِّدة الأصوات تنثال في هارمونيَّة بليغة! وتوالت القصائد، وتوالى انفجار القاعة بالتَّصفيق. ولكم أدهشه إلقاء المرحوم تاج السِّرِّ الحسن وبشرى الفاضل والياس فتح الرحمن للتَّرجمات العربيَّة التي كنَّا أعددناها لما توقَّعنا من قصائده الشَّهيرة فور فراغه هو من إلقاء أصولها الرُّوسيَّة، حتى لقد ذاب حاجز اللغة الثلجيِّ تماماً، وأمست موسيقى الحروف الرُّوسيَّة والعربيَّة نصوصاً موازية للمضامين، واستحالت القاعة بأسرها طقساً شديد الانسجام من دفء الانفعال والتواصل الحميم، وعلق هو بعينين تغصَّـان بدمـع هتون:
ــ "يا للروعــة! أيُّ ناس أنتـم؟! كيـف رتَّبتم كلَّ هــذا"؟!

(5)
آخر الليل، في الطريق إلى المطار، كان يُعبِّر لنا عن عميق أسفه، والجهشة ملء حنجرته، كونه لم يخصِّص للسُّودان وقتاً أطول! لكنه، عندما عاد إلى موسكو أفرد لتلك السُّويعات مساحة رحبة من لقاءاته الصَّحفيَّة!

***