لًمَحَاتٌ مِنْ تَارِيخِ التَّعْذِيب! (بمُناسَبةِ اليَوم العالميِّ لمُنَاهَضَته)


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 7658 - 2023 / 6 / 30 - 01:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا جزء مِن ورقة عن "موقف الاسلام مِن التَّعذيب" يُتوقَّع صدورها، خلال أيَّام، في كتاب مشترك بيني وبين أخي، ورفيقي في زنازين "بيت الأشباح"، عام 1992م، الأستاذ الصَّحفي والكاتب أحمد سيد احمد عتيق، وكنت قدَّمت أصلها، ابتداءً، بتاريخ 25 يونيو 2005م، ضمن ورشة "المناصرة لمناهضة التَّعذيب" التي نظمها "مركز الأمل السُّوداني لعلاج وإعادة تأهيل ضحايا التَّعذيب ACTR"، خلال يومى 24 ـ 25 يونيو 2005م، بقاعة البنك الزِّراعي بالخرطوم، احتفالاً بالسَّادس والعشرين من يونيو ـ اليوم العالمي لمناهضة التَّعذيب، بالتَّعاون مع "الشَّبكة العربيَّة لعلاج وإعادة تأهيل ضحايا العنف والتَّعذيب ـ أمان"، و"المجلس العالمي لإعادة تأهيل ضحايا التَّعذيب ICTR".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)
قال تعالى في محكم تنزيله: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» (173 ؛البقرة). وعن ابن عبَّاس (رض) قال، قال رسول الله (ص): «رُفِعَ عَنْ أمَّتي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا استُكْرِهُوا عَليهِ» (رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما). وقال عمــر بـن الخـطاب (رض): «ليس الرَّجل بمأمون على نفسه إن أجعته أو أخفته أو حبسته أن يُقرَّ على نفسه»، وحدث أن جئ إليه بمن اعترف على نفسه بسرقة، فقال: «ما أرى يد الرَّجـل بسـارق»؛ فقـال الرَّجـل: «والله مـا أنا بسـارق، ولكنهم تهدَّدوني، فأقررت»، فخلَّى سبيله ولم يُقِم عليه الحد. ويؤثر عن عبد الله بن مسعود قوله: «ما مِن ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عنِّى سوطاً أو سوطين إلا كنت متكلماً به».

(2)
وقد اعتمدت الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، في 10 ديسمبر 1984م، اتِّفاقيَّة «مناهضة التَّعذيب» التي دخلت مرحلة النَّفاذ في 26 يونيو 1987م، اليوم الذي اعتُبر «يوماً عالميَّاً لمناهضة التَّعذيب»، فشكَّل فاصلاً أخلاقيَّاً بين عالمين في تاريخ البشريَّة: عالم تلك الممارسة البشعة، وعالم الضَّمير الإنساني الحي.
ومِن أغلى ما أهدى مجلس الوزراء السُّوداني الانتقالي، برئاسة عبد الله حمدوك، للشَّعب السُّوداني، في 23 فبراير 2021م، إجازته لـ «الاتفاقيَّة الدَّوليَّة لمناهضة التَّعذيب، وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانيَّة، أو المهينة لسنة 1984م»، بعد زهاء الثلاثة عقود من تعنُّت النِّظام الاسلاموي البائد، وإصرار واجهته السِّياسيَّة (المؤتمر الوطني)، على رفض إجازتها، فضلاً عن «الاتِّفاقيَّة الدَّوليَّة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لسنة 2006م».
عرض لقضيَّة التَّعذيب مفكِّرون وكتَّاب عرب ومسلمون كثر استندنا إليهم في هذه الورقة، ومنهم أحمد نشأت في الجزء الثَّاني مِن "رسالة الاثبات"، ومحمود محمود مصطفى في "ورقته إلى المؤتمر الدَّولي الثَّالث لقانون العقوبات، روما 1953م ـــ المجلة الدَّوليَّة لقانون العقوبات، عام1953م"، واللواء محمود عبد الرحيم في "التَّحقيق الجَّنائى العملى والفنِّى والتَّطبيقى، عام1963م"، وسامى صادق الملا في "اعتراف المتَّهم ـ دراسة مقارنة، عام 1969م"، ومحمد محى الدين عوض في "الاثبات بين الازدواج والوحدة، عام 1974م"، وأحمد موسى سالم في "قصص القرآن فى مواجهة أدب الرواية والمسرح، عام 1977م"، ومحمد رواس قلعة جى في "موسوعة فقه عمر بن الخطاب، عام1981م"، ود. سامى حسن نشأت في "شرح قانون تحقيق الجنايات، عام 1981م"، ووهبة الزحيلى في "الفقه الاسلامى وأدلته، ج 5، 1984م"، ونصر حامد أبو زيد في "الاتجاه العقلى فى التفسير، عام 1993م"، وهيثم منَّاع في "الضحيَّة والجلاد ـــ مِن مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، عام 1995م"، ولنفس المؤلِّف، مِن نفس المصدر، "حقوق الانسان فى الثقافة العربيَّة الاسلاميَّة، تقديم أحمد عبد المعطى حجازى، عام 1995م"، و"الانسان فى الثقافة الاسلاميَّة، عام 2000م"، و"الامعان فى حقوق الانسان ــ موسوعة عالميَّة مختصرة ، دار الأهالى 2000م"، وهادى العلوي، الأعمال الكاملة3، دار المدى، عام 2004م"، واستندنا، كذلك، إلى كُتَّاب، ومفكِّرين، وفلاسفة أجانب، منهم ف. إنجلز في رسائل متبادلة مع ك. ماركس، ومؤلَّفات أخرى، وول ديورانت في "قصَّة الحضارة"، ووليم هوايت، في «الاستعمار والمسيحيَّة»، و(39)Igor Bishchenko“International Law”, 1989، كما استندنا إلى مصادر موسوعيَّة أجنبيَّة، منها "التاريخ الشَّامل للعالم (باللغة الرُّوسيَّة)، المجلد 3، موسكو 1957م"، و "Encyclopedia Britanica, v. 22, London 1965, p. 314”.

(3)
«التعذيب» قديم قدم انقسام المجتمع الإنساني إلى طبقات اجتماعيَّة مصطرعة، وإلى أقليَّات حاكمة وأغلبيَّات محكومة. على صعيد العالم القديم كانت براءة المشتبه فيه تُختبر، في المجتمع البدائي، بتعريضه للوحوش، فإن كان بريئاً فإن الآلهة سوف تنجيه! هذا النِّظام اعتُمِد، لاحقاً، في القانون الانجليزي القديم، تحت مصطلح «قضاء الرب Judicium Del أو Judgement of God»، ويُطلق على المحاكمة التي تطبقه مصطلح «المحنة أو المحاكمة بالتَّعذيب Ordeal».
وينقسم هذا النِّظام إلى نوعين أساسيَّين:
أحدهما: «تعذيب النَّار Fire Ordeal» بأن يُجبر المتَّهم على الامساك بحديدة مُحمَّاة لدرجة التَّوهُّج، أو السَّير حافي القدمين، معصوب العينين، على قطع من الحديد المُحمَّى بذات الدرجة! أما الآخر: فيتفرَّع بطريقتين:
الأولى: «إختبار الماء السَّاخن Hot Water Ordeal» بإغراق ذراع المتَّهم في ماء يغلي، فإن سَلِمَتْ ثبتت براءته!
والثَّانية: «إختبار الماء البارد Cold Water Ordeal» بإلقائه، مكتوفاً، في نهر أو بحر، فإن غرق كان ذلك «دليلاً كاملاً!» على إدانته!
وفى صور أخرى لذلك النِّظام كان المتَّهم يجبَر على تعاطى السُّم، أو وضع لسانه على النَّار، فإن كان بريئاً فلن يؤثر فيه السُّم أو تحرق لسانه النَّارحسب الاعتقاد الذي كان سائداً آنذاك!
وعرف الصِّينيُّون، قديماً، ما سُمِّى بـ «قنطرة النَّار»، وهي حفرة واسعة مليئة بالجَّمر تُمدُّ عليها قنطرة نحاسيَّة نحيفة حتَّى تسخن، ثم يُرغم الضَّحيَّة على عبورها حافياً، فإمَّا أن يُثبت براءته بألا تحترق قدماه، وإما أن يرسب في الاختبار، فيتلجلج، فيسقط فى حفرة الجَّمر، ليموت مشويَّاً!
وكانت أشكال من هذا النظام معروفة أيضاً لدى عرب الجاهليَّة، حيث كان المشتبه فيه يُعَرَّض، مثلاً، بعد تحليفه، إلى طاسة مُحَمَّاة فى النار حتى تحمرَّ، ثم يُرغم على لعقها بلسانه، فإن كان بريئاً لم يُصب بسوء، وفق ذلك النِّظام المتخلِّف! وكان الرجل الذى يَعرض النار على المتهم الحالف يُسمَّى «المُهَوِّل». وفى إحدى قصائده يصوِّر أوس بن حجر حماراً وحشيَّاً يشيح بوجهه عن الشَّمس بقوله:
«إذا استقبلته الشَّمسُ صدَّ بوجههِ
كما صـدَّ عن نار المُهَـوِّل حالفُ»!
وما يزال هذا النِّظام معروفاً وسط بعض مجتمعات البدو، كما في صحراء سيناء.
وعند قدماء المصريين كان التَّعذيب، أيضاً، من الوسائل المشروعة لحمل المشتبه فيهم على الاعتراف، حيث كان الإله آمون يُستفتى فى المسائل الجَّنائيَّة، فيمثل المتَّهم أمام «تمثاله!»، ويسرد رئيس الكهنة الوقائع، ثم يسأله عمَّا إذا كان هذا المتَّهم بريئاً، فإن هزَّ «التِّمثال!» رأسه بالايجاب، أُخلى سبيلُ المتَّهم، وإلا أعيد إلى السجن ليُعذَّب حتَّى يعترف!
ومارس الاغريق القدماء، كذلك، نظام تعذيب المتَّهم، وقد أرسى أرسطو أساسه الفلسفي معتبراً إياه «خير وسيلة!» للحصول على الاعتراف. كما مارسه الرُّومان، لا سيَّما في أواخر عصر الجُّمهوريَّة. والغالب أن هذا النِّظام كان، فى أصله، رومانيَّاً.
ومارس الآشوريُّون تعذيب أسراهم بإجلاسهم على «الخوازيق»!كما استخدم العثمانيُّون «الخوزقة» كوسيلة تعذيب، وكوسيلة إعدام.
وفي التَّاريخ القروسطى الأوربي، خلال المواجهة بين العلماء والاكليروس الكنسي، استُخدم التَّعذيب وسيلة للحصول على الاعتراف، سواء في النِّظام الاتِّهامي الذى ساد، لاحقاً، في إنجلترا، وأمريكا، وسائر بلدان النِّظام الأنجلوسكسوني، أم في نظام التَّحقيق الفرنسي «القارِّي Continental». ففي إنجلترا ، مثلاً، كانت الطريقة السَّائدة هي إلقاء المتَّهم شبه عار في كهف مظلم تحت الأرض، ووضع ثقل من الحديد فوق جسده، ولا يُطعم أو يُسقى إلا الخبز الفاسد والماء الآسن، حتَّى يعترف أو يقضي نحبه!
ومنذ القرن الثَّالث عشر الميلادي انتشرت في أوربَّا، وبخاصة في إيطاليا، المحاكم سيِّئة السُّمعة التي دخلت التَّاريخ باسم «محاكم التفتيش Inquisition»، تحت دعاوى ملاحقة الهراطقة، باسم الكنيسة الكاثوليكيَّة، وقد مثَّلت إحدى أبشع صفحات الاستهداف للفكر السِّياسي المعارض للاقطاع آنذاك، وأتْبِعَت، مباشرة، للبابا ونوَّابه، حيث:
1/ استُخدم الحرق، خلال تلك الفترة، كوسيلة للاعدام البطيء، ومن أشهر ضحاياه جان دارك على أيدي الإنجليز. وأحرق الايطاليُّون بعض الفلاسفة والعلماء بعد قطع ألسنتهم، لتكلُّمهم بنظريَّات لا تقبلها الكنيسة، كما هدَّدوا آخرين بنفس المصير لإجبارهم على التَّراجع عن آرائهم العلميَّة. وأحرقت محاكم التَّفتيش الأسبانيَّة ألفي رجل عام 1483م. وأُحرقت كثير من الِّنساء في جنيف بعد أن اتهمهنَّ مجمع الكرادلة بممارسة السِّحر، وتحريض الشَّيطان على جلب الطاعون للمدينة!
2/ واستُخدم سلخ الجلود فى التِّبت حتَّى تحرير الإقليم عام 1951م. ويروي هادى العلوي، في كتابه «من تاريخ التَّعذيب في الإسـلام»، أنه شـاهد بنفسه، خلال عام 1977م، نماذج من تلك الجلود المسلوخة في «متحف معهد القوميَّات المركزي» ببكين!
3/ وأورد ف. إنجلز، في مؤلفه «حرب الفلاحين»، نماذج من الحرق، والصلم، والسَّمل، وجدع الأنف، كوسائل إقطاعيَّة للتَّعذيب، والإعدام البطيء!
4/ كما أورد واقعة القائد الفلاحي الهنغاري "دوشا" الذى تمَّ شيُِّه، ثمَّ خُيِّر أتباعُه، بين أكل لحمه مشويَّاً، وبين شيِّهم مثله!
5/ وفي رسالته إلى ك. ماركس فى ديسمبر 1865م، أورد ف. إنجلز، أيضاً، طرفاً من أعمال الإنجليز الدَّنيئة في تعذيب العبيد العُزَّل فى جامايكا!
6/ وأورد وول ديورانت، فى «قصَّة الحضارة»، وقائع ربط القادة الفلاحين، في ألمانيا، إلى عواميد تحيط بها نار هادئة ليموتوا مشويِّين، فضلاً عن التربيع، أي تقطيع الجَّسد إلى أربعة أجزاء وإنفاذ الأسياخ المحمَّاة فيه!
7/ كما كتب وليم هوايت، في «الاستعمار والمسيحيَّة»، عن «التَّعذيب» باعتباره «أفظع منظومة إجرام شهدها العالم»!
8/ وفي التَّاريخ الحديث صارت دلالة مصطلح «محاكم التفتيش» تنسحب على كل تحقيق تعسُّفي arbitrary، وكلِّ محاكمة لا تقيم اعتباراً لحقوق الانسان الأساسيَّة، وبخاصة متَّهمي الرأي والضمير.
9/ وامتدَّ الزَّمن الذي اعتُبر التعذيب، خلاله، وسيلة مشروعة لانتزاع الاعتراف، أو الانتقام من الاعداء، حتَّى الثَّورة البرجوازيَّة العظمى في فرنسا عام 1789م.

(4)
على هذا النَّحو ظلَّ التَّاريخ البشري مرزوءاً بسيرة التَّعذيب، حتَّى في أوربَّا التي ملكت العالم، وفرضت عليه مركزويَّتها الحضاريَّة والثَّقافيَّة.
لكن، على حين هُرعت أغلب بلدان العالم، مع تطوُّر القيم الإنسانيَّة، للتَّخلص من دنس ممارسات التَّعذيب، تشبَّث النِّظام الشُّموليُّ الاسلاموي البائد بهذه الممارسة الشَّنعاء، رافضاً، رفضاً باتَّاً، اعتماد الاتِّفاقيَّة الدَّوليَّة، وحارماً بلادنا وشعوبنا، لعقود طويلة، من الصُّعود إلى مراقي العدل والصَّفاء الإنسانيَّين، حتَّى اندلاع ثورة ديسمبر 2018م المجيدة.

*** ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا جزء مِن ورقة عن "موقف الاسلام مِن التَّعذيب" يُتوقَّع صدورها، خلال أيَّام، في كتاب مشترك بيني وبين أخي، ورفيقي في زنازين "بيت الأشباح"، عام 1992م، الأستاذ الصَّحفي والكاتب أحمد سيد احمد عتيق، وكنت قدَّمت أصلها، ابتداءً، بتاريخ 25 يونيو 2005م، ضمن ورشة "المناصرة لمناهضة التَّعذيب" التي نظمها "مركز الأمل السُّوداني لعلاج وإعادة تأهيل ضحايا التَّعذيب ACTR"، خلال يومى 24 ـ 25 يونيو 2005م، بقاعة البنك الزِّراعي بالخرطوم، احتفالاً بالسَّادس والعشرين من يونيو ـ اليوم العالمي لمناهضة التَّعذيب، بالتَّعاون مع "الشَّبكة العربيَّة لعلاج وإعادة تأهيل ضحايا العنف والتَّعذيب ـ أمان"، و"المجلس العالمي لإعادة تأهيل ضحايا التَّعذيب ICTR".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)
قال تعالى في محكم تنزيله: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» (173 ؛البقرة). وعن ابن عبَّاس (رض) قال، قال رسول الله (ص): «رُفِعَ عَنْ أمَّتي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا استُكْرِهُوا عَليهِ» (رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما). وقال عمــر بـن الخـطاب (رض): «ليس الرَّجل بمأمون على نفسه إن أجعته أو أخفته أو حبسته أن يُقرَّ على نفسه»، وحدث أن جئ إليه بمن اعترف على نفسه بسرقة، فقال: «ما أرى يد الرَّجـل بسـارق»؛ فقـال الرَّجـل: «والله مـا أنا بسـارق، ولكنهم تهدَّدوني، فأقررت»، فخلَّى سبيله ولم يُقِم عليه الحد. ويؤثر عن عبد الله بن مسعود قوله: «ما مِن ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عنِّى سوطاً أو سوطين إلا كنت متكلماً به».

(2)
وقد اعتمدت الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، في 10 ديسمبر 1984م، اتِّفاقيَّة «مناهضة التَّعذيب» التي دخلت مرحلة النَّفاذ في 26 يونيو 1987م، اليوم الذي اعتُبر «يوماً عالميَّاً لمناهضة التَّعذيب»، فشكَّل فاصلاً أخلاقيَّاً بين عالمين في تاريخ البشريَّة: عالم تلك الممارسة البشعة، وعالم الضَّمير الإنساني الحي.
ومِن أغلى ما أهدى مجلس الوزراء السُّوداني الانتقالي، برئاسة عبد الله حمدوك، للشَّعب السُّوداني، في 23 فبراير 2021م، إجازته لـ «الاتفاقيَّة الدَّوليَّة لمناهضة التَّعذيب، وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانيَّة، أو المهينة لسنة 1984م»، بعد زهاء الثلاثة عقود من تعنُّت النِّظام الاسلاموي البائد، وإصرار واجهته السِّياسيَّة (المؤتمر الوطني)، على رفض إجازتها، فضلاً عن «الاتِّفاقيَّة الدَّوليَّة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لسنة 2006م».
عرض لقضيَّة التَّعذيب مفكِّرون وكتَّاب عرب ومسلمون كثر استندنا إليهم في هذه الورقة، ومنهم أحمد نشأت في الجزء الثَّاني مِن "رسالة الاثبات"، ومحمود محمود مصطفى في "ورقته إلى المؤتمر الدَّولي الثَّالث لقانون العقوبات، روما 1953م ـــ المجلة الدَّوليَّة لقانون العقوبات، عام1953م"، واللواء محمود عبد الرحيم في "التَّحقيق الجَّنائى العملى والفنِّى والتَّطبيقى، عام1963م"، وسامى صادق الملا في "اعتراف المتَّهم ـ دراسة مقارنة، عام 1969م"، ومحمد محى الدين عوض في "الاثبات بين الازدواج والوحدة، عام 1974م"، وأحمد موسى سالم في "قصص القرآن فى مواجهة أدب الرواية والمسرح، عام 1977م"، ومحمد رواس قلعة جى في "موسوعة فقه عمر بن الخطاب، عام1981م"، ود. سامى حسن نشأت في "شرح قانون تحقيق الجنايات، عام 1981م"، ووهبة الزحيلى في "الفقه الاسلامى وأدلته، ج 5، 1984م"، ونصر حامد أبو زيد في "الاتجاه العقلى فى التفسير، عام 1993م"، وهيثم منَّاع في "الضحيَّة والجلاد ـــ مِن مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، عام 1995م"، ولنفس المؤلِّف، مِن نفس المصدر، "حقوق الانسان فى الثقافة العربيَّة الاسلاميَّة، تقديم أحمد عبد المعطى حجازى، عام 1995م"، و"الانسان فى الثقافة الاسلاميَّة، عام 2000م"، و"الامعان فى حقوق الانسان ــ موسوعة عالميَّة مختصرة ، دار الأهالى 2000م"، وهادى العلوي، الأعمال الكاملة3، دار المدى، عام 2004م"، واستندنا، كذلك، إلى كُتَّاب، ومفكِّرين، وفلاسفة أجانب، منهم ف. إنجلز في رسائل متبادلة مع ك. ماركس، ومؤلَّفات أخرى، وول ديورانت في "قصَّة الحضارة"، ووليم هوايت، في «الاستعمار والمسيحيَّة»، و(39)Igor Bishchenko“International Law”, 1989، كما استندنا إلى مصادر موسوعيَّة أجنبيَّة، منها "التاريخ الشَّامل للعالم (باللغة الرُّوسيَّة)، المجلد 3، موسكو 1957م"، و "Encyclopedia Britanica, v. 22, London 1965, p. 314”.

(3)
«التعذيب» قديم قدم انقسام المجتمع الإنساني إلى طبقات اجتماعيَّة مصطرعة، وإلى أقليَّات حاكمة وأغلبيَّات محكومة. على صعيد العالم القديم كانت براءة المشتبه فيه تُختبر، في المجتمع البدائي، بتعريضه للوحوش، فإن كان بريئاً فإن الآلهة سوف تنجيه! هذا النِّظام اعتُمِد، لاحقاً، في القانون الانجليزي القديم، تحت مصطلح «قضاء الرب Judicium Del أو Judgement of God»، ويُطلق على المحاكمة التي تطبقه مصطلح «المحنة أو المحاكمة بالتَّعذيب Ordeal».
وينقسم هذا النِّظام إلى نوعين أساسيَّين:
أحدهما: «تعذيب النَّار Fire Ordeal» بأن يُجبر المتَّهم على الامساك بحديدة مُحمَّاة لدرجة التَّوهُّج، أو السَّير حافي القدمين، معصوب العينين، على قطع من الحديد المُحمَّى بذات الدرجة! أما الآخر: فيتفرَّع بطريقتين:
الأولى: «إختبار الماء السَّاخن Hot Water Ordeal» بإغراق ذراع المتَّهم في ماء يغلي، فإن سَلِمَتْ ثبتت براءته!
والثَّانية: «إختبار الماء البارد Cold Water Ordeal» بإلقائه، مكتوفاً، في نهر أو بحر، فإن غرق كان ذلك «دليلاً كاملاً!» على إدانته!
وفى صور أخرى لذلك النِّظام كان المتَّهم يجبَر على تعاطى السُّم، أو وضع لسانه على النَّار، فإن كان بريئاً فلن يؤثر فيه السُّم أو تحرق لسانه النَّارحسب الاعتقاد الذي كان سائداً آنذاك!
وعرف الصِّينيُّون، قديماً، ما سُمِّى بـ «قنطرة النَّار»، وهي حفرة واسعة مليئة بالجَّمر تُمدُّ عليها قنطرة نحاسيَّة نحيفة حتَّى تسخن، ثم يُرغم الضَّحيَّة على عبورها حافياً، فإمَّا أن يُثبت براءته بألا تحترق قدماه، وإما أن يرسب في الاختبار، فيتلجلج، فيسقط فى حفرة الجَّمر، ليموت مشويَّاً!
وكانت أشكال من هذا النظام معروفة أيضاً لدى عرب الجاهليَّة، حيث كان المشتبه فيه يُعَرَّض، مثلاً، بعد تحليفه، إلى طاسة مُحَمَّاة فى النار حتى تحمرَّ، ثم يُرغم على لعقها بلسانه، فإن كان بريئاً لم يُصب بسوء، وفق ذلك النِّظام المتخلِّف! وكان الرجل الذى يَعرض النار على المتهم الحالف يُسمَّى «المُهَوِّل». وفى إحدى قصائده يصوِّر أوس بن حجر حماراً وحشيَّاً يشيح بوجهه عن الشَّمس بقوله:
«إذا استقبلته الشَّمسُ صدَّ بوجههِ
كما صـدَّ عن نار المُهَـوِّل حالفُ»!
وما يزال هذا النِّظام معروفاً وسط بعض مجتمعات البدو، كما في صحراء سيناء.
وعند قدماء المصريين كان التَّعذيب، أيضاً، من الوسائل المشروعة لحمل المشتبه فيهم على الاعتراف، حيث كان الإله آمون يُستفتى فى المسائل الجَّنائيَّة، فيمثل المتَّهم أمام «تمثاله!»، ويسرد رئيس الكهنة الوقائع، ثم يسأله عمَّا إذا كان هذا المتَّهم بريئاً، فإن هزَّ «التِّمثال!» رأسه بالايجاب، أُخلى سبيلُ المتَّهم، وإلا أعيد إلى السجن ليُعذَّب حتَّى يعترف!
ومارس الاغريق القدماء، كذلك، نظام تعذيب المتَّهم، وقد أرسى أرسطو أساسه الفلسفي معتبراً إياه «خير وسيلة!» للحصول على الاعتراف. كما مارسه الرُّومان، لا سيَّما في أواخر عصر الجُّمهوريَّة. والغالب أن هذا النِّظام كان، فى أصله، رومانيَّاً.
ومارس الآشوريُّون تعذيب أسراهم بإجلاسهم على «الخوازيق»!كما استخدم العثمانيُّون «الخوزقة» كوسيلة تعذيب، وكوسيلة إعدام.
وفي التَّاريخ القروسطى الأوربي، خلال المواجهة بين العلماء والاكليروس الكنسي، استُخدم التَّعذيب وسيلة للحصول على الاعتراف، سواء في النِّظام الاتِّهامي الذى ساد، لاحقاً، في إنجلترا، وأمريكا، وسائر بلدان النِّظام الأنجلوسكسوني، أم في نظام التَّحقيق الفرنسي «القارِّي Continental». ففي إنجلترا ، مثلاً، كانت الطريقة السَّائدة هي إلقاء المتَّهم شبه عار في كهف مظلم تحت الأرض، ووضع ثقل من الحديد فوق جسده، ولا يُطعم أو يُسقى إلا الخبز الفاسد والماء الآسن، حتَّى يعترف أو يقضي نحبه!
ومنذ القرن الثَّالث عشر الميلادي انتشرت في أوربَّا، وبخاصة في إيطاليا، المحاكم سيِّئة السُّمعة التي دخلت التَّاريخ باسم «محاكم التفتيش Inquisition»، تحت دعاوى ملاحقة الهراطقة، باسم الكنيسة الكاثوليكيَّة، وقد مثَّلت إحدى أبشع صفحات الاستهداف للفكر السِّياسي المعارض للاقطاع آنذاك، وأتْبِعَت، مباشرة، للبابا ونوَّابه، حيث:
1/ استُخدم الحرق، خلال تلك الفترة، كوسيلة للاعدام البطيء، ومن أشهر ضحاياه جان دارك على أيدي الإنجليز. وأحرق الايطاليُّون بعض الفلاسفة والعلماء بعد قطع ألسنتهم، لتكلُّمهم بنظريَّات لا تقبلها الكنيسة، كما هدَّدوا آخرين بنفس المصير لإجبارهم على التَّراجع عن آرائهم العلميَّة. وأحرقت محاكم التَّفتيش الأسبانيَّة ألفي رجل عام 1483م. وأُحرقت كثير من الِّنساء في جنيف بعد أن اتهمهنَّ مجمع الكرادلة بممارسة السِّحر، وتحريض الشَّيطان على جلب الطاعون للمدينة!
2/ واستُخدم سلخ الجلود فى التِّبت حتَّى تحرير الإقليم عام 1951م. ويروي هادى العلوي، في كتابه «من تاريخ التَّعذيب في الإسـلام»، أنه شـاهد بنفسه، خلال عام 1977م، نماذج من تلك الجلود المسلوخة في «متحف معهد القوميَّات المركزي» ببكين!
3/ وأورد ف. إنجلز، في مؤلفه «حرب الفلاحين»، نماذج من الحرق، والصلم، والسَّمل، وجدع الأنف، كوسائل إقطاعيَّة للتَّعذيب، والإعدام البطيء!
4/ كما أورد واقعة القائد الفلاحي الهنغاري "دوشا" الذى تمَّ شيُِّه، ثمَّ خُيِّر أتباعُه، بين أكل لحمه مشويَّاً، وبين شيِّهم مثله!
5/ وفي رسالته إلى ك. ماركس فى ديسمبر 1865م، أورد ف. إنجلز، أيضاً، طرفاً من أعمال الإنجليز الدَّنيئة في تعذيب العبيد العُزَّل فى جامايكا!
6/ وأورد وول ديورانت، فى «قصَّة الحضارة»، وقائع ربط القادة الفلاحين، في ألمانيا، إلى عواميد تحيط بها نار هادئة ليموتوا مشويِّين، فضلاً عن التربيع، أي تقطيع الجَّسد إلى أربعة أجزاء وإنفاذ الأسياخ المحمَّاة فيه!
7/ كما كتب وليم هوايت، في «الاستعمار والمسيحيَّة»، عن «التَّعذيب» باعتباره «أفظع منظومة إجرام شهدها العالم»!
8/ وفي التَّاريخ الحديث صارت دلالة مصطلح «محاكم التفتيش» تنسحب على كل تحقيق تعسُّفي arbitrary، وكلِّ محاكمة لا تقيم اعتباراً لحقوق الانسان الأساسيَّة، وبخاصة متَّهمي الرأي والضمير.
9/ وامتدَّ الزَّمن الذي اعتُبر التعذيب، خلاله، وسيلة مشروعة لانتزاع الاعتراف، أو الانتقام من الاعداء، حتَّى الثَّورة البرجوازيَّة العظمى في فرنسا عام 1789م.

(4)
على هذا النَّحو ظلَّ التَّاريخ البشري مرزوءاً بسيرة التَّعذيب، حتَّى في أوربَّا التي ملكت العالم، وفرضت عليه مركزويَّتها الحضاريَّة والثَّقافيَّة.
لكن، على حين هُرعت أغلب بلدان العالم، مع تطوُّر القيم الإنسانيَّة، للتَّخلص من دنس ممارسات التَّعذيب، تشبَّث النِّظام الشُّموليُّ الاسلاموي البائد بهذه الممارسة الشَّنعاء، رافضاً، رفضاً باتَّاً، اعتماد الاتِّفاقيَّة الدَّوليَّة، وحارماً بلادنا وشعوبنا، لعقود طويلة، من الصُّعود إلى مراقي العدل والصَّفاء الإنسانيَّين، حتَّى اندلاع ثورة ديسمبر 2018م المجيدة.

***