فِي ذِكْرَى اسْتِشْهَادِ بَائِعٍ مُتَجَوِّل!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 6038 - 2018 / 10 / 29 - 14:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ربَّما، لألف سبب وسبب، حقَّ لوجدان صديقي الشَّاعر الدِّينكاوي الرَّاحل سِرْأناي كِلولجانق، أوان انهماكه، قبل أكثر من ثلاثين سنة، في نسج أكثر أعماله الشِّعريَّة اكتنازاً بضيمه "الطبقي/ الإثني" المزدوج، ألا يهجس سوى بصورة الأفندي، الجَّلابي، السُّلطوي، المستعلي، القامع التي يجسِّدها "إبن العَمَّة محمَّد"، المسترخي على رياش مكتبه الخطير، الوثير، الفخيم، الفاخر، مكيَّف الهواء، يصدر الأوامر بشنِّ "الكشَّة" تلو "الكشَّة" على جحافل اليتامى، والمساكين، وأبناء السَّبيل من العبيد، والرِّجرجة، والدَّهماء، والغوغاء، والسُّوقة، من جميع الإثنيَّات، بمن فيهم الجَّلابة أنفسهم!
لهذا كان لزاماً على ذلك "البان آفريكانست" المبدع الماجد أن يرفع رأسه من جُبِّ الثُّنائيَّة الإثنيَّة المتناحرة التي تفجِّر من أعماقه نهنهة وحيدة: "حين يسمعنى أغنِّى للحريَّة، والعدالة، والمساواة يغضب/ ويصرخ في وجهي: وأنت يا عَبـِد .. تريد أيضاً أن تكون حُرَّاً ومساوياً لي؟!"، وذلك كي يحسن تقدير نموذج "الضَّيم الطبقي" المغاير لوهم "الحظوة الإثنيَّة"، مِمَّا يجسِّد الفتى الجَّلابي، المدقع، المعدم، المحروم، المرزوء بالفاقة والعوز محمَّد نصر الدِّين الذي ركله الفقر، بكعب حذائه، من المناقل، ذات صباح قريب، مثلما كاد يركل سِرْأناي نفسه، من رمبيك، ذات صباح بعيد، خارج عالم أقران المدرسة، ومراتع الصِّبا.
هكذا انقذف محمَّد نصر الدِّين من المناقل إلى الخرطوم، يأخذ دنياها غلابا، ويشيل حمَّارة قيظها، طوال النَّهارات، على أمِّ يافوخه، "من دغش الصُّبح إلى انحباس الضَّوء في المساء"، كما في إنشاد صلاح احمد إبراهيم، جائلاً يبيع، في أزقَّتها، ومواقف حافلاتها، وأسواقها الكبيرة والصَّغيرة، بلا رخصة، ولا جنس ورقة ثبوتيَّة، ما تيسَّر من ألوان علك، وكباسين، وأزرار، ومساويك، وأمشاط شعر، ومشابك غسيل، وكلَّ سقط متاع مِمَّا يعدُّون، يزوِّده به، مع كلِّ مطلع شمس جديدة، طفيليَّون، غاسلو مال حرام، وناهبو أقوات فقراء من جميع الإثنيَّات، جلابة وغير جلابة!
كان ذلك الشاعر الإشتراكي الأفريقي المتأثِّر بالماركسيَّة، عقلاً وعاطفة، قد أدرك، باكراً، أن أولئك هم من يوفرون رغد عيش "ابن العمَّة محمَّد"، على حساب مسحوقين كثر من شتَّى المِلل والنِّحل السُّودانيَّة، بمن فيهم حتَّى أبناء جلابة كمحمَّد نصر الدِّين نفسه، وغيره! فكان لزاماً على "ابن العمَّة محمَّد"، أن يجيِّش عسسه يطاردون محمَّد نصر الدِّين هذا، باسم الرَّافلين في السَّيَّارات المكيَّفة، والبيوت المكيَّفة، والمكاتب المكيَّفة، في ذلك النهار الخرطومي الذي تدلت شمسه "فرناً فوق رءوس البشر"، على قول الطيِّب صالح، تماماً مثلما يطاردون شول، وأدروب، وبخيتة، وآدم، وسائر من يتراكضون في القِبَل الأربع، كما القطط الجَّبليَّة، محاصرين، يتشبَّثون بسلعهم البخسة التي يخافون عليها أكثر مِمَّا يخافون على حيواتهم ذاتها!
هكذا انطلق محمَّد نصر الدِّين الذي مرَّت ذكرى استشهاده العاشرة في الثَّاني والعشرين من سبتمبر المنصرم، يلهث، ويلهث، ويلهث، حتى انقطعت أنفاسه، وهو الذي لم تُسكِت جوعته، منذ صباح الرحمن، لقمة، أو تبلَّ يباس حلقه جرعة ماء. وراحوا يتحشَّدون من حوله، ويتكاثرون، ويتزايدون، حتى انغلقت حلقتهم عليه، تماماً، بالبنادق، والسِّياط، والهرَّاوات، وهُم، بعدُ، فيالق مدقعين مثله، تركوا وراءهم، بأكواخ أطراف المدينة، منذ الفجر الباكر، زوجات عجفاوات، وزغب حواصل، كأفراخ القطا، ينتظرون عودتهم، في المساءات، بما يسدُّ الرَّمق.
نظر حوله، بعيون واجفة مذعورة، فلم يجد من مسرب سوى هيكل بناية تحت التَّشييد، طار يتسلقها، دونما أدنى تبصُّر، والرُّعب يعصف به عصفاً، فلكأنما كان يبتغي اللواذ مِن قسوة الأرض برحمة السَّماء! صعد، وصعد، وصعد، ولمَّا لم تعُد ساقاه تتحمَّلان .. واصل الصُّعود! ولمَّا لم تعُد عيناه تبصران .. واصل الصُّعود! ولمَّا أطبقت أضلاعه على رئتيه .. واصل الصُّعود! لكنه، لمَّا زلت قدماه، بغتة، في نهاية المشهد، تلاشى .. كرفَّة جناح، تلاشى .. كصدى كتيم، تلاشى .. كبصقة في الهواء!
الحلم الاشتراكي الذي لطالما تشبَّث به سِرْ أناي، لا يتحقَّق، فقط، حسب قصيدته "إبن عمَّتي محمد"، بعودة "ابن العمَّة" هذا سيرته، قبل الاستقلال، على نبل هذه العودة، لـ "يبشِّر" بمنظومة الحقوق الدُّستوريَّة، بـ "الحريَّة والعدالة والمساواة للجميع/ لكلِّ السُّودانيين/ بغضِّ النَّظر عن العِرق، أو القبيلة، أو الدِّين"، وإنما يتحقَّق، يقيناً، يوم يكون الحاكم، فعلاً لا قولاً، "إبناً لكلِّ الشَّعب/ وديموقراطيَّاً حقيقيَّاً يبذل نفسه لخير الكادحين المسحوقين"؛ يتحقُّق يوم لا تعصف بعقل "ابن العمَّة" خمرة السُّلطة "فتصبح هي عقيدته، وماله، وهناؤه، وسعادته، وأمنه"، ويصبح هو "مسكيناً .. هكذا يعوِّل على السُّلطة وحدها في إخضاع الخصوم"؛ يتحقَّق يوم يكفُّ "ابن العمَّة" عن تسخير ما انفرد به من حظ في التَّعليم لأنانيَّته الطبقيَّة "فكلما تعالى صراخ الجَّوعى كان لديه من الذُّرة ما يكفى أهل بيته/ أطفاله متخمون/ ومع ذلك فهو نذل بما يكفي لازدراء المدقعين/ الذين هم بالكاد على وجبة واحدة في اليوم يحصلون/ قابعاً، متبطلاً، في مكتبه الغاصِّ بالسِّجاد، والطنافس، والهواء المكيَّف/ ومشغولاً بإصدار تعليمات يسميها الأمر رقم كذا والأمر رقم كذا/ غافلاً عن أن التَّنمية هي حقُّ الجِّباه التي تتفصَّد بعرق الكدح الشَّريف/ وعلى حين لا يحسن حتَّى رسم خطة/ أو اتخاذ قرار يحظر استغلال البشر/ لا ينفكُّ يتضجَّر من أن المدن صارت مزدحمة بالخلق/ فينبغي إرغامهم على الرُّجوع إلى أريافهم النَّائية/ لينكبُّوا على إنتاج غذائهم هناك بأدواتهم البدائيَّة/ لذا لا ينفكُّ يصرخ، صباح مساء، بأن قانون (الكشَّة) ينبغى تفعيله/ كون المتبطلين يشكِّلون تهديداً للحكومة/ لكن النَّاس، لو يعلم ابن العمَّة، لا يكفُّون عن الرُّجوع، المرَّة تلو المرَّة، إلى المدينة الكبيرة/ لأنهم، ببساطة، يريدون أن يكونوا قريبين من القصر/ حيث لا تكفُّ النُّخبة عن اجتراح ما يُبقي على عذاباتهم"! (المجتزءات من مجموعة سِرْأناي الشِّعريَّة "وهمُ الحريَّة وقصائد أخرى the Myth of Freedom and Other Poems"، الصَّادرة بالانجليزيَّة عن "دار نيو بيكون للنَّشر" بلندن عام 1985م).

***