درس الجنائية الدولية .. الكيني!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 5859 - 2018 / 4 / 28 - 20:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

من غير الممكن ألا يلفت نظر المراقب للعلاقات البينيَّة الأفريقيَّة خبر الزِّيارة التي قام بها وليم روتو، نائب الرَّئيس الكيني، إلى السَّودان، من 9 إلى 11 أبريل الجاري، خصوصاً الإشارة المنسوبة إلى مصادر دبلوماسيَّة بأن روتو احتقب، في هذه الزِّيارة، رسالة "طمأنةٍ" للرَّئيس السُّوداني عمر البشير من "المجتمع الإقليمي"، ما يعني دول القارَّة، أو دول "الإيقاد"، على الأقلِّ، لأجل حثِّه على "المضيِّ قدماً نحو المصالحة الوطنيَّة، والتَّحوُّل الدِّيموقراطي، واستكمال السَّلام مع الحركات التي تحمل السِّلاح" (موقع "الضَّواحي" على الشَّبكة؛ 9 أبريل 2018م).
وفي ارتباط مع ذات المضمون أبرزت المصادر، من جانب آخر، زيارة البشير إلي رواندا، والتي سبقت ذلك خلال الأسابيع الماضية، وأثرها الطيِّب في التَّعرُّف على خبرة الحكومة الرُّوانديَّة في "تجاوز مرارات الحرب، والإبادة الجَّماعيَّة، بين قبليتي التُّوتسي والهوتو" (المصدر نفسه).
وفي ما يتَّصل، مباشرة، بالنِّزاع مع المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، شدَّدت المصادر، بالأخص، على طرح روتو، ضمن مباحثاته مع الرِّئاسة السُّودانيَّة، خبرة الرِّئاسة الكينيَّة في تعاملها مع المحكمة، حيث كان كلا الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، ونائبه، متهمين فيها، غير أنَّهما اختارا أن يذهبا إليها، كأوَّل رئيس ونائبه يمثلان أمامها، فبرَّآ ساحتيهما (المصدر نفسه).
ورغم أن بيان الزِّيارة الختامي، في 12 أبريل 2018م، لم يحمل أيَّة إشارة للجَّنائيَّة الدَّوليَّة، إلا أن ما تواتر بين سطور الأخبار ينثر ضوءاً على هذه المسألة، وإن بلغةٍ مغرقةٍ في الدِّبلوماسيَّة، حيث ركَّز الفريق أوَّل بكري صالح، نائب البشير، مثلاً، على الدَّعوة إلى مزيد من "التَّعاون والتَّنسيق" مع كينيا في القضايا ذات "الاهتمام المشترك"، فضلاً عن الاتِّفاق على رؤية "تجسِّر نقل المعارف والخبرات" (أ ش أ ؛ 9 أبريل 2018م). كما أكَّد نائب الرَّئيس الكيني الزَّائر، من خلال تصريحاته الصَّحفيَّة عقب لقائه مع البشير، على أن كينيا "سوف تقف إلى جانب الحكومة السُّودانيَّة والرَّئيس البشير" (وكالات؛ 10 أبريل 2018م).
سداد هذه القراءة بين السُّطور سرعان ما تتَّضح بمجرَّد إدراك أن هذه المحكمة تمثِّل "أهمَّ القضايا المتشابهة ذات الاهتمام المشترك" بين كينيا والسُّودان، وما يقتضي "وقوف" الأولى مع الثَّاني في الوقت الرَّاهن، وما يستوجب "تجسير" نقل "الخبرات" بين الطرفين، من زاوية نظر النَّائب الأوَّل للرَّئيس السُّوداني.
أما الموقف الأفريقي الذي حرص روتو على نقل رسالته إلى البشير فقد مرَّ بمرحلتين متناقضتين خلَّفتا التباساً فيه، بل وفي الموقف الكيني على وجه الخصوص. ففي البداية، وبأثر من شحن سياسي هائل لعبت فيه كينيا، بالذَّات، دوراً أساسيَّاً، دعت القمَّة الأفريقيَّة المنعقدة بأديس ابابا، في مايو 2012م، الدُّول الأفريقيَّة الأعضاء في المحكمة للانسحاب منها، متَّهمة إيَّاها بأنَّها حادت عن هدفها الرَّئيس في إنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب impunity لتتخصَّص في ملاحقة القادة الأفارقة! واتَّخذ البرلمان الكيني نفس الموقف، حيث قرَّر سحب اعترافه بالمحكمة. على أن قرار القمَّة الأفريقيَّة لم ينفَّذ، وسبب ذلك، في ما يبدو، استمرار أغلبيَّة دول القارَّة الأعضاء فيها، بل استمرار أغلبيَّة دول العالم في عضويَّتها، تتصدرها دول الاتِّحاد الأوربِّي المؤثِّرة في مراكز الاقتصاد الدَّولي، والأفريقي بالذَّات. ثمَّ ما لبث الموقف الكيني نفسه أن انقلب يظاهر النُّكوص عن القرار، لنفس السَّبب، حيث فضَّل كينياتا ونائبه، بعد توليهما الحكم، في مارس 2013م، الامتناع عن مواجهـة أغلبيَّة العـالـم، خصـوصـاً وقـد صـرَّح فادى آل عبد الله، متحدث المحكمة، بأن آثار قرار البرلمان الكيني، حالَ تنفيذه، "سوف تقتصر على المستقبل فقط، ولن تنسحب على الماضي"!
هكذا عدلت الرِّئاسة الكينيَّة خطتها تجاه المحكمة، ففضَّل الرَّئيس ونائبه المثول أمامها، كما فعل الشئ نفسه الصحفي الإذاعي جوشوا سانج، المتَّهم الثَّالث معهما في نفس القضيَّة. وبصرف النَّظر عمَّا انتهت إليه تلك الإجراءات من أحكام ببراءة ثلاثتهم، وإن وقع ذلك بسبب ضعف قضيَّة الإتِّهام، فإن الأهمَّ أن تلك الأحكام ما كانت لتصدر، أصلاً، لولا اختيار المتَّهمين التعامل مع المحكمة بنهجها القانوني، لا بالنَّهج السِّياسي، ما أتاح لهم توكيل محامين قدَّموا الدُّفوع القانونيَّة التي انبنت عليها تلك الأحكام. ذلك، إذن، هو مضمون الدَّرس الذي يمكن لكينيا أن تهديه.
أمَّا الإغواء، مثلاً، بتفعيل المادَّة/16 من "النِّظام"، فإنه لن يستبعد الاتِّهام، وإنَّما سوف ينحصر، فحسب، وفي أفضل الاحتمالات، في طلب مجلس الأمن إلى المحكمة إرجاء الإجراءات لمدة سنة!
وأمَّا الحلول الأخرى المتوهَّمة، من سنخ الطلب، مثلاً، إلى مجلس الأمن أن يسحب من أمام المحكمة ملفاً سبق أن أحاله إليها، فهو حلٌّ دونه خرط القتاد، إذ أنه إجراء سياسي مستحيل في مواجهة نصوص قانونيَّة ليس بينها ما يمكن أن يسعفه!
وأمَّا الحلُّ الرُّواندي فقد استند، بالأساس، على تقديم مقترفي المذابح إلى المحكمة الجَّنائيَّة الخاصَّـة التي تكـوَّنت بأمـر مجلس الأمن الدَّولي، وانعقدت بأروشـا في تنزانيا.
وأمَّا حديث التَّحوُّل من الشُّموليَّة إلى الدِّيموقراطيَّة، أو من الحرب إلى السَّلام، انتهاءً بالمصالحة الوطنيَّة، فذاك حديث "العدالة الانتقاليَّة" بتطبيقاتها التي عرفتها عشرات البلدان حول العالم، على نهج "الحقيقة ـ الانتصاف ـ المصالحة الوطنيَّة"، حسب ما شهدت، في القارَّة، مثلاً، بلدان كجنوب أفريقيا والمغرب. غير أن نهج "العدالة الانتقاليَّة" ليس مِمَّا يعتمده "نظام روما"، للأسف، كي تقرِّر المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، في ضوئه، أن دولة ما قد أثبتت "رغبتها" في، و"قدرتها" على تطبيق العدالة بالنِّسبة لقضايا من اختصاص المحكمة، فتحول دون تدخُّلها.
الآلية الوحيدة التي يمكن بموجبها إدراج "العدالة الانتقاليَّة"، جنباً إلى جنب "العدالة التَّقليديَّة"، ضمن الإجراءات التي قد تحول دون تدخُّل المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، هي تعديل "نظام روما" لهذا الغرض، الأمر الذي لا يكون إلا من خلال أحد المؤتمرات الدَّوريَّة التي تعقدها الدُّول الأعضاء مرَّة كلَّ سبع سنوات، وفق المادة/123 من "النِّظام".

***