البلدوزر


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 5753 - 2018 / 1 / 10 - 00:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

(1)
عندما يلقِّب شعب أفريقي رئيسه بـ "البلدوزر"، فإن أوَّل ما يتبادر إلى ذهنك، ولا بُدَّ، هو أن هذا اللقب ينصبُّ، بشكل غير مباشر، على الدَّلالة المعنويَّة لصلابة هذا الرَّئيس، وطاقته الخارقة على اكتساح المشاكل، مهما عظمت، واجتراح الحلول لها، بالغاً ما بلغت من الصُّعوبة والتَّعقيد. لكن حين يباغتك مشهد هذا الرَّئيس المنتخب للتَّو، وقد ألغى حفل تنصيبه، وتقدَّم مواطنيه، وهو في بنطال جينز، ليجمع القمامة من شوارع عاصمته، بمِجرفة في يده، توفيراً لتكاليف نظافتها من ميزانيَّة دولته الفقيرة، واستنهاضاً لقيم العمل الطَّوعي في أعماق نفوس أبناء شعبه الكبيرة، فإن اللقب ربَّما يتجاوز، عندئذٍ، محض دلالته "المعنويَّة"، لينفذ إلى دلالة "مادِّيَّة" مباشرة!

(2)
نمــوذج هـذه الحـالـة، المفارق للشَّائع من سادة أفريقيا الجُّدد الذين انمسخوا، بفعل التَّشبُّه بالمستعمر، هو، بلا شك، رئيس تنزاني جون ب. ماغوفولي (1959م ـ ...)، المنتخب في 2015م، والذي تولى، خلال الفترة الممتدَّة من 2000م، حقائب وزارات "العمل"، و"الأراضي والمستوطنات البشريَّة"، و"الأسماك والثَّروة الحيوانيَّة"، على التَّوالي، مثلما كان نائباً برلمانيَّاً منذ العام 1995م. تمجيد هذا النَّموذج، بوجه عام، هو تمجيد، في الواقع، لأكثر القيم الأفريقيَّة التي تتَّسم بالرِّفعة والنُّبل، والمتوارثة شعبيَّاً دون أن تستطيع طمسها في أنفس البسطاء كلُّ الملوِّثات الإستعماريَّة، برغم نجاح هذه الملوِّثات، للأسف، في إنتاج أنظمة تابعة، وصناعة زعماء وقادة وحكَّام فاسدين، في بلدان تعاني الفقر، والفاقة، والتَّخلف المادِّي؛ وهي ذات القيم التي سعى لاستنهاضها، حثيثاً، آباء ومنظرو "الاشتراكيَّة الأفريقيَّة" الأوائل، من لدن نكروما ونايريري وسيكوتوري وأضرابهم، بحسبان أصالتها، بل وأصالة فكرة "الاشتراكيَّة"، عموماً، على اختلاف مدارسها في القارَّة، وفق أطروحتهم نفسها.
(3)
النَّماذج المضادَّة لأولئك الآباء المنظِّرين رصدها، على سبيل المثال، الرِّوائي المبدع الطيِّب صالح، في "موسم الهجرة إلى الشَّمال"، حيث وصفهم، بلسان الرَّاوي، وقد التقى بهم في مؤتمر أفريقي عن التَّعليم، بأنَّهم "مُلس الوجوه، أفواههم كأفواه الذِّئاب، تلمع في أيديهم ختم من الحجارة الثَّمينة، وتفوح نواصيهم برائحة العطر، في أزياء بيضاء، وزرقاء، وسوداء، وخضراء، من الموهير الفاخر، والحرير الغالي، تنزلق على أكتافهم كجلود القطط السِّياميَّة، والأحذية تعكس أضواء الشَّمعدانات، تصرُّ صريراً على الرِّخام .. تدارسوا، تسعة أيَّام، في مصير التَّعليم في أفريقياً، في (قاعة الإستقلال) التي بنيت لهذا الغرض من الحجر، والأسمنت، والرِّخام، والزُّجاج، مستديرة كاملة الإستدارة، وُضع تصميمها في لندن، ردهاتها من رخام أبيض جُلب من إيطاليا، وزجاج النَّوافذ ملوَّن، قطع صغيرة مصفوفة بمهارة في شبكة من خشب التيك، أرضيَّة القاعة مفروشة بسجاجيد عجميَّة فاخرة، والسَّقف على شكل قبَّة مطليَّة بماء الذَّهب، تتدلى من جوانبها شمعدانات كلُّ واحد منها بحجم الجَّمل العظيم. المنصَّة حيث تعاقب وزراء التَّعليم في أفريقيا طوال تسعة أيَّام من رخام أحمر كالذي في قبر نابليون في الانفاليد، وسطحها أملس لمَّاع من خشب الأبنوس. على الحيطان لوحات زيتيَّة، وقبالة المدخل خريطة واسعة لأفريقيا من المرمر الملوَّن، كلُّ قُطر بلون .. الوزير الذي قال في خطابه الضَّافي الذي قوبل بعاصفة من التَّصفيق: (يجب ألا يحدث تناقض بين ما يتعلمه التِّلميذ في المدرسة وبين واقع الشَّعب، كلُّ من يتعلم اليوم يريد أن يجلس على مكتب وثير تحت مروحة، ويسكن في بيت مكيَّف الهواء، محاط بحديقة، يروح ويجيء في سيارة أمريكيَّة بعرض الشَّارع، إننا إذا لم نجتثَّ هذا الدَّاء من جذوره تكوَّنت عندنا طبقة برجوازيَّة لا تمتُّ إلى واقع حياتنا بصلة، وهي أشدُّ خطراً على مستقبل أفريقيا من الاستعمار نفسه) .. هذا الرجل بعينه يهرب أشهر الصَّيف من أفريقيا إلى فيلته على بحيرة لوكارنو، وزوجته تشتري حاجياتها من هارودز في لندن، تجيئها في طائرة خاصَّة"!

(4)
أمَّا ما ينأى بتمجيدنا للتَّنزاني ماغوفولي عن نهج التَّهاويل الكاسـدة التي درجت عليهـا أجهزة الصَّحافـة والإعـلام الرَّسميَّة فـي القـارَّة، فهو أنه نفَّذ، مثلاً، فى نوفمـبر 2015م، بعـد أيَّـام قلائل مـن انتخابـه، سياسـة تقشُّـف، خـفَّض، بموجـبها، مـرتَّبه الشَّهري إلى 4,000 دولار، مقارنة بالرَّئيس الكيني (14,000 دولار)، والجَّنوبأفريقي (20,000 دولار)؛ وقلص مجلس وزرائه من 30 وزيراً إلى 19، وألزمهم بالكشف عن أرصدتهم المصرفيَّة وممتلكاتهم، والتَّوقيع على تعهدات بالنَّزاهة؛ كما حظر إرسال بطاقات المعايدة في الكريسماس ورأس السَّنة، على أن تستخدم الميزانيَّات المرصودة لها في تسديد ديون الحكومة؛ وألغى، كذلك، احتفالات عيد الاستقلال، وحوَّل ميزانيَّتها لمحاربة وباء الكوليرا، حيث أن الاحتفال في تلك الظروف، على حدِّ تعبيره، سيكون أمراً مخزياً للدَّولة؛ وقلص مبلغ 100 ألف دولار مخصصَّة لحفل افتتاح البرلمان إلى 7 ألف فقط، ووجَّه باستخدام فرق المبلغ في شراء أسرَّة ومعدَّات لمستشفى كبير كان قد تفقَّده، دون سابق إنذار، فوجد مرضاه يفترشون الأرض، ومعدَّاته معطلة، فقام بفصل جميع أعضاء إدارته، وعيَّن، بدلاً منهم، إدارة جديدة أمهلها أسبوعين لإصلاح الأوضاع، فأصلحتها في .. ثلاثة أيَّام فقط! وإلى ذلك قيَّد سفر المسؤولين للدُّول الأجنبيَّة مكتفياً بعمل السُّفراء، وفي الحالات الإضطراريَّة منع هؤلاء المسؤولين من السفر على مقاعد الدَّرجة الأولى في الطائرات؛ وفي لقاء للكومنولث أرسل 4 مسؤولين فقط ليمثلوا البلاد، بدلاً عن 50 جرت العادة على مشاركتهم! وأمر ببيع كلِّ عربات الدَّفع الرُّباعي الفارهة المملوكة للدَّولة، واستبدلها بعربات صغيرة الحجم من ماركة "قيتز"! كما قلص مظاهر الرَّفاهية المتمثِّلة في عقد المؤتمرات في الفنادق الضَّخمة؛ وفى أبريل الماضى لقب بـ "قاهر الفساد" لفصله أكثر من 9,900 موظف كشفت التَّحقيقات عن أن شهاداتهم مزوَّرة، مثلما لم يتردَّد في إقالة مسؤولين بارزين ثبت تورُّطهم في عمليَّات فساد، فضلاً عن حملة كان شنَّها، في مارس 2016م، وكشفت عن آلاف الموظفين الحكوميين الذين يتقاضون رواتب ولا يؤدُّون أىَّ عمل، فاتَّخذ في مواجهتهم إجراءات شملت طردهم من الخدمة، وفضحهم بنشر أسمائهم؛ وعندما تقدَّم بعض المنافقين، عشيَّة انتهاء فترة رئاسته، باقتراح لتعديل الدُّستور، كي يمكن إعادة انتخابه لـ 20 عاماً، حسم الأمر، بصرامة، في مؤتمر شعبي، قائلاً إنه يحترم الدُّستور، ولن يقبل بتعديله، وسيلتزم بتسليم السُّلطة فور انتهاء مدَّة رئاسته الحاليَّة.

(5)
القطع، إذن، بأن ماغوفولي نموذج للفرادة والاســتثناء الأفريقيَّين ليس محض لعب بالألفاظ، وإنَّما يعني أنه، في ما عدا قلة ضئيلة من أطهار الأيدي والسَّرائر، ليس، فقط، متميِّزاً، جملة وتفصيلاً، عن غالب ما ابتليت به أفريقيا من حكام، بل وأنه، في حقيقة الأمر، متجاوز، في فرادته واستثنائيَّته، حتَّى لهذه القلة، بحيث يصدق وصفه بأنه نسيج وحده .. قولاً واحداً!