الاعْتِرافُ لَيْسَ دَائِمَاً .. سَيِّدَ الأَدِلَّة!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 5616 - 2017 / 8 / 21 - 15:49
المحور: دراسات وابحاث قانونية     

(1)
قبل أيَّام حكم القضاء الصِّيني بصرف تعويض قدره 1.3 مليون دولار لأربعة أشخاص كانوا قد أدينوا، خطأ، عام 2003م، وبناءً على (اعترافهم)، بقتل صاحب متجر واغتصاب رفيقته، وحوكموا بالإعدام الذي كاد أن يُنفَّذ، لولا أن الحكم جرى تخفيفه، لاحقاً، إلى السِّجن المؤبَّد. قضى أولئك المحكومون أكثر من 14 عاماً خلف القضبان حتَّى اعترف شخص آخر، فجأة، بارتكاب تلك الجَّريمة. وطوال تلك السَّنوات دأب أربعتهم على الجأر ببراءتهم، والشَّكوى لطوب الأرض من الظلم الواقع عليهم، حيث ظلوا، حسب وسائل إعلام صينيَّة، يصرخون، دون أن يعيرهم أحد أذناً صاغية، بأن الاعتراف الذي أدينوا بموجبه انتُزع منهم، انتزاعاً، تحت وطأة تعذيب وحشي مارسته عليهم الشُّرطة.

(2)
حالة هؤلاء الأربعة ليست استثناءً لا يُقاس عليه في الصِّين؛ فخلال الأعوام الخمسة الماضية، فقط، اضطرَّت المحاكم هناك لإسقاط أكثر من 30 حكماً مبنيَّاً على اعتراف ثبت خطؤه، بمعدَّل حكم كلَّ شهرين، ما جعل السُّلطة القضائيَّة الصِّينيَّة تنظر بعين الرِّيبة للاعترافات، وتنحو، في أحكامها، إلى الضَّغط على أجهزة الشُّرطة والتَّحقيق والاتِّهام لإرغامها على تقديم أدلة أكثر وثوقاً من مجرَّد اعترافات المتَّهمين التي حوَّلتها هذه الأساليب الخسيسة إلى أدلَّة مشكوك في صدقيَّتها! كما أن منظمات الدِّفاع عن حقوق الإنسان العالميَّة ما تزال تسدِّد نقدها القاسي للحكومة الصِّينيَّة، جرَّاء عدم جدِّيَّتها في غلِّ أيدي أجهزتها الرَّسميَّة عن ممارسة التَّعذيب، وقمع حرية التَّعبير، خصوصاً في مجالي السِّياسة والفن (بي بي سي؛ 6 أغسطس 2017م).
ولا بُدَّ أن ضمير القضاء الصِّيني، وهو ينتهج هذا النَّهج، قد ارتجَّ، حدَّ الزَّلزلة، إزاء مشهد الضَّحايا يُساقون، بكعوب البنادق، معصوبى الأعين، موثقي الأطراف، مكبِّين على الوجوه، عبر أقبية معتمة تنشع منها الرَّوائح الزَّنخة، والرُّطوبة الملحيَّة، ليُحشروا في زنازين ضيِّقة تكلست الحياة فى جنباتها الخانقة، واختلطت، فوق أرضها الصَّلبة العارية، وجُدُرها الصَّخريَّة الشَّائهة، لطعات الدَّم بلطعات المخاط، والغائط، والصَّديد، والعرق! ولا يخرج منها مَن تُكتب له معجزة حياة أخرى إلا ميتاً في الأحياء، شبحاً مهشَّم النَّفس، مثخناً بجراح الرُّوح والبدن، متوجِّساً هلعاً حتى من ظله، يلتمس الأمان في العزلة، والصَّمت المطبق، يحاول اتِّقاء بهرة الشَّمس بأصابع راجفة، منكفئة على عينين كابيتين يترقرق في محاجرهما دمع زئبقىٌّ لا يجفُّ ولا يسيل، وصاحبهما ما ينفكُّ يجفل فزعاً من مجرَّد تذكُّر ما يكون رأى أو سمع في ذلك البرزخ الخرافىِّ بين الحياة والموت!

(3)
يقع كلُّ ذلك حين لا يستشعر المُحقِّق وازعاً من دين أو خلق، أو حتَّى أوهى شعور يحول دون استقوائه على مستضعف بلا حَوْل ولا طوْل، كتلة آدميَّة زائغة النَّظرات، مسحوقة الأعصاب، واجفة الفرائص، يابسة الشَّفتين، مغلولة اليدين، منزوعة من سياق الحياة، كما تُنزع ورقة بالية من دفتر قديم، ومغمورة حتَّى فروة الرَّأس في لجج الرُّعب السَّاحِق، والذلِّ الماحِق، والألم المُمِضِّ، خصوصاً حين لا يلمس هذا المُحقِّق رادعاً من رقابة دستوريََّّة تكفُّ يده الغليظة، ونفسه السَّوداء، عن العبث بحياة الآدميين، والاستهانة بكرامتهم، أو حين لا يتوقع مساءلة قضائيَّة، أو إداريَّة، تلزمه جادَّة المناهج الحديثة التي راكمتها قرون التَّطوُّر المعرفي في حقل العلوم القانونيَّة، وسيَّجتها بالمعايير الدوليَّة لضمانات حقوق الإنسان، وأشراط المحاكمة العادلة، فيركلها جميعاً ليذهب إلى مناهج تحقيق موغلة في التَّخلف والتَّوحُّش، مِمَّا كانت تعتبر، في العصور البدائيَّة، وسائل (مشروعة) لاختبار البراءة.
في تلك العصور كان المتَّهم يعرَّض للحيوانات المفترسة، أو يُرغم على الإمساك بحديد مُحمَّى فى النار، أو السير حافى القدمين، معصوب العينين، على قطع من هذا الحديد المُحمَّى، أو تُطمر ذراعه فى ماء يغلي، أو يُلقى، مكتوفاً، في نهر أو بحيرة، فإن كان بريئاً فإن الآلهة سوف تنجيه! وقد اعتمِد هذا النظام، لاحقاً، فى القانون الانجليزى القديم تحت مصطلح (قضاء الرب Judicium Del أوJudgement of God).
وفى صور أخرى لهذا النظام كان المتَّهم يُجبر على تعاطي السُّم، أو وضع لسانه على النَّار، فإن كان بريئاً فلن يؤثر فيه شئ من ذلك! وكانت أشكال من هذا النظام معروفة لدى عرب الجَّاهليَّة، حيث كان المشتبه فيه يُرغم على لعق طاسة مُحَمَّاة في النَّار بلسانه، فإن كان بريئاً لم يُصب بسوء! وما يزال هذا النظام معروفاً وسط البدو فى سيناء.
ولدى قدماء المصريين كان الإله (آمون) يُستفتى، فى عهد الأسرة العشرين، خلال القرن الحادى عشر قبل الميلاد، حيث يمثل المتَّهم أمام (تمثاله!)، فيسأله رئيس الكهنة عمَّا إذا كان هذا المتَّهم بريئاً، فإن هزَّ (التمثال!) رأسه بالايجاب أخلى سبيل المتَّهم، وإلا فلا! ولدى قدماء الإغريق، أيضاً، أرسى أرسطو الأساس الفلسفي للتَّعذيب، معتبراً إياه (خير وسيلة!) للحصول على الاعتراف. كما مارسه الرُّومان فى أواخر عصر الجُّمهوريَّة.
وفى التَّاريخ القروسطي الأوربي، فى ملابسات المواجهة بين العلماء والاكليروس الكنسي، استُخدم التَّعذيب، فى النظامين الأنجلوسكسوني والقارِّي. وكانت الطريقة المتَّبعة في إنجلترا هى إلقاء المتَّهم شبه عار في كهف مظلم تحت الأرض، ووضع ثقل من الحديد فوق جسده، وتقديم الخبز الفاسد والماء الآسن له حتى يعترف أو يقضى نحبه!
ومنذ القرن الثَّالث عشر الميلادي بدأت في الانتشار في أوربا، وبخاصة في إيطاليا، المحاكم سيِّئة السُّمعة، والتي دخلت التَّاريخ باسم (محاكم التفتيش Inquisition)، بدعوى ملاحقة الهراطقة بأمر الكنيسة الكاثوليكيَّة، بينما كانت، فى حقيقتها، إحدى أبشع صفحات الاستهداف للفكر السِّياسي المعارض للإقطاع آنذاك. وبإجراءاتها بالغة القسوة أشاعت تلك المحاكم الرُّعب خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
وقد امتدَّ الزَّمن الذى اعتُبر التَّعذيب خلاله وسيلة مشروعة حتى الثَّورة البرجوازيَّة العظمى فى فرنسا عام 1789م.
وهكذا فإن المجتمعات البشريَّة، من أقدمها وأكثرها بدائيَّة حتَّى عقابيل القرون الوسطى، مرزوءةٌ، فى أوربا نفسها التي ملكت العالم بأسره، في عصر الاستعمار التَّقليدي، وفرضت مركزويَّتها الثَّقافيَّة عليه، بسيرة التَّعذيب كوسيلة لانتزاع الاعتراف، حيث أن ذلك كان يبدو عادياً بالنسبة للذِّهن العام في تلك الدَّرجة من تطوُّر الفكر والوعي الاجتماعيين الأوربيين.

(4)
لكنَّ نموذج الحكم على الصِّينيين الأربعة، بناءً على الاعترافات المنتزعة منهم قسراً، ليس قاصراً، في العصر الحديث، للأسف، على الصِّين وحدها، حيث ما يزال يتكرَّر في أكثر من مئة بلد حول العالم، رغم الحزمة الضَّخمة من الصُّكوك الدَّوليَّة التي تحظر وتجرِّم هذه الممارسة، ابتداءً من (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948م)، ومروراً بـ ((العهد الدولي للحقوق المدنيَّة والسِّياسيَّة لسنة 1966م)، والذي دخل حِّز النَّفاذ في 1976م، وليس انتهاءً بـ (الاتَّفاقيَّة الدَّوليَّة لمناهضة التَّعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانيَّة أو المهينة)، والتي أجازتها الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة في 10 ديسمبر 1984م، ودخلت حيِّز النَّفاذ فى 26 يونيو 1987م، وهو التَّاريخ الذى اعتمدته الجَّمعيَّة العامَّة، فى ديسمبر 1997م، يوماً عالميَّاً لمناهضة التَّعذيب.

(5)
لقد قطعت الإنسانيَّة مشواراً شاقَّاً باتِّجاه رفع (مناهضة التَّعذيب) إلى قلب أولويَّاتها. وتعيَّن عليها ذلك من فوق رهق ثقيل عانته ردحاً طويلاً من الزَّمن، وأوزاراً كثيفة ناء بها ضميرها تاريخاً بأكمله. وجاء إنشاء (الأمم المتَّحدة)، تحت رايات المفاهيم الجَّديدة للحريَّة والدِّيموقراطيَّة بعد الحرب الثَّانية، محطة مهمَّة في ذلك المشوار. غير أنه ما يزال ثمَّة مزيد من الجَّهد البطولىِّ يُنتظر أن تبذله الإنسانيَّة قبل أن تتحقَّق تماماً من أنها استطاعت محوَ وصمة التَّعذيب، نهائيَّاً، من على جبينها.

***