فيزيقا الغياب


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 4594 - 2014 / 10 / 5 - 20:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

يؤكد الفيزيائيون أن المرآة والصور الفوتوغرافية تقوم بعكس أمين وواقعي للواقع المادي الخارجي عن الذات. إن الواقع المادي والمُعطى مباشرةً للحواس والموجود باستقلال عن الذات هو عالم الحضور المادي السابق على التأويل والإدراك وهو المُنبِّه الخارجي الذي يؤثر بالحواس فتدركه الذات على نحو ما. لنغض النظر قليلاً عن علاقة الذات بالموضوع بالأدوات الناقلة للمعرفة ولنوافق الفيزيائيين على أن الكاميرا تعكس بصورها الفيتوغرافية واقعاً أميناً كما تفعل المرآة. لكنني سأسأل الآن سؤالاً مُستفزاً ربما فحواه ما يلي: هل تعكس المرآة والصور الفوتوغرافيّة أو العين الواقع الموجود والحاضر فقط؟ وبشكلٍ آخر: هل يمكن لهذه "الأدوات" أن تعكس وتلتقط ما هو غير موجود وما هو غائب وغير حاضر كمُعطى مُباشر؟ جوابي هو نعم فالكاميرا والمرآة والعين تلتقط وتعكس الغياب أيضاً بل وأحياناً تبرزه وتظهره قبل الحضور. لا أقصد هنا طبعاً تلك الأفكار اللاواقعية حول الأشباح التي تعكف عليها روايات وأفلام الرعب والخيال العلميّ، وإنما أقصد بالضبط "الغياب الحاضر" أو "الغياب العينيّ".
انظر في صورة قديمة لك وقعت عليها فجأة بعد سنوات من التقاطها! إن أول ما ستلاحظه فيها هو غياب طفولتك أو شبابك؛ إنك سترى بأُم عينك انصراف الزمن من بين يديك. صورتك وأنت طفل تعكس لك اليوم وأنت كهل مثلاً أكثر من مجرّد ذلك الحيِّز الفيزيقيّ المكانيّ الذي كنت فيه واتسعت له عدسة الكاميرا؛ وهي لا تعكس فقط ذلك الإطار الذي علَّبَ سيّالة الزمن وجمدها في لحظة معطاة، وإنما أيضاً وقبل كل شيء تعرض لك ذلك الحاضر الفيزيقيّ المُباشر الذي سيظهر في واقع الغد كحيزٍ فيزيقيّ ماديّ للغياب الذي كان حاضراً يوماً ما. أي أن الكاميرا التقطت معاً غياب الحاضر الفيزيقيّ والحاضر الفيزيقيّ بنفس الوقت. هكذا فإن الحاضرَ حاضراً في الصورة سيغدو غياب الحاضر غداً في الصورة ذاتها. لقد غاب الزمان والمكان الفيزيقيين بينما التقطت الكاميرا غيابهما وأبرزته، لقد التقطت الغياب الفيزيقيّ. إن الكرسيّ الذي تجلس عليه في الصورة قد يكون تكسّر ورُمي أو بيع، وحتى لو كان لا يزال موجوداً فسيكون شاهداً "حيّاً" على غياب ما كان حاضراً يوماً أي على الغياب ودليلٌ عليه. انظر في صورة أصدقاءٍ قُدامى لك وستقفز في وجهك أولاً صورة صديقٍ حاضر معكم في الصورة، ولكنه غائب عن الحياة اليوم. نعم إنك ترى حضوره الماديّ المُعطى لحظة التقاط الصورة، ولكن ما تراه أكثر وبشكل أسرع هو غيابه في الصورة وهذا ما يؤلم ويجعل الناس يبكون عند رؤيتهم صورة الغائب أو صورة الغياب. الصورة تؤطّر هنا غياباً ما ونقصاً في الوجود والحضور فنتألم ونحزن ونلتاع فالغياب هو الفراغ. الحُضور لا يُبكي ولا يُحزن بل يُشعركَ بالهدوء والسلام والطمأنينة. الحضور امتلاء، شبع، تُخمة ونسيانٌ غير مقصود أو غير واعٍ.
اذهب إلى حفلة تتوقع حضور ووجود امرأةٍ ما فيها وقد ذهبت خصيصاً لتراها. إن كانت غير موجودة في الحفلة فإن غيابها هو من سيفتح لك الباب ويُلاقيك وجهاً لوجع حاجباً وجوه وملامح كل الحاضرين الذين تشابهوا في غيابها.
استفق في الصباح وانظر في المرآة ترى وجهك "مجعلك" وشعرك منكوش فتفتقد وسامتك على الفور وجمالك وأنت مغسول الوجه، حليق الذقن، مُسرَّحُ الشَّعر، حسنُ اللبسِ. إن ما عكسته مرآةُ الصباح لك ليس فقط حضورك الزومبيّ بقدر ما هو غيابك الوسيم أولاً. إنه الغياب الذي يحايث الحضور، بل ويتقدمه.
يستخدم المحققون الصور الفوتوغرافية لمشتبهين بهم ولضحايا الجرائم. هم لا يبحثون بها عن شيء حاضر بشكل مباشر إلا لتأكيد شكوكهم. بيد أنهم يلجؤون إليها أولاً للكشف عما غيّبه الحضور أو عن غيابٍ يشي لهم بالقاتل وبالطريقة التي تمت بها الجريمة. إنهم ـ ودون أن يكونوا على وعيِّ بذلك أبداً ـ يبحثون عن دليلٍ غائب فيزيقي في الصورة يدينون به الفاعل دون أن تكون لديه القدرة على الإنكار أمام مثل هكذا دليل قاطع.

العين العاديّة تلتقط الحضور الفيزيائي المعطى مباشرةً للحواس وهو حضور بسيط وساذج، وحدها عين الفيلسوف وكأنها مزودة بكواشف ما تحت الحمراء وما فوق البنفسجية تُسافر في اللاوعي وترى ما لا يُرى...