تحية لطيب تيزيني مثقفاً ملتزماً


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 3310 - 2011 / 3 / 19 - 16:27
المحور: المجتمع المدني     

في رثائه لحسين مروة تناول طيب تيزيني علاقة السياسيّ بالمثقف مُستشهداً بما جرى بين مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وكاتبه عبد الحميد الكاتب الذي قال له الخليفة أثناء فرارهما معاً من جيوش العباسيين: "انج بنفسك يا عبد الحميد، فإنهم إن قتلوني خسرني أهلي وحدهم وإن قتلوك خسرك العرب جميعاً". لعل هذه الحادثة التي تناولها تيزيني ومن قبله حسين مروّة لا تقدِّم نموذجاً يمكن الاعتماد عليه لتقديم العلاقة المتوترة ما بين المثقف الملتزم والسلطة فقد كان عبد الحميد الكاتب وفيّاً جدّاً للخليفة، ولكن مما لا شك فيه أن تيزيني أتكئ عليها ليرصد تلك اللحظة التي ينهار فيها السياسيّ مدركاً أن غيابه لن يكون خسارةً إلا لأهله ولمقربيه على نطاقٍ ضيّق جدّاً في حين أن فقدان مثقف هو خسارةٌ تُصيب الأمة بأكملها.
كانت إشكالية العلاقة بين المفكِّر والسُّلطة هي أحد محاور دراستنا مع طيب تيزيني حين كُنا طلاباً للفلسفة في جامعة دمشق نقرأ على يديه تاريخ الفلسفة العربيّة. انطلاقاً من هذه الإشكالية كان تيزيني يؤكِّد دائماً على ما يسميه "الغمغمة والتلعثم والجمجمة" أو غموض ومواربة النص الفلسفي العربي الوسيط شارحاً لنا أن الفلاسفة العرب المسلمين كانوا مُضطرين إلى هذا الأُسلوب لكي يمرِّروا أفكارهم من بين سيوف الفقيه والسلطان. في هذا الصدد كان تيزيني يؤكّد لنا قصر نظر السياسيّ وضيق أفق المتشدّد الدينيّ وعدم تسامحهما مع الفيلسوف التنويريّ الذي يمكن له أن يهز عروش الاستبداد والتعصُّب. هكذا درسنا على يديه محنة ابن حنبل ومحنة ابن رشد والسهروردي والحلاج وصولاً إلى مهدي عامل وحسين مروة.
لقد تعرفتُ عن قُرب إلى طيب تيزيني مثقفاً وأستاذاً في جامعة دمشق أواسط التسعينات حين كان قسم الفلسفة لا يزال بخير زاخراً بالأساتذة المُقتدّرين وكان هو من أكثرهم شُهرةً وتقديراً ليس فقط بمشروعه الفكريّ حول إعادة قراءة التراث العربي، وإنما كمثقف ملتزم وشجاع. كنتُ كغيري من الطلبة مُعجباً بأُستاذي، بل ومسحوراً به فأتيتُ على ما كتب ابتداءً من "مشروع رؤيّة جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" مروراً بمؤلفه الضخم "من التراث إلى الثورة" ووصولاً إلى "مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر: نشأةٍ وتأسيساً" الذي صدر في أول سنة أدخل فيها الجامعة طالباً والذي لا يزال أحد أفضل الكُتب التي قرأتها في التاريخ المحمديّ. غير أنني استطعتُ مع الزمن التحرُّر من سحر الأُستاذ وإقامة مسافة نقديّة مع فكره الذي رأيته إيديولوجياً أكثر مما ينبغي أو على الأقل أكثر من رغبتي بالانعتاق والتمرُّد على ضيق الرؤية الماركسية التي كانت حاضرة بقوة عند كبار أساتذتنا في قسم الفلسفة والتي كانت بمثابة الشجرة التي حجبت عنّا غابة الفلسفة الرحبة؛ لكن تيزيني الإنسان والمثقف الملتزم ظل في نظري كبيراً ومثالاً للالتزام والشجاعة، أقول هذا رُغم أنني أعرف تماماً أن تيزيني لا يُحب الفصل ما بين الفكر والممارسة فكان لا يني يؤكّد ذلك على مسامعنا.
وعلى الرغم من أنني لم أفهم إلى حدٍّ الآن موقفه الذي اتخذه في فترة ما سمي "ربيع دمشق" من قضايا المجتمع المدني والذي رأيتُ فيه شخصيّاً نوعاً من التسويغ للسُلطة أو مُحاباتها، إلا أنني ثمّنتُ كثيراً كتاباته حول الفساد ولعل طيب تيزيني في ذلك كان يطرق مرَّةً على الحافر ومرَّةً على السندان كما كان يحب دائماً أن يقول محاولاً المرور ما بين محذوري الاستبداد والتعصُب.
قد تختلف الآراء حول مواقف تيزيني السياسيّة، ولكن قد يتفق الجميع على أنه ظلّ وفياً لمبادئه وشجاعاً في مواقفه يجاهر برأيه في الوقت الذي يصمت فيه الجميع. لم ألتقِ تيزيني منذ تخرجي من دبلوم الدراسات العليا وسفري إلى باريس منذ حوالي الست السنوات ولم أقرأ له من حينها إلا القليل، لكن صورة المفكر المناضل أو المثقف الملتزم ظلت صافيةً في ذهني وباعثةُ الأمل في نفسي على أن الدنيا لا زالت بخير.
منذ أيامٍ قليلةٍ فقط قرأتُ نبأ الاعتداء عليه وضربه أمام الناس حين خرج ليتظاهر سلميّاً من أجل معتقلي الرأي في سورية. هزّني الخبّر وشعرتُ بغضبٍ شديد. لا شك أنني لم أتفاجأ بخروج طيب تيزيني للتظاهر في بلدٍ لا يسمح بالتظاهر فهو كما عوّدنا شجاعٌ في قول الحقيقة والدفاع عنها، ولم أتفاجأ بتصرف "بلطجية" الأمن فهم كما عهدناهم دائماً بقلة احترامهم وانعدام وعيهم وفداحة بطشهم وتنفيذهم للأوامر كما لو كانوا رجالاً آليين مبرمجين، ولكن ما عاد إلى ذاكرتي لحظتها ما كان يردده لنا عن محنة المثقف في زمن الاستبداد التي تتوالى فصولاً في العالم العربي الذي بدأ يشهد زوال لطغاة واحداً تلو الآخر دون أن يخسرهم سوى أسرهم وطغمتهم الفاسدة في حين تُشرق اليوم شمس الديمقراطية على العالم العربي بفضل نضالات الشعوب العربية وبفضل شجاعة بعض مفكريه ابتداءً بابن رشد وصولاً إلى الطيب تيزيني فتحيةً لهم جميعاً مثقفين ملتزمين.
.