قراءة في الأزمنة الدرويشية:


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 4017 - 2013 / 2 / 28 - 16:10
المحور: الادب والفن     


منذ يومين وشبح محمود درويش لا يني يطاردني ويسكن ذاكرتي الواعية واللاواعية. أحلمُ به صباحاً وقد عاد شاباً أربعينياً وإن أقصر قليلاً مما كان عليه في حياته الأولى. كان يرتدي سترة جلد ويتقدم باتجاه المحطة التي أقفُ عند مدخلها دون أن أعلم لماذا. ألتفتُ فأجده يقترب من مدحل المحطة وهو يُلقي بسوطٍ مسموع مقاطع من "شتاء ريتا الطويل" التي أحفظها عن ظهر قلب.
البارحة أستيقظ متثاقلاً في الصباح الجليدي الباكر. أرتدي ثيابي على عجل وأنا أُفكِّر في يوم الأربعاء الثقيل الذي يستهلك قواي العقلية والجسدية فهو يوم العمل اللامنتهي. أتوجه ماشياً نحو المحطة فيعود شبح درويش إليّ فآُردِّد بشكلٍ عفويّ وبصفاء ذهنٍ لم اعتده منذ زمن مقاطع من "شتاء ريتا الطويل". عندها فقط أنتبه للعبة الزمن في بعض ما جاء فيها بحيث يتراكب الماضي والحاضر والمستقبل في الزمن الدرويشيّ بحيث يصعب فصلهم عن بعضهم أو بحيث يتبادلون الأدوار فيصبح الماضي مُستقبلاً لحاضرٍ يُصبح ماضياً ومُستقبلاً في آن ثم ليتشياْ الزمان في المكان فيحني شتاءُ ريتا الطويل زمن القصيدة على طريقته:
أتقدمُ نحو المحطة وأنا أُردّد:

"أأنتَ لي ؟
لَكِ ، لو تركت الباب مفتوحاً على ماضيَّ،
لي ماضٍ أراه الآن يولدُ من غيابك
من صرير الوقت في مفتاح هذا الباب
لي ماض أراه الآن يجلس بيننا كالطاولة
إني ولدت لكي أحبك
فرساً تُرقِّصُ غابةً ، وتشق في المرجان غيابك
ووُلدتُ سيدةً لسيدها ، فخذني كي أصبك
خمراً نهائياً لأشفي منك فيك ، وهات قلبك
إني ولدت لكي أحبك
.....................
ريتا تكسر جوز أيامي ، فتتسع الحقول..."

مع الالقاء تحضر فكرة الزمن الدرويشيّ للمرة الأولى في هذه القصيدة التي أُعاشرها لمدة تربو على عقدٍ من الزمن.

"لي ماضٍ أراه الآن يولدُ من غيابك" أستعيد هذا المقطع وأُفكِّر به. هناك ماضٍ يولد الآن من غيابٍ سيأتي بعد ساعاتٍ حين سترحلُ ريتا. إن هذا الماضٍ لا يُشير في الحقيقة إلى الماضي وإنما إلى ماضِ مُستقبل يولد "الآن" في الحاضر...
ثُم تأتي عبارة "من صرير الوقت في مفتاح هذا الباب" وهنا تقفز في رأسي عبارة شكسبير التي رددها على لسان هاملت:
the time is out of joint
في عبارة شكسبير يعود الماضي إلى الحاضر ليسكنه فهو يتفلت من مفاصله كما نخلع باباً من مكانه بتكسير مفاصله التي تقيده بالإطار. وفي عبارة درويش نسمع صرير الوقت في مفتاح الباب. هناك أيضاً زمنٌ يقوم باختراق الباب وهو يحاول التسلل عبر ثقب مفتاحه بحيث يتفوق الزمان على حواجز المكان ويختلط فلا الماضي يمضي ولا الحاضر يغدو حاضراً بقدر ما هو منزلقٌ يسيل منه الماضي في كل لحظة ويولد منه المستقبل بدون توقف. تعود إلى ذهني أيضاً عبارة دريدا عن "ماضٍ لم يكن حاضراً يوماً"
"لي ماض أراه الآن يجلس قربنا كالطاولة". يُجلس محمود درويش الماضي بالقرب منه ومن ريتا وهو يُشيئه مُشبها أياه بالطاولة. أي يتحول الزمان هنا إلى حيّزٍ مكانيّ له مكانٌ فهو بينهما مكانياً مثل تلك الطاولة التي تفصل بينهما أو تجمعهما. حين يتحول الزمان إلى مكان فلا بد أن تحضر فكرة الزمكان الآينشتانية التي لا تقلُ شاعرية عن وصف درويش. ألم يصف آينشتاين الزمكان بالنسيج الذي ينحني مع كل كتلة وأن الزمن نفسه منحنٍ فالضوء يخضع لقوانين الجاذبية وأن الزمكان هو المكان وقد اكتسب حركة أو الحركة وقد تشيئت في المكان فصارت مادة أي طاقة كامنة؟
أصعدُ المترو وكأنني أمشي في نومي وأواصل استرجاع القصيدة:
"إني ولدت لكي أحبك" هنا الماضي ليس حُراً بل هو محكوم بغائية ما. أي كما لو أن ولادة ريتا هنا لم تكن محض مصادفة وإنما هي ولدت لأن هناك هدفاً وغاية من وجودها وهي أنها قد ولدت لكي تُحب درويش.
"ووُلدتُ سيدةً لسيدها ، فخذني كي أصبك"، أواصلُ هذياني. هنا الماضي محكوم بغائية المُستقبل، ولكن المُستقبل ليس هو من يتحكم بالماضي ويسكنه ويملي عليه أقداره بقدر ما هو محكومٌ هنا بِسُلطة الماضي أو ربما بسُلطة تتجاوز كل الأزمنة وتتعالى عليها. فالمستقبل هنا جاهزٌ منذ البداية وهو حين يُملي على الماضي ما سيكونه يكون قد تقرّر مصيره هو أصلاً وهنا لازمن ولا تطور ولا سيرورة وإنما أحداثٌ موجودة ثابتة ومُقرّرة سلفاً. أتذكر فكرة هايدغر ودريدا عن "التكرار" فلا شيء جديد وإنما هو تكرارٌ لما كان في الأصل دائماً. "ووُلدتُ سيدةً لسيدها". إن الغائية هنا من الحُب التي تتحكم بالماضي (الذي لم يعد ماضياً أبداً) هي غائية سادة وليست غائية عبيد لو استخدمنا مفردات هيغل أو نيتشه. هي سيدة لسيد وليست جارية لسيد. الحُب هُنا يقوم على أساسٍّ مُتكافئ...
"ريتا تكسر جوز أيامي ، فتتسع الحقول" ولعلها العبارة الأبلغ ليس فقط في الإشارة على اختلاط الأزمنة وتداخلها بحيث تغدو بدون زمن وبدون اتجاه بقدر ما تُشير إلى اختلاط الزمان بالمكان بحيث يغدوان متراكبين متداخلين زمكاناً غير قابل للتمييز أو ربما نهايةٌ وتعطيل للزمان والمكان فيصبحان غير موجودين على طريقة بارمينيدس وزينون. إن فكرة تداخل الزمن هنا هو تحريره من قشرة الوعي أو من قشرة الجوز التي تقوم ريتا بتكسيرها محيلة الماضي مُستقبلاً بينما يفقد الحاضر هويته فهو في نفس اللحظة معبرٌ لحظيّ يتفلت من الضبط فهو يسيل باتجاهين: الماضي والمُستقبل. هنا الأزمنة قد تحررت من قشرتها ومن قوالبها فاختلطت. ولكن الزمان الذي تكسرت قشرة جوزه يؤثر في المكان. فهو ما أن يتحرر من قشوره حتى يوسِّع الحقول. إنه زمنٌ يمتد في المكان. إنه زمنٌ الهاوية وزمن الرحيل. إنه زمن الذاكرة التي ستأتي مع أنها دائماً كانت هناك حية وستعود إلى الحياة مع الرحيل الذي أدرك درويش حين مضت ريتا إلى المجهول: "ومضتْ إلى المجهول حافيةً وأدركني الرحيلُ"... نعم هو المجهول الذي ذهبت إليه فلم يعد الزمانُ زماناً ولا المكانُ مكاناً فهل هي غادرته إلى المُستقبل المجهول أم إلى الماضي عبر ذاكرةِ ستولد من غيابها؟
استمرُ بالتساؤل دون أن أنتبه بأنني قد تجاوزتُ المحطة التي أريد النزول فيها بعدة مواقف وإنني لا شك سأتأخرُ عن محاضرتي. اشتم نفسي ثم ابتسم: ماذا لو...