بعض أسرار الصراع القطري السعودي على الجبهة السورية


سلام عبود
الحوار المتمدن - العدد: 4332 - 2014 / 1 / 11 - 09:46
المحور: الارهاب, الحرب والسلام     

االتكفير صناعة سياسية
أسئلة كثيرة تدور في عقول الناس وتشغل بالهم: لماذا جاءت نتائج الربيع العربي، بصرف النظر عن محتواه، لصالح قوى متخلفة أخرِجت من حركة التاريخ منذ عقود؟ لماذا تلعب دولة قرووسطية، كالمملكة العربية السعودية، دورا أساسيا في المنطقة، برغم تعفنها كنظام سياسي اجتماعي؟ من منح دولة ضئيلة كقطر هذا الدور الحاسم في القضايا القومية؟ من ألهم الإمارات العربية، الدولة المسالمة الصغيرة والضعيفة، فكرة التدخل الحربي في سماوات بعيدة؟ ما سر الغزل السعودي الإسرائيلي؟ ما دور قوى سياسية تبدو مدنيّة ظاهريّا، مثل تيار المستقبل في لبنان، في المعركة العسكرية الإقليميّة، وما المطلوب منه لبنانيا في الجانب الميداني تحديدا؟
ما دور مجموعات "القاعدة" والدولة الإسلامية، ومئات التسميات الوهمية والحقيقية، في صناعة معادلات الواقع؟ لماذا يفقد اليسار العربي دوره التاريخي؟ ولماذا أضحى الشعار الديني راية للتجميع والتحشيد يمينا ويسارا على حد سواء؟
هذه الأسئلة الكبيرة ربما تجد أجوبتها في أمثلة وحقائق صغيرة تجري أمامنا، لكننا نهملها ولا نمنحها حقها من التقدير، فتضيع من حساباتنا في فوضى الانشغال بالأسئلة الكبيرة المحيّرة والعصيّة على الحل. هذا المقال محاولة للبحث في التفاصيل الصغيرة والمهملة.
حرب المعابر
يعرف الجميع أن التناحر السعودي القطري قديم، وقد استفحل مؤخرا بسبب تعاظم الدور القطري إقليميّا، وعربيّا تحديدا، في رسم سياسة المنطقة. لكنّ الأهداف المشتركة في معركة سورية، والقوى الدولية الداعمة المشتركة، جمّدت ظهور هذا الخلاف ومنعت تحوله صداما علنيّا. سببب خفي، مهمل، كان وراء تصاعد الخلاف المكتوم داخليا، وتفاقمه، وجعله يطفو على السطح. إنه سبب فنيّ خالص، لا يريد أحد التوقف عنده. لكن تسلسل الأحداث يجبرنا على الوقوف عند هذه النقطة المثيرة المُتجاهلة. لقد شاعت في الإعلام مؤخرا أخبار تتحدث عن المعابر، التركية خاصة، وقبلها العراقية، ودورها في صراع المعارضة الداخلي، ثم أثرها في مواقف تركيا والغرب. وفي النهاية استقر الحديث عن المعابر باعتبارها "ممرا" للتسليح والتمويل. ثمّ توقف الأمر أخيرا عند المحطة الحقيقية: من يدفع ومن يقبض؟ هذا الافتضاح المتسلسل والتدريجي ساير مسايرة تامة حلقات الصراع السياسي والعسكري في سورية، بدءا من الشعارات الإصلاحية "سلمية سلمية"، وصولا الى الانتصارات العسكرية الميدانية الكبرى للمسلحين، ثم نزولا الى انحسار الرقعة العسكرية لما يعرف بالمعارضة، انتهاء بالانقسام الداخلي في "المعارضة" العسكرية، وخروج "الجيش الحر" من المعادلة الأساسية، وسيطرة القوى التكفيرية على الجبهة العسكرية. لماذا نشأ هذا التزامن، صعودا ونزولا، بين الصراع على المعابر وتدهور الوضع القتالي لجبهة أعداء النظام السوري؟ ولماذا حدث مثل هذا الأمر على الجبهة الكردية أيضا؟
في هذه الحقيقة الغائبة عن أذهان الناس يكمن الجواب عن أخطر الأسئلة.
يقوم النهج القطري في إدارة المعركة ضد النظام السوري على نموذج أميركي جُرّب في أميركا اللاتينية من قبل نغروبونتي، وقبلها الى حد معين في فيتنام، ثم إعيد تطويره على يد نغربونتي مجددا في العراق. إنه نهج خصخصة الحرب، من طريق صناعة فصائل مقاتلة تحت الطلب. لقد ترافق موضوع الخصخصة في بناء الجماعات المقاتلة غير النظامية، مع ظاهرة إعادة هيكلة التجحفل العسكري الدولي للجيوش النظامية أيضا، الذي أضحى الأسلوب المميز لفن إدارة الحروب الأميركية العالمية الحديثة. لقد أسهمت عشرات الدول المشاركة في الحرب على العراق مثلا، بتدعيم التجحفل العسكري الدولي ببعض ما تملكه، حتى لو كان في هيئة غواصات سويدية غير مرئية تجوب أعماق الخليج العربي، أو في هيئة جماعات تبشيرية كنائسيّة شبه علنية تجوب القرى النائية في شمال العراق، أو بمواقف وتصريحات سياسية إعلامية مخططة مركزيا، يتولاها علنا وزير خارجية دولة محايدة شكلا كالسويد، تكون بمثابة رصاصات تنوير، لإضاءة سماء جبهة عسكرية جديدة يتقرر فتحها: العراق، يوغسلافيا، سوريا، السودان. اليابان وألمانيا، الممنوعتان من المشاركة العسكرية خارج حدودهما، بقرار تاريخي دولي أعقب الحرب العالمية الثانية، تمّ جلبهما عسكريا الى العراق، ولكن تحت تسمية سلاح المهندسين أو الإشارة، غير الفتاك طبعا! ولم يكن التجحفل الدولى محصورا في الهيكلة الفنية للأسلحة المشاركة، وفي وسائل إدارة المعارك، بل تعداه الى بنية الجيش الأميركي نفسه، والى طابع التنظيم الهيكلي للجيش، الذي احتفظ بدرجة رئيسية بالقوات القتالية، وتخلى عن الزوائد الميدانية لصالح الشركات الخاصة، التي تولت مهام الإستطلاع والرصد والتموين والإمداد والنقل والتجسس والأعمال القتالية الضرورية الخاطفة والمحدودة، وإدارة السجون، ونقل السلاح والاتصال بقوى رديفة محليّة. أما السبيل الثاني في الخصخصة هو استخدام قوات خاصة تحمل تسميات متنوعة، بحسب طبيعة الأرض والثقافة: تحت غطاء المخدرات ورجال العصابات في أميركا اللاتينية، وتحت غطاء يجمع قيادات عسكرية مدعومة قبليا في إفريقية، وتحت شعارات دينية في المناطق الإسلامية. ثالثا: ايجاد دول محلية محاربة، أو حافظة للتوازنات عسكريا: العراق ضد ايران، اثيوبيا في الصومال، السعودية في البحرين، سوريا في لبنان. رابعا: تحفيز النظم التي تساير، طوعا أو بالإكراه، تنفيذ المشروع الحربي العالمي إقليميا وقوميا أو محليا، كقطر والسعودية والاردن وتركيا. وربما يكون أعظم نجاح قدري تحقق في لبنان، حتى الآن، هو عدم مجيء حكومة تسير الى الحرب علنا، بصفة رسمية، كما يسعى بعض أطراف 14 آذار، جعجع والحريري تحديدا.
قطر تقود خصخصة الحرب
لم تكن قطر الصغيرة والمعزولة جغرافيا عن المحيط المشرقي، والمبهمة كمثل أعلى سياسي أو تاريخي أو ثقافي، قادرة على لعب دور ما لولا أمرين: أولا، استخدام الخصخصة العسكرية بما تملكه من أموال. وثانيا، الاعتماد المطلق على الجهد الحربي والاستخباري الإسرائيلي في المجالين العسكري والسياسي. بهذا توافرت لهذه الدولة الضئيلة شروط شن حروب واسعة، بعيدة آلاف الأميال عن أراضيها. إن اعتماد قطر أسلوب الخصخصة الحربية السياسية، نابع من ضرورات داخلية وخارجية معا. فحينما ننظر الى المسألة من منظارها الأوسع، نجد أن الخصخصة القطرية، جزء من الخصخصة الدولية، التي تديرها أميركا من أعلى. فهي خصخصة داخل الخصخصة. لهذا السبب بدت قطر للغرب النموذج الأمثل لإدارة الحرب في سوريا بكل احتمالاتها الخطيرة. ففي حال نجاح الحرب تكون نتائجها لصالح مشرعي الحرب الدوليين. وفي حال فشلها، فإن قطر مجرد مشيخة تحرس عرشها عصابات المتعاقدين والجوش الأجنبية، لا أحد يستفيد من مقاضاتها أخلاقيا وسياسيا أو حتى قانونيا. ولكن، حتى معارك الخصخصة، تحتاج الى عناصر مادية لكي تقوم. هنا نشأت فكرة تهيئة القاعدة الأرضية للقتال، وتمّ تكوينها بدرجة رئيسية اعتمادا على ثلاثة عناصر: أولا، تأسيس قاعدة قتالية سورية بواسطة التهجير، من طريق اصطياد السوريين ذوي الحاجة المادية والنفسية والعاطفية. وثانيا: استيراد المقاتلين. وثالثا: الإفادة من الجهد والنشاط والخبرة الإسرائيلية، تعويضا عن النقص الذاتي. وقد تضاءل هذا الجهد بانحسار الدور القطري. رابعا: الاسناد الحدودي.
في سنوات الحرب الأفغانية فتحت دول خليجية هامشية ومسالمة، تتباكي بأنها مسروقة الحقوق، حدودها لمن عرف آنذاك بالباتان. فتحولت مدنها الى أسواق شعبية للباتان، الذين منحوا حق الدخول والإقامة والبقاء من دون قيود أو شروط للهجرة والعمل والإقامة، في بلدان تضع أعلى القيود على الوافد العربي.
كان الباتان، مثل اللاجئين السوريين اليوم، هم القاعدة الذهبية لإنتاج المقاتلين. إن أقل تقدير يؤكد على أن عشر المهاجرين الى بلدان المخيمات يُحتمل تحويلهم الى مقاتلين. وهذا أحد أهم أسرار تعنت إسرائيل في موضوع اللاجئين الفلسطينيين، وأحد أسباب الكرم اللبناني الزائد عن الحد في استقبال اللاجئين. ولم يكن خاليا من الدلالة أن يهدد الرئيس ميشال سليمان مؤخرا حزب الله باللاجئين السوريين والفلسطينيين. لهذا السبب تمّ افتتاح مخيمات تركيا والأردن حتى قبل تفاقم الصراع في سورية، وتمّ تحاصص اللاجئين السوريين في لبنان حسب الحواضن. لقد قامت الدول المانحة بتأمين مئة ألف مقاتل، في الحد الأدني، من طريق تهجير مليوني سوري، بنسبة خمسة بالمئة فحسب. بهذا أضحت المعارضة السياسية السورية، مهما كانت نياتها وشطارتها، مجرد قشرة إعلامية، تزيينية، مهلهلة، في خدمة المخطط الحربي.

سياسة إدفع تربح
إن الأساس العملي للتجربة الحربية القطرية يقوم على قاعدة ثابتة قوامها تسيير المعركة من طريق ادفع واربح، يتم فيها التمويل بصرف النظر عن الانتماء الفكري والسياسي، لمن يحقق انتصارات أرضية سياسيا وعسكريا، وفي النهاية عسكريا فحسب. قاد هذا النهج الى نشوء أمراء حرب في مختلف الجبهات. وهو عنصر إيجابي في المنظور الأميركي لإدارة الصراع السوري داخليا. وهو السبب نفسه الذي دفع الأخضر الابراهيمي الى الواجهة، لأنه صاحب تجربة التوفيق بين أمراء الحرب الأفغان. التاريخ يعيد نفسه، بطرق ملتوية! لقد تقبـّلت السعودية على مضض النموذج القطري، لكنها لم تكفّ عن منافسته بنموذجها القائم على المركزية في إدارة المعركة. يقف النموذج السعودي على الضد من النموذج القطري، القائم على اللامركزية، والمبادرة الذاتية، التي تعطي حرية أكبر لقادة الفصائل وتسمح بظهور أمراء حرب حقيقيين من مختلف المشارب، تحت شعار مختصر: الثورة السورية. وكان يراد لهذا النموذج، مع تطور الصراع، الامتداد الى المؤسسة العسكرية السورية وجيشها النظامي، لكن ذلك لم يحدث. وجد هذا الاتجاه هوى قويا لدى الإخوان المسلمين، الذين يفيدون عادة من خلط الأوراق في مرحلة الصراع، ثم يفيدون منه عند تجيير النتائج، كما حصل في مصر وتونس وليبيا. بينما تميل السعودية الى مركزية القرار والإدارة سياسيا وعسكريا وايديولوجيا، بوضع الجميع تحت قبضتها، وتحريكهم بإرادتها سياسيا وعسكريا، باتحاد تام مع حلفاء إقليميين داخليين في لبنان وفي الأردن والعراق، بدرجة أساسية، وفي تركيا. يقوم هؤلاء الحلفاء بدور الغطاء السياسي والقانوني وحتى الحكومي للمجاميع الإرهابية المسلحة، بجعلها قادرة على تنشيط المناخ العسكري العام، وعلى رسم وتحديد شروط فتح جبهات جديدة، في أماكن أخرى، بتوقيتات مخططة. لقد سقط الأسلوب القطري نتيجة لبقاء النظام السوري، وعدم تحقق نتائج ايجابية للخصخصة العسكرية حتى الآن. على العكس أضحت نظرية أمراء الحرب، بمرور الأيام، تخيف حتى القوى الدولية. لأنها قادت الى عراق جديد في سوريا، من المحتمل أن يفوق العراق في حجم أخطاره، لو لم يتم ضبط موازينه المرعبة، بأسرع وقت. هنا برز الدور السعودي باعتباره المصحح للمسار الخاطئ. لقد قاد نموذج الخصخصة القطرية الى نتائح عسكرية باهرة، لكنه قام بإحداث سلسلة من الانحرافات والاختلالات القاتلة: تشتت المقاتلين وابتعادهم عن المحور الافتراضي "الجيش الحر"، وانفصال الحركة العسكرية عن الحركة السياسية، والسياسية عن المجتمع.

السعودية: من الخصخصة الحرة الى المركزية
تزامن هذا الدور مع افتضاح نوايا الإخوان، أو بعض أطرافهم، الذين أخلـّوا بالاتفاق التاريخي مع السعودية والمشيخات الخليجية، القاضي بتعهدهم أن يمنعوا توجه الربيع العربي "الشعبي" الى هذه المجتمعات. لكن ضغط القواعد المتحمسة، التي صنعتها سياسة الخصخصة، والتي تمثلت بسرعة النجاحات العسكرية وتعاظم القوى البشرية المحاربة، والانتصارات في تونس ومصر وليبيا، زادت من أطماع بعض الأجنحة، فمالت الى المناداة بالتسليح قوميا وتصدير الثورة، تحت شعار تصدير الربيع. قاد هذا النزوع الاجباري الى نشوء تناقض واضح بين إرادة الجماعات الإخوانية وبين إرادة الملكيات العربية، التي اعتبرت خرق الاتفاق معها وتصاعد ميول اجتياز الحدود خطا أحمر غير قابل للتجاوز. كان من مؤشرات هذا الاتفاق، أو الخط الاحمر، أن قامت دول الخليج والمغرب والأردن بتكوين حزام ملكي، يرسم للإخوان حدود الحركة السياسية والعسكرية. وقد ظهر شكل أعلى من هذا التدبير الاحترازي، حينما سعت السعودية الى تكوين وحدة خليجية في قمة مجلس التعاون الخليجي الأخير 10 – 11 كانون الأول 2013. لقد فات على هؤلاء، أن حركة الواقع، في ظل مناخ مضطرب، لا تتقيد كثيرا بالاتفاقات النظرية، بل تتأثر بقوة بالوقائع على الأرض. تأزم الوضع الإخواني في تونس، وتعقده في ليبيا، والخسائر في سورية، قادت الى خروج الجيش المصري من حياديته وانقلابه على الإخوان، تزامنا مع الفشل القطري. لقد انعكست هذه الوقائع مجددا على النهج السعودي، الذي أثبت الآن أنه غير صالح للعمل أيضا. لأنه تأخر عن موعده أولا، ولأنه يقاد من قبل مثل أعلى شديد التخلف، لا يرتضيه لنفسه حتى أخلص المتعاونين معه. وهذه واحدة من أبرز خصوصيات الواقع العربي المأساوية: التحالف مع مثل أعلى تعافه النفس. لذلك اضطرت السعودية الى القبول بتشغيل نموذج مزدوج، قوامه العودة الى النهج القطري، الذي يلائم في الوقت الحاضر تشتت وتبعثر الجماعات المقاتلة في سورية، ولكن من طريق ربطه بإدارة المخابرات التي يقودها ميدانيا بندر بن سلطان. لقد نشأ مزيج هجين من المركزية الأمنية السياسية العسكرية والخصخصة الحرة. لكنه مزيج مطبوخ على عجل، لملء الفراغ الذي أحدثه اختفاء الدور القطري. وما معركة "الله أعلى وأجل" في الغوطة الشرقية، في تشرين الثاني 2013 ، سوى نتاج حسي لهذا الخليط. قوات متعددة المشارب، ولكن تحت قيادة وتخطيط ومركز عمليات أدير من أعلى، بتوافق أردني سعودي أميركي. ولهذا السبب سارعت السعودية الى تطوير الاتصال بإسرائيل. لأن غياب الدور القطري، الذي يعتمد في جانبه الاستخباري والسياسي على إمكانيات المخابرات الإسرائيلة، جعل السعودية مرغمة على مد يد التعاون الى الإسرائيليين، لملء الفراغ الأمني، الناشيء من انحسار الدور القطري.
إن الإرهاب بصرف النظر عن حجمه وغاياته المباشرة، أكبر الأوراق الرابحة لدولة متحجرة اجتماعيا وسياسيا كالسعودية. لأن الإرهاب يدفع السعودية شئنا أم أبينا الى موقع الاعتدال ظاهريا وصوريا، في الحسابات السياسية الشكلية. إن صناعة الإرهاب دوليا تتيح لدول كثيرة تعيش النمط الخليجي والمغربي والاردني على أن تبدو الصورة المعتدلة والمقبولة للحكم عالميا، وحتى محليا، في مواجهة التطرف الارهابي من جهة والميول الاجتماعية الجذرية من جهة ثانية. وهذا واحد من أكبر الإشكالات التاريخية، التي تواجه المجتمعات العربية. فقد تم حصر الصراع في بديلين: الارهاب التكفيري من جهة ونظم الحكم المتخلفة تاريخيا من جهة أخرى. حتى الغرب الديموقراطي مال الى هذه المعادلة، التي أضحت في النهاية رصاصة الموت لأي تغيير عربي باتجاه ديموقراطي. بهذا تكون السعودية العدو الأول المعيق لحركة التاريخ العربي المعاصر.

من هي القاعدة؟
يقوم النهج السعودي، في حال عدم توفر ظروف الانتشار العسكري المباشر، كما هو جار في البحرين، الى تنشيط الإرهاب الدولي لغرض تنفيذ خططه الحربية والسياسية.
إن بنية تنظيم القاعدة هي أفضل شكل تنظمي يمكن استخدامة كجهاز صدامي وعسكري، متحرك دوليا، يلائم دولا ذوات مشاريع عدوانية مثل السعودية. هلامية هذا التنظيم، وسرعة مناقلاته القارية، تسهل مهمة إدارته (استحصال نتائج أفعاله) من قبل اجهزة المخابرات والدعاية والاستثمار السياسي. وهو تنظيم يوفر لمستخدميه فرصة اخلاء السبيل عن الارتباط المباشر بهذه القوى ويعفيهم عن المساءلة. ويسهل على الدولة المستخدمة مهمة رفد هذه التنظيمات بالمقاتلين طوعا، بفتح الحدود وقنوات الاتصال، أو كرها من طريق التضييق على هذه الجماعات، وفتح ثغرات لها للوصول الى مراكز التحشيد. إن ما يعرف بالدولة أو الامارة الاسلامية خرافة وذريعة سياسية ودعائية لتزكية نظام بال كالسعودية. إن ممولي القوى التكفيرية على معرفة تامة من أن هذه التشيكلات مصممة، مهما بلغت قوتها، ليس من أجل إقامة أنظمة حكم ثابتة، وإنما من أجل التمهيد للآخرين، سواء أكانوا خطا سعوديا ( وهابيا) أو خطا إخوانيا، للوصول الى السلطة، باسم الاعتدال والوسط.
أسطورة "القاعدة"، وزعمائها الحقيقيين أو الوهميين، التي أسست الملامح الرئيسية للتعبئة العالمية ضد الإرهاب، تختفي وتظهر عند الحاجة. فقد أخذ أبرز الذين استخدموها، يؤكدون على أنها وحدة إثارة ميدانيّة متحركة ومتغيرة، أكثر مما هي واقعا ثابتا، ذا أبعاد اجتماعية ووجودية متينة وفعليّة. فهي لا أكثر من جيوب وخطوط محتملة الوجود، تعبوية، تعمل في اتجاهين: تنشيط فعل الحضانات التكفيرية وتوجيه مساراتها، ورفد الجهد العسكري والمخابراتي الدولي من طريق صناعة واقع تشغيلي فعال، يمهد الأرض لتنفيذ خطط سياسية وعسكرية متوسطة وبعيدة المدى في المجال الدولي. أي أن نواة "القاعدة"عبارة عن شحنات عنفية مزدوجة، مبرمجة، تتحرك حيث توجد أقفاص التفقيس التكفيرية، وحيث يراد رسم خريطة سياسية محتملة. لكن هذه النواة، أو النوى على وجه الدقة، محاطة بعدد غير معلوم من الالكترونات التطوعية، السائبة، التي تعمل بشكل ذاتي من طريق التحفيز والشحن الروحي، الذي يخلقه الواقع المأزوم، ومناخ الحرب العالمية على ما يعرف بالإرهاب، ومرض الخوف من الاسلام. فـ "القاعدة" ليست حزبا سياسيا، وليست هيكلا تنظيميا. إنها روابط خيطيّة مموهة، تعمل وتتفاعل وتنجز مهماتها، في محيط ناشط وانفعالي، من طريق الروابط الشبحية، مسنودة بالمبادرة الفردية الطوعية والفعالية الذاتية من قبل العناصرالأكثر مثالية وإخلاصا للهدف الجهادي. فهي حركة عالمية افتراضية مشاعة، لكن الولوج اليها لا يتم إلا من طريق كتابة رمز الدخول السري المتفق عليه. أما ترابط خطوطها ( افادت من تقنيات الاتصال بشكل جيد، ومن خبرات نقل المعلومات والأسلحة التابعة لأجهزة المخابرات الدولية) فيتم من طريق تشابك قنوات الاتصال، المباشرة وغير المباشرة، بين قيادات ميدانية متحركة، وهمية حينا، وصحيحة حينا آخر، ومزيج من الوهم والحقيقة حينا ثالثا. هذا التكوين الهلامي يلائم تماما دورها التشغيلي أولا، باعتبارها محرك احتراق، ذا أهداف تمهيدية، لا يصنع خاتمة الأحداث، وإنما يكتفي بصناعة المناخ الملائم لتحرك سياسي وعسكري ما. وثانيا، يموه ارتباطاتها بمصادرها الخارجية، التي تكون في أحوال كثيرة معادية في الظاهر لتوجهات "القاعدة" والحركات التكفيرية. ومنها ما يجمع بين العداء والتعاون. ولا يشمل هذا ارتباطات الأفراد المتطوعين تحت تأثيرات مثالية وإيمانية صادقة، أو دوافع عاطفية وأخلاقية، الذين ينخرطون بحماس ديني وعاطفي ويؤسسون خلايا تلقائية، تهب نفسها لـ "القاعدة"، أو تضع نفسها في خدمتها. تفجير قاعدة تشابمان ـ خوست الافغانية تم بواسطة عميل رباعي الولاء، تشاركت فيه القاعدة والمخابرات الباكستانية والأردنية والأميركية، التي رفعت الطبيب همام خليل البلوي الى مرتبة أهم خمسة أصوات جهادية في "تنظيم" القاعدة، قبل أن يفجر مقر المخابرات الأميركية في 30 كانون الاول 2009. أحداث 11 أيلول، التي هزت العالم ، خضعت للمبدإ ذاته: خيط للقاعدة المدارة من الخارج، هدفه إعلامي، بخسائر محدودة وأرباح دولية عظيمة؛ وخيط للقاعدة المتمردة خُطط للسير بالعملية الدعائية الى غايات أكبر وأبعد، من وراء ظهر الفريق الأول؛ وخيط جهادي عفوي امتثل للفريقين السابقين ونفذ ما أرادا، من دون شروط. مقتل ممثل الأمم المتحدة في بغداد، سيرغيو فييرا دي ميلو في أب 2003، على يد القاعدة، دليل لا يقبل النكران على أن ما يعرف بالقاعدة اسم "حركي"، تختفي تحته جماعات مختلفة الأصول والأهداف والارتباطات، تحركها أياد دولية، ويفيد من خدماتها كل مشتر متحمس للدفع والإيذاء.
الحقائق المتعلقة بدور القاعدة السياسي والعسكري ستظل خفية الى أمد طويل قادم، بيد أن تقلبّات الواقع قد تلقي بعض الضوء على جوانب مظلمة من تاريخ وأسرار هذه الحركة. لكن الثابت اليوم، ان الحركة التكفيرية العسكرية في منطقتنا، بصرف النظر عن مسمّياتها، تدار لمصلحة النشاط العسكري والسياسي السعودي، الذي يصر على اعتقال التاريخ القومي كله في مشاريعه المتخلفة.