مدرسة الإخصاء الثقافيّ


سلام عبود
الحوار المتمدن - العدد: 7663 - 2023 / 7 / 5 - 08:22
المحور: المجتمع المدني     

كلّنا سمعنا بالرعب الفاشيّ والديكتاتوريّ. أمّا الرعب الديمقراطيّ فهو شيء غريب حقّاً، وحينما يكون الحديث عن الرعب الديمقراطيّ السويديّ فإنّ الأمر يغدو مثل مزحة خائبة. تعلّمت درس الرعب الديمقراطيّ على يد حفيدي تيودور. ومن أجل إعطاء صورة واضحة عن الدرس الذي تعلّمته يتوجّب التعرّف على المعلّم أوّلاً. معلمي تيودور لم يبلغ السادسة من العمر بعد، وهو من أب سويديّ وأمّ عربيّة (ابنتي جمانة). يزورنا تيودور من حين إلى آخر بصحبة أخته إيزابيلا (عشر سنوات)، ونصحبهما غالباً إلى مركز الألعاب القريب، بناء على رغبة تيودور. إيزابيلا الهادئة تسير عادة مع جدّتها أمّ زيد أمامنا، وتيودور يسير معي يداً بيد، لكيلا يسارع إلى تسلّق شجرة أو صعود مرتفع أو التدحرج من منحدر. ورغم طبيعته الحركيّة وعناده الشديد إلّا أنّه خلوق بشكل لافت للنظر. لقد جذبني تهذيبه العالي، فكنت أراقب سلوكه بشكل دائم. وفي أحد المواقف النادرة علّمني كيف تختلف الثقافات حسيّاً عن بعضها في طرق التعبير عن المشاعر والعلاقات. مرّة جاء باكياً يمسك رأسه، فعرفت أمّه فوراً أنّه قفز من السرير مثل سوبرمان فسقط على رأسه. حينما هدأ بدأت أمّه تلومه بهدوء ورقّة لأنّه كرّر هذا الفعل غير مرّة، ولم يستمع إلى كلامها. كنت أراقب تعابير وجهه وهو يصغي إليها، وانتظرت منه أن ينطق باكياً تعابير الاعتذار التي نعلّمها لأطفالنا عادة: "اعذريني يا أمّاه"، أو "سامحيني يا أمّي"، أو "والله العظيم لن أكرّر ذلك"، أو "آخرة مرّة أفعلها". لم يقل شيئاً. كان يصغي إلى كلماتها باهتمام بالغ، هادئاً، بارد التعابير. وحينما أحسّ أنّها نطقت آخر كلماتها، وضع وجهه مقابل وجهها وقال بجد بالغ كلمتين صغيرتين جدّاً: "أنا معك". وهي عبارة سويديّة تقليديّة تعني "أنا أشاركك في الرأي أو القرار". نحن هنا أمام مدرسة ثقافيّة مختلفة، جوهرها تعلّم المشاركة في الرأي، بلا خوف ولا تأييد من قوى عليا، أو استعطاف.
ونحن في طريقنا إلى مركز الألعاب جذب انتباهي حوار إيزابيلا مع جدّتها، الذي بدأ يشتدّ. كانت إيزابيلا مصرّة على تكرار عبارة: "لكنّه قاتل يا جدّتي! "، "إنّه مجرم!". وحينما سألتها جدّتها: " من قال لك ذلك؟" أجابت:" المعلمة"، فقالت جدّتها: "هل قالت المعلّمة لكم حرفيّاً أنّ بوتين قاتل ومجرم؟" فردت إيزابيلا:" هي عرضت علينا فيلماً في نشرة الأخبار للأطفال عن الروس وهم يدمّرون أوكرانيا ويقتلون الناس في البيوت والمدارس ومستشفيات الولادة"، ردّت الجدّة: "وهل تصدّقين ذلك؟"، جاء الجواب حاسماً: " نعم يا جدّتي، بكلّ تأكيد. بوتين هو من أرسلهم لقتل الأوكرانيين، بعض الأوكرانيين هرب إلى السويد، ألم تسمعي بذلك؟". هنا سحب تيودور يده من يدي بعنف، ودق رجله بالأرض صائحاً: "استمعي يا جدّتي إلى بلله (إيزابيلا)، إنّها تقول الحقيقة". صعقني فعله الغاضب وأمره الحاسم لجدّته. جررته نحوي حتّى بات ملاصقاً لي، وقلت: "أنت أيضا تعرف ذلك؟"، فردّ بثقة وحماسة: "طبعا، بوتين المجرم يريد المجيء إلى السويد لقتلنا، ألا تعرف؟" قلت: " كيف عرفت؟" فردّ:" لقد اشترت ماما المعكرونة والخبز الجاف وقطع الجبن وقناني الماء بكميات كبيرة جدّاً، وخزّنتها في مخزن البيت في الطابق الأرضيّ"، قلت مناكداً: "ربّما يعجبها أن تتسوّق بكثرة؟"، أجاب معترضاً: "لا يا جدّي، أبي اشترى راديو يعمل بالبطاريّة، ألم تشتر أنت واحداً؟". أجبته: "ماذا أفعل به؟". نظر إليّ بدهشة كبيرة وقال: "وكيف تسمع الأخبار في الملجأ؟". قلت مستفسراً: "أيّ ملجأ؟". ازدادت دهشته وقال بخوف: "وأين ستنام إذا جاء بوتين؟".
تيودور، يعلّمني، وأنا في أواخر عمري، أنّ صناعة الرعب ليست منجزاً دكتاتورياً فقط، بل هي جزء من منجزات الثقافة الديمقراطيّة أيضاً. إنّها مدرسة الإخصاء الثقافيّ الديموقراطيّ. نحن نعلّم الإخصاء بالزجر والتخويف، وهم يعلّمونه بطريقة وخز الإبر الناعمة، المخدّرة. نظرت إلى تيودور بإمعان وأنا أتذكّر لماذا تدرّج في تسميتي، باختلاف سنوات عمره "تتو"، ثمّ "شدّو"، وأخيراً "جدّو"، لكي يفرّقني عن جدّه الآخر، أبي أبيه، الذي كان دائماً "فارفار" (الترجمة الحرفيّة: الجدّ، أبو الأبّ)، وفي أحوال كثيرة هو "فريدريك"، مجرّداً من الإضافات أو الألقاب والألحان.