قراءة سريعة في طبيعة ازمتنا الراهنة


عبد السلام أديب
الحوار المتمدن - العدد: 4188 - 2013 / 8 / 18 - 21:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

إن تسارع الأحداث في العالمين المغاربي والعربي من خلال الانتفاضات الأخيرة على الاستغلال والظلم والحرمان والدكتاتورية تدفع الجماهير أكثر الى اعادة تصويب أفكارها ودفع وعيها نحو الارتقاء الى الأعلى من أجل التحرر والديموقراطية ولفهم السياقات وأشكال المقاومة الممكنة للاضطهاد والاستبداد.

من الطبيعي أنه منذ الاستقلالات الشكلية لهذه البلدان وتمكن المافيات الحاكمة بالقمع تارة وبواسطة الدين والايديولوجية تارة أخرى من مد سيطرتها على مختلف تفاصيل حياة الجماهير الشعبية وبالتالي تمكنت من الاغتناء الفاحش على حساب الجماهير المفقرة من خلال هذه السيطرة في الوقت نفسه الذي تدفع فيه وتيرة الفقر والتخلف والامية والعبودية المأجورة بشكل منهجي ومخطط له، ففي مثل هذه الاجواء من الاستبداد ظل المضطهدون والمستغلون والفقراء يتطلعون إلى أي قارب للنجاة وعن أي وسيلة ناجعة للمقامة واسقاط النظام الطبقي المستبد القائم، وبطبيعة الحال فإن للعدو وسائل دفاعه الذاتية فهو ينشر كلابه ومخابراته وجيشه ويمارس الاختطافات والاغتيالات والتعذيب والسجون في حق كل من سولت له نفسه الاعتراض على المافيات الحاكمة.

في ظل هذه الاجواء إذن لجأ المضطهدون في اطار الذفاع الشرعي عن ذواتهم الى أقصى حد من التطرف والعنف لتحقيق مواجهة متكافئة مع أقصى حد من الاستبداد والاضطهاد والعنف المجاني، وقد يحدث هذا اللجوء حتى بدون تفكير وتأمل مسبقين بل تحركه فقط رغبة الانتقام من السلطة المستبدة. فعلى مثل هذه القاعدة انفصلت التيارات المعارضة الى مجموعتين، المجموعات الظلامية والتي تتراوح بين المعتدل منها والمتطرف والتي تفسر العالم على اساس ميتافيزيقي وترى أن ما يقع للإنسان في اطار هذه الدول (حيث يتم اختزال حقيقة الحياة الدنيوية على اطلاقها في صيرورة الواقع المادي للانسان في الدول المغاربية والعربية) سببه هو الخروج عن الدين وعن الشريعة وأن الحل هو لجوء المضطهدين والمستغلين الى الاسلام السياسي الذي سيمكنهم على الاقل من احدى النتيجتين التاليتين، نتيجة دنيوية وهي تشكيل قوة اسلامية سياسية (طبقية بطبيعة الحال) قادرة على تحطيم السلطة القائمة وبالتالي فرض سيادة المجتمع الاسلامي المنشود الذي فيه "رحمة للجميع" نظريا. وإما الشهادة في اطار صيرورة تحقيق النتيجة الأولى وفي هذه الحالة سيظفر المؤمن الذي استشهد بالجنة بكل ملذاتها وهي حياة أخروية وهمية تتحقق فيها حسب الخطاب الديني كافة الأحلام التي تم انتهاكها في هذه الدنيا. لكن الاختلاف حول هذه الرؤية الميتافيزيقية داخل هذه المجموعات تنوع وتتشتت بين السنة والشيعة والخوارج والسلفية الجهادية وتعدد المذاهب وبين المعتدل منها والمتطرف وكل مجمعة تحدد منهجية طريق الخلاص بمنظورها الخاص.

وتجد هذه المجموعات في التراكم الثقافي الديني للشعوب المغاربية والعربية الارضية الخصبة لانتشارها، ويلعب التماثل الرمزي بين صورة الله والحاكم بأمره دورا في تقبل أقصى درجة من الاستبداد نظرا للهالة المقدسة التي يتضمنها هذا التماثل الرمزي. ولقد انتبهت القوى الامبريالية لهذا المفعول المخدر للدين والذي يصطحب الانسان منذ ولادته حتى وفاته وتنظم فيه رقابة دينية ذاتية خمس مرات في اليوم لضمان انضباط مطلق للحاكم الذي يمثل الله على الارض، فاستثمرت فيه بمعية دول البيترو دولار من أجل هيمنة نظرية القطيع والغاء كل امكانية لعودة العقل المتنور المتحرر المطالب بالديموقراطية والحرية والاشتراكية.

وقد استطاعت الامبرياليات خلال ما يسمى بالربيع الديموقراطي اللجوء الى التحالف مع الاسلام السياسي وفرضه بكافة الوسائل في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وهناك محاولة مماثلة في سوريا.

أما المجموعات الثانية فهي ذات الطبيعة اليسارية والتي تتراوح أيضا بين الراديكالية والتحريفية، بعضها يؤمن بالفكر الاشتراكي فعلا وبعضها يدعي الاشتراكية لكنه محافظ رجعي لنمط الانتاج الرأسمالي المهيمن. فالمجموعات الراديكالية ترى أن مواجهة الاستبداد والاستغلال يجب ان يتم على يد التنظيمات السياسية الذاتية للطبقة العاملة المضطهدين والمستغلين الذين يجب أن يشكلوا قوة سياسية تتمكن من انتزاع السلطة من المافيات الحاكمة حتى بواسطة اللجوء الى العنف الثوري في مواجهة عنف المافيات الحاكمة وبالتالي أن تفرض ديكتاتوريتها لغاية انهاء التفاوت الطبقي واستغلال الطبقة البرجوازية للطبقة العاملة وانهاء العمل المأجور وبالتالي اقامة نظام اقتصادي وسياسي اشتراكي تنعدم فيه الطبقات والعبودية المأجورة وتتحقق فيه مطامح الجميع وسعادتهم في هذه الدنيا وليس في العالم الأخروي. ففي صيرورة الاشتراكية يتم الوصول الى مرحلة الشيوعية حيث تنعدم الطبقات وينتهي استغلال واضطهاد الانسان للانسان وتتحقق السعادة للجميع، بحيث لا تصبح أية حاجة للتفكير في حياة أخروية وهمية لتعويض الانسان عن بؤسه في حياة الدنيا.

أما المجموعات اليسارية التحريفية فتلعب على الخطاب الاشتراكي لخداع الطبقة العاملة واعطائها الوهم بأن الاشتراكية قد تتحقق تدريجيا يكفي فقط التصويت على الاحزاب الاشتراكية التي تصبح وصية على الطبقة العاملة داخل البرلمانات والحكومات، لكن هذه الأحزاب في الواقع لا علاقة لها بالاشتراكية بل تمارس مع الأحزاب الرأسمالية والأحزاب الاسلاموية لحبة التناوب على استغلال الطبقة العاملة عن طريق تغيير الخطاب والوعود فقط بينما النتيجة هي استمرار الاستغلال والاضطهاد وتعميق سيادة المجتمع الطبقي ودعم المافيات الحاكمة. بل ان هذه القوى "الاشتراكية التحريفية" تلعب الى جانب الاحزاب اليمينية والاسلاموية دورا استئصاليا لليسار الراديكالي. وتعتبر البرجوازية الصغرى بفكرها الانتهازي هي القوى المتحكمة في هذه المجموعات من أحزاب اليسار الانتهازي وتشكل عدوا مقنعا للطبقة العاملة.

الأحداث التي وقعت على الخصوص في تونس وفي مصر ووصول الاسلام السياسي للحكم عرى حقيقة هذا الاخير أمام عيون الجماهير، فالإسلام السياسي الذي شكل ثورة مضادة في البلدين بتحالفه مع العسكر لم يحمل معه سوى الاضطهاد والاستغلال وبقاء الأضاع على حالها مع شحنة زائدة من تسويق الوهم لذلك جاء الرفض سريعا من لدن الجماهير الشعبية سواء في مصر أو في تونس. لكن بدلا من أن تتحول التنظيمات الذاتية للجماهير الشعبية نحو فرض وضع ثوري جديد يتطلع للحرية والانعتاق والاشتراكية، وجدت هذه الجماهير نفسها نتيجة ضعف وهزالة تنظيمات دفاعها الذاتي بين كماشتين، فهناك من جهة كماشة الاسلام السياسي الذي فرض هيمنته بالقوة على السلطة وبالتالي فرض وصفته الدينية الظلامية التي لا مكان فيها للتحرر والانعتاق (انظر الرؤية الاسلامية عند حسن الكتاني في المغرب بخصوص المقارنة بين الاسلام والديموقراطية حيث اعتبرهما كالماء والزيت لا يلتقيان أبدا) وبين كماشة فلول النظام السابق الذي يريد أن يدخل في أدهان الجماهير الشعبية أن الأنظمة الدكتاتورية السابقة بمطلق تعفنها هي الحل الأفضل للجماهير من حكم الاسلام السياسي الذي سيدخلها في مرحلة من الفاشستية والانحطاط، وبالتالي لجأ الطرفان في مصر الى صراع دموي واتهام البعض للبعض الآخر والذي سقط ضحيته الابرياء التابعين من الطرفين.

الجماهير الشعبية هي اذن في حاجة الى التحرر الفعلي من هذه الكماشة ومن الهيمنة الطبقية كيفما كانت الايديولوجية المهيمنة، فالجماهير الشعبية تتطلع بواسطة تنظيماتها الذاتية الديموقراطية الى بناء مجالس شعبية في كل مكان لإدارة نفسها بنفسها ولتحرير نفسها بنفسها، والعمل في صيرورة متواصلة على بناء الاشتراكية وانهاء استغلال الانسان للإنسان.

ان صيرورة الوعي تتقدم ولو بشكل حثيت في كل من مصر وتونس لأن هناك تطور متسارع للأحداث يتم التعامل معها يوميا بل في كل ساعة ودقيقة، أما في المغرب فالامور لا تتحرك الى الأمام بل نراها تسير الى الخلف، كما لو أن الاحداث في تونس ومصر تقوي خطاب البرجوازية الصغرى الانتهازية داخل قلاعها الحزبية والنقابية حيث يقول لسان حالها أن أفضل ما يمكن فعله فهو المحافظة على البنيات السياسية المتخلفة ما دامت تدر عليهم عائدات خيالية والعمل في المقابل على تخوييف الطبقة العاملة من الضياع في حالة بروز أي بوادر ثورية في وسطها.

ويبدوا أن هذا الوضع الذهني والسياسي السلبي أثر حتى على المجموعات اليسارية الراديكالية التي ظلت تستكين الى الخمول والترقب والانتظارية، فتعمق بذلك من أزمتها المزمنة ومن أمراضها الطفولية المتعددة.