تأملات / أعاجزون عن رؤية لحظة الجلاء التاريخية !؟


رضا الظاهر
الحوار المتمدن - العدد: 3595 - 2012 / 1 / 2 - 17:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تأملات
أعاجزون عن رؤية
لحظة الجلاء التاريخية !؟


بينما يتعين الاعتراف، أولاً، بحقيقة أن جلاء القوات المحتلة يشكل منعطفاً هاماً على طريق استعادة السيادة الوطنية، إذ كان الوجود العسكري الأميركي عقبة أمام قدرة الشعب على تقرير مصيره، لابد من رؤية اللوحة بمكوناتها ودونما تحليلات تتسم بالثنائية والتبسيط. ولعل من بين المسائل التي ينبغي النظر فيها خروج العراق من الفصل السابع وإعادة السيطرة على ثروات البلاد وقدراتها الاقتصادية واستثمارها في بناء الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.
لقد أكمل "المحررون" دورة الخراب المادي والروحي التي دشنتها الدكتاتورية الفاشية مخلفة تركة ثقيلة للغاية. ومن غير المنصف الاكتفاء بالقول إن العم سام "حررنا"، بوسيلة الحرب، من نظام استبداد قلّ نظيره. فما فعله لم يكن تحريراً بالمعني الحقيقي المنتظر، وإنما مرحلة جديدة من انحطاط التاريخ العراقي كشفت، من بين حقائق صارخة أخرى، تخبط "المحررين" وقصر نظرتهم التي لا ترى سوى مصالحهم، وبالتالي إخفاقهم المدوي في إنجاز مهمتهم المعلنة، مهمة بناء دولة مدنية حديثة أريد لها، زعماً، أن تكون نموذجاً لما يسمى بشرق أوسط جديد.
ومن نافل القول إن الاحتلال أشاع الفوضى، وأجج الصراع السياسي والطائفية والتعصب، وجلب آفة الفساد على كل المستويات. وفي ظله انتشر الارهاب والجريمة المنظمة وغاب الأمن، وشحت الخدمات الأساسية، وتفاقمت البطالة، واستمرت انتهاكات حقوق الانسان، وخصوصاً حقوق النساء، وزاد عدد الأرامل والأيتام والمعوقين والمشردين والمعوزين ومن هم تحت خط الفقر، وتفاقمت معاناة الملايين من الكادحين والمحرومين في سائر الميادين.
ولعل أقسى ما في الدمار الذي سببه الاحتلال ذلك العدد المهول من الضحايا حيث تشير أكثر التقديرات محافظة الى أن عدد القتلى المدنيين لا يقل عن 110 آلاف حسب معهد بروكينغز الأميركي. غير أن المحتلين يتجاهلون، لأسباب معلومة، هذه المأساة المروعة، وغالباً ما يتحدثون عن ضحاياهم لا ضحايا البلد المنكوب.
أما كلفة الحرب، التي قدرها الأميركان في البداية بما يتراوح بين 50 الى 80 مليار دولار، فقد انتهت الى ما يزيد على تريليون دولار حتى الآن. وتقدر الكلفة الاجمالية على المدى المنظور، بما فيها علاج المصابين والجرحى، بحوالي أربعة تريليونات دولار سيدفع المواطنون ضرائب لتسديد فاتورتها خلال عقود من الزمن حسب تقديرات خبراء ومؤسسات معنية أميركية. هذا ناهيكم عن إهدار المال العراقي ومن بين فضائحه قضية الـ 17 مليار دولار التي لا يعرف مصيرها حتى اليوم.
ومن الطبيعي أن مسألة خروج القوات الأميركية لا تعني نهاية النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري. فهذا النفوذ باقٍ وإن تغيرت أشكال بقائه. ولا يقتصر الأمر على وجود أكبر سفارة أميركية في العالم سيزيد تعداد العاملين فيها على 16 ألفاً، ناهيكم عن الصيغ الأخرى لتغلغل النفوذ الأميركي.
ومن ناحية أخرى فاننا نشهد خلال الأشهر الأخيرة، وارتباطاً بالعد التنازلي للوجود العسكري الأميركي، تصاعداً في تحركات القوى الاقليمية الساعية الى ملء الفراغ وتحويل العراق الى ساحة للصراع مع الخصوم في المنطقة.
غير أنه بدلاً من التقاط لحظة الانسحاب انتقلت بعض القوى المتنفذة، ممن كانت تزايد في سياق مقاومة الاحتلال وخروجه، الى الطرف الآخر، أي الى استجداء بقاء قوات الاحتلال حفاظاً على مصالحها والامتيازات التي تحققت لها بفضل الاحتلال ووجوده.
وهناك من يعتقد أن وجود الأميركان هو الضامن لأمن البلاد واستقرارها وتطورها وتجنيبها الحرب الطائفية متناسياً أن تجربة السنوات الثمان الماضية أكدت العكس. ففي ذروة وجود 170 ألفا من القوات الأميركية لم توفر الحد الأدنى من الاستقرار بل عمقت الانقسامات وغذت نزعات الهيمنة.
إن ما يريده الأميركان، هو، في خاتمة المطاف، أنظمة طائفية سياسية تابعة و"ديمقراطيات هشة" تظل منسجمة في برامجها ومشاريعها الاقتصادية والاجتماعية مع مصالح وأهداف السياسات الليبرالية الجديدة والاقتصاد الرأسمالي المعولم الخاضع لهيمنة الاحتكارات والضامن لمصالح الرأسمال العالمي.
وما من شك في أن الاقتصاد العراقي الريعي الأحادي المشوه الآن وبالطريقة التي أعيد بها بناؤه وفق مباديء ما يسمى اقتصاد السوق الحر ووصفات صندوق النقد والبنك الدوليين سيكون اقتصاداً تابعاً ما لم ترسَ أسس سياسة تنموية وطنية تضع في المقدمة مصالح الشعب وحاجاته الأساسية.
* * *
من بين الحقائق الساطعة تفاقم الأزمة السياسية الى حد أن القوى السياسية المتنفذة لا تبدو قادرة حتى على إدراك لحظة الجلاء التاريخية وما تتطلبه من تخلٍ عن الصراعات الضيقة.
أتستطيع حكومة محاصصات مشلولة ملء الفراغ الأمني وإعادة النظر بالعملية السياسية والمخاطر المحدقة بها ؟
أتستطيع قوى تتقاتل على السلطة والنفوذ أن توفر شرط استعادة الوحدة الوطنية، أساس البحث عن بديل وطني ديمقراطي حقيقي قادر على انقاذ البلاد ؟
ينبغي التخلي عن الأوهام، ذلك أن من يوفر هذا الشرط هو مشروع القوى الوطنية الديمقراطية البديل العابر للطوائف والاثنيات والقادر على إخراج البلاد من دوامة الأزمات والصراعات التي تنذر بتفتيت وحدتها.
هذا هو الرهان الذي ينبغي أن نخلق سبل السعي اليه .. وما من رهان آخر.