العرب وإسبانيا من الجنرال فرانكو إلى الملك فليبي السادس عبر بوابة القاهرة
خالد سالم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 18:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."
العرب وإسبانيا من الجنرال فرانكو إلى الملك فليبي السادس عبر بوابة القاهرة
د. خالد سالم
عندما كان يُذكر إسم إسبانيا في الماضي يحلق المخيال العربي في سماء الأندلس، ومع التواتر الإعلامي وسيولة مادته عبر منصات التواصل أخذت الصورة تتحول إلى الحاضر ليدرك كثيرون أن الماضي المشترك من شأنه أن يخدم علاقات ثنائية عصرية مع بلد عصري، وديمقراطي، يتمتع بملكية برلمانية، بدلاً من الغوص في خُرافة الفردوس المفقود، بغية استردادها.
كانت مصر سباقة إلى الواقع الجديد فوثقت علاقتها بمدريد بدءًا من الحقبة الناصرية، فيالخمسينات والستينات، في زمن سعت فيه الصهيونية إلى عزل إسبانيا بحجة واهية، تكمن في العلاقات التي جمعت إسبانيا وألمانيا النازية، إضافة إلى أن اليهود لم ينسوا طردهم من الأندلس قبل قليل من سقوط غرناطة عام 1492م، فكانت حجة لاستنزاف إسبانيا مع عودة الديمقراطية بعد رحيل الجنرال فرانكو، وهو ما كان لهم، إذ سُمح لليهود السفارديم، الذين شملهم الطرد من الأندلس، بالحصول على الجنسية الإسبانية. وكان من ثمار الضغوط الصهيونية، إلى جانب موقف واشنطن، في تأخر قبول عضوية إسبانيا في الأمم المتحدة ومؤسساتها حتى منتصف الخمسينات.
كان النظام الإسباني بقيادة الجنرال فرانكو يرفض الإعتراف بالكيان الصهيوني، فكانت آخر دولة في أوروبا الغربية تعترف به في يناير عام 1986. وكان هذا الاعتراف أحد الشروط غير المعلنة لقبول انضمام إسبانيا إلى السوق المشتركة، وعودتها إلى سياقها الأوروبي والغربي، بعد عزلة عاشتها بعد الحرب الأهلية (1936-1939) وصعود الجنرال فرانكو إلى سدة السلطة.
ومع فتح سفارة الكيان في مدريد ازداد نشاط الموساد في إسبانيا وبدأت على استحياء حملات تشويه العرب وقضيتهم الأولى سنتئذ، القضية الفلسطينية، وتعديل على المزاج الإسباني تجاه اليهود وإسرائيل. وقطعوا شوطًا كبيرًا في هذا السبيل، بينما العرب لم يستطيعوا الحفاظ على زخم العقدين الأوليين بعد منتصف القرن العشرين. إلا أن الحقبة النفطية، بعد حرب أكتوبر 1973، أسفرت تنبه إسبانيا إلى أهمية المشرق العربي، مع توظيف التاريخ المشترك في الأندلس.
لكن إسبانيا لم تغير موقفها من القضية الفلسطينية رغم النشاط الصهيوني، وكان ثمرة ذلك انعقاد مؤتمر مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط سنة 1991م، على إثر حرب عاصفة الصحراء في الكويت وتدمير الجيش العراقي. واصلت مدريد دعمها للسلطة الفلسطينية سياسيًا واقتصاديًا، وحولت مكتب منظمة التحرير الفلسطينية إلى سفارة، وانتهى الأمر إلى الاعتراف بدولة فلسطين العام الماضي. وكان ياسر عرفات دائم التردد على العاصمة الإسبانية والاجتماع بقادتها السياسيين، من بينهم الملك خوان كارلوس، والد فليبي السادس، الملك الحالي.
المدهش أن وزير السياحة والإعلام في السنين الأخير لنظام الجنرال فرنكو، مانويل فراغا، كانت له تصريحات مناوئة للكيان الصهيوني عندما زار لبنان في تلك الفترة. وورث اليمين الإسباني موقف نظام فرانكو المناوئ لليهود وكيانهم المغتصب، ثم أخذت الأمور تشهد تحولًا على استحياء فحدث تحول. ومع ترسيخ الديمقراطية أسس مانويل فراغا، الوزير المتنفذ في عهد فرانكو، حزبًا سياسيًا يمثل الطيف اليميني المنافس للحزب الإشتراكي في الإنتخابات النيابية ورئاسة الحكومة، فتداولاها دون غيرهما حتى اليوم.
وبعد رحيل مانويل فراغا عن قمة الحزب الشعبي وصعود آخرين محله، أخذت الأمور تأخذ منحى آخر تجاه إسرائيل واليهود، خاصة بعد وصول خوسيه ماريا أثنار إلى رئاسة الحكومة على إثر انهاك الحكومة الإشتراكية، سنة 1996. وكان أثنار أحد الثلاثي الذي ضمه مع توني بلير وجورج بوش الإبن في اجتماع جزر الأوزور البرتغالية حيث اتخذوا قرار غزو العراق عام 2003.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها شاركت إسبانيا بقوات ضمن القوات الغربية المرابطة في العراق، ثم سحبها رئيس الحكومة الإشتراكي خوسيه لويس ثباتيرو بعد انزال الهزيمة بحكومة الحزب الشعبي برئاسة خوسيه ماريا أثنار، جراء حوادث تفجير قطارات ضواحي مدريد، في الحادي عشر من مارس عام 2004، ما أسفر عن مقتل ما يقرب من مئتي إسباني، فكان حادثًا زعزع ثقة الشعب الإسباني في حكومة اليمين.
في تلك الأثناء صب اليمين الخاسر جام غضبه على العرب والمسلمين جراء تفجيرات القطارات، ووصل بأثنار في هجومه على العرب والمسلمين بجمتله الشهيرة "إنهم يكرهوننا لأننا طردناهم من الأندلس"، لكن هذه لم تكن الحقيقة. في هذه الأثناء تضاعف عدد المهاجرين المغاربيين غير الشرعيين إلى إسبانيا، ما اتخذ ذريعة للهجوم عليهم، واستطاع اليمين من تجنيد وسائل الإعلام التي تحذو حذوه.
أخذ الحزب مسارًا مؤيدًا للكيان الصهيوني وجذب إليه شريحة من الناخبين. ثم تأسس حزب يميني متطرف "بوكس"، الذي لا يخفي كراهيته للمهاجرين، وخاصة المسلمين، والمطالبة بطردهم.
تموضع اليمين الإسباني بشقيه مع إسرائيل بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، واستمات في الدفاع عن دولة الإحتلال في المجالس النيابية العامة والإقليمية، لكن الحكومة الإشتراكية لم تحد عن موقفها الذي تمخض عن الاعتراف بالدولة الفلطسينية العام الماضي، فكانت مبادرة انضمت إليها دول أخرى.
الحقيقة أنني ذكرت في أكثر من مقال ومناسبة أن الشعب الإسباني هو الأقرب للشعوب العربية، ورغم هذا لا تحظى إسبانيا بالاهتمام السياسي والإقتصادي الذي توليه الدول العربية للمستعمرين القدامي، إنجلترا وفرنسا. وتجلى هذا في وعي الشعب الإسباني بالقضايا العربية، وهو ما تمخض عن مظاهرات ضخمة مؤيدة لفلسطين وضد إسرائيل، و في موقف الحكومة الإشتراكية من حرب الإبادة والتدمير التي تشنها دولة الإحتلال منذ السابع من أكتوبر 2023. كما أن الإسباني بتجمهرهم في مسار سباق الدراجات الدولي حول إسبانيا إلى إلغائه لمشاركة فريق إسرائيلي الأسبوع الماضي. وجاء خطاب الملك فليبي السادس أمس في الزيارة التي يقوم به لمصر هذه الأيام مع قرينته الملكة ليتيثا أورتيث ليؤكد مؤقف بلاده مما يحدث في غزة. وهي مواقف فيها تحدٍ ورفض للظلم والاحتلال، من منطلق حب السلام والوفاء الذي يتمتع به الشعب الإسباني.
وهنا يحضرني تصريح للملكة ليتيثا قبل أن تترك العمل الإعلامي عام 2005، إذ أعربت عن حلمها في
بأن تكون أول من يذيع خبر التوصل إلى إقامة الدولة الفلسطينية ليحل السلام في الشرق الأوسط. ومعروف أنها كانت مذيعة في نشرة الأخبار في القناة الأولى للتلفزيون الإسباني حتى زواجها من الأمير وريث العرش سنتئذ، الأمير فليبي دي بوربون، الملك الحالي.
زيارة ملكا إسبانيا لمصر التي تنتهي اليوم الجمعة تمثل نقطة ساطعة في تاريخ العلاقات بين البلدين وتأكيدًا لموقف إسبانيا الثابت من القضية الفلسطينية ورفضها وإدانتها لحرب الإبادة وتدمير غزة. وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد زار إسبانيا منذ سبعة أشهر وتجلت حفاوة السلطات الإسبانية به، ما أسفر عن الزيارة الحالية التي تمثل دعمًا للعلاقات السياسية والاقتصادية والسياحية بين البلدين.
الشعب المصري عبر منصات التواصل خص ملكي إسبانيا مساحة كبيرة، احتفاءً بموقف إسبانيا من القضية الفلسطينية. ويشعر المراقب أننا أمام حدث تاريخي، وهو ما عززه اهتمام وسائل الاعلام المصرية ومعها العربية بهذه الزيارة وبموقف مصر الرسمي الرافض للتهجير والمساند بمالساعدات لسكان غزة في محنتهم.