الحي المحمدي يسكن وجدان حسن نرايس -
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 20:48
المحور:
الادب والفن
يعتبر كتاب حسن نرايس "وجوه وأمكنة" سجلا سلط الضوء على بعض الوجوه البارزة التي جاد بها الحي المحمدي، مقترنة بذكريات إما جميلة أو سيئة. ينتمي المؤلف إلى هذا المكان بالدم، بالقلب بالروح بالوجدان وبالجسد.
ونظرا لما يزخر به الحي المحمدي من تجارب شخصية ومسارات فنية وإبداعية، كتب نرايس في "مقدمة لا بد منها"، عن هذا الحي يقول: "إنه حالة حب أبدية وحالة عشق خالدة.. إنه جدير بعشرات إن لم نقل مئات المؤلفات والكتب والإصدارات تحكيه بين الأمكنة والأزمنة والوجوه بين الماضي والحاضر".
من الوجوه التي أشار إليها الكتاب، هناك الشاعر عنيبة الحيمر. في الصفحة 161 يقول نرايس عن هذا الشاعر :" أصدر ديوانه الأول سنة 1968 وهو طالب بجامعة ظهر (المهراز) بفاس. ولكن في نهاية 1973، كان أمام اختيارين لا ثالث لهما: إما أن يدفع تسبيقا لامتلاك بقعة أرضية لبناء منزل أو أن يطبع ديوانه الثاني على حسابه. أدركت ماذا يمكن أن يكون اختيار الشاعر المجنون". لقد اختار الانتصار للشعر على حساب بناء البقعة الأرضية.
من الوجوه التي عرف بها الحي المحمدي لدينا كاتب وشاعر تميز بعطائه الغزير في مجالات الشعر واليوميات والرسم اسمه عبد اللطيف البطل. يدلي حسن نرايس، الإعلامي والناقد السينمائي، بجزء من شهادته في حق عبد اللطيف قائلا: "بدأ تجربته في مجال الرسم والتشكيل في مرحلة الإعدادي وعمره لا يتجاوز سن المراهقة" ص: 194. في نفس الشهادة، يخبرنا نرايس بأن عبد اللطيف فاز بإحدى المسابقات المنظمة من طرف نيابة التعليم بالدار البيضاء. كما شارك في معرض خاص بالثقافة الإفريقية أواسط التسعينيات، ثم ساهم بلوحاته في عدة معارض جماعية داخل المغرب وخارجه. وعن إضافته النوعية في مجال الزجل، قال نرايس، إنها تجربة "مرتبطة أساسا بعلاقة الصداقة الأخوية التي تربطه بالفنان (الموسيقي) المحبوب والأنيق عبد الرحيم عسكوري منذ أواسط السبعينيات" (ص: 195).
وبما أن الحي المحمدي لم يكن مشتلا لمواهب الكتابة فقط، بل نشأت وترعرعت بين جنباته مواهب في الغناء الشعبي انبثقت عنها فرق غنائية مثل (ناس الغيوان) و(جيل جيلالة) و(المشاهب)، إلخ... لهذا كان لزاما على صاحبنا أن يفرد لمجموعة (ناس الغيوان) 13 صفحة من كتابه الصادر حديثا: "الحي المحمدي وجوه وأمكنة".
ومن أغرب الطرائف وأكثرها إثارة للضحك ما حدث للعربي باطما بعد ذيوع أغنية "مهمومة" الصادرة في بداية عقد الثمانينيات وهو يريد شراء كيلوغرام من اللحم من عند قصاب الحي. كان أحد سكان الحي المدعو (كيرا) واقفا بجانب حانوت الجزار وعندما شاهد باطما مستعدا لأداء ثمن كيلوغرام من اللحم البقري قال له: "مهمومة علينا غير حنا؟!".
في هذا الحيز المخصص لـ(ناس الغيوان) يكشف لنا نرايس عن الطاقات والمواهب الغنائية والموسيقية التي كان يزخر بها الحي المحمدي، وكيف أنها تهيكلت وتأسست في مجموعات بمبادرات شخصية من الرواد وبإمكانيات معنوية أكثر مما هي مادية. ومن الاجتهادات التي يقودنا إليها الكاتب ضمن هذا المقام محاولته الإجابة عن هذا السؤال: هل تنبأت المجموعة الغيوانية بما وقع في السنوات الأخيرة الماضية؟ الجواب بنعم، والدليل كلمات "أغنية مر عليها ردح من الدهر":
"سبحان الله صيفنا ولا شتوة.. وارجع فصل الربيع فبلدان خريف ومضات أيامنا وسرقتنا سهوة.. وتخلطات لديان شلا ليك نصيف.. الصهيون فغاية لعلو دركو سطوة.. وقبلنا دلهم عاد الشرق كفيف والحاكم كيصول كيقبض الرشوة.. والشاهد كيزيد فالشهادة تحريف.. فهم المعنى وعيق واستافد وروى.. هذا سر الكنان ماراهو تصحيف..
في الكتاب كذلك حديث عن أشهر أمكنة الحي المحمدي مثلما يوحي عنوانه. هكذا ننتقل عبر مركبة السرد من مكان إلى آخر ونحن مأخوذون بسحر أسمائها وغرابتها أحيانا: خياط الغيوان، سينما شريف، سينما السعادة، عوينة شامة، سوسيكا، كاريان سنطرال، البوماضا، الجلبة، الصاكة الصفراء، النمرة زوج، تيران الطاس، إعدادية المستقبل، ثانوية عقبة بن نافع.
ختاما، يجمل بنا الاستشهاد بالجملة التي تتصدر القسم الخاص بـ"بورتريهات ىوجوه من الحي": "من السهل أن يخرج أولاد الحي من الحي.. ولكن، من الصعب أن يخرج الحي من أولاد الحي"، حتى يمكن لنا أن نقول: بعدما كان الحي مسكنا لأهله أصبح جزء لا يتجزأ من وجدانهم..