وجدت امرأة تملكهم ح 2
عباس علي العلي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8331 - 2025 / 5 / 3 - 02:47
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إلا أن المهم الذي لفت الأنظار من خلال تعقب السبأيين أن التأريخ يذكرنا بوجود ضخم ومترامي الأطراف ومتعدد الأتجاهات التي تصل حدوده في بعض الأحيان إلى وسط العراق وغالب بلاد الشام، فالغساسنة والمناذرة هم شعوب سبأية تربطها مع سبأ الأم رابطة الأصل المشترك وربما الملك الواحد، هناك عدة نظريات بشأن أصول السبئيتين القديمة، فعند الإخباريين والنسابة العرب هم أبناء حمير وكهلان بني سبأ حفيد النبي هود (سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن يقطان/ قحطان بن هود)، وأن سبأ كان والد كهلان وحِميَّر وهم القسمان الذين يعود اليهم قسم من العرب عرفوا في الأدبيات بالعرب السبئية أو اليمانية، وزعم اهل الأخبار أن عبد شمس أو سبأ قبيل وفاته بعد خمسمئة سنة من الحياة، اوصى حمير بالملك ووزع كهلان خارج بلاد اليمن ليحموا المملكة، وسردوا عددا من الأسماء لملوك خرافيين مثل مزيقياء الملطوم ومزيقياء هذا اسمه عامر بن عمرو الأزدي وسمي بإسمه ذاك لأنه كانت تنسج له في كل سنة ثلاث مائة وستون حلة، ثم يأذن للناس في الدخول فإذا أرادوا الخروج استلبت عنه وتمزق قطعاً فسمي على ما زعموا ثم خرج مزيقياء هذا من اليمن قبيل انهيار سد مأرب وبقي الملك لبني حِميَّر وعلى هذا تنتهي قصة سبأ عند النسابة وأهل الأخبار.
ولكن الدراسات الحديثة عن سبأ تظهر تاريخاً أكثر تفصيلاً، اعتمد العلماء في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على العهد القديم كمصدر أساسي ينقلون منه أحداث تأريخية بلا تحفظ وكأنها مسلمات ثابتة، وكذبك من الأساطير العربية والإثيوبية لمحاولة تدوين تاريخ متسلسل عن هذه المملكة، فيستنبط من العهد القديم وجود ثلاث ممالك باسم سبأ بسلسلة لها أنساب مختلفة، واحدة منها على حدود الهلال الخصيب تحديدا، وأخرى بجنوب الجزيرة العربية وأخرى فيما يعرف بإثيوبيا اليوم، وهنا لا يمكن التأكد من أي هذه الادعاءات سواء روايات الإخباريين والنسابة العرب، العهد القديم، والأساطير الإثيوبية، ولكن لا يمكن إستبعادها تماماً فهي تحوي لمحات عن تاريخ سبأ خاصة مع وجود اللقى والآثاريات والأدلة الأركولوجية التي تثبت وتنفي أيا من المزاعم تلك.
أيضا لا يمكننا أن نتجاهل وجود ثغرات تاريخية كبرى زمنيا في تسلسل الوجود الحضاري لشعب ممتد من شمال العراق الحالي وصولا إلى اقصى جنوب اليمن، عاش في حركة وتنقل وفي هجرات متعاكسة، وتواصل في حراك طبيعي داخل حاضن طبيعي له، إنما يدل على أن هذه المجتمعات والشعوب هي مجموعة عرقية ذات أصل مشترك وربما المكان أو العامل الخارجي هو من قسم وهميا تأريخ وتسميات وواقع هذا الجزء من العالم القديم لأسباب ومباعث كثيرة أهمها الصراع الديني، فكما كان العراقيون مثلا لا يعرفون مفهوم الملك الذي نفهمه اليوم ويستعيضون بذلك بلفظ "جل" أو "قل" بمعنى الحاكم العظيم "جل خامش أو خامس" مثلا، ، نجد أن تأريخ سبا في معظمه هو تأريخ هذا الجل ولنفس التسمية (كانت سبأ تضم عددا كبيرا من القبائل ومقر الحكم الأساسي كان في مدينة "مرب" أو مأرب، وكل قبيلة أو اتحاد بالأصح تحكم أراضيها ذاتيا وعلى رأسهم قيل أو ذو)، من هذه الفجوات التأريخية هي الفترة المحصورة قبل وجود مملكة كندة، وممالك الغساسنة والمناذرة وصلتهما بالواقع "بلاد الهلال الخصيب أو الجزيرة العربية، حيث لا يمكن أن تنشأ مملكة كبرى وعظيمة لمجرد نزوح قبيلة أو أسرة من مكان لمكان دون أن تكون هناك مقدمات وأسس أجتماعية وبشرية وإمكانيات تسهل وتهيء لهذا النشوء.
هناك دلائل على وجود أثار ودلائل سبئية في نفس الفترة التي تحكي تأريخ سليمان وهي أواخر الألفية الأولى قبل الميلاد في شمال الجزيرة العربية، فقد ورد في نص آشوري للملك سرجون الثاني اسم "يثع أمر" واختلف الباحثون في المقصود ما إذا كان هو مكرب سبأ في مأرب أم أنه زعيم أو زعيمة قبيلة سبئية في مناطق قريبة من الآشوريين، يحكي النص الآشوري أن "يثع أمر" هذا قدم هدية للملك واختلف الباحثون في سبب ذلك ومغزاه، فلا توجد دلائل أن الآشوريين وصلوا لليمن فالهدية قد تكون من أحد زعماء المستعمرات السبئية في جنوب العراق شمال الجزيرة، والغالب كان من باب التلطف للآشوريين وكسب ثقتهم في حماية وتأمين القوافل السبئية التي لها تجارة كبيرة في أسواق العراق حينها.
ولكن تطابق الأسماء يرجح أن الهدية مرسلة من اليمن فإن كانت كذلك فالأرجح أن غزو الآشوريين لـ"آدوماتو" (دومة الجندل) أثر على القوافل السبئية، فعمل السبئيون في اليمن على تقليل أي ضرر ناتج عن هذه الغزوة على تجارتهم بتقديم هدية، لإيصال رسالة للآشوريين أنهم لا يريدون حربا والإبقاء على سلامة العلاقات التجارية بينهم، قدر الباحثون فترة حكم "يثع أمر وتر" في القرن الثامن ق.م حكم بعد يثع أمر وتر هذا ابنه كربئيل بين وقام بتوسيع وتحسين مدينة "نشق" وهي في محافظة الجوف حاليا، وأرسل كربئيل بين هدية إلى ملك آشوري آخر هو سنحاريب، ومثل النص القديم الذي يشير لتقديم يمنيين لهدايا من البخور لفرعون مصر المسيطر على سورية، فإن هدف الهدية المقدمة للملك الآشوري كان تسهيل التبادل التجاري بين العراق واليمن ولكسب ثقة الآشوريين بالقوافل السبئية.
جاء في (الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية) (1 / 542) عن تأريخ مملكة سبأ ووجودها الجغرافي وإن لم يكن حاسما بالقدر الذي يشكل يقينا به، أن سبأ أرض وحضارة ومملكة يمنية خالصة (يرى جمهور العلماء أن الآثار الكشفية في اليمن تثبت أرض سبأ وحضارة سبأ في مشرق اليمن، وأن منطقة مارب شهدت حضارة سبئية راقية في القرن العاشر قبل الميلاد، وهو القرن الذي عاش فيه النبي سليمان عليه السلام، بل إن أحدث الدلائل الأثرية تشير إلى حياة مدنية تقوم على نظام الري منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وحينما يولي المرء وجهه في منطقة مارب اليوم يجد أثراً ما لسبأ أو نقشاً يذكر اسم سبأ أو قبيلة سبأ أو ملك سبأ. بينما لم يُعْثر- فيما نعلم- على أي أثر في شمال غرب الجزيرة من مطلع الألف الأول قبل بالميلاد يمكن أن يُومِئ إلى حضارة راقية أو إلى مملكة سبئية أخرى. وإن كان قد عثر على آثار معينية ولحيانية وغيرها في تلك المناطق خاصةً في العلا (ددان القديمة)كما أن الجهود الأثرية في الحبشة لم تسفر عن اكتشاف حضارة راقية هناك يعود تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد. وتفيد المعلومات الأثرية أن أقدم النقوش التي عثر عليها في الحبشة هي سبئية ومكتوبة بخط المسند مما يرجح القول إن أصحابها كانوا يقتفون آثار حاضرة سبأ في اليمن).
على كل حال نتابع تأريخ سبأ بعد القرن التاسع قبل الميلاد أي بعد حكم سليمان لنرى حقيقة هذه المملكة التي عمرت طويلا وأزدهرت عظيما، ففي القرن السابع ق.م قام "المكرب كربئيل وتر" بتغيير لقبه من قل إلى ملك، فقد بدأ حكمه كمكرب ودون كتابة طويلة بخط المسند يحكي فيها متى صارا ملكا، قام هذا الملك بتوسيع نفوذ سبأ وشن حملة عسكرية خلفت تسعة وعشرين ألف وستمائة قتيل وعددا أكبر من الأسرى، أسمى الباحثون كتابته "كتابة صرواح" كونه كتبها في معبد الإله المقه في تلك المدينة، وتعد هذه الكتابة من أهم النقوش السبئية المكتشفة حتى الآن، وللأسف فإن الإهمال طالها وطمست كثير من الحروف الواردة، فقد ذكر شيخ الأثريين المصري أحمد فخري بأن النقش معرض لعبث العامة بدأ النقش بعبارة (هذا ما أمر بتسطيره كربئيل وتر بن ذمار علي مكرب سبأ عندما صار ملكا وذلك لإلهه إل مقه ولشعبه، شعب سبأ).