التموضع الروسي الجديد


محمد سيد رصاص
الحوار المتمدن - العدد: 7587 - 2023 / 4 / 20 - 23:05
المحور: السياسة والعلاقات الدولية     


في يوم 31 آذار الماضي، صدرت وثيقة تحدّد رؤية روسيا للعالم بعد اجتماع «مجلس الأمن القومي الروسي» برئاسة الرئيس فلاديمير بوتين، الذي سمّى الوثيقة بأنها «كتاب يد الديبلوماسي الروسي». الوثيقة تأتي بعد أكثر من عام على بدء الحرب الأوكرانية، التي نقلت روسيا من وضعية التوتر المكتوم، أو الظاهر، مع واشنطن منذ الحرب الجورجية عام 2008 إلى وضعية حرب غير مباشرة بين روسيا والغرب الأميركي-الأوروبي تجري منذ يوم 24 شباط 2022 في الأرض الأوكرانية ويتولى الأوكران وضعية الوكيل في مواجهة موسكو.

تسمي الوثيقة «الولايات المتحدة الأميركية بوصفها التهديد الأكبر لروسيا وأنها هي المحرك والمنظم والمنفذ للسياسة العدوانية التي ينتجها الغرب بمجموعه» فيما ترى الوثيقة في الصين والهند «شريكين استراتيجيين» لروسيا، ثم تقوم الوثيقة بتحديد الأهداف عند روسيا بأنها «إزالة آثار هيمنة الولايات المتحدة والدول الأخرى غير الصديقة على السياسة العالمية... والسعي نحو خلق أوضاع تساعد أي دولة على رفض الكولونيالية الجديدة ومقاومة أي نزعات توجد عند أطراف دولية ساعية للهيمنة». يلفت النظر هنا توجه روسي موجود في الوثيقة نحو سياسة «تعميق الروابط والتعاون مع مراكز القوة والتطور الصديقة المتمركزة في منطقة أوراسيا» ثم تنتقل الوثيقة إلى تعريف روسيا الراهنة بأنها «حضارة ودولة» وهي لها مهمة الدفاع عن ما تقوله الوثيقة أنه «العالم الروسي» وعن «القيم الأخلاقية والروحية الروسية التقليدية في وجه المواقف الأيديولوجية الليبرالية الجديدة».


في تقديم وزير الخارجية الروسي للوثيقة قال بأنها «تعكس تغييرات ثورية في القضايا العالمية» أتت وفق ما قال بعد الحرب الأوكرانية أو ما سمّاها هو بـ«العملية العسكرية الخاصة». ويمكن القول بأن هذا صحيح ولكن بمعنى أبعد من ما قصده الوزير سيرغي لافروف، من حيث أن الوثيقة هي انقلاب وثورة على ثلاثة قرون من حركة تغريب لروسيا بدأها بطرس الأكبر وتابعها من أتى بعده من القياصرة الروس ثم تابع البلاشفة نهج التغريب الروسي بعد ثورة أكتوبر 1917 حتى سقوط وانهيار الماركسية السوفياتية عام 1991، وحتى يلتسين بالتسعينيات كان متابعاً لحركة التغريب. بهذا المعنى، عندما تقول الوثيقة بأن «الغرب بمجموعه» يقوم تحت قيادة واشنطن بتشكيل تهديد لروسيا عبر سياسة عدوانية سمّاه الوزير لافروف بـ«التهديدات الوجودية»، فإن هذا يعني إدارة ظهر روسية لثلاثة قرون من حركة التغريب الروسية؛ حيث أن المواجهة كما انتهجها البلاشفة مع الغرب الرأسمالي كانت عبر أيديولوجية أوروبية غربية هي الماركسية، فيما مواجهة بوتين هنا تضع روسيا في مواجهة «الغرب بمجموعه» جغرافياً وأيديولوجياً عندما تتحدث الوثيقة عن «الأيديولوجية الليبرالية الجديدة» التي تربطها بالغرب. ثم تقوم الوثيقة بتحديد أن الأيديولوجية الروسية المجابهة للأيديولوجية الغربية هي «القيم الأخلاقية والروحية الروسية التقليدية». ثم يحدد العالم أو المدار الجغرافي لروسيا في «أوراسيا»، أي خارج دائرة «الغرب»، وهو مصطلح يكرره كثيراً بوتين ولافروف في فترة عالم ما بعد 24 شباط 2022، ولا يقصدان المعنى الجغرافي فقط بل يقصدان معاني ثقافية وفكرية وسياسية يقفان ضدها يرونها في محتويات هذا المصطلح، وهو ما يذكر باستعمالات مشابهة لهذا المصطلح وجدت عند حسن البنا وسيد قطب وميشيل عفلق.


ما يمكن هنا الإشارة إليه بأن الوثيقة تعني انتصار النزعة السلافية على النزعة التغريبية، وهما حركتان تصارعتا في روسيا طوال الفترة التي تفصل عن وفاة بطرس الأكبر في عام 1725. وما يلفت النظر في الوثيقة هو الإشارة الواردة عن «القيم الأخلاقية والروحية الروسية»، حيث ارتبطت الحركة السلافية بالمسيحية الأرثوذكسية، وقد كان تأسيس الدولة الروسية الحديثة في عام 1547 من قبل إيفان الرهيب مبنياً على أيديولوجية دينية أرثوذكسية رأت في موسكو «روما الثالثة» التي ستخلف «روما الثانية» أي القسطنطينية التي كانت حتى سقوطها على يد العثمانيين عام 1453 عاصمة للعالم الأرثوذكسي. ولم يكن من المصادفة أن ترتبط حركة التغريب عند بطرس الأكبر مع نقل العاصمة من موسكو، التي ترتبط وترمز للأرثوذكسية، إلى العاصمة الجديدة سانت بطرسبورغ. ثم رأينا كيف كانت الحركة السلافية المقاومة للتغريب مربوطة بالأرثوذكسية طوال فترة ما بعد عام 1725، وكيف كانت الكثير من الحركات التغريبية الروسية معادية للكنيسة الأرثوذكسية. هنا، تأتي نزعة روسية جديدة قومية التوجه عند بوتين بالتلاقي من جديد مع الكنيسة الأرثوذكسية ولكن ليس بالتوجه نحو عالم سلافي، كان يراه روس الحركة السلافية أنه موجود في أوروبا الشرقية والبلقان، بل نحو «عالم روسي» ترى الوثيقة أن مركزه هو روسيا التي هي «الحضارة-الدولة»، مما يوحي بأن سيناريو الدفاع عن «روس إقليم دونباس» في أوكرانيا، الذي انتهجه بوتين منذ عام 2014 ثم عام 2022، يمكن أن يطبق في بلدان أخرى حيث يوجد مواطنون من أصول روسية وبعضهم بنسبة كبيرة هناك مثل إستونيا 26% وكازاخستان 30% وقرغيزيا 13% ولاتفيا 30%.


الوثيقة من جهة أخرى مفصلية من حيث أنها تعلن وتشرعن وتضع خريطة طريق لعملية المجابهة مع «الغرب»، وهي شبيهة بما جرى في موسكو ستالين-جدانوف من رؤى فكرية-سياسية جديدة بعد بداية الحرب الباردة مع واشنطن في آذار 1947، وهي حرب عالمية ثالثة كان مسرحها العالم، ويبدو أننا مع وثيقة 31 آذار 2023 قد دخلنا في حرب عالمية رابعة، ولم يكن صدفة أن تأتي الوثيقة بعد تكريس التحالف الصيني-الروسي قبل عشرة أيام من الوثيقة عندما التقى بوتين مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في قصر الكرملين.