جمرة -الصراع الطبقي- تحت الرماد- بضعة مسائل عن انتفاضة اكتوبر


نادية محمود
الحوار المتمدن - العدد: 6723 - 2020 / 11 / 4 - 12:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يبدو ان الخيبة والاحباط تسيطر على اجواء المحتجين الذين دعوا وبهمة عالية الى استمرار الثورة او الانتفاضة. بعد ان بدأت التعبئة الجماهيرية لإدامة واستمرار الانتفاضة في يومي 1 ويوم 25 اكتوبر وانخرطت الجموع الشبابية المحتجة، الطلبة والشباب والنساء. رفعت اعلام العراق، ارتفعت الهتافات ضد احزاب ومليشيات السلطة الحاكمة، حملوا صور الضحايا، وكالعادة، تعرضوا للقمع من قبل القوات الامنية، وحدثت اصابات بين المتظاهرين.

الا انه في نهاية يوم 25 اكتوبر، تغّير المزاج العام بعد ان اتضح للمتظاهرين بأن ساحة التحرير ملغومة، كما عبرت عنها احد المحتجات، " بالعصابات والمخربين والمندسين والمستغلين" يحملون اسلحة، ولديهم مواد متفجرة، متغلغلين في قلب ساحة الاعتصام التي كان قد توطن فيها الشباب المنتفض ولعدة لشهور. اعلن المنتفضون والمنتفضات الانسحاب من الساحة وتعليق التظاهرات في مزاج عام يشبه الشعور ب" العجز". وبدأ، في يوم 31 افراغ ساحة التحرير من الخيام، وغسل شوارعها بالماء من قبل القوات الحكومية. بدأ المتظاهرون الساخطون والغاضبون بإلقاء كلمات اللوم على بغداد واهاليها، بانهم لم يقوموا " بفزعة" لحماية الساحة، وكأن القضية " عشائرية"، او بسبب "الخيانات"، انخداع المتظاهرين بأحابيل الاحزاب الحاكمة” تشكيل احزاب شبابية وانخراط في الانتخابات". توصل المتظاهرون/ات بان وقت الساحات قد انتهى.

رغم هذه الاجواء المكفهرة والمعنويات المنكسرة، الا ان السؤال الذي طرح من قبل البعض والذي يستحق ان يجري تناوله هو” وماذا بعد، كيف يمكن تغيير الواقع اذا ساحة التحرير فرغت؟".

ان بضعة نقاط تمهيدية قد تكون مفيدة في الاجابة على السؤال وماذا بعد؟ ولكن قبل هذا، لا بد ان نراجع بسرعة صفحات انتفاضتنا.


1- طغت الشعارات الوطنية على الساحات وغابت الشعارات الطبقية. رغم كون الذي مهد واطلق شرارة الانتفاضة هي، المطالب الاقتصادية للعمال وعمال العقود والاجور، والخريجين والخريجات المعطلين، والعاطلين عن العمل. الا ان كل ذلك لم يذكر في سياق شعارات الانتفاضة. حيث كان الشعار السائد " نريد وطن". قد يكون هذا الشعار اختزل كل المطالب التي يريدها المنتفضون/ات، ولكنه لم يفصح ويعبر بشكل واضح عن تلك المطالب التي اشعلت شرارة الانتفاضة. على العكس، اصبح من يرفع تلك المطالب في حرارة ايام الانتفاضة وكأنه يتكلم خارج السياق.



2- ان التغني بالشعارات الوطنية كان من جهة اخرى تعبيرا عن موقف الجماهير ضد الطائفية، ومن اجل اظهار " اللحمة الوطنية" بين الجماهير. تجلى ذلك في انشاد النشيد الوطني ورفع العلم العراقي والتغني بالعراقية والوطنية. والتأكيد على ان الانتفاضة جلبت الناس من مختلف الطوائف، وانه لم يعد للخطاب الطائفي، الذي تعكزت عليه الاحزاب الاسلامية، اي مشترٍ. اتفق الجميع على ان العراقيين " الوطنيين" هم في قارب واحد ضد الاحزاب الطائفية المحاصصاتية. في ظل التغني بالهتافات الوطنية وضد الطائفية، وضد نظام المحاصصة تم نسيان الاهداف والمطالب الاقتصادية التي اشعلت شرارة الانتفاضة في المقام الاول.

3- تم ركن المطالب الاقتصادية جانبا التي يمكن حسابها وقياسها ومعرفة مدى تحققها بالأرقام. و لم تتم الاشارة الى جوهر الصراع الطبقي الذي يقع في قلب الصراع الدائر بين الجماهير في انتفاضتها ضد السلطات المليشياتية وحكومتها.

4- مع هذا، ومع اننا رأينا انفضاض اغلبية الجماهير المنتفضة عن ساحات الاعتصام بعد جائحة كورونا، الا ان العشرات من الاحتجاجات العمالية والشبابية للعاطلات والعاطلين عن العمل والذين تضررت مصالحهم الاقتصادية استمرت و لحد اللحظة. هذه الاحتجاجات ليست مرتبطة بساحة التحرير ولا بقية الساحات، بل انها تجري خارجا عنها. ازدادت هذه الاحتجاجات الاقتصادية وتوسعت بشكل ملحوظ بسبب احالة الناس الى البطالة كنتيجة لسياسة الحجر الصحي، وعجز الحكومة عن تقديم اي مساعدات حقيقية للمتضررين من هذه الجائحة والحجر.

5- مع اعلان سياسة "الورقة البيضاء" التي اصدرتها الحكومة، ظهر واضحا انها لم تستجب لا لمطلب " نريد وطن" ولا لمطالب العاطلين عن العمل، الشرارة الاولى في الانتفاضة. بل تتوجه "الورقة" هذه المرة الى الهجوم على رواتب واجور العاملين في قطاع الدولة في 2020. واذن فان الحكومة تمضي وبإمعان بسياسة الاضرار بمصلحة فئات اخرى كانت تعيش بمأمن اقتصادي قياسا الى العاطلين او العمالة الهشة. تتوسع الان القاعدة الشعبية التي تتضرر من سياسات الحكومة. اذا كان الموظفون في السابق يحجمون عن المشاركة في التظاهرات، فانهم الان انفسهم يتعرضوا لهجمة جديدة. هذا يدلل على ان الصراع الطبقي سيتوسع ويزداد ويتعمق.

كيف يمكن تغيير الاوضاع بفراغ الساحات؟

ولكن السؤال يبقى "ما العمل"؟. يقف نضال جماهير العراق ومنذ سقوط النظام السابق من اجل هدفين مترابطين: الاول هو ان تقوم مسؤولية الدولة امام المواطن، والثاني هو انهاء اسلمة الدولة. كما هو الحال عليه الان، فان طبيعة السلطة في العراق وشكلها " اللادولة". هو تقاسم الاحزاب وميلشياتها السلطة، ومناطق النفوذ، وسيطرتها على مقدرات المجتمع بشكل رسمي عبر مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية ونزولا الى كل مؤسسات الدولة. او بشكل غير رسمي حيث الاحزاب وميلشياتها هي التي تتحكم باقتصاد الدولة " غير الرسمي". هذه هي طبيعة "الدولة" في العراق. نحن لا نقارع نظاما مركزيا واحدا وبشكل عمودي، بل اخطبوط افقي من السلطات العسكرية الميلشياتية المتفرقة في عموم مدن العراق.

ان وضع السلطة هذه يجب ان يجد انعكاسا له في مقاومة الجماهير وكيفية تعاملها مع هذه السلطات. فمن جهة هنالك حكومة هشة وضعيفة، وهنالك ميلشيات لها السيطرة والقوة بما هو اقوى من " الدولة الرسمية". ان رفع شعار اسقاط النظام، الذي قد ينطبق على دولة متعارفة الملامح، الا انه في حالة العراق يجب الحديث عن مقارعة سلطتين، " الدولة" المركزية الضعيفة والهشة، من جهة وسلطة الميلشيات المسلحة، كل في مدينته، حيث تتقاسم تلك الميلشيات المدن كمناطق نفوذ.

مقارعة هاتين السلطتين، كانت قد بدأتهما الجماهير اساسا ومنذ احتجاجات البصرة عام 2018. ولكن دون ان يكون لدى الجماهير قوة تمثل مصالحها الحقيقية، مصالح العمال والنساء والعاطلين. ان الافاق التي سادت على الانتفاضة، هي ان الحل يكمن بانتخابات مبكرة، ومجموعة مطالب اخرى لم ير اي منها النور. يجب ان يجري الاستعداد والعمل للتغيير والتحضير وتنظيمه، تنظيم القوى الجماهيرية من عمال وعاطلين نساءً ورجالا، والمتضررين من قبل النظام الرأسمالي النيوليبرالي الاسلامي الطائفي وكل القوى التي عبرت عن نفسها وظهرت في الانتفاضة.

مقارعة هاتين السلطتين لا بد وان يستند الى تنظيم الجماهير على الارض، في المحلات، والاحياء واماكن العمل، وكل الاحتجاجات الاجتماعية وبرؤية وافق واضح نحو مواجهة نظام رأسمالي نيوليبرالي اسلامي الايديولوجية والسياسة. لقد كانت احد الكلمات المنبوذة في الانتفاضة وخاصة في الاشهر الاولى هي كلمات" تنظيم" و" قيادة"، وكأنها السم الزعاف للحركة. وبالتحديد تنظيم وقيادة مصالح العاطلين والكادحين والعمال والنساء. في الوقت الذي كان هنالك تنظيم وقيادة على جبهة البرجوازية واحزابها. فما اسفرت عنه الانتفاضة هو رجوح افاق الاحزاب البرجوازية و حلولها والتي سادت في نهاية الانتفاضة. وذلك بتشكيل احزاب شبابية للدخول في الانتخابات، عقدت لهم المؤتمرات لهذا الهدف، وجرى تقريبهم من الكاظمي. خادعة الجماهير بان الفوز بمقعد او مقعدين في البرلمان سيجيب على المطالب التي خرجت من اجلها الملايين.

من اجل تحميل السلطة الرأسمالية الاعتراف واداء مسؤوليتها تجاه حاجات ومطالب المواطنين( حيث ان ذلك يحسمه صراع القوى بين الطبقتين). يجب ان يجري التنظيم في كل مدينة. ان الحصول على مطلب مثل " بدل بطالة " يحتاج الى قوة حركة اجتماعية لتنتزعه من نظام رأسمالي منفلت وارهابي وعنيف. فالثورة، الانتفاضة، وتغيير كامل السلطات السياسية في العراق هو مسار، وليس حدث واحد في انتفاضة او ثورة واحدة. انه مسار ثوري. ان لم تنجح الجماهير في تحقيق بعض المكاسب، وانتزاعها، يكون من المستحيل تحقق التغيير بضربة واحدة، ثورة واحدة ويتم الانتصار.

لقد حقق البلاشفة الانتصار في روسيا في ثورة 1917 لانهم كانوا سلطة حقيقية عملت وتنظمت على امتداد سنين، ونظمت نفسها في مجالسها العمالية ودخلت ثورتين، يفصل بينهما خمسة عشر عاما. ان خلق قوة مادية طبقية تمثل العمال والكادحين واعية لضرورة الاطاحة بالرأسمالية كطبقة، يحتاج الى تنظيم الاحتجاجات الاجتماعية على اختلافها في العديد من الاشكال واطر تنظيمية سواء في اماكن العمل، او في المحلات، او لمجاميع متضررة مثل العاطلين عن العمل. بدون تنظيم الجماهير بهيئات منظمة، يكون مستحيلا تحقيق اي انتصار مهما كان صغيرً.

مع الاخذ بعين الاعتبار المزاج العام، الحزين، والغاضب، والمتأسي على مصير ومأل الانتفاضة، ولكن يجب القول، بان الجمر لازال تحت الرماد. وان الصراع الطبقي ليس باقيا في محله فحسب بل انه يستعر و يشتد مع اشتداد هجمة السلطة الحاكمة وميلشياتها وخاصة ما طرحوه اخيرا في ورقتهم البيضاء. لقد خرجت الجماهير اساسا ضد الفقر والبطالة على امتداد عامي، 2019،2020 وتوجتها بانتفاضتها العظيمة. جاءت اوضاع جائحة كورونا لتدفع الامور الى مزيدا من التدهور والسوء. واذا كانت احزاب السلطة تمكنت من فرض افاقها على توجهات داخل الانتفاضة، فان حاجات الجماهير ستبقى تبحث عن جواب. القوى الاشتراكية والمناهضة للرأسمالية، والمؤمنة بان الدولة مسؤولة عن الاجابة على حاجات الناس، لا تملك الا التنظيم، تنظيم الجماهير وتنظيم نفسها باستراتيجيات واضحة لأجل التغيير.