ثورة تشرين العراقية: القيادة الغائبة والثورة المضادة


فارس كمال نظمي
الحوار المتمدن - العدد: 6441 - 2019 / 12 / 18 - 15:02
المحور: ملف: الحراك الجماهيري والثوري في العالم العربي، موقف ودور القوى اليسارية والديمقراطية     

يقول فكتور هوجو: «الثورات ليست إبنة المصادفة بل إبنة الضرورة»؛ لكن هذه "الضرورة" لا تتحول إلى ملموس واقعي مكتمل ومتحقق على الأرض دون إطار سياسي ذي حدٍ أدنى من التنظيم القيادي.

واليوم، وبعد مرور أكثر من شهرين على انطلاق الحراك الثوري العراقي في الأول من تشرين الأول 2019 الساعي إلى إحداث تغيير راديكالي في النظام السياسي، فإنه ما يزال مشتتاً بين تصنيفات متعددة، غير قادرة -أو غير راغبة- بالتنسيق السياسي المنظم فيما بينها. فكلما يطول أمدُ هذا الحراك دونما مأسسة تنظيمية أو قطافٍ ملموس يتناسب مع حجم الأزمة ومشروعية المطالب وهول الدماء التي سُفكتْ، تصبحُ صناعة الفوضى وشيطنة الاحتجاجات (أي الثورة المضادة) هي الخيار الأسهل والأكثر تفضيلاً لدى "حماة" اللادولة المستترة في أحشاء الدولة العراقية المريضة، بعد أن فشلوا في سياسة القنص لإجهاض الحراك في مراحله الأولى.


الثورة بين النقصان والاكتمال

إن عماد الموجة الثورية الحالية من الاحتجاجات هم الشباب الوطني النقي القادم من أحزمة الفقر حيث العدمية السياسية الشعبوية الرافضة لكل حزبوية أو ايديولوجيا ممنهجة. ولولا هؤلاء لما استمر الزخم الاحتجاجي حتى اليوم.

ثم التحقت بهم فيما بعد أطيافٌ وطنية أخرى: مدنيون ويساريون وشيوعيون وعروبيون وناشطون ونقابات ومنظمات مدنية، إلى جانب أجزاء من طبقة الموظفين، وأعداد مهمة من طلبة المدارس والجامعات، وحرفيين ورجال دين. وهؤلاء جميعاً يمثلون إطاراً واسعاً متعدد الثقافات والايديولوجيات والخلفيات الإثنية، لكنه ينطوي على محرومية أقل وغيظ ثوري أضعف، وعلى خلفية تنظيمية أكبر نوعاً ما، مما هو عليه الأمر لدى الشباب الثوري. لذلك فإنهم يعدّون جمهوراً سانداً فاعلاً وليس صانعاً لجوهر الزخم الاحتجاجي الحالي.

أما الصدريون الذين باتوا يمثلون جزءً مهماً من معتصمي ساحة التحرير تحديداً، فقد توزعوا حسب خلفياتهم الطبقية ونزعتهم الولائية لزعيمهم، إذ انضم بعضهم إلى الشباب الراديكالي المستميت، فيما ظل البعض الآخر أقل استماتة وأكثر انصياعاً للأوامر وانتظاراً لها.

وهكذا تبدو الثورة التي انطلق عمرها المستقبلي للتو تجسيداً لكتلة تاريخية وطنياتية عابرة للطبقية والعقائدية والهويات الفرعية، شديدةَ العنفوان في دمائها وخطابها وغضبها وأهدافها الجذرية وسعة التمثيل التي تمتلكها. كما تتميز بقدرتها على التحشيد العددي الواسع عبر تنسيقياتٍ متفرقة في أرجاء البلاد تعمل على تحديد إحداثيات التظاهر والاعتصام مكانياً وزمانياً، والترويج الإعلامي في مواقع التواصل الاجتماعي، وتوفير الإمدادات الغذائية وتأمين الخدمات الطبية واللوجستية للمحتجين. لكن في الوقت نفسه، تبدو الثورة غير قادرة بعد على إطلاق هيكليتها التنظيمية للتمهيد لإعلان عصرٍ سياسي جديد.

وليس المقصود بالهيكلية التنظيمية ظهور استقطاب حزبوي أو عقائدي تقليدي إذ يبدو هذا أمراً لا يتفق مع التنوع الفكري والثقافي والاجتماعي والنفسي للحراك، فضلاً عن أنه قد يغدو سبباً للانشقاق والتفتت؛ بل يقصد به بروز أطر تنسيقية قيادية بين بؤر الحراك المتنوعة بصيغ إئتلافية أو جبهوية تسمح بتلاقح الرؤى وتوحيد الخطاب بما يبلور قطبية سياسية مرنة للحراك ذات مشروع محدد المعالم بمطالبه وخياراته وقراراته، بمواجهة القطبية القابضة على السلطة.

وبمنظور مخالف، تقتضي الدقة القول أن بقاء الحراك بلا قيادات أو أطر تنظيمية ينطوي أيضاً على إيجابيات مثلما ينطوي على سلبيات. فواحدة من أهم أسباب قدرته على التعبئة والمناورة والمطاولة هي طابعه الأفقي غير المُمأسس أو غير المقيد، وهذا يجعله محتفظاً بزخمه الثوري العابر للنسبيات المعرقلة، والمقاوم لاحتمالات الاجهاض أو الاختراق. كما إن حراكاً شبابياً تعبوياً بلا قيادة من هذا النوع، قد ينجح في إرساء أسس جديدة لشخصية المواطن الذي يدرك السياسة بوصفها فعلاً اجتماعياً اعتراضياً لأجل تحقيق كرامته الآدمية لا بوصفها وسيلة لحيازة السلطة، ويدرك الدولة بوصفها جهازاً منظماً للحقوق والواجبات لا يتطلب غطاءً ايديولوجياً يضمن هيمنة المالكين على الفاقدين.

إلا أن إيجابية التعبئة الاحتجاجية دون قيادات، لا تغدو حقيقة مجدية وفاعلة ومنتجة إلا إذا استجاب النظام السياسي جزئياً لمطالب الحراك، وبدأ بتقديم تنازلات إجرائية في هيكليته بما يسمح بإعادة تقاسم السلطة تدريجياً مع الفواعل السياسيين الجدد. أما في حال انغلاق النظام السياسي واستعصائه على التفاعل مع الحراك الشعبي المستميت – كما يحدث اليوم في العراق- فإن بقاء هذا الحراك دون أطر تنسيقية قيادية لمدة طويلة، يعني إما خموده بفعل حالة الجمود السياسي العقيمة، أو تشظيه بمرور الوقت إلى جماعات متباينة جداً في رؤاها وخياراتها حد التصادم والتخوين المتبادل ربما، أو تحول عناصره الأكثر راديكالية إلى خيارات العنف المسلح أو التطرف العدمي.

إن واحداً من الأسباب المحتملة لعدم ظهور قيادات متفق عليها لحد الآن في الحراك الحالي هو انتشار نزعة دفاعية في صفوف المحتجين عموماً والشباب خصوصاً، مضمونها أن الحراك ينبغي أن يظل شعبياً صرفاً عصياً على أي تأطير سياسي أو ايديولوجي قد يسعى إلى "ركوب الموجة". هذه النزعة لها ما يبررها نفسياً وأخلاقياً، لكن لا يوجد ما يبررها في عالم الصراع السياسي القائم على احتكار القوة وتنظيمها.

هذه النزعة الدفاعية تنبع من نمط جديد من الثقافة السياسية ذات الطابع الثوري الطهراني، تكونتْ وانتشرتْ بتأثير عاملين: التأثير النفسي لتكنولوجيا التواصل الاجتماعي، ومشاعر الاغتراب السياسي بسبب فشل المشاريع الأيديولوجية التقليدية قاطبة في الشرق الأوسط ومحيطه، وفي العراق تحديداً. ولعلها باتت ظاهرة ذات ملامح عالمية بفعل ثورة الاتصالات، صار يصطلح عليها بظاهرة أو عصر "الثورة بلا قيادات" Leaderless Revolution.


فقد وفر الفضاء الرقمي digital تحشيداً عولمياً معلوماتياً للأفكار السياسية والقيم العدالوية، عابراً للجنسيات والطبقات وللتنظيم الحزبي التقليدي، إذ يلتقي الملايين سبرانياً في عالم افتراضي يتسع لهم جميعاً، بل يجعلهم جميعاً – في نظر أنفسهم- مهمين وقادة للرأي والتعبير ومنظّرين لطموحات كبيرة، ضمن إطار ايديولوجي غير ممنهج unarticulated ideology. من هنا تطورت "النرجسية الاجتماعية" للفرد (ليست ظاهرة سلبية بالضرورة)، إلى حد النفور من خيار الولاء لقيادات فردية أو لتأطير تنظيمي مُلزِم، واستبداله بخيار الانخراط في قيادة جماعية أفقية لا رؤوس محددة فيها إذ يصبح الجميع قادة ومؤثرين، وفي الوقت نفسه ينفرون من التراتبيات التقليدية التي تمنح البعض هيمنة على البعض الآخر. هذه الهوية الجماعية باتت تشكل بديلاً عن ظهور قيادات فردية يمكن أن تشكّل عاملاً محبطاً أو جارحاً للنرجسية الاجتماعية المتنامية.

وفي الوقت نفسه تفاعلت هذه النزعة المتطيرة من القيود التنظيمية، بمشاعر الاغتراب السياسي العميق الذي يعاني منه الشباب العراقي حيال سلطة الأحزاب الإسلاموية المتهمة بالفساد ونهب المال العام وتدمير الهوية الجامعة وخطف الوطن. فاصبحت مشاعر العجز السياسي وفقدان المعنى السياسي والعزلة السياسية واللامعيارية السياسية، تشكل معالم أساسية في اتجاهاتهم نحو السلطة. كما أصبحت فكرة "الحزبية" والتنظيم السياسي الممنهج كما لو أنها مرادفة للفساد والخطيئة واللاوطنية، في المخيال السياسي لهؤلاء الشباب ممن لم يجايلوا أي ايديولوجيات أو عصر سياسي سوى حقبة الأسلمة السياسية.

إنهم يريدون أن يبتنوا عقداً اجتماعياً جديداً مع الدولة قائماً على عناصر المواطنة المتساوية والحقوق المدنية الأساسية والضمانات الاجتماعية والهيبة الوطنية وسلطة القانون، دونما توسطات حزبية أو عقائدية. فإعادة بناء الوطنية العراقية بات ينبع من مطالب المواطن الفرد غير المسيس دونما حاجة أن يستعير وطنيته من فكر حزبي أو لاهوت سياسي أو مشروع دولتي مؤدلج. وبتعبير محدد على ألسنتهم: «نريد استرجاع الوطن...نريد إسقاط الأحزاب».

إن الثورة تندلع بوصفها سيكولوجيا كاملة ومكتملة، متشوقة للتغيير الحتمي، وهذا ما حدث في تشرين الأول 2019، لكنها تظل منقوصة ما لم تتحول بمرور الوقت إلى مسك الأرض عبر إطار تنظيمي – ولو مؤقت- يضمن لها قدرة المناورة واتخاذ القرار لكي تشكّل بديلاً مجسماً أمام الأبصار، لا فكرة صادمة أو ضرورة "مؤجلة" فحسب.


من استرجاع حقوق إلى فرض حقوق جديدة

خلال شهرين كاملين، تمركزت مطالب المنتفضين، بما رافقها من سفكٍ غزير لدمائهم، حول عقدة رئيسة وهي استقالة رئيس مجلس الوزراء، لفتح الطريق نحو التغيير السياسي الجذري.

وقد تحقق ذلك في 29 تشرين الثاني حينما قدم استقالته المخجلة بطابعها "الطهراني" و"الفدائي" والاستعلائي، لينفتح الأفق نحو مسارات سياسية جديدة باحتمالاتها العسيرة والمتشعبة.

وهنا يُفترض أن يكفّ الفعل الاحتجاجي عن كونه فعل مطالبة بإقالة أو استبعاد جزء من السلطة فحسب، ليمتد ويتمدد إلى كونه فعل اختيار لنمطٍ بديل من السلطة أيضاً. فالاحتجاج – بوصفه فعلاً تاريخياً- ليس مطالبة بحقوق مستلبة فحسب، بل فرض حقوق جديدة أيضاً ضمن السياقات السلمية ذات الشرعية السياسية الصادرة عن مصدر السلطات، أي الناس (الشعب) بوصفهم عقلاً جماعياً يسمو فوق "شرعيات" دستورية تحاصصية أصبحت جزءً من الماضي في المخيال السياسي للمجتمع.

منذ الآن سيبدأ صراع مرير بين مناورات المنظومة السلطوية الحالية لتفعيل دور البرلمان المعطل في إعادة استيلاد السلطة التنفيذية من بيضة التحاصص الزبائني الإثنوسياسي ذاته، وبين عنفوان الحراك الاحتجاجي للتفتيش عن خيارات سياسية تحقق خروجاً حقيقياً – ولو أولياً- من تلك البيضة الفاسدة المستهلكة.

هذه المواجهة النفسية بين الطرفين تقتضي من كل منهما أن يمارس ما في جعبته من أساليب الضغط والتأثير والإملاء. إلا أنهما سيفترقان في مضامين هذه الأساليب، إذ ستنحو السلطة نحو المماطلة والخداع والقمع، فيما سينحو الثوار نحو المطاولة والعناد والصبر والثبات على إنجاز الانتقال السياسي الجذري.

ولكي تجد نوايا المحتجين طريقها إلى الواقع، وينتقل فعلهم الاحتجاجي إلى فرض الخيارات، فلا بد أن يجري التوافق العام بين فئاتهم الميدانية –ذات الرؤى المتباينة- لإنضاج ستراتيجية ابتدائية موحدة تتحدد فيها الخطوات الإجرائية الواقعية لإنجاز التغيير السياسي، بما يشكّل خياراً شعبياً ملموساً ومجسداً يمكن الدفاع عنه سيكولوجياً ضد مشروع السلطة الذاهب إلى التسويف والتدليس.

ودون هذا الخطوة، وفي ضوء استمرار منهج السلطة في القمع والانتهاكات، ومحاولاتها لاحتواء الحراك الاحتجاجي عبر سياسة شراء الوقت، وعدم وجود إطار تنظيمي قيادي للاحتجاجات، مع التأثير النفسي السلبي الذي قد يتركه عامل الانتظار والملل لدى المحتجين، وغياب الإسناد المعنوي الدولي الكافي لهم، فسيتحول الفراغ السياسي المحدود حالياً إلى فجوة عبثية عميقة تختلط فيها المطالب والمسميات والحقوق حد الالتباس، بما يسهم في إطلاق ديناميات الثورة المضادة، ويمنح الفساد السياسي عمراً إضافياً لأمد غير محدود.


شيطنة الاحتجاجات

إن عدم ظهور الهيكلية التنظيمية المنتظرة للمحتجين لحد الآن، في وقت تتدهور فيه الهيمنة الثقافية للسلطة، ويزداد افتقادها لأي شرعية سياسية أو غطاء أيديولوجي أو كارزما إقناعية بالحد الأدنى، سيدفعها لتبني ستراتيجية الشيطنة والتخوين حيال المحتجين، إلى جانب ستراتيجية القمع المتبناة فعلاً.
وهذا ما حدث بالفعل في بغداد وعدة محافظات خلال الأسابيع الماضية، على يد "بلطجية" السلطة، عبر تفعيلهم لسياسة حرق الأبنية واتهام المحتجين بذلك، لتشويه العنفوان الأخلاقي للثوار السلميين المستميتين لاستعادة الوطن. وهذا لا يعني أن الحراك الاحتجاجي معصوم من العنف أو الانفلاتات الانفعالية، إلا أنه يجدر التمييز مفاهيمياً بين تجريم الاحتجاجات وتخوينها قصدياً وبين نقد بعض ممارساتها وتصويبها.

كما شرعت الأحزاب والجماعات الإسلاموية المتضررة من الثورة بتنظيم تظاهرات مضادة ذات طابع ديني ولائي هدفها المعلن "طرد المندسين والمخربين" في صفوف المحتجين من أجل "المحافظة" على سلمية التظاهرات. وقد رافقت هذه التظاهرات صدامات محدودة وحالات طعن بالسكاكين ضد المعتصمين. كما جرى الإيعاز لعصاباتٍ إجرامية محدودة العدد لتتمركز في أطراف ساحة التحرير ببغداد وتتصرف بطريقة منفلتة، في محاولة لخلط الأوراق وإلصاق تهمة العنفية بالمحتجين.

ووصل الأمر في ليلة 6 كانون الأول/ ديسمبر الماضي إلى اقتحام ميليشيات مسلحة بسيارات مدنية لساحتي الوثبة والخلاني القريبتين من ساحة التحرير، وقيامهم بفتح النار عشوائياً من أسلحة خفيفة ومتوسطة على مئات الشباب السلميين المعتصمين في الساحتين، على مرأى ومسمع القوات الأمنية الرسمية التي انسحبت من محيط المجزرة. فسقط عشرات القتلى والجرحى من المعتصمين، وأحرقت خيامهم، في محاولة لفض الاعتصام وإخلاء الساحات باستخدام ستراتيجية الترويع هذه. إلا أن ثبات المعتصمين وإعادة تجميع صفوفهم بإسناد من معتصمي ساحة التحرير وعناصر "سرايا القبعات الزرق" الصدرية، ووصول أعداد كبيرة من أهالي شرق بغداد لدعمهم، أدى إلى احتواء الموقف وإعادة هيمنة المعتصمين على الفضاء الاحتجاجي.

ولم يقتصر الأمر على هذه الستراتيجيات السلطوية الشائعة عالمياً في لحظات الانتقال السياسي الدراماتيكي، بل تزامنَ ذلك كله مع توجهاتٌ عدوانية متثاقفة لدى حاشية السلطة أيضاً -ممن يرضعون من ثديها الفاسد دون أن يكون لهم دور سياسي أو أمني مباشر- للتنمّر على المحتجين وشيطنتهم، لفظياً أو كتابياً، أو عبر الترويج المضلل في وسائل التواصل الاجتماعي لفديواتٍ أو صور في غير سياقها. هذا الاستئساد المتذاكي يراد منه شرعنة ضمنية للسلطة إذ لسان حالهم يتحدث بثنائية حدية ساذجة: «علينا أن نختار بين نظام فاسد فيه قدرٌ من الاستقرار وبين فوضى عنفية مجهولة النهايات».


الاستثمار في مشاعر الذنب الجمعي

في مثال صارخ عن ستراتيجية شيطنة المحتجين، اندلعت في 12 كانون الأول/ ديسمبر مواجهة غامضة في ساحة الوثبة في بغداد بين معتصمين وأحد الشبان الساكنين في المنطقة، انتهت بتدخل قوات مكافحة الشغب التي قتلت الشاب المسلّح ثم سلّمت جثته -بصورة غير مفهومة- إلى بعض المعتصمين الذين قاموا بسحلها وتعليقها على أعمدة الإشارة الضوئية. وقد استفادت قوى الثورة المضادة من هذه الحادثة العنفية الغامضة في دوافعها وفاعليها الحقيقيين، لتأليب الرأي العام على مجمل الحراك الاحتجاجي وتأثيمه وشيطنته بآليات التعميم والتشويه والتخوين، عبر إلصاق وصمة الغوغائية الكلية به.

وإذا كانت هذه الجريمة الوحشية والمأساوية بكل المعايير، مُدانة بوصفها غوغائية جمعية منفلتة شاركت بها عدة أطراف حكومية وشعبية، فإنها كشفت عن أسلوب التلقي النفسي الذي يمارسه البعض – عن قصد ذاتي أو تحريض خارجي أو غير قصد- في إدراكهم وتقويمهم لهذا النوع من الحوادث العنفية وسط حراك ثوري سلمي في أغلبيته الساحقة.

فمئات الفديوات والصور البشعة عن تفجير رؤوس مئات المتظاهرين منذ بداية الحراك في 1 تشرين الأول لم تحقق صدمة نفسية أو استنكاراً شديداً لدى هؤلاء "البعض" بقدر ما أثارته لديهم جريمة السحل هذه. ويُــقصد بهؤلاء البعض: مثقفون كانوا صامتين أغلب الوقت، أو سياسيون سلطويون، أو منتفعون من النظام السياسي، أو حتى أناس محايدون يتابعون الاحتجاجات عبر شاشات التلفاز.

لا يمكن تفسير هذه المفارقة إلا عند وضع الحدث في سياقه التاريخي والنفسي والسياسي بعيداً عن المغالطات التقييمية الناتجة عن التعميم المبسط أو الاتهامات المجانية المتبادلة. فهذه المفارقة التي يعيشها البعض هي في بنيتها النفسية تنتج عن واحد من تفسيرين:

1-هي مشاعر الذنب الجمعي المترسبة في الذاكرة السياسية، بسبب وصمة السحل الشعبوية المرافقة لتاريخنا السياسي المعاصر، وخاصة اغتيال العائلة المالكة 1958 والتمثيل بجثثهم، ورسوخ تلك المشاهد في الوجدان الشعبي بوصفها لحظة ذنب أليمة تثلم الذات الجماعية وتنتقص من قيمتها. فما تزال تلك اللحظة الذاكراتية المتوارثة جيلياً تشكل عقدة سردية راسخة عن "عنفية" الشخصية العراقية، و"حتمية" لجوئها إلى القسوة في لحظات الاحتدام السياسي. فالعقل الباطن هنا يظل متأثراً بمشاهد القتل التي ترتكبها الجماهير أكثر من تأثره بتلك التي ترتكبها السلطة، بالرغم من أن كفة السلطة ظلت هي الراجحة في ميزان القتل السادي طوال تاريخ العراق المعاصر. وقد استثمرت السلطة الحالية مشاعر الذنب الجمعي الكامنة هذه لإعادة تأويل هذه الجريمة بوصفها "دليلاً" على جوهرانية العنف في سلوك المحتجين قاطبة.

2- أو هي فرصة منتظرة لدى البعض الآخر ممن يبحثون قصدياً بشكل محموم عن أي ممارسات أو "مؤامرات" لتخوين الاحتجاجات السلمية، لتبرير سلبيتهم السياسية والوطنية لا شعورياً، أو للدفاع الواعي عن مصالحهم المباشرة أو غير المباشرة مع نسيج السلطة إذ يشعرون أن ثمة رابطة مصيرية تجمعهم مع المنظومة الحاكمة رغم إدراكهم لجرائمها وخطاياها. كما تقف ضمن هذا السياق قوى الثورة المضادة بأصنافها السياسية والثقافية والأيديولوجية، إذ تمارس ستراتيجية الإنكار لعنف السلطة والتهويل لعنف الجمهور في إطار ديماجوجي انتقائي.

لقد كشفت هذه الحادثة بوضوح أن مسألة الحرارة الوجدانية أو البرود الوجداني في التفاعل مع جرائم العنف السياسي (أيا كان مصدرها: السلطة أم الجمهور)، يظل خاضعاً لدى فئات اجتماعية وسياسية مهمة لعمليات ما دون العقل، أي لدفاعات نفسية لاشعورية، ولتشوهات ادراكية انتقائية، ولنزعات ميكيافيلية ونفعية، خارج أطر التفكير الموضوعي والحجج العقلية المُسندة والتعاطف الثابت مع كل الضحايا دون تمييز.

* * *

إن سيكولوجيا الانتقاص من الضحية، وشيطنتها، والتنكيل المعنوي والجسدي بها، وتأثيم مساعيها لاستعادة حقوقها، وإلصاق تهمة الخطيئة بها، دون اكتراث كاف بإظهار جوهر المظالم وأصل الجريمة وتحديد هوية الجاني، إنما هو سلوك اجتماعي واسع الانتشار في سياقات حياتية متنوعة، فردياً وجماعياً، في كل المجتمعات البشرية، له أسبابه النفعية الواعية، وأيضاً له دينامياته التبريرية اللاواعية. وتوجد تنظيرات عميقة ومباحث أكاديمية شاسعة في مدياتها التفسيرية لهذا الشأن.

إلا أن هذا السلوك – بوصفه جزءً من الطبيعة البشرية- يتخذ أوقات الانزياحات السياسية العميقة من عصر خضوعي إلى عصر تحرري، منحىً سادياً باهظ التكاليف، إذ يصبح جزءً مهماً من الفعل المضاد للتقدم.

وبتعبيرٍ استشرافي يخص الحراك التشريني الحالي أقول: إن استمرار هذا الحراك بالتعبئة الاحتجاجية الأفقية الواسعة فقط دونما ظهور هيكلية قيادية أو ائتلاف تنظيمي لتنسيق الرؤى وتوحيد السياسات بالحد الأدنى، يعني أن هذا السلوك (أي شيطنة الضحية المحتجة) سيصبح بمرور الوقت جزءً فاعلاً من "الثورة المضادة"، أي تحشيداً سيكولوجياً متزايداً، يضفي رصيداً سياسياً "منقذاً" إلى الرصيد الخاوي للسلطة.