من ليالي المشقة والفزع


مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن - العدد: 5859 - 2018 / 4 / 28 - 21:55
المحور: سيرة ذاتية     

أوائل الثمانينيات.. كان النشاط الحزبي على أشده، خصوصًا بعد صدور تقرير من المكتب السياسي للحزب (للتاريخ: كتب مسودته "أبو زيد" و"سامي") يتحدث عن التغيير الذي وقع بعد تولي مبارك والدور المستقل عن الطبقة الحاكمة والذي يمكن أن تلعبه مؤسسة الرئاسة.. وكانت الفقرة التي أطارت صوابي في هذا التقرير، بعد رصد بعض الإجراءات التلطيفية التي اتخذها مبارك، أن قال التقرير: "مما يوحي بأننا قد نكون إزاء إرهاصات توجهات جديدة للنظام".. وهي العبارة التي كانت موضع نقد لاذع مني، حيث تهكمت قائلاً: "كيف تسنى لكم أن تضعوا في صياغة عبارة واحدة كلمات (يوحي) و(قد) و(إرهاصات)؟! هذا التحايل لن يمر علينا".. المهم أن اللجنة المركزية التي انعقدت بعد أسابيع من صدور التقرير قد رفضته بقوة وتم سحبه..

انتهى الاجتماع، المنعقد في إحدى ضواحي الجيزة، متأخرًا.. وقد تعودت عدم المبيت بالعاصمة رغم الفرصة السهلة للمبيت في منزل خالتي، حتى لا أحمل أحدًا مغبة "مغامراتي"، كما انني كنت لا أرتاح إلا على سريري حتى لو لساعتين، ولأطمئن على أمي رحمها الله، رغم أنها لم تكن تلح علي بالسؤال: أين كنت؟ فقد يئست من هذا تمامًا. وكانت كل أسئلتها تتبخر بمجرد أن تراني على سريري في الصباح.. وكثيرًا ما كنت أعود من القاهرة في وقت متأخر لأنام لساعات ثم أعاود السفر إلى القاهرة في اليوم التالي.. علمًا بأن المسافة بين القاهرة والمنصورة 120 كيلو متر.
كما أنني كنت على ارتباط بموعد مهم جدا في مدينة السويس في اليوم التالي.. وصلت من الجيزة إلى موقف أحمد حلمي حوالي الواحدة صباحًا، وهو وقت لا توجد فيه أتوبيسات ولا قطارات، والوسيلة الوحيدة هي سيارات الأجرة (البيجو) التي تعمل طوال الليل.

اكتشفت أن السائق يعرفني شكلاً، وطلب مني أن أركب في المقعد الأمامي لأنني لا أنام.. وهذه حقيقة فأنا لا أغفل أبدًا في المواصلات. تحركنا من القاهرة، وبعد أن تجاوزنا كفر شكر فوجئنا بالطريق متوقف للتو بسبب حادثة مروعة.. نزل السائق مسرعًا لمعاينة الحادث والإنقاذ.. وفتحت باب السيارة لأنزل بدوري.. رأيت شابين والسائق في المقعد الأمامي من السيارة المصدومة وأقدامهم محشورة بسبب تحطم مقدمة السيارة، والجميع يحاول فك هذا الانضغاط عنهم باستخدام الأيدي والعتلات.. كانوا يبكون بحرقة.. وفي الحقيقة خارت قواي وعدت إلى مقعدي من هول المشهد، ولأنه لا دور لي سوى الفرجة.

جلست في المقعد وما هي إلا دقيقة حتى وجدت السائق يعدو تجاهي ويقول: "خُد".. ورمى على حجري من الشباك لفافة بها طفل رضيع غارق في الدم.. واستدار ليقود السيارة إلى أقرب مستشفى.. كان الرضيع يصرخ ولم أستطع النظر إلى وجهه وأخرجت منديلي لأمسح الدم عن وجهه.. لكن الجميع أوقفوا السيارة فقد أتت سيارة الأسعاف ونقلوا لها أم الطفل التي كانت تصرخ تريد رضيعها، وبالفعل أخذوا الطفل مني وأعادوه لها.. وظللت بقية الطريق ساهمًا لا أشترك في حديث الركاب، فقد كان قلبي يدق بعنف أكاد أسمعه بأذنَيّ..

وصلنا المنصورة في الثالثة صباحًا لأكتشف أن قميصي مصبوغ بالدماء.. ولم تكن هناك وسيلة للوصول إلى المنزل غير السير على الأقدام.. وكنت أقابل في طريقي الذاهبين إلى صلاة الفجر وبعض الباعة المبكرين بالذهاب إلى الأسواق.. كان الواحد منهم يلقي السلام عندما يمر بجواري لكن فجأة تبرق عيناه فزعًا بسبب منظر "الأفندي" ذي القميص المدمم.. وقلت لا معنى لمظهري سوى أنني مجرم عائد لتوه من جريمة مهولة. فوجدت أن الأسلم أن أمضي في طريقي بثبات وألا أبدي أية علامة على اهتمامي بذهولهم.. وحمدًا لله وصلت البيت دون مشاكل.. وقبل أن أغفو لساعات دفنت القميص في غسالة الملابس.

في ظهيرة اليوم التالي غادرت المنصورة بعد مناورات لتأمين حركتي (كنت أخرج من المنصورة إلى سندوب بالميكروباس ومنها أدلف إلى المنصورة مرة أخرى من طريق آخر).. كانت السويس مقصدي لحضور اجتماع في منزل قائد عمالي حضره ثمانية من الأعضاء العمال.. ولذا بدأ بعد المغرب حتى يكونوا قد عادوا من أعمالهم.. كان اجتماعًا رائعًا مليئًا بالمناقشات السياسية والتنظيمية الحية..

بعد نهاية الاجتماع عرض عليّ الزملاء المبيت في السويس لكنني رفضت من باب الأمان أيضًا.. كما كان المبيت في الفنادق منهيًا عنه تمامًا.. وذهبت عند منتصف الليل تقريبًا إلى موقف البيجو فلم أجد سيارة واحدة ذاهبة إلى المنصورة.. قال لي سائق: "اركب للزقازيق وهناك يحلها ربنا".. فأطعته وركبت.. لكن حينما وصلت موقف الزقازيق لم أجد سيارة ولا آدميًا واحدًا في الموقف.. سوى جندي واحد وقع معي في نفس الحيرة..

قال لي الجندي: "تعالى نخرج بره البلد ونقف على أول طريق المنصورة ونركب أي عربية نقل" (لوري).. اخترقنا الشوارع التي يعرفها المجند جيدًا وبلغنا أول طريق المنصورة بالفعل.. وبعد دقائق جاء لوري محمل بالزلط، ووافق على أن نركب معه بعد أن وافقنا على طلبه بدفع "ربع جنيه للنفر".. كان طريق الزقازيق- المنصورة أيامها بالغ الضيق وتكاد الأشجار أن تكون سقفًا له.. وبدأت أشعر بلسعة البرد في هذا الوقت من الليل بينما السائق المتلحف بكوفيتين على الرأس والرقبة لم يغلق الشباك ناحيته..

وفي منتصف الطريق وجدنا امرأة ترتدي عباءة سوداء تقف في هذا الوقت على الطريق وتشير بالتوقف، فتوقف.. كان مقصدها المنصورة أيضًا.. قال الرجل بحزم: "اطلعوا ع الصندوق".. لم نشاكس أو نناقش كثيرًا.. قال له المجند: "طيب هاطلع أنا وخلي الأستاذ جنبك".. رد السائق بمنطق عجيب: "ماهواش أحسن منك".. لم نفكر لحظة في مغادرة السيارة والوقوف في "الطل" في هذا الليل البهيم انتظارًا للفرج..

صعدنا.. وسار اللوري.. وكم كان من العذاب أن تركب على ظهر لوري ليلاً وسط شبورة وهواء قارس لا ينقطع.. وبينما أخرج الجندي "الزونط" الخاص به، كنت أنا في مأساة رهيبة مرتديًا قميصًا "نص كُم".. فجلست على الزلط محاولاً الاحتماء بكابينة السائق من عاصفة الهواء الثلجي الذي أدمع عينيّ وجمّد صدري إلى حد الوجع.. ووجدتني أقول لنفسي: "إيه اللي أنا عاملة في نفسي ده!!".

وصلنا المنصورة أخيرًا وشعرت كأن الروح رُدَّت إليّ.. وازددت اطمئنانًا مع سماعي أذان الفجر.. ومشيت في طريقي إلى المنزل لأجد آخر مفاجأة يمكن أن أتوقعها.

وجدت كلبة جالسة أمام باب البيت تمامًا وحولها دائرة من جِرائها الصغيرة.. فكرت في الرجوع.. لأن تجاوزها من رابع المستحيلات.. ورغم أنني حينما اقتربت سمعت زمجرتها المكتومة استعدادًا للاشتباك، فقد قررت إنهاء هذه الليلة بأي شكل..

اقتربت من "دائرة" الخطر بهدوء.. ثم اندفعت بسرعة الصاروخ صوب باب العمارة الحديدي (وأحمد الله الآن أنه لم يكن مغلقًا).. قفزت الكلبة في عواء هائل وكادت أن تطول بنطالي، لكنني مرعوبًا صفقت الباب بعنف فارتطم بأنفها فأخذت تعوي.. فتحت باب شقتنا وأنا أتلو الشهادتين.. بينما سمعت شبابيك تُفتح وجيران يتساءلون "فيه إيه"؟