مبادرة تنموية لجمعية أهلية لصالح صغار الفلاحين وتعويض انسحاب الدولة


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7794 - 2023 / 11 / 13 - 04:48
المحور: الصناعة والزراعة     

قامت الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية "سيوز CEOSS" بمبادرة هامة في تطوير كل من الإنتاج الزراعي وأحوال صغار الفلاحين. وطرحت الجمعية تلك المبادرة على كل من تحالف العمل الأهلي، وعلى الدولة متمثلة في وزارة الزراعة وكليات الزراعة ومراكز البحوث الزراعية، حيث تجاوبت كل تلك الجهات معها. تمثل تلك المبادرة نموذجا رائعا للعمل الاجتماعي التنموي المتمثل في التوجه لفقراء المجتمع من أجل مكافحة الفقر عن طريق تمكين الفقراء وتدعيم اعتمادهم على أنفسهم وزيادة دخلهم عن طريق زيادة عائد مساهمتهم في العملية الإنتاجية التي يقومون بها، وفي نفس الوقت تحقيق عائد اجتماعي واقتصادي شديد الفائدة.
بدأت المبادرة في نوفمبر عام 2022 بعد إجراء دراسة ميدانية لأوضاع صغار المزارعين الذين يزرعون القمح، وبدأت بالعمل مع مائة ألف مزارع يزرعون مائة وخمسين ألف فدان، حيث كانت تستهدف تطوير حياة المزارعين الذين يزرعون ثلاثة أفدنة فأقل. عملت المبادرة على توفير التقاوي عالية الإنتاجية المعتمدة من مراكز البحوث الزراعية وكليات الزراعة، والمدعمة بنصف قيمتها (170 جنيها للكيلو بدلا من سعر السوق 340 جنيها). وانطلقت فى ٨ محافظات هى سوهاج، وأسيوط، والمنيا، وبنى سويف، والفيوم، والقليوبية، والبحيرة، والدقهلية. وكانت البداية من خلال إنشاء قواعد بيانات تشمل أسماء المزارعين وعدد الأفدنة المملوكة. كما اعتمدت على توفير الدعم الفني للفلاحين من خلال 2000 مدرسة حقلية تمثل مع توفير الإرشاد الزراعي من خلال 850 خبيرا مهندسا زراعيا وكادرا محليا. وأهتم المشروع أيضا بالحفاظ على التربة من خلال زراعة محصول مثل فول الصويا حتى تستعاد خصوبة التربة بعد محصول مجهد مثل القمح.
واستفادت تلك المبادرة من رفع سعر توريد القمح من 870 جنيهٍ للأردب إلى 1500 جنيه. كما قامت بتوريد السماد ومستلزمات الإنتاج للفلاحين. ويسهم المشروع فى إدارة الموارد الطبيعية ومواجهة التغيرات المناخية من خلال الحفاظ على جودة التربة حتى لا يتم إهلاكها، ما يضمن تحقيق الاستدامة وعدم إهدار الموارد، وذلك من خلال ابتكار «المرشد الذكي»، وهو برنامج وضعته الهيئة القبطية الإنجيلية يوفر للمزارعين بيانات حول الطقس والرياح وسقوط الأمطار بصورة يومية عبر الرسائل النصية، حيث يتم متابعة حالة الطقس من خلال محطات الأرصاد وتحول هذه البيانات إلى معلومات محددة يرسلها الخبير الزراعي للمزارع عبر الهاتف، فمثلا عند سقوط الأمطار فى مناطق معينة ينصح بعدم الري أو إذا وصلت الحرارة إلى درجة معينة فلابد من الري في توقيت محدد وهكذا. كما وفرت قوافل طبية وطبية بيطرية لمساعدة الفلاحين. نجحت تلك المبادرة في رفع إنتاجية الفدان من القمح حوالي الثلث، أي من 14 -18 أردبا إلى متوسط 22 أردبا للفدان، وقد يصل إلى 25 أردبا.
شجع هذا على بدء المرحلة الثانية للمشروع التي تستهدف زراعة مليون فدان في 15 محافظة، وتشمل 118 مركزا و1456 قرية. تطلب هذا وضع هيكل تنظيمي من 4500 خبير، وتم تجهيز دليل إجرائي كامل ليتم العمل به بعد إعداد قواعد البيانات وتدريب الكوادر.
وتثير تلك المبادرة الهامة والنجاح الذي حققته الكثير من القضايا الهامة التي تخص الزراعة في مصر. أول هذه القضايا هي أن المساحة المزروعة في مصر تبلغ حوالي تسعة ملايين فدان، منها ستة ملايين في الأراضي القديمة عالية الخصوبة، وثلاثة ملايين من الأراضي المستصلحة. أما من ناحية كيف تزرع تلك الأراضي، فنصف مساحة الأرض، أربعة ملايين ونصف المليون فدان كلها تقريبا في وادي النيل (الصعيد والدلتا) من الأراضي القديمة، يتم زراعتها زراعة فلاحية صغيرة بمساحات متواضعة تتراوح بين أقل من فدان حتى حوالي 10 أفدنة، وهي ما يعتمد عليه الغذاء الأساسي للشعب المصري، حيث تزرع أساسا القمح والأرز والذرة وغيرها من محاصيل الغذاء الرئيسية، وتزرعها أساسا بأساليب الزراعة التقليدية.
أما نصف المساحة الآخر، فيزرع زراعة رأسمالية واسعة في مساحات أكبر لكل مزرعة. القليل منها يزرع محاصيل الغذاء الرئيسية، بينما يتم زراعة أغلبية المساحة بالخضار (بالذات في الصوب الزراعية) والفاكهة والمحاصيل التصديرية، والتي تستلزم رأسمالا كبيرا، وتحتاج عادة إلى وقت طويل لبدء الإثمار مثل أشجار الفاكهة، وتستخدم مستوى مرتفعا من التكنولوجيا في الري والتسميد وغيرها. وبالطبع فإن الاهتمام بالتنمية التي تعني إدارة الموارد الطبيعية من أجل زيادة الإنتاج الرئيسي الموجه لاحتياجات الشعب، مع رفع مستوى معيشة الجماهير الشعبية العريضة. من هنا أهمية تلك المبادرة التي تحقق، بالذات في حالة توسعها لمليون ثم ملايين الأفدنة، مجموعة من الأهداف التنموية الاقتصادية والاجتماعية تتعلق بزيادة نسبة الاكتفاء الذاتي الزراعي من القمح الذي تعد مصر أكبر مستورد له على مستوى العالم، ورفع إنتاجية ومستوى معيشة الجماهير الفلاحية المنتجة الواسعة.
أما القضية الثانية التي يثيرها هذا المشروع فهي أن معظم تلك السياسات التي تطور كل من الإنتاج الزراعي وحالة الفلاحين وبالذات الصغار منهم، أعني سياسات توفير البذور الجيدة من مراكز البحوث الزراعية، والإرشاد الزراعي، وتسويق المحاصيل وتيسير الائتمان لصغار الفلاحين، كانت هي النمط الرئيسي في للزراعة في مصر بدعم الحكومة المصرية في الخمسينات والستينات وحتى أوائل السبعينات، حيث تبنت الدولة إنشاء الجمعيات التعاونية الزراعية، التي تلعب الدور المحوري في توفير البذور الجيدة الناتجة عن أبحاث مراكز الأبحاث وكليات الزراعة، مع باقي مستلزمات الإنتاج من أسمدة ومبيدات وغيرها، بسعر مناسب لقدرات الفلاحين. ويتم هذا أيضا من خلال تمويل تعاوني ميسر، حيث تقوم تلك الجمعيات أيضا بشراء وتسويق المحصول وخصم ثمن مستلزمات الإنتاج. كما توفر الحكومة الإرشاد الزراعي من خلال المهندسين الزراعيين.
بدأت تلك السياسات في التراجع مع بدء سياسات الانفتاح الاقتصادي عام 1974 والتوجه نحو اقتصاد السوق المفتوحة. وشكل قرار الحكومة المصرية بوقف سياسة تعيين الخريجين بما فيهم المهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين منذ عام 1984، شكل تقليلا تدريجيا للإرشاد الزراعي الحكومي. كان ذلك نتيجة أيضا لتوصيات مؤسسات التمويل الدولية ذات التوجه النيوليبرالي. السبب المعلن هو تضخم الهيكل البيروقراطي الحكومي وانتشار البطالة المقنعة، ولكن تلك السياسة كانت ذات آثار مدمرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. كل الهياكل الحكومية كانت تعاني من تضخم الوظائف الإدارية وليس الفنية. وقد أطاح القرار أطاح باستقرار الوظائف الفنية، وتسبب هذا في تفاقم العجز فيها في وظائف المهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين في مراكز الإرشاد الزراعي، بجانب جميع الوظائف الفنية في كافة المجالات الأخرى مثل الأطباء البشريين والمدرسين وغيرها. كما تسبب هذا في تضخم إداري ونقص في الوظائف الفنية لغير المؤهلين تأهيلا جامعيا، فسبب نقصا في العمالة الفنية في المصانع، والصيانة والسباكين والنجارين وغيرهم.
ولكن العلامة الفارقة لتسليع الزراعة وتدهور الإنتاج كانت في أعقاب المؤتمر الذي عقد بتمويل من هيئة المعونة الأمريكية بالاشتراك مع وزارة الزراعة المصرية والخبراء الزراعيين عام 1992 ومولته هيئة المعونة الأمريكية ب 340 مليون دولار. تم تنفيذ التوصيات التي أقرها المؤتمر من قبل وزارة الزراعة. مضمون المؤتمر كان هو إعمال قوانين السوق في الزراعة، وبالتالي فقد ألغى دور الجمعيات الزراعية في توفير البذور والسماد وكافة مستلزمات الإنتاج للفلاح، وجعل الفلاح يشتريها من التجار، وبالتالي يترك هؤلاء الفلاحين الصغار تحت رحمة التجار. كما قلص من ميزانيات مراكز البحوث الزراعية، وقلل من دورها في تطوير البذور لصالح استيرادها، ولعبت شركة مونسانتو الأمريكية دور المورد الرئيسي للبذور بدلا من تلك المنتجة بما يوافق طبيعة التربة في مصر من مراكز الأبحاث المصرية.
كذلك كانت توصيات المؤتمر إلغاء توريد المحاصيل وتسويقها من قبل الجمعيات التعاونية، وترك ذلك للتجار. كما ألغى التسليف التعاوني ذو الفائدة المنخفضة، وتحول بنك التسليف التعاوني إلى بنك تجاري يقرض بأسعار الفائدة السارية. وبهذا وضع الفلاح أيضا تحت رحمة التجار في تحديد أسعار شراء المحاصيل. ونتيجة لاحتياج الفلاح للتمويل، فقد انتشر شراء التاجر للمحصول قبل نضجه بسعر بخس. وهكذا وقع صغار الفلاحين تحت سيطرة قوانين السوق وتحت رحمة التجار. وانتهى عهد الإرشاد الزراعي وتقلص عدد وحدات الرعاية البيطرية التي تديرها وزارة الزراعة، كما تقلص عدد المرشدين الزراعيين حتى انقرض الإرشاد. كما انتهى عصر تحديد الدورة الزراعية من قبل وزارة الزراعة تحت اسم تحرير الفلاح، وبالتالي انتشرت العشوائية، سواء من حيث تناسب المساحات المنزرعة مع الاحتياجات المجتمعية، أو من حيث تتابع المحاصيل بما لا ينهك الأرض، فتدهورت إنتاجية الأرض من المحاصيل. قاد كل هذا إلى إفقار صغار الفلاحين.
ثم تأتي تلك المبادرة لجمعية أهلية لكي تعيد الاهتمام بصغار المنتجين، وتشرك معها عددا من الجمعيات التنموية، وتعيد التخطيط لعملية الزراعة، وتدعم جهود صغار المزارعين، وتستفيد بما هو متاح من خدمات بحثية في كليات الزراعة ووزارة الزراعة، ويتعاون معها المخلصون في تلك الجهات. تعيد تلك المبادرة الإرشاد الزراعي بدعم تلك الجمعيات، وتنظم المدارس الحقلية. كما تستفيد من التطورات التكنولوجية، وتستخدم التطور في وسائل الاتصال مثل انتشار أجهزة التليفون المحمول، وتتواصل مع الفلاحين عن طريق الرسائل حول الإرشادات والإعلام بأخبار الطقس ودورات الري ومواعيده. مرحبا لمبادرة العمل الأهلي لخدمة التنمية، وتغطية انسحاب الدولة من ذلك الدور!
ملحوظة: في تلك المقالة اعتمدنا على التحقيق المنشور عن المبادرة في جريدة الأهرام اليومية، عدد 10 نوفمبر 2023، بقلم يسرا الشرقاوي