ملاحظات مبكرة حول معركة -طوفان الأقصى- و-السيوف الحديدية-


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7758 - 2023 / 10 / 8 - 20:47
المحور: القضية الفلسطينية     

مضت نحو ثلاثين ساعة على بداية معركة "طوفان الأقصى" التي شنتها المقاومة الفلسطينية بالذات حماس والجهاد الإسلامي على مستوطنات غلاف غزة ونقاط الجيش الإسرائيلي ومقر قيادته في تلك المنطقة بإجمالي خمسين موقعا في وقت متزامن، مما أطلق مشاعر الفرح في الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية، ووضع كل القادة في الكيان الصهيوني في أزمة وارتباك لا مثيل لهما، وفضح الحكومات الغربية ونفاق موقفها الذي يدين "الإرهاب" الفلسطيني ويتوعد ويهدد، في الوقت الذي تغض فيه النظر عن الإرهاب الإسرائيلي. ينشغل جميع المحللين بتوقع ما سيجري وإلام ستصل تلك المعركة أو الحرب، وأثرها القريب والمتوسط والبعيد في فلسطين والمحيط العربي بأكمله، بل وتأثيرها على المعادلات الدولية في لحظة شديدة الحدة والخصوصية.
الثابت هو أن معادلات الاشتباك بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني قد تغيرت إلى الأبد بناءً على التغير الحادث في ميزان القوى بين الطرفين أيا ما كان ما ستنتهي إليه هذه المرحلة من المواجهة مع الكيان الصهيوني الغاصب. وصلت حماس إلى تطوير قدراتها من أجل هذا التغير الملموس في ميزان القوى عبر فترة تدريجية طويلة، ونجحت في تحقيق مفاجأة استراتيجية لإسرائيل، وانتصارات أولية واضحة لا شك فيها. لقد أعادت حماس بناء قاعدتها الصاروخية، كما طورتها لتحسن بشكل ملموس من دقة إصابتها، بعد معركة عام 2021 التي استهلكت فيها آلاف الصواريخ ودمرت إسرائيل لها ورشا للتصنيع والبنية التحتية لصناعتها. أتاح لها تطوير قواتها التمكن من بدء المعركة بقصف مستوطنات غلاف غزة وكل الأرض المحتلة بخمسة آلاف صاروخ، ثم قصفت تل أبيب في اليوم الثاني بثلاثمائة صاروخ ردا على تدمير برج سكني في غزة، كما قصفت عسقلان بمائة صاروخ.
ورغم الحواجز بين القطاع والأرض المحتلة من سور فوق الأرض وسور آخر تحت الأرض، والمزودين بأدق أجهزة الإنذار الإكترونية، تمكنت حماس من التغلب على هذا، فقد تردد أن حماس قد استخدمت أساليب التشويش الإلكتروني على أجهزة الإنذار للتغطية على عبورها تلك الحواجز. كما حفرت أنفاقا أعمق ومن مسافات أبعد بحيث أمكن استخدامها في انطلاق قوات من خلالها تساهم بقوة في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية. وبالطبع بعد النجاح الأولي قامت حماس بعمل اختراقات صريحة لحواجز الحدود سواء السلكية أو الحائط بتفجير الأخير واستخدام الجرافات لإزالة حواجز الأسلاك الشائكة. أيضا طورت حماس أسلحة نوعية جديدة مثل طيران شراعي مزود بجهاز طيران بدائي، كان كافيا لكي يحمل سيارات عسكرية فوق السور الفاصل بين غزة والأرض المحتلة وينزلها للمشاركة في المعركة.
كما قامت بهجوم بحري خداعي شمالي غزة للفت الأنظار بعيدا عن اتجاه الهجوم الأساسي. بهذا نجحت حماس في المباغتة والهجوم على خمسين موقعا بشكل متزامن، بعد أن دفعت بثلاثمائة جندي ثم ألحقت بهم ألفا ومائة جندي. ألحقت كل من حماس والجهاد بإسرائيل خسائر فادحة تمثلت حتى الآن، على الأرجح، في أكثر من ثلاثمائة قتيل ونحو ألفي جريح، بما فيهم قائد لواء ناحال وغيره من كبار الضباط، فضلا عن الأسرى الذين تقدرهم المصادر الإسرائيلية بالمائة بينما تقول حماس أنهم أكثر مما يقدر ناتنياهو أعدادهم بأضعاف مضاعفة. كما دمر الفدائيون دبابات وعربات عسكرية، وتمكنوا من نقل إحدى الدبابات إلى داخل غزة. بل تمكنوا من الاستيلاء على 1500 رشاش متقدم تقول حماس أنه يكفي لتسليح لواء مشاه! نجحت المقاومة في احتلال عدد كبير من المستوطنات والمواقع الاستراتيجية، وامتلكت لساعات ليست بالقصيرة بزمام المبادأة في يدها، وسيطرت على معبر إيريز.
وبالطبع لا يمثل هذا نهاية المطاف لأسباب كثيرة أهمها تفوق إسرائيل استراتيجيا على القوى الفلسطينية المقاومة بشكل ساحق، فضلا عن ضرورة ردها على الإهانة التي لحقت بجيشها وكرامتها. كل هذا يفرض معركة ليست بالقصيرة، فلن تنجح أي هدنة قريبة، والتوقعات استمرار المعارك لأيام كثيرة وربما لأسابيع قليلة. حاولت إسرائيل سريعا استعادة تماسكها ومواجهة الوضع بخطة ملموسة رغم المشاكل. بدأت إسرائيل بما تبرع فيه دائما من إجراءات جبانة ضد المدنيين. أوقفت إسرائيل إمدادات الكهرباء والوقود والغذاء عن غزة؛ وشنت طائرات إف 16 غارات على 426 هدفا في غزة حتى الآن معظمها أهداف مدنية، ودمرت برجين سكنيين وقتلت 313 مواطنا فلسطينيا منهم 19 طفلا، وأصابت 1990 فلسطينيا، منهم العديد من الحالات الحرجة.
ولكن يظل الحاسم في تلك المرحلة هو وضع المقاتلين الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948. تعلن إسرائيل من الأهداف المُحَلِّقة أكثر بكثير مما يمكنها أن تحققه إلا في أحلامها، حيث تعلن قرارا بتدمير واستئصال القدرات العسكرية لحماس والجهاد، بل وإسقاط سلطتها. الخطة الإسرائيلية كما تبدو حتى الآن تتمثل في إجلاء كل المدنيين الإسرائيليين من المنطقة (حول غزة 50 مستوطنة يسكنها خمسون ألفا، غير عدد من المدن) تبرز نيتها لشن معركة قاسية لاستئصال الوجود الفلسطيني في تلك المنطقة. أعلنت إسرائيل حتى الآن أنها حررت 15 موقعا كانت تحت سيطرة الفلسطينيين، وتدور الآن معارك في 8 مواقع. وفيما يبدو خطة للالتفاف حول المقاتلين الفلسطينيين وعزلهم، تعلن إسرائيل أنها استعادت حتى الآن السيطرة على 29 من نقاط التسلل على الحاجز الفاصل بين غزة ومحيطها.
كيف تواجه حماس ذلك المخطط؟ هناك معركتان من تلك المعارك تجسدان تكتيكات حماس للمواجهة: ففي سديروت تمكنت إسرائيل من طرد الفلسطينيين من معظمها، بما فيها أن عشرة من الفدائيين تحصنوا داخل نقطة شرطة سديروت، فهدمتها إسرائيل وقتلتهم جميعا؛ ثم استجابت حماس بإطلاق صواريخ على سديروت هدمت عددا من المساكن. وفي موقع آخر دارت معركة شرسة بين الفدائيين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية داخل قاعدة رعيم القيادية داخل تلك المنطقة، وبعد تحقيق خسائر شديدة في القوات الإسرائيلية انسحبت القوة الفلسطينية، ونجحت في الوصول إلى قواعدها داخل غزة. وبالطبع لم يدر في خلد أحد أن تنتهي تلك المعركة من معارك المواجهة بتحرير أراض محتلة عام 1948، ولكن النجاح في تحرير كل تلك المواقع والتمركز بها بما يسمح بخوض معارك هامة تخسر إسرائيل فيها الكثير، سواء انتهت باستشهاد مقاتلين أو بانسحابهم لهو انتصار هام.
أعلنت إسرائيل، في ظل احتياجها الشديد لتحقيق إنجازات ترد لها كرامتها، أعلنت أنه قد تم قتل معظم الفلسطينيين داخل "أراضيها"، وأن الباقي سيقتلون، غير أسر العديد منهم! ولكن مازالت المعارك تدور سجالا بين الطرفين، ومازال المستقبل محملا بالكثير، إلا أن الأوضاع لن تعود إلى سابقتها، سواء على الساحة الفلسطينية، أو الساحة العربية، أو حتى الساحة العالمية.
لا شك في أن النجاحات التي حققها منطق المقاومة سترفع عاليا من معنويات الشعب الفلسطيني وتحفز على المزيد من المقاومة. لقد دعت حماس إلى تجاوب الفلسطينيين ووحدة الجبهات كلها، وأعلنت الضفة التجاوب (حتى بدون نداء حماس)، وأعلنت اليوم إضرابا شاملا في أنحائها. الوضع المتفجر في الضفة سيزداد تفجرا، ومن المتوقع تطوير مقاومة الفلسطينيين والسلوك الانتقامي للمستوطنين الإسرائيليين، وإسرائيل فرضت إغلاقا شاملا على الضفة، سواء على منافذها مع الأردن أو إغلاق البلدات والقرى وإعلان حالة الطوارئ. والعكس في إسرائيل التي يتوقع أن يدعم هذا من أزمتها الداخلية سواء بتزايد الهجرة العكسية لليهود إلى خارج إسرائيل أو برعب سكان المستوطنات وترك العديد منهم لها. وفي تصريح رسمي إسرائيلي أن عدد الأسرى سيحدد أسلوب التعامل. ومن المؤكد أن جلب الفدائيين لأعداد كبيرة من الأسرى، خصوصا ونوعيتهم تشتمل على عسكريين وعلى رتب عالية منهم سيعطيها قوة مساومة كبيرة، سواء على تحرير أسرى فلسطينيين في سجون إسرائيل أو في عقد تسوية بعد انتهاء الجولة الحالية من الحرب.
حزب الله أعلن أن الفلسطينيين لن يتركوا وحدهم، وأطلق مدافع الهاون والصواريخ على مبان إسرائيلية في مزارع شبعا اللبنانية التي تحتلها إسرائيل في تضامن رمزي. ردت إسرائيل بقصف مماثل، بالإضافة إلى ما قالته حول استهداف مقر لحزب الله بمسيرات إسرائيلية، ثم ساد الهدوء. أبلغ حزب الله قوات الأمم المتحدة في الجنوب اللبناني (اليونيفيل) بأنه قد انتهى من تحقيق هدفه ولن يواصل معركة، ولكن تردد أيضا أن رسالة وصلت من النظام المصري إلى إسرائيل بأن حزب الله سوف يحتل مستوطنات شمال فلسطين المحتلة إذا دخلت القوات الإسرائيلية البرية إلى غزة.
سؤال اللحظة هو حدود ومدى التدخل البري الإسرائيلي المحتمل في غزة. يبدو من المستحيل أن يقرر الاحتلال إعادة احتلال غزة والإقامة فيها، فهذه المنطقة الصغيرة التي تمثل أكثر مناطق العالم ازدحاما، حيث يسكنها 2.2 مليون فلسطيني، تمثل جحيما لإسرائيل، وإلا لما كانت قد انسحبت منها من الأساس. ستركز إسرائيل على ضربات الطائرات والصواريخ، وربما تشن إسرائيل معركة برية بجانب الضربات الجوية، تحاول فيها تدمير البنية التحتية بقدر الإمكان لحماس والجهاد، وقد لا تتوغل كثيرا بحكم الخسائر الكبيرة في العمليات السابقة، تنتهي بالانسحاب. ولكن مما يحد من تلك الإمكانية عدد الأسرى، بجانب الاتصالات الدائرة على أعلى مستوى بين رعاة إسرائيل في أمريكا والغرب وبين كل من يستطيع التوسط من مصر إلى الأردن والسعودية.
أما رعاة إسرائيل من أمريكا والاتحاد الأوروبي فيتماهون مع العدو الإسرائيلي، ويدينون "الإرهاب الفلسطيني" وقتله وأسره للمدنيين الإسرائيليين "الأبرياء" بما فيهم النساء والأطفال (!!!) ويتغاضون تماما، كما تغاضوا من قبل عن المدنيين والنساء والأطفال الفلسطينيين، مما يزيد من فضحهم وفضح من يوالونهم من حكام عرب. لقد طفح الكيل من الكيل بمكيالين دائما، ولم يعد نفاقهم ينطلي على أحد! كما إن الحكام العرب المطبعين والمهرولين نحو التطبيع فإن ما يحدث يزيد من فضحهم ومن عارهم.
درس هام قديم متجدد: كل انحياز للحكام العرب لأعداء شعوبنا العربية التاريخيين يدق مسامير كثيرة في نعوشهم وينبئ بانتهاء فترتهم. نعرف علاقة تأسيس إسرائيل عام 1948 بما حدث في مصر وانفجار الحركة القومية فيها وفي العالم العربي. كما نعرف أن الهزيمة الثقيلة عام 1967 فتحت الباب لنضال شعبي مسلح، حيث تعتمد الشعوب على نفسها في صنع مستقبلها. ولجوء العديد من الأنظمة العربية إلى الصلح الجماعي مع إسرائيل وتسليم مقدرات المنطقة وثرواتها إلى أعدائها يقرب نهايتها، حيث تتصاعد قوة نقيضها من قوى شعبية وثورية. وقد كانت الثورات والانتفاضات العربية في موجتها الأولى أعوام 2011-2013 أو في موجتها الثانية في 2018-2020 علامة بارزة على الصعود المستقل للقوى الوطنية الشعبية، رغم العديد من الانتكاسات التالية، فالتاريخ لا يعرف مسارا صاعدا دائما، ولكن عبر التقدم وبعض التراجعات تتقدم الشعوب نحو تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
إننا أمام غروب وشروق. غروب الحكام وكل أشياع إسرائيل لكي تشرق شمس المستقبل العربي الذي تصنعه إرادة شعوبها ويدعمه تطوير أخلاق المقاومة وتحفزه كل شرارات المقاومة وتضحيات الشهداء.