الهوس بالإسلام.. أو أزمة اليسار التنويري!


سامح نجيب
الحوار المتمدن - العدد: 6879 - 2021 / 4 / 25 - 11:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


تناول المقال القيم للصديق عمر الشافعي تفسيرًا تاريخيًا لتصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا في الدول الغربية خلال العقود الثلاث الماضية، وقد أرجع ذلك الصعود إلى عوامل ثلاث رئيسية، وهي أولاً انتهاء الحرب الباردة والتحول إلى الحرب على الإرهاب، بكل ما تطلبه ذلك من “شيطنة” للإسلام والمسلمين، وثانيًا النقلة النوعية التي أحدثتها هجمات 11 سبتمبر 2001، وثالثًا صعود اليمين المتطرف في الغرب والتلاقي والتنافس بينه وبين اليمين الوسط في تأجيج واستثمار العنصرية ضد المسلمين، خصوصًا في البلدان الأوروبية.

أما مقال الصديق عمرو عبد الرحمن، وفيما يمكن اعتباره استكمالاً لما طرحه عمر الشافعي، فهو ينظر إلى القضية من الجانب الآخر حيث يستعرض تاريخ ما يسميه باليمين الديني الإسلامي وكيف خلق وطور ما يمكن اعتباره انعكاسًا أو نقيضًا للإسلاموفوبيا في خطاب كاره للغرب يقوم هو الآخر بـ”شيطنة” الغرب والغربيين.

لا أريد أن اشتبك بشكل مباشر مع أي من المقالين، بل سأتخذ فرصة الكتابة في هذا الملف لطرح بعض الأفكار حول الماركسية في علاقتها بقضايا الدين والتنوير والتراث. هذه الأفكار لا تتناول ما يسميه البعض “أزمة الإسلام” بل تتناول في الواقع بعض أوجه أزمة اليسار في التعامل مع الإسلام. ربما يبدو للقارئ أن هناك نوع من القفز في هذا المقال بين موضوعات تبدو منفصلة عن بعضها بعضًا ولكني أتمنى أن يظهر خلال القراءة الخيط الفكري الموحد لتلك الموضوعات.

الإسلاموفوبيا والعنصرية الحديثة
من البديهي أن ذبح المدرس صامويل باتي، أيًا كانت المبررات، هو فعل همجي ومعادٍ للإنسانية. ولكن لأن هذا العمل الإجرامي يأتي في سياق تاريخ من العنصرية، فمن المهم فهم التوظيف السياسي لهذا الفعل البشع في توسيع نطاق العنصرية تجاه الأقلية المسلمة في فرنسا والأقليات المسلمة في أوروبا بشكل عام.

دائمًا ما لعبت العنصرية دورًا محوريًا في الأيديولوجيات الرأسمالية الأوروبية. ولكنها أخذت أشكالاً مختلفة في المراحل التاريخية المتعاقبة. ففي القرن التاسع عشر كان الشكل الرئيسي للعنصرية هو اعتبار الأفارقة (خصوصًا السود) في مرتبة أدنى من الإنسانية عن الرجل الأوروبي الأبيض. كان ذلك لتبرير العبودية في بداية ذلك القرن، وتبرير الاستعمار المباشر في نهاياته. وجاءت معاداة السامية واستهداف الأقليات اليهودية في أوروبا لتلعب دورًا حاسمًا ومأساويًا في عنصرية النصف الأول من القرن العشرين. وكما أوضح عمر الشافعي في مقاله، ففي فترة ما بعد الحرب الباردة أصبحت الإسلاموفوبيا الشكل الرئيسي للعنصرية الأوروبية “الحديثة”، وهي عنصرية ليست مستندة بشكل مباشر على لون البشرة أو خصائص جسمانية معينة، ولكنها تستند على شيطنة ثقافة وعادات الأقليات المسلمة.

وفي الحالة الفرنسية بالذات اتخذت الحملة العنصرية ضد الأقليات المسلمة شكل الدفاع عن “مبادئ الجمهورية الفرنسية” وعلى رأسها “العلمانية”. وهذه المبادئ والربط بينها وبين استهداف المسلمين لا تخص فقط الحلف اليميني الذي تحدث عنه عمر الشافعي، بل أيضًا القطاع الأوسع من اليسار الفرنسي.

بل إن من تبقوا في مواقف مناهضة لهذه الحملة العنصرية وتضامنوا مع الأقلية المسلمة، وهم قطاع من أقصى اليسار وبعض المثقفين والنقابيين المستقلين، أصبحوا هم نفسهم هدفًا لحملة يمينية شعواء تتهمهم فيها بخيانة “مبادئ الجمهورية الفرنسية”.

وربما كان أكثر ما يثير الدهشة هذا الإجماع حول تلك المبادئ. فما هي “مبادئ الجمهورية الفرنسية”؟ الادعاء بالطبع هو أنها تتعلق بالحرية والديمقراطية والمساواة والحضارة! ربما كان ذلك صحيحًا في ذروة الثورة الفرنسية الكبرى (1789-1794) ولكن منذ تلك الحقبة لم يعد للجمهوريات الفرنسية المتعاقبة (والملكيات التي تخللتها) مبادئ سوى التراكم الرأسمالي والتوسع الاستعماري والمذابح في الجزائر وفيتنام، بل قطع رؤوس المقاومين بالمقصلة (حتى 1962)، وحتى التواطؤ مع الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية ومساعدته على مطاردة اليهود الفرنسيين. بل إنه حتى يومنا هذا ترفض “الجمهورية” الفرنسية الاعتذار عن حربها الدموية على الشعب الجزائري (بل ترفض حتى اعتبارها حربًا).

هذه الجمهورية اليوم تعتبر حجاب أو نقاب شابة مسلمة تهديدًا لمبادئها. ربما كان من المفيد أيضًا ذكر أن قانون “العلمانية” لم يسن إلا في عام 1905 وذلك في مواجهة الكنيسة الكاثوليكية ونفوذها الكبير في قطاع التعليم خصوصًا. ومن المفارقات أن “العلمانيين” الفرنسين كانوا يرفضون منح النساء حق التصويت في الانتخابات خوفًا من ارتباط الكثير منهن بالكنيسة (لم تكسب المرأة الفرنسية حق التصويت حتى 1944). وقد أكد القانون على حق حرية العقيدة، بما في ذلك التعبير عنها بالطقوس والملابس.
الأقلية المسلمة في فرنسا لا تتعدى 7٪ من السكان وغالبيتهم من الفقراء. تكونت تلك الأقلية في فترة الانتعاش الاقتصادي الكبير بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الستينيات. هذا الانتعاش خلق طلبًا متزايدًا للعمال، فسمحت الدولة الفرنسية (كغيرها من دول أوروبا الغربية) لأعداد كبيرة من اللاجئين للاستقرار في فرنسا للعمل في أسوأ المواقع ومقابل أدنى الأجور وأقل الضمانات والحقوق.

ولم تتوقف الدولة الفرنسية يومًا واحدًا عن استخدام العنصرية ضد هذه الأقلية لتقسيم الطبقة العاملة (التأثير الأكبر للإسلاموفوبيا في صفوف الطبقة العاملة البيضاء) واستخدامها كفزاعة دائمة لتوحيد الصفوف ورائها.

الرسوم الكاريكاتورية المسيئة والعنصرية (ومن يرى الرسومات التي اختارها باتي لتلاميذه على سبيل المثال لا يمكن ألا يرى فيها هذا البعد العنصري، تمامًا كما كانت الرسومات العنصرية عن اليهود في ألمانيا النازية)، تأتي كلها في هذا السياق التاريخي.

ولكن هذا كله لا يعني أن ردود الفعل الهمجية التي رأيناها في ذبح باتي ومن قبلها قتل صحفيي شارلي إبدو لا تلعب دورها في خدمة المشروع العنصري. ردود الفعل الهمجية تؤجج العنصرية وتمدها بالذخيرة وتمادي العنصرية يولد المزيد من الهمجية. (يشرح عمر عبد الرحمن في مقاله كيف يستثمر الإسلاميون هذه الحالة بالتحريض وبتنفيذ عمليات إرهابية لتوسيع نفوذهم سواء في وسط الشباب المسلم في أوروبا أو بشكل محلي في البلدان العربية والإسلامية).

ربما كان أخطر ما تمثله مأساة تلك المواجهات المتصاعدة هو ذلك المزج المتزايد بين ما يبدو أفكارًا تحررية وتقدمية مثل العلمانية وحرية التعبير وحرية المرأة وبين عنصرية مقيتة تتخفى وراء تلك الشعارات وتغذي صعود الفاشية واليمين المتطرف.

“العظم” واليسار التنويري العربي
صادق جلال العظم على سبيل المثال، وهو أحد أهم “التنويريين” اليساريين العرب وظل حتى وفاته معاديًا صلبًا للحركات الإسلامية، كان يستند إلى رؤية شديدة الاختزالية حول مفاهيم التنوير والحداثة والتقدم. فهناك بالنسبة له تناقض حاد وواضح بين التراث والحداثة. فالحداثة مرتبطة بالعقل والعلم والتحليل والديمقراطية. أما التراث فيرتبط بالخرافة والدين والخطابة والسلطوية. لا يوجد هنا أي تناقضات داخل “معسكر” الحداثة ولا داخل “معسكر” التراث. أوروبا انتقلت من خلال التنوير من التفكير الأسطوري والميتافيزيقي الذي يمثله الدين إلى التفكير العقلاني والمادي الذي يمثله العلم. والسبيل الوحيد أمام العالم العربي والإسلامي هو إحداث نفس هذه النقلة التنويرية.

“لقد رأينا أنفسنا (وهو هنا يتحدث عن اليسار العربي) في سياق حركات التحرر العربية كقوة تنويرية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. فإذا عدنا للتنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، سنجد أن تلك الحركة كانت نتاج مباشر للثورة العلمية في القرن السابع عشر. كان معنى التنوير هو تقنين وتنظيم المعرفة الجديدة التي انبثقت عن الثورة العلمية ثم نشرها في المجتمع، وجعلها ليس فقط في متناول كل من يريدها ولكن أيضًا في متناول مراكز القوة والسلطة في الدولة والمجتمع. كانت الفكرة هي جعل المعرفة الجديدة أساس لتنظيم الإنتاج وإدارة المجتمع والدولة، وإعادة تشكيل الحياة الثقافية والتعليمية والسياسية. وكل ذلك كبديل للاعتماد على الفقه والممارسات التقليدية”.

عندما اندلعت أزمة رواية “آيات شيطانية” للروائي البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي، خاصة بعد فتوى آية الله الخوميني بقتله، تدافع التنويريين العرب للدفاع عنه وعلى رأسهم صادق جلال العظم. ولا أقصد هنا مجرد الدفاع عن حق سلمان رشدي في أن يكتب وينشر ما يريد دون منع أو رقابة، فهذا أمر لا خلاف عليه، ولكن ما أقصده هو تحويل سلمان رشدي إلى رمز للتنوير وكأنه فولتير العالم الإسلامي!

“أرى من الغريب أن في المناقشات والسجالات الساخنة حول قضية رشدي لم يتعامل أحدًا معه كإمكانية لرابيلاي مسلم أو فولتير مسلم أو جيمس جويس مسلم يتخلص من دفاتره القديمة مع الكنيسة”. ألم يكن رابيلاي وفولتير وجويس يعرفون ما كانوا يفعلون؟ ألا يقتحم رشدي مجالاً نقديًا جديدًا في الثقافة الإسلامية وفي الوعي التاريخي الإسلامي؟ أم أن المجتمعات والثقافات المسلمة من المفترض أن تبقى دائمًا في مكانها؟

هكذا نرى صادق جلال العظم لا يشبه رشدي فقط برموز عصر التنوير، بل أيضًا بجيمس جويس في تحديه للكنيسة الكاثوليكية في أيرلندا.

وتوقع العظم في ذلك الحين أن رشدي سيكون بداية لسلسلة من الكتاب والفنانين في العالم الإسلامي، وسيكون لهم نفس التأثير على مجتمعاتهم الذي أحدثه فلاسفة وكتاب عصر التنوير:

“ما أنه لا يمكن لمنظومة إيمانية سابقة للعلم أن تتمكن من مقاومة الآثار المزعزعة والمخترقة التي يحدثها نظام المعرفة العلمية الحديث، فالنتيجة ستكون ظهور الكثير من أمثال رشدي في المجتمعات الإسلامية بدرجة من الانتظام تقترب من القانون العلمي. هناك في تقديري وعي متزايد في المجتمعات المسلمة بأن رفض النظم العلمية الحديثة للمعرفة بما فيها كيفية رؤية العالم وطريقة التفاعل معه لن تؤدي إلا إلى دفع تلك المجتمعات إلى مزبلة التاريخ”.

ومع أن صادق جلال العظم كان يعرف نفسه كماركسي، فهو يقدم لنا رؤية خالية تمامًا من الصراع الطبقي أو تاريخ الاستعمار أو الرأسمالية وتناقضاتها أو العنصرية وآثارها. يقدم رؤية مثالية حول مركزية المعارك الفكرية: العلم ضد الدين، التنوير في مواجهة الظلامية الدينية، التقدم في مواجهة الرجعية، هكذا وإلى آخره.

(كان لسلمان رشدي نفسه رؤية شبيهة ففي 1989 أوضح إنتمائه لفكرة الثنائيات الحضارية: العلماني مقابل الديني، النور مقابل الظلام. عليك أن تختار على أي جانب تكون، وبما أن المعركة قد وصلت بريطانيا، فقد حان الوقت لنا أن نختار).

فيلم “أجورا”: التنوير إلى العمى
أجورا فيلم أسباني تدور أحداثه حول العالمة والفيلسوفة اليونانية “هيباتيا” في الإسكندرية في نهايات القرن الرابع الميلادي. كانت الإسكندرية في ذلك الحين جزء من الإمبراطورية الرومانية. وكانت هيباتيا تحاضر في المدرسة الأفلاطونية حيث يتعلم أبناء النخبة اليونانية-الرومانية. وفي حين نرى “هيباتيا” العالمة الشابة الجميلة البيضاء تحاضر وتناقش في جو من الإبداع والثراء الثقافي داخل أسوار المدرسة، يتآمر المسيحيون خارجها ضد الوثنية اليونانية والرومانية ويحرضون أتباعهم لحرق المكتبات والمدرسة وقتل العلماء والفلاسفة “الكفار”. ونرى في الفيلم هؤلاء الرعاع الهمجيين المسيحيين (فلاحين مصريين) يحرقون ويدمرون ما تبقى من “الحضارة” اليونانية الرومانية ويقتلون آخر حماتها من العلماء اليونانيين (أوروبيين شديدي البياض) وينتهي الفيلم بقتل الغوغاء لهيباتيا الجميلة نفسها.

هذه الرؤية للمواجهة بين الدين والعلم، وكيف أدى انتشار المسيحية لتراجع ما كان قد بدأته اليونان القديمة من طفرات حضارية في العلوم والآداب والفلسفة ليست بالطبع جديدة وهي رؤية مثالية (الفكر الديني الغيبي في مواجهة الفكر العلمي “المستنير”) وحتى تلك القصة التاريخية حول الرعاع المسيحيين السمر ذوي الذقون الطويلة والجلابيب السوداء وهم يمزقون جسد هيباتيا وينزعون عنها ردائها الأبيض الجميل، فنجدها في كتاب إدوارد جيبون “اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها” ونجدها مكررة في رواية تشارلز كينجسلي “هيباتيا” (1853) وكذلك بالطبع في رواية “عزازيل” للكاتب يوسف زيدان.

ولكن قصة هيباتيا هذه والتي يرويها الفيلم لا علاقة لها بالتاريخ. الفيلم على سبيل المثال يصور حرق مكتبة الإسكندرية على أيدي نفس الغوغاء الذين قتلوا هيباتيا، في حين أن المكتبة كانت قد اندثرت قبل ميلاد هيباتيا. وهيباتيا لم تكن تدافع عن العلم في مواجهة الخرافة الدينية فهي نفسها كانت تنتمي للمدرسة الأفلاطونية الحديثة ومن أتباع بلوتينوس وكانوا يؤمنون بأن هدف الفلسفة هو التوحد مع الألوهية! وأيضًا لم تكن هيباتيا جميلة أو شابة (كانت فوق الستين عندما قتلت) ولم تكن أيضًا كما يصورها الفيلم تضحي بحياتها العاطفية من أجل التفرغ للعلم والفلسفة، بل كانت على علاقة بالحاكم الروماني الدموي للإسكندرية وكانت هي ووالدها من ملاك العبيد (المصريين بطبيعة الحال).

وقد شاهدت الفيلم عند عرضه الأول في مهرجان الفيلم الأوروبي (القاهرة 2009)، وامتلأت القاعة بمثقفي اليسار كما هو معتاد في مثل تلك المهرجانات، وانتهى الفيلم بالتصفيق الحاد بالطبع، فالجمهور المستنير تعاطف مع هيباتيا ممثلة العلم والفكر الحر والتقدم في مواجهة الظلامية الدينية بخرافاتها وعنفها وتخلفها..

هذه الرؤية التي ما زالت تهيمن على أفكار الكثير من اليساريين هي رؤية فعليًا معادية للماركسية (حتى كمنهج لفهم التاريخ وإن لم يكن تغييره). فأولاً، الإمبراطورية الرومانية واليونانية من قبلها اعتمادًا على العبودية واسعة النطاق (في الزراعة والمناجم والسفن بيوت السادة). وثانيًا لم يكن سبب انهيار الإمبراطورية الرومانية انتشار الدين المسيحي، تلك الفكرة بنت عصر التنوير ومعاركه ضد الكنيسة الكاثوليكية. وثالثًا، عندما نرى في فيلم أسباني، مجاميع من الفلاحين السمر يهجمون على أبناء طبقة حاكمة يونانية رومانية بيضاء وكل ذلك في سياق إسلاموفوبيا أوروبية تستخدم الأفكار التنويرية لشيطنة المسلمين، من التعيس جدًا ألا نرى أيًا من كل هذا السياق، وأن يعمينا التنوير عن رؤية وفهم الواقع.

الموروث والوارد في فكر “البشري”
في مقدمته الشهيرة للطبعة الثانية لكتابه “الحركة السياسية في مصر” حاول المؤرخ الراحل العظيم طارق البشري أن يشرح للقارئ التغيرات الكبرى التي طرأت على رؤيته للتاريخ المصري الحديث منذ أن نشر الكتاب في بداية سبعينيات القرن الماضي. كان ذلك التغير يتعلق بالطبع بتقديره لطبيعة دور الإخوان المسلمين في التاريخ المصري الحديث، وعلاقة الوارد بالموروث في تكوين الجماعة السياسية المصرية بل والتكوين الثقافي والحضاري المصري بشكل عام:

“صرت الآن أفهم ما يغفل عنه العلماني الوطني، وهو وضع المسألة من الناحية التاريخية، بالنسبة لمن الأصيل ومن الطارئ. فالعلماني الوطني يرى أن ابتعاد الدنيا عن الدين هو كبعد الأرض عن السماء، ويرى منهجه هذا من طبائع الأشياء. وهو في صياغته للحقائق التاريخية، لا يدرك أن نظرته تلك نبت وافد. وأنها وافد حديث. وأنها لم تفد قبل يومنا هذا بأكثر من قرن من الزمان. ولم تنم في البيئة الحضارية المصرية قبل مطلع القرن العشرين. ولم تتمكن أن تكسب شرعيتها الوطنية قبل ثورة 1919”.

أطروحة البشري تقوم على فكرة أن مقاومة الاحتلال كان لها طابع إسلامي حتى نشوء الوفد بطبيعته العلمانية. بل إن علمانية الوفد كانت مصدر ضعفه على المدى الطويل بسبب تبنيه للوطنية العلمانية بمفهومها الأوروبي والتخلي عن التراث الإسلامي بكل ما كان يمكن أن يعطيه ذلك التراث من مناعة وقوة في مواجهة الغزو الغربي بكل أشكاله. بل أنه جعل من الإنتلجنسيا المصرية شريحة معزولة منقطعة الصلة بالجماهير، ثقافتها أقرب إلى ثقافة المحتل منها إلى ثقافة الشعب.

” اتى الوافد الأوروبي بطرق شتى، رجال مغامرون، ومؤسسات اقتصادية من بنوك وبيوت إقراض رهونات.. إلخ، وقروض للدولة كأطواق الحديد، وبعثات تبشير تتحسس الطريق لتكوين أقليات مصرية تدين بالولاء للغرب وكنائسه. ثم المحاكاة في وسائل العيش وفي طرز المسكن والملبس وعادات الحياة، بما اقتحم البيئة المصرية اقتحامًا”.

وكأن الاحتلال الأوروبي بمراحله المختلفة كان مؤامرة تستهدف سحق الهوية المصرية أو الإسلامية. ولكن التأثير ثم الاحتلال الأوروبي لمنطقتنا كان له طابع اقتصادي وسياسي بالأساس. ما جاء به الأوروبي كان الرأسمالية (تحويل مصر على سبيل المثال إلى مزرعة كبرى للقطن وقصب السكر لخدمة الصناعة البريطانية واستيعاب جزء من رأس المال الفائض (مشاريع السكك الحديدية وقناة السويس، الطرق.. إلخ).

هذا التحول الرأسمالي بدأ في تغيير الثقافة في مصر كما حدث في كل البلدان الأخرى انتشار العمل المأجور والعلاقات السلعية والملكية الخاصة بدأ في تفكيك الأنماط الاجتماعية السابقة، بغض النظر عما كان يدور في ذهن الأوروبي.

ولكن بالطبع كان هذا التحول الرأسمالي السريع بحدث بسرعات متفاوتة جغرافيًا، وظلت قطاعات كثيرة خارج نطاق ذلك التحول. ومن جانب آخر، والبشري محق في ذلك، فالمؤسسات وأساليب الإدارة والقوانين ومنظومة التعليم الحديث لم تتطور بشكل تفاعلي مع تطور المجتمع بل زرعت زرعًا في البيئة المصرية بكل ما خلقه ذلك من صدمات وتناقضات وعدم استقرار سياسي أو اجتماعي أو ثقافي. ولكن هذا هو قدر كل البلدان التي دخلتها الرأسمالية متأخرًا عبر التوسع الاستعماري. وهذا ما يسميه ليون تروتسكي التطور المركب اللا متكافئ.

كثير من ملاحظات البشري، خاصة تلك المتعلقة بالقوانين على سبيل المثال ترتبط بهذه الطبيعة المركبة لتطور الرأسمالية في مصر. ولكنه يظل يفصل بين الجانب الاقتصادي والاجتماعي لتلك العملية وبين الجانب الثقافي، وهنا يتركز هجومه على تبني الإنتلجنسيا المصرية للفكر الغربي:

بدأ الفكر الغربي يروج متمثلاً في نظرياته السياسية والاجتماعية والفلسفية. لم يعد الأمر تنظيمًا أو نمطًا يؤخذ، أو مطلبًا يستعار، ولكنه صار مذاهب ونظريات وأدبًا وشعرًا.. صار أساسًا نظريًا وعقليًا ووجدانيًا متكاملًا.

فكرة أنه يمكننا الأخذ بأنماط تنظيمية أو تكنولوجيا على سبيل المثال دون التأثر بالسياق السياسي والاجتماعي والفلسفي لتلك الأنماط أو التكنولوجيا هي فكرة مثالية. الفكر الغربي ليس فقط غربيًا ولكنه أيضًا رأسمالي، يرتبط عضويًا بتكنولوجيات وأنماط تنظيمية. ولكن هل يعني ذلك أنه كان علينا إما رفض الحداثة الرأسمالية برمتها (على افتراض أن ذلك كان ممكنًا أصلاً)؟ أم قبول تلك الحداثة في كليتها والتخلي عن التراث المحلي القديم “المحافظ الرجعي، إلخ؟

في واقع الأمر جزء مما يطرحه البشري حول المثقفين العلمانيين التنويريين في محله تمامًا. فكثير من هؤلاء يأخذون أفكار التنوير الأوروبي (العقل، التقدم، العلم، إلخ) دون أي بعد نقدي على الإطلاق. وحتى بعض الذين يتخذون مواقف نقدية من التنوير الأوروبي فهم يفعلون ذلك في سياق التاريخ الأوروبي، على اعتباره تاريخًا إنسانيًا عامًا (universal). أضف إلى ذلك احتماء كثير من هؤلاء بالدولة ومؤسساتها الثقافية منذ الخمسينات وحتى اليوم، وستجد أن نقد البشري في محله تمامًا.

ولكن حل البشري بالعودة إلى التراث ورفض الوافد كشكل من أشكال المقاومة هو أيضًا حلاً مثاليًا بل ومحافظًا. فما هو التراث؟ بالنسبة للبشري التراث هو “الإسلام” هكذا في عموميته. ولكن أي تفسير للإسلام؟ هنا نجد البشري يتبنى تفسير الحركات الإسلامية المعاصرة بمفكريها التقليديين (البنا وسيد قطب والغزالي وأمثالهم). هؤلاء لهم تفسيرات محافظة ويمينية في غالبية القضايا.

وإذا نظرنا إلى قضية الوافد والموروث من وجهة نظر ماركسية فلن نتمكن من رفض أو قبول أيًا منهما. الحداثة الرأسمالية يجب نقدها من داخلها، أي تفجير تناقضاتها والعمل على تجاوزها (Aufhebung) والتراث، وهو يشمل كل أشكال المقاومة الاجتماعية ضد الاستبداد والاستغلال والاضطهاد عبر التاريخ سواء تلك الأشكال التي عبر عنها من خلال الدين (سواء المسيحي أو الإسلامي) أو أخذت أشكالاً خارج إطار الدين.

وبما أن الكثير من تلك الحركات كانت بالضرورة تعبر عن نفسها من خلال الدين، فلا يمكن للمثقف الماركسي أن يتجنب الخوض في التراث المسيحي والإسلامي.. ولكن كيف؟

النقد الماركسي للتراث المسيحي
الدين بالنسبة لنوع معين من التنويريين الجدد (سواء في الغرب أو في منطقتنا) هو العقبة الرئيسية التي تعيق التفاعل العقلاني المستنير مع العالم وبالتالي تعيق المضي قدمًا في مسيرة التقدم. أما واقع الحداثة والتقدم بما يشمل ذلك الاستعمار والحروب العالمية ومعسكرات التعذيب والقتل الجماعي والاستغلال الرأسمالي واسع النطاق والأزمات الاقتصادية وانهيار البيئة وانتشار الأوبئة والفقر، كل ذلك مجرد مطبات بسيطة في الطريق.

هؤلاء المثقفون مصابون بدرجة عالية من المثالية، أو كما وصف إنجلز تعميهم ما يرونه من قوة الأفكار الخارقة. أفكار تنويرية في مواجهة أفكار دينية. أفكار تقدمية في مواجهة أفكار رجعية في مختلف المجالات الفلسفية والقانونية والسياسية والاجتماعية. يظل الصراع داخل المجال الفكري الثقافي، هكذا معلقًا في الهواء، يعيدون إنتاج أفكار من أوروبا القرن الثامن عشر حول العلم والعقل والتقدم وعجلة التاريخ، وكأن القرن الماضي بكل كوارثه لم يحدث.

الأديان نفسها هي حلبة للصراع الأيديولوجي. مليئة بكم هائل من التناقضات والخلافات والإبهام. لا يعني ذلك أن نغرق أنفسنا في نسبية الأفكار كما يفعل ما بعد الحداثيين. ولكنه يعني أن نطبق تحليلاً ماركسيًا صارمًا على الأديان باعتبارها مجال يخاض فيه صراعات حيوية.

مجرد الرفض الساذج هذه للدين ومحاولة مواجهته بالعلم والعقل لا معنى له على الإطلاق. ما يريده ماركس هو تجاوز للدين (Aufhebung) بالمعنى الهيجلي للكلمة. بما أن الهدف هو الإطاحة بكل العلاقات التي يكون فيها الإنسان مهانًا ومضطهدًا ومستعبدًا (في الواقع وليس في الأفكار)، وبما أن الدين يستخدم من قبل الطبقات الحاكمة لتبرير تلك الأوضاع ويستخدم من قبل الفقراء سواء كملجأ من تلك الظروف أو كمصدر للإلهام في تغييرها، فبمجرد رفض الدين لن يمكننا تجاوزه.

حاول الماركسي الألماني إرنست بلوخ استخدام الماركسية لفهم مثل هذه التناقضات في المسيحية (في كتاب الإلحاد في المسيحية على سبيل المثال) ليس فقط بالنسبة للعهد الجديد بل أيضًا قصص العهد القديم: حواء في الجنة، قابيل، بناة برج بابل، التذمر في البرية، تمردات كورا ومريم، صرخات أيوب من أجل العدالة، كلمات المسيح حول يوم القيامة.

في 1905 نشرت روزا لوكسمبورج مقال طويل بعنوان الاشتراكية والكنائس، طرحت فيه أن الجماعات المسيحية الأولى كانت شيوعية ولكنها كانت شيوعية في الاستهلاك وليس في الإنتاج.

وقد أكد كاوتسكي في كتابه أسس المسيحية (1908) أن تلك الجماعات كانت تشع بطاقة شيوعية وإن كانت مبهمة، وبكراهية للملكية الخاصة والدفع نحو نظام اجتماعي أفضل تذوب فيه الفروق الطبقية من خلال تقسيم الممتلكات.

بالنسبة للوكسمبورج وكاوتسكي، كان انهيار ذلك النموذج الشيوعي المسيحي بسبب التوسع. فلم يعد المسيحيون مجموعات صغيرة يمكنهم المشاركة في كل شيء. ومع الانتشار دخل المسيحية قيادات مجتمعية وأغنياء ولم يعد من الممكن عمليًا بالتخلي عن ممتلكاتهم لصالح الفقراء.

والتغيير الكبير بالطبع جاء مع اعتناق الإمبراطور كونستانتين للمسيحية في 312 ميلاديًا وتشجيعه للمسيحية بل جعلها الديانة الرسمية للإمبراطورية.

بالنسبة لبلوخ كان كل شكل من أشكال المعارضة أو المقاومة لشخصيات في مراحلها الاستبدادية في قصص الإنجيل مادة لها طابع ثوري.

وبعد ذلك جاء تاريخ من الحروب الصليبية وقمع المهرطقين والحملات الهمجية ضد اليهود والمسلمين ومحاكم التفتيش وحروب الدين الأوروبية خلال وبعد الإصلاح.

الإنجيل مليء بالآيات المتناقضة، على سبيل المثال:

لا يوجد يهودي أو يوناني ويوجد عبد أو حر ولا يوجد ذكر أو أنثى ولكنكم كلكم واحد في المسيح. (رسالة بولس الرسول إلى غلاطية 3:28)

رسالة بولس إلى كورنثوس: على كل شخص أن يبقى في المرتبة التي يجد نفسه فيها. رأس كل رجل هو المسيح ورأس المرأة زوجها.

هناك تناقضًا وتوترًا بين الآيات وبين القصص عن المسيح على سبيل المثال. المسيح الغاضب، المقاوم في وسط الفقراء وآيات تقول إنه علينا إطاعة الحكام والسلطة والملوك والمسئولين بشكل عام، بل الصلاة من أجل من له سلطة! (بطرس 2:13، تيموثيوس 2، روميه 13:1،2)

ويتصور البعض أن المسيحية على عكس الإسلام على سبيل المثال لم تكن “دينًا ودولة”. ولكن هذا التصور بعيد كل البعد عن الواقع. فإلى جانب ما ذكرناه عن تبني الإمبراطورية الرومانية المسيحية كدين رسمي في عهد كونستانتين، في العصور الوسطى كانت الكنيسة الكاثوليكية لاعب رئيسي في السلطة السياسية والتشريعية والاقتصادية. ففي عصر البابا جريجوري السابع على سبيل المثال أصبحت سلطة الكنيسة شبه مطلقة. هكذا عبر عنها جريجوري السابع:

البابا لا يمكن لأحد أن يحاكمه الكنيسة الرومانية لم تخطئ أبدًا ولن تخطئ أبدًا حتى نهاية الزمان المسيح وحده هو من أنشأ الكنيسة الرومانية البابا وحده يمكنه تعيين وخلع الأساقفة هو وحده من يمكنه سن القوانين الجديدة هو وحده يستطيع أن يراجع أحكامه السابقة هو وحده يحق له استخدام الشارة الإمبراطورية يحق له خلع الأباطرة، وقد لعب النظام البابوى للكنيسة الكاثوليكية الرومانية الدور الأساسي في بناء منظومة قانونية في العصور الوسطى. بل كان أهم عنصر في ذلك هو استعادة قوانين الملكية الخاصة المطلقة والتي كانت قد نسيت بعد أن اخترعها الرومان. والكنيسة هي من طور من القانون الروماني لاستخدامه في المجتمع الإقطاعي.

وقد طور بابوات ما بين القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر نظامًا يلزم كل من يحتاج لمشورة القانونية أن يلجأ إلى المحاكم البابوية، وانتشر الممثلين القانونيين للبابا في كل مكان وتوسعت معهم سلطة الكنيسة بشكل غير مسبوق. ولكن كما أصبحت الكنيسة كمؤسسة جزء من السلطة، ظلت المسيحية مصدرًا للإلهام للحركات الاجتماعية المقاومة.

ربما كان أشهر الحركات الاجتماعية التي اتخذت بعدًا دينيًا في القرن العشرين، حركة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية. المفكر الماركسي الفرنسي ميشيل لوفي له إسهامات مهمة في تحليل تلك حركات من منظور ماركسي. كانت تلك الحركة التي مزجت بين بعض الأفكار الماركسية وبعض الأفكار المستمدة من التراث المسيحي وذلك في إطار صعود اليسار بشكل عام في تلك المنطقة في مواجهة نظم ديكتاتورية رأسمالية.

وقد استخدم لوفي مفهوم “التجاذب الاختياري” لتحليل العلاقة بين التراثين الماركسي والمسيحي. وهو مفهوم استخدمه من قبل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر لتحليل العلاقة بين البروتستانتية وصعود الرأسمالية. (المصطلح أصلاً مأخوذ من عنوان لإحدى روايات جوته)

وفكرة المقارنة بين المسيحية والماركسية ليست جديدة بالطبع بل استخدمت كثيرًا لمهاجمة الماركسية (فكرة الماركسية كدين). يطرح البعض هذه الفكرة بشكل شديد السذاجة: شرور العصر الحالي بحروبه واغترابه واستغلاله لن يتغلب عليها سوى الطبقة العاملة كمخلص جماعي سيدشن عصرًا جديدًا سنقضي فيه على الخطيئة ويعاقب الظالمون ويرث المظلومين الأرض.

ولكن ما يطرحه لوفي هو أنه بالفعل هناك “تجاذب اختياري” بين المسيحية، خاصة في بداياتها وبين الأفكار الاشتراكية (كما لاحظ من قبل كل من لوكسمبورج وكاوتسكي). هذا التجاذب هو ما مهد لتطور لاهوت التحرير داخل وخارج الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية.

أما المفكر الماركسي اللبناني جلبير أشقر، فهو يوافق لوفي حول ذلك التجاذب الاختياري بين الاشتراكية والمسيحية ولكنه يعتقد أن نفس الفكرة لا يمكن أن تنطبق على الإسلام. فإذا نظرنا إلى حركات الإسلام السياسي المعاصرة (يصر الأشقر على تسميتها حركات الأصولية الإسلامية) فسنجد أن التجاذب الاختياري هو بين يمينية ورجعية تلك الحركات وبين ما يمكن تعريفه كنوع من الطوباوية الرجعية المرتبطة بالعصور الوسطى.

في رأيي فكرتي لوفي وأشقر خاطئتان. لا أناقش هنا مسألة رجعية ويمينية الحركات الإسلامية المعاصرة، بل أناقش فكرة التجاذب الاختياري ذاتها. ففي حالة المسيحية وكما رأينا، فلكل مثال لآيات أو قصص يمكن تأويلها بشكل يساري، فهناك عشرات الآيات والقصص يمكن تأويلها بشكل يميني محافظ. وفي واقع الأمر فمن الخطأ عدم الانتباه لتناقضات حركة لاهوت التحرير نفسها. فهي أولاً لم تكن تتبنى لا الفلسفة الماركسية ولا التفسير الماركسي للتاريخ، بل تبنت فقط بعض مقولات مدرسة التبعية (سمير أمين، فالرشتين، جوندر فرانك، إلخ). وثانيًا فقد كان هناك مناطق من الفكر المسكوت عنها مثل وضع المرأة وقضية الإجهاض والحريات الجنسية.. إلخ. وثالثًا لاهوت التحرير سرعان ما انهار في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي سواء بسبب التناقضات الداخلية أو بسبب تراجع اليسار بشكل عام في التسعينيات.

تجربة الزواج بين الماركسية أو الاشتراكية وبين المسيحية أو الإسلام هي تجربة فاشلة بالضرورة. فلا الإسلام “يميني” بطبيعته ولا المسيحية “يسارية بطبيعتها.

وكما لاحظ فردريك إنجلز، وهو أيضًا له إسهامات مهمة في التحليل المادي التاريخي للمسيحية، وملاحظته تنطبق أيضًا على الإسلام، أن المسيحية، وخاصة الإنجيل، له طبيعة سياسية مبهمة وقابلة للتأويل. ستجد فيها الكثير من المادة التي يمكن للطبقات الحاكمة اللجوء إليها لجعلهم مرتاحي البال وفي نفس الوقت هناك الكثير من المواد التي تعطي الشرعية للإطاحة بتلك الطبقات.

دع الموتى يدفنون موتاهم!
في إنجيل لوقا طلب أحد التلاميذ من المسيح أن يقضي بعض الوقت في بيته ليدفن والده، وكان رد المسيح: “دع الموتى يدفنون موتاهم ولكن اذهب أنت لتعلن مملكة الله”، وكان يقصد بذلك أن يترك الغارقين في تقاليد وطقوس الماضي أن يقوموا بمثل تلك الأعمال وأن يركز هو على مهمة التبشير بما هو جديد (تعاليم المسيحية في هذه الحالة).

يأخذ ماركس هذا التعبير ليستخدمه في كتاب “الثامن عشر من برومير” للتمييز بين ثورات الماضي (الثورات البرجوازية) وبين ثورة المستقبل أي الثورة الاشتراكية. فيصف على سبيل المثال كيف اتخذت الثورة الفرنسية الأولى (1789-1794) رموزها وأمثالها من الجمهورية الرومانية في حين اتخذت ثورات 1830 و1848 رموزها وأمثالها من الثورة الفرنسية الأولى. أما الثورة الاشتراكية فلا يمكنها النظر إلى الماضي بل فقط إلى المستقبل. أو هكذا قصد ماركس. ولكن ماركس يقول أيضًا في نفس الكتاب “إن تراث جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء”، أي أن التخلص من تراث الأجيال السابقة ليس بالعملية البسيطة. أما المفكر الماركسي الألماني والتر بنيامين فهو يأخذ بعض خيوط فكر ماركس حول العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين التراث والثورة ويستخدمها لمحاولة التفكير في إمكانية الثورة الاشتراكية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وذلك في سياق صعود النازية من جانب وهيمنة الستالينية والاشتراكية الديمقراطية على اليسار الأوروبي من الجانب الآخر.

طرح بنيامين أن الماركسيين لا يمكنهم ترك الموتى لموتاهم لأن ذلك يعرضهم للاستيلاء من قبل اليمين المحافظ والفاشي. فتلك التيارات دائمًا ما تلجأ للماضي والتراث وتحاول تملكهم. وبالطبع يتحول تراث الأجيال السابقة على أيديهم ومن خلال تفسيراتهم لذلك التراث إلى تبرير أيديولوجي لبرامجهم الاجتماعية والسياسية في الحاضر والمستقبل. ويصبح التراث في هذه الحالة سلاح جبار في أيدي اليمين في مواجهة اليسار والذي يبدو منقطع الصلة بالتراث وبلا جذور أصيلة وهو ما يستخدم ضدهم في كسب الجماهير للأفكار القومية والمحافظة.

قراءة بنيامين لماركس تفترض أن تراث الثورة ليس فقط تراث الطبقة العاملة الحالية ولكن أن الطبقة العاملة الحالية تنتقم في ثورتها لكل الأجيال من المستغلين والمضطهدين عبر التاريخ. أي أن للطبقة العاملة موتى لا يمكن تركهم بل يجب إحياء نضالاتهم وانتصاراتهم وهزائمهم، فهذه ذخيرة لا غنى عنها إذا كان هناك أملاً في ثورة ناجحة.

يرفض بنيامين رؤية التاريخ المهيمنة في وقته بين الستالينيين والاشتراكيين الديمقراطيين القائمة على فكرة التقدم والمسار الأحادي للتاريخ (ماضي-حاضر-مستقبل)، تلك الفكرة المريحة التي تشبه التاريخ بقطار يتقدم سريعًا نحو مستقبل أفضل.

“المؤرخ الوحيد القادر على تأجيج شرارة الأمل في الماضي هو ذاك الذي يقتنع تمامًا أن حتى الأموات لن يسلموا من العدو إذا بات منتصرًا”

القضية التي طرحها بنيامين في ثلاثينات القرن الماضي لازالت حيوية في قرننا هذا وفي منطقتنا هذه. ما علاقة يسارنا الحالي بتراث الأجيال السابقة” ولماذا نترك ذلك التراث ليصبح فريسة الحركات الإسلامية، فيصبح التاريخ تاريخهم في حين نصبح نحن بلا تاريخ؟ أو يصبح تاريخنا نحن تاريخ الثورات الفرنسية والروسية، في حين يدعي الإسلاميين أن جذورهم ممتدة في تاريخ وثقافة شعوب المنطقة؟ هناك معركة حول التراث يجب أن تخاض. ما يسمى بالتراث الإسلامي ليس ملك للإسلاميين. فذلك التراث مليء بالثورات والنضالات ضد الاستبداد والظلم والاضطهاد عبر العصور. ذلك هو تاريخنا نحن، ولكن لأن تلك الحركات كانت تتخذ من الدين منبعًا للشعارات والطوباويات ولأن اليسار العربي لا زال حبيس رؤى تنويرية لم تتجاوز القرن الثامن عشر في أوروبا، تظل تلك الثورات والحركات مدفونة ويظل التراث ملك الإسلاميين. ربما يكون ملائمًا أن ننهي هذا المقال بكلمات بنيامين:

“هناك لوحة للفنان بول كلي بعنوان: أنجيلوس نوفوس (الملاك الجديد). تظهر اللوحة ملاكًا يبدو أنه على وشك الحركة بعيدًا عن شيئًا ما يحدق فيه. عيونه متسعة، فمه مفتوح، جناحيه ممدودتان. هكذا يجب على ملاك التاريخ أن يكون. وجهه متجه نحو الماضي. ما يبدو لنا سلسلة من الأحداث يبدو له كارثة واحدة تظل تراكم الحطام فوق الحطام وتقذفه عند قدميه. الملاك يفضل أن يبقى، يوقظ الموتى ويجعل ما تم تحطيمه كاملاً من جديد”.

المصادر:
بالإنجليزية:
Walter Benjamin, On the Concept of History, Selected Writings, Harvard University Press, 2003
Ernst Bloch, Atheism in Christianity, Verso, 2009
Rosa Luxemburg, Socialism and the Churches, in Rosa Luxemburg Speaks, Pathfinder, 1970
Karl Kautsky, The Foundations of Christianity, Marxists.org
Michael Lowy, The War of the Gods: Religion and Politics in Latin America, Verso, 1996
Edward Jay Watts, City and School in Late Antique Athens and Alexandria

بالعربية:
طارق البشري: الحركة السياسية في مصر، الشروق، 2002
طارق البشري: دراسات في الديمقراطية المصرية، مدارات للأبحاث والنشر، 2016
صادق جلال العظم: ذهنيات التحريم- سلمان رشدي وحقيقة الأدب، رياض الريس، 1992
صادق جلال العظم: نقد الفكر الديني، دار الطليعة، 2003
جلبير أشقر: الدين والسياسة-الماركسية والإسلام، مجلة رمان، 2021