يوميات كورونية 3 علينا أن نختار


إلهام مانع
الحوار المتمدن - العدد: 6535 - 2020 / 4 / 12 - 22:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


"لدينا حرية الإختيار"، قالها أبي بصوت مرتفع في نقاش محتد مع أصدقاء مقربين له في حلوان، مصر، في نهاية الأربعينات من القرن الماضي.
التاريخ قد لا يكون دقيقا، فالقصة التي احكيها هنا قد تكون حدثت في بداية الخمسينات. فأبي كان كما أمي، يقص علي الكثير من حكاياته. بيد أن التواريخ لم تكن علامات فارقة فيها. ظلت عصية على التحري أو التأكيد.
المؤكد انه كان مع مجموعة من الطلاب اليمينيين المبتعثين إلى مصر.
من مجموعة الأربعين الشهيرة. أول بعثة طلابية خرجت للدراسة خارج اليمن الشمالي خلال فترة الإمامة. ولهذه قصة، ليس هذا مجالها.
ما لم يتوقعه أصدقائه هو المدى الذي سيذهب إليه لإثبات موقفه.
أخذ سكيناً وقطع رسغه، وردد من جديد، "أنا حر قادر على الاختيار".
هكذا.
ببساطة.
نحر نفسه. بنفسه.
لعله كان قد افرط قليلا في الشراب. أو بالأصح كثيرا.
لعله كان غاضباً.
المؤكد أنه كان مقتنعاً بما يقول. كان يؤمن بقوة. ولولا ذاك ما كنت أنا أو أخي. لأنه آمن بنا نحن ايضاً.
ما علينا.
نعود إلى قصة قطع الرسغ.
كان محظوظا لوجود طبيب في نفس العمارة. فالدماء تسيل من رسغه، وأصدقاءه ادركوا أن اخذه إلى أية مستشفى سيثير تساؤلات قد يكون لها عواقب، ولذا اخذوه إلى طبيبهم الجار، وكان نبيلاً. تمكن من إيقاف سيل الدماء المتدفق من رسغه وصَمتَ عن السبب.
_____
"ولدنا أحراراً". كان أبي يكررها على مُّصرا.
"وأنتِ قادرة أن تكوني ما تريدين. لا تركني إلى غيرك. عليك بالعمل، التعلم، الجدية والمثابرة واحترام الوقت. حينها تصنعين مصيرك".
فتحولت إلى تعويذة أرددها على نفسي في حياتي. وفي أوقات الأزمات، كنت أقول لنفسي، "يمكنك ان تشعرين بالأسف على نفسك، أو تصنعي من الألم قوة وطاقة إبداع وإنتاج". وكان خياري دوما هو الحياة. سأعيش. حرة. رغم الوجع.
_____

الحديث عن "حرية الاختيار" تبدو فلسفية نظرية، خاصة في زمن الكورونا.
لكن تحديداً في زمن الكورونا فإن خياراتنا لايمكن الإستهانة بنتائجها. لها تأثير. قادرة على التغيير. أو التدمير.
يمكننا أن نختار الخير الذي فينا ونُسخَّره لخدمة الأخرين ومنفعة مجتمعاتنا، ندرك أن مصيرنا واحد، ولذا فإن بقائنا يستلزم أن نعمل معاً، نقف معا، ونحارب الطاعون معاً. كلٌ على قدر إستطاعته. ومعاً سنحيا رغم الطاعون.
وفي إقليمنا ارتفعت أصوات تدعو إلى مثل هذا الطريق. لعل الطريق أمامنا ونحن لاندري؟
أو
أو يمكننا أن نختار طريقاً اخر.
معجون بالخوف والإقصاء.
بالأنانية.
بالجشع.
نسمع عن فنانة تدعو إلى إجراء تجارب اللقاحات على المساجين في بلدها. كأن هؤلاء المساجين أشياءٌ لاحس فيها، يمكن التصرف فيها كالجماد. غيرها من الحقوقيين وصل بهم الحس الإنساني إلى أن يدافع عن القرود والجرذان ويصر على أن لا تتعرض لأية تجارب في المعامل، لأنها ايضاً تشعر بالألم. غيرها لا يشترى مواد تجميل تم تجربتها على حيوانات.
فرق بين تلك وهؤلاء.
نسمع عن أخرى تدعو إلى رمي "الوافدين الأجانب" المصابين بالكورونا في الصحراء. هل هم نفايات يمكن "قطهم في الصحراء"؟ وكنت احترم هذه الفنانة، قبل أن اكتشف أنها والإنسانية على خصام.
نرى اشخاصاً يتضاربون في السوبرماركت، يتصارعون على ورق التواليت. لم أفهم إلى يومنا هذا حكاية ورق التواليت هذه!
تبدو لي كلغزٍ يصعب فك طلاسمه. أفهم أن يتنازع البشر في أوقات الأزمات على اللقمة. يحدث ذلك.
أما ورق التواليت، تظل صعبة على الاستيعاب.
تماماً كما رأينا رئيس دولةٍ كانت يوماً عظمى، يتصرف بمنطق "أنا ومن بعدي الطوفان".
يمكننا أذن أن نختار هذا الطريق.
أن نتحول إلى جزر منعزلة.
أن نتقوقع على ذواتنا، خوفاً وجشعاً.
أو أن نصنع المستقبل، بأذرعنا. مستقبل يليق بالإنسان. الإنسان كما يجب أن يكون. عاملاً، خَيّراً. مُبدعاً. مثمراَ. كهؤلاء العلماء والعالمات في أقطاب المعمورة. يعملون ويعملن ليل نهار معاً للتوصل إلى مصل. والمصل للإنسان على تنوعه.
السؤال إذن يدخل في صميم رؤيتنا للمستقبل، والتي تتحكم في مقدرتنا على بناء الإنسان ومعه الأمم، في الدفاع عن العدالة، وفي التغيير.
لطالما آمنت، ولازلت، بحرية الاختيار. مثل أبي.
لكن إيماني بهذه الحرية كان دوما متشبعاً بقدر من التواضع.
من الإدراك أنه بالرغم من كل ما نفعله، هناك بعض العوامل والقوى التي يمكنها ان تتدخل لتغيير مسار قراراتنا.
فكنت أعمل وأثابر، ويحدث ما يحدث بعد ذلك.
اليوم سيكون علينا أن نختار من جديد.
بين طريق يجمعنا، وأخر يُفَرقنا. والخيار لنا. لكَ ولكي.
وأظن أن أبي يتفق معي في هذه، حتى وهو في قبره.