الخراب القادم، او درس التخريب، بمفهوم -مظفر النواب- .. (5)


حسام تيمور
2023 / 12 / 8 - 18:25     

بين الوعي الشقي و الوجود البئيس
يمكن بشكل عام اختصار التاريخ البشري في رحلة البحث عن الطعام، و من هذا المنطلق، نستطيع الجزم بأن الذات التي تتعرض للخذلان و الاضطهاد او فقط يتم استنزافها في رحلة البحث عن سبل العيش، هي اسوء نماذج الانحدار النوعي، و بمعنى اكثر شمولا هي أكثر مظاهر الوجود الحي بشاعة و انحدارا، و هذا قانون طبيعي، ينسحب على النبات و البشر و الحجر، تناسبا مع البيئة الحاضنة و الظروف المواكبة.
إن ملف ما يسمى بالأساتذة المتعاقدين، و شغيلة التعليم بصفة عامة، التي طالها النظام الأساسي، هو تجسيد لهذا القانون التحولي، و بمعنى ان حلحلة الملف، او مجرد ارضاء الاساتذة المرسمين منهم و المتعاقدين بشيء من الفتات او بما يسد أفق انتظاراتهم، الخبزية الوضيعة طبعا، سيحولهم الى وحوش اجتماعية و وظيفية مفترسة، بالمعنى الاجتماعي و الاخلاقي (الثقافي)، و الوجودي كذلك، كائنات اسوء من العبيد، الذين حسب أبسط التعريفات و أكثرها سطحية، يكرهون الآخر و يعشقون السيد فقط، و يحتقرون من لا يشاركهم نفس الولاء.
و بالعودة الى التاريخ "القريب جدا" لموضوع الشغيلة التعليمية، في صراعها مع الدولة و مؤسساتها الوصية، يمكننا رصد أول نقطة مفصلية، شكلت ملامح هذا التحول منذ بدايته، و هنا نتحدث عن معركة الاساتذة المتدربين، التي انتهت بصفقة وضيعة، قبلت بالادماج و التوظيف، مقابل التنازل عن القضية او بيعها، وفق مبدأ "انا و بعدي الطوفان" .. مع اغفال أن هذا الطوفان قد يعود لابتلاع الجبل الذي ابتاعه قطاع من شغيلة التعليم، ولو بعد حين، وفق مأثور "لا عاصم من امر الحكومات و توجيهات البنك الدولي".
هذا و قد سبق لنا قبل سنوات نشر مقالين هنا على موقع الحوار المتمدن، في سياق مواكبة معركة الاساتذة المتدربين، كان الأول من باب التضامن المبدئي المشروط طبعا و الحذر، و كان الثاني بعنوان "قضية الاساتذة المتدربين، تمخض الجبل فولد فأرا" * و من عجائب الصدف، أن ختام المقال كان أبياتا من قصيدة لا تصالح، تضع الاصبع بالذات على نفس موضوع و قضية اليوم، عودة الطوفان لاغراق من زعم انه نجى، أو اشترى نجاته، بموجب صفقة انتهازية وضيعة..
فكيف تنظر في يد من صافحوك..
فلا تبصر الدّم
في كل كف؟
إن سهمًا أتاني من الخلف،
سوف يجيئك من ألف خلف.
نلاحظ هنا و خلال مختلف مراحل الصراع متتاليات هزلية، تتلخص في خروج الاساتذة المتدربين ضد الحكومة، مدعومين ببعض القوى المناضلة و الفاعلة، و قبولهم بصفقة انتهازية لا تحقق غير مصلحتهم الآنية الوضيعة، متمثلة في الادماج حصريا لفوجهم، او ما سمي زورا و بهتانا بفوج الكرامة، و كان هذا مقدمة مشجعة نحو برنامج "التعاقد". و بعد انطلاق برنامج التعاقد، بدات افواج المتعاقدين ما تسميه معركتها لاسقاط التعاقد، بعد التوقيع على بنوده و شروطه طبعا، اي بعد الحصول على صفة و وظيفة و راتب او مقابل. هنا انتهت المعركة بدون نتيجة تذكر، حيث قبل اغلب المتعاقدين بتعنت الدولة، و منطق المقاربة الشبه عنيفة، متمثلة في الاقتطاعات و قمع الاحتجاجات و متابعة ابرز رؤوس التنسيقيات قضائيا.
هكذا، و بعد اشهر من الخرجات الاستعراضية و الوصلات التهريجية، حيث ابان الناطقون باسم المتعاقدين عن هزالة فظيعة حتى في صياغة مداخلات او الادلاء بتصريحات، تحول التعاقد الى أمر واقع، ما له من دافع، بتعبير الدولة الرسمي، الذي أوجز القضية في جملة واحدة "التعاقد سياسة عليا لا رجوع فيها".
هكذا فإن جميع "المنافقين" من الذين باعوا ذواتهم على باب التعاقد و الوظيفة و الراتب و الحذاء، مراهنين على النضال من داخل التعاقد و الوظيفة، التعاقدية، و بنفس الحذاء الوظيفي الجديد، قبلوا بالامر الواقع.
كذلك خلال معركة المتعاقدين، سمعنا كثيرا عن خذلان باقي شغيلة التعليم "المرسمة" للمتعاقدين، و كونهم خاضوا الحرب الخاسرة وحدهم، دون دعم من رجال التعليم، او القوى الحية المناضلة، بينما نسمع كذلك كثيرا، و في نفس المرحلة، غياب الاساتذة المتعاقدين كقوة احتجاجية وازنة، عن كل ما هو سياسي مباشر، او حتى اجتماعي معيشي، و من ازمات كورونا الى موجات ارتفاع الاسعار، و التطبيع ... كان هناك عهر مزمن ينخر التنسيقيات، يمنع من "الحديث في السياسة"، و بتعبير العوام تحت حكم انظمة الرعب، حرفيا . لا يجب باي شكل افساد طقس الانتهازية
حتى من باب الضغط او المزايدة، و يجب ابداء حسن النية و الاستعداد للتحول الى عبيد مزرعة سعداء، بمجرد انهاء التعاقد و اقرار الادماج في اسلاك الوظيفة العمومية.
كان الصوت الاعلى الموحد داخل اوساط "المتعاقدين" هو اسقاط التعاقد، مع شعارات هلامية محتشمة، لا تقنع احدا، عن مجانية التعليم و التصدي للخوصصة و مؤامرات البنك الدولي، و هنا توقّف، بصيغة الامر المتفق عليه و المبني للمجهول، غير ان الجميع كان يعلم، بما في ذلك الرعية الامي المدجن، بأن المسألة تتعلق فقط بمطلب خبزي، هو ضمان منصب مالي لدى وزارة المالية، هو عبارة عن وظيفة رسمية محسوبة على القطاع العمومي، و فور تحقق المطلب ينفض الجمع و يقال "يا تنسيقيات ابلعي جماهيرك و شعاراتك البئيسة"، و هنا حيث العودة الى سيرة "الاستاذ الكلب" المنشغل بالديون و امتلاك السيارة و اثاث البيت و الساعات الخصوصية و فرص الشغل الموازية مع مؤسسات التعليم الخاص، و هذا واقع القطاع التعليمي منذ سنوات خلت، او بالضبط خلال العقدين الأخيرين.
مؤخرا سقت الفأس في الرأس، و جاء الوزير بمخطط آخر، أكثر توحشا مما سبق، هو النظام الأساسي، الذي يروم ابتلاع الجميع، و تسوية الجميع بالأرض، مرسمين و متدربين مرسمين و متعاقدين و اطر دعم، و جعلهم حرفيا متعاقدين تحت اطار النظام الأساسي.
هنا سوف تلتقي الخصوم، و تجتمع لرفع صوتها في وجه الدولة و الوزارة، و البنك الدولي، و الامبريالية و الصهيونية العالمية.. حتى اغلبية المتعاقدين الذين قبلوا بالتعاقد، او استسلموا له، الى جانب المرسمين، الذي أمنوا مكر "الدولة و المؤسسات"، وصولا الى أطر الدعم، التي يصفها المتعاقدون بأدوات الوزارة للضغط على المتعاقدين و الاجهاز على قضيتهم.
من خلال هذا المشهد الكاريكاتوري، سيتشكل داخل الاوساط التعليمية كيان وظيفي متصهين، لا يحب احدا، حتى نفسه، يكره نفسه و الاخر، و ما يقوم به، سيتحول اغلب الاساتذة الى "أوباش"، و كثير منهم حاليا هكذا، و لن يكون لهم ولاء لأحد او لشيء، الا من باب الانتقام الرمزي او التعويض النفسي،
سيكون مربي الاجيال كائنا مأزوما مخذولا، خاسرا لنفسه و للعالم، مقبلا على كل اشكال الدعارة و الانحلال، متوهما ان معه عذرا شرعيا، بالمعنى الوجودي، لاقتراف كل شيء غير مباح !
لقد باع نفسه و لم يقبض ثمنا ..
ناضل و لم يحقق مطلبا ..
تعاقد و لم ينل حقا ..
تنازل ولم يجد اعترافا ..
سيتكون جيل من معلمي و اساتذة التفاهة، و الاخلاق المتدنية، و الوجود البئيس المنحط، يقبل على التفاهة و هو كاره، يطبل للنظام و المنظومة الفاسدة و هو لها كاره، يقبل الايدي و الارجل، ليس انتظارا لمصلحة، او فتات، بل لانه سبق خداعه، سيقوم بكل هذا و باشياء اخرى فقط انتقاما من الذات و من الآخر، سيقبض على خزيه و عاره كالحيوان الجائع، و الخائف، و حجته الجاهزة،
أين كان ؟ و أين كنتم ؟ عندما كنّا وحدنا ؟ و عندما قلنا ؟ عندما قُمنا ؟ و عندما قعدنا ؟.

بينما السؤال الحقيقي هو أين كنت انت عندما "تعاقدت" ؟!
هنا فقط خنت نفسك و خنت الجميع، هنا فقط "بِعْتَ نَفْسَكَ" في اول محطة من محطات رحلة "البحث عن الطعام" .

* رابط مقال "قضية الاساتذة المتدربين، تمخض الجبل فولد فأرا"

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=513373&nm=1