( فيتنام بين إرث الثورة ومنطق السوق )


محسن صابط الجيلاوي
2025 / 12 / 15 - 18:13     

غدا أُكمل اليوم العاشر من زيارتي إلى فيتنام، وهي مدة كافية لتكوين انطباع أولي عن هذا البلد الذي خاض واحدة من أعنف تجارب التحرر في القرن العشرين. ففي مرحلة تاريخية مفصلية، شكّل هو شي منه وحزبه الشيوعي مشروعا وطنيا مركزيا أسهم في توحيد البلاد والانتصار على قوى الاحتلال التي أذاقت الشعب الفيتنامي العذاب والقهر والتدمير .

المفارقة اللافتة أن هذا الشعب، الذي قاتل بشراسة وابتكر أساليب مقاومة غير مسبوقة، يبدو اليوم شديد المسالمة. فخلال تنقلي لساعات طويلة في شوارع المدن الفيتنامية، نادرا ما يمكن ملاحظة شجار أو حتى نقاش حاد، ما يعكس تحوّلا عميقا في السلوك الاجتماعي والمزاج العام وشكل الحياة...

اقتصاديا، تبنّت فيتنام نموذجا هجينا يقوم في جوهره على آليات الاقتصاد الرأسمالي الحر( تناغم الصين ) لكن اعتقد انها اقل راديكالية . فقطاعات البناء والسياحة والصناعة والزراعة والنقل تعمل وفق منطق السوق والمنافسة، في حين تحتفظ الدولة بسيطرتها على القطاعات السيادية والاستراتيجية، مثل الطاقة، والأراضي، والموارد الطبيعية، والصناعات العسكرية، إضافة إلى بعض مفاصل البنية التحتية الحيوية مثل التعليم والصحة والبنوك والإتصالات . هذا التوازن البراغماتي بين السوق والدولة أفقد السرديات الشيوعية التقليدية الكثير من مضمونها الأيديولوجي، وحوّلها إلى إطار سياسي للتحكم أكثر منه مشروعا اقتصاديا.

غير أن أحد أبرز التحديات التي قد تعيق تسارع النهضة الفيتنامية يتمثل في استمرار نموذج الحزب الواحد، الذي تحوّل تدريجيا من تنظيم سياسي وحزبي إلى مؤسسة ذات طابع أمني ومخابراتي وإداري. هذا الواقع يفرض حالة من الضيق المتزايد لدى المجتمع والقاعدة الاقتصادية على حد سواء، في ظل هيمنة حزب أيديولوجي لم يعد ينسجم بالكامل مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية القائمة.

ومع ذلك، تبدو المؤشرات العامة دالة على وعي المجتمع الفيتنامي وقدرته على التكيّف. فالشعب الفيتنامي، المعروف بذكائه العملي ونزعته البراغماتية، مرشّح لأن يشهد تحولات تدريجية في المجال السياسي، قد تفتح الباب أمام تعددية أوسع وهوامش أكبر من الحريات بدون عبث يضرّ المجتمع ومعها مراجعة لتعريف دور الدولة والحزب والمؤسسات، بما ينسجم مع واقع اقتصادي تجاوز فعليا الكثير من مفاهيم الأيديولوجيا الشيوعية التقليدية التي لم تعد صالحة في هذا العصر الذي يشهد ثورات في التكنلوجيا والعلوم والفضاء …!

محسن الجيلاوي / ناها ترانك / فيتنام