حكايات إفريقية: الرجل الذي جعل بلاده أرض النُّزَهاء..
حسين محمود التلاوي
2025 / 12 / 14 - 16:13
من بين الحكايات الإفريقية المنسية أو ربما غير المعلومة، تبرز حكاية توماس سانكارا؛ توماس إيزيدور سانكارا.
كان توماس سانكارا رائدًا في جيش بوركينا فاسو، وكانت توجهاته شيوعية. وفي عام 1983، نفذ انقلابًا كان هدفه الأساسي التخلص من نفوذ فرنسا؛ المستعمِر السابق لبوركينا فاسو، التي استقلت عام 1960. كانت بوركينا فاسو، بعد استقلالها، خاضعة لسيطرة فرنسا من خلال مجموعة من أصحاب المصالح والنفوذ، لا سيما العائلات الكبيرة التي كانت مسيطرة على اقتصاد البلاد.
عندما نفذ سانكارا انقلابه، كان هدفه التخلص من كل النفوذ الفرنسي، والعمل على تهيئة البلاد لاستغلال مواردها الطبيعية الوفيرة - بالمناسبة - بحيث تستطيع الاعتماد على نفسها دون الحاجة إلى فرنسا، وكذلك تأهيل المواطنين ليُعتمد عليهم في برنامجه الإصلاحي.
كان سانكارا يسعى لتحرير بلاده من الاستعمار الفرنسي بصيغته الجديدة؛ وهي التبعية الاقتصادية بدلاً من الاحتلال العسكري، التي تلعب فيها الشركات دور الدبابة، ورجال الأعمال دور القادة العسكريين، وأصحاب المصالح من أبناء البلد دور أعوان الاستعمار من رجال السياسة والشرطة.
وفي دلالة على رغبته في قطع العلاقات مع كل ما يرتبط بالمرحلة الاستعمارية، غيَّر اسم بلاده من "فولتا العليا" إلى بوركينا فاسو، ويعني "أرض النزهاء"؛ وهو مسمى مأخوذ من عدد من اللهجات المحلية لتعزيز التضامن الداخلي في البلاد. كان اسمها السابق "فولتا العليا"، من اختيار فرنسا، ويرجع إلى نهر فولتا في البلاد؛ وهو اسم استعماري بامتياز يختزل البلد إلى مجرد مكان جغرافي يقع في الجزء العلوي من نهر فولتا فحسب. كان اسمًا يهدف إلى تحديد ممتلكات، ولا علاقة له بهوية المنطقة ولا ثقافتها.
بدأ سانكارا بوضع برامج للرعاية الصحية، ومحو الأمية، والاكتفاء الذاتي الزراعي للقضاء على المجاعة، وأطلق برامج استصلاح الأراضي. وبالطبع، ترافق ذلك مع سياسة مناهضة لبرامج التمويل الخارجية مثل قروض صندوق النقد والبنك الدولي. وقد نجح فعلًا في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وأسس مدارس في العديد من مناطق بلاده، واهتم بالمرأة، وعيّن الكفاءات النسائية في مناصب مهمة.
باختصار، عمل توماس سانكارا كل ما يلزم لتقف بلاده على قدميها، ولتصبح دولة ذات شأن واستقلالية، في محيط إفريقي كله تابع للاستعمار الفرنسي بصيغته الاقتصادية الجديدة. لقد فعل كل ما يزعج فرنسا!
تجربة سانكارا جعلت فرنسا تخشى على نفوذها الآخذ في التآكل في إفريقيا؛ وبوجه خاص في منطقة مهمة مثل منطقة الساحل والصحراء، التي تُعَدُّ بوركينا فاسو دولة مهمة فيها. هذه المنطقة غنية بثروات معدنية هائلة وإمكانيات زراعية كبيرة. لذلك خشيت فرنسا من عدوى الانقلابات في مستعمراتها السابقة، وبدأت مخطط الإطاحة بسانكارا، الذي كان لقبه "جيفارا إفريقيا".
ولما كانت بوركينا فاسو دولة إفريقية في نهاية المطاف، كانت نهاية توماس سانكارا إفريقية بامتياز؛ فقد نفذ زميله في الكفاح بليز كومباوري انقلابًا ضده، بدعم من فرنسا وأصحاب المصالح داخل البلاد. أغتيل سانكارا في 15 أكتوبر 1987 على يد مجموعة من رجال الجيش. وبعدها اتخذ كومباوري، الذي أصبح رئيسًا للبلاد، إجراءات لتعديل سياسات سانكارا سماها "سياسات التصحيح"!
مات سانكارا، لكن لم تنتهِ حكايته مع بوركينا فاسو؛ ففي عام 2021، قاد إبراهيم تراوري انقلابًا أطاح بما تبقى من نفوذ فرنسا، وطرد الوجود العسكري الفرنسي، وأعاد محاكمة بليز كومباوري، الذي هرب إلى ساحل العاج بعد انقلاب ضده عام 2014، إثر سقوط نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا وانقطاع دعمه؛ لأن نظام القذافي كان من أكبر الداعمين لنظم الحكم في دول الساحل والصحراء. حُوكم كومباوري غيابيًّا، وحُكم عليه بالمؤبد بتهمة اغتيال سانكارا.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 40 عاماً على اغتيال سانكارا، وقِصَر فترة حكمه، لا تزال بوركينا فاسو ترى نفسها "ابنة توماس سانكارا"، في تأكيد واضح على صحة مقولته قبل اغتياله بأسبوعين: "يمكن اغتيال الثوار، لكن لا يمكن اغتيال أفكارهم".